تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 238 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 238

237

قوله: 24- "ولقد همت به وهم بها" يقال هم بالأمر: إذا قصده وعزم عليه. والمعنى: أنه هم بمخالطتها كما همت بمخالطته ومال كل واحد منهما إلى الآخر بمقتضى الطبيعة البشرية والجبلة الخلقية، ولم يكن من يوسف عليه السلام القصد إلى ذلك اختياراً كما يفيده ما تقدم من استعاذته بالله، وإن ذلك نوع من الظلم. ولما كان الأنبياء معصومين عن الهم بالمعصية والقصد إليها شطح أهل العلم في تفسير هذه الآية بما فيه نوع تكلف، فمن ذلك ما قاله أبو حاتم قال: كنت أقرأ على أبي عبيدة غريب القرآن، فلما أتيت على "ولقد همت به وهم بها" قال: هذا على التقديم والتأخير: كأنه قال: ولقد همت به ولولا أن رأى برهان ربه لهم بها. وقال أحمد بن يحيى ثعلب: أي همت زليخا بالمعصية وكانت مصرة، وهم يوسف ولم يوقع ما هم به، فبين الهمين فرق، ومن هذا قول الشاعر: هممت بهم من ثنية لؤلؤ شفيت غليلات الهوى من فؤاديا فهذا إنما هو حديث نفس من غير عزم، وقيل هم بها: أي هم بضربها، وقيل هم بها بمعنى تمنى أن يتزوجها، وقد ذهب جمهور المفسرين من السلف والخلف إلى ما قدمنا من حمل اللفظ على معناه اللغوي، ويدل على هذا ما سيأتي من قوله "ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب"، وقوله "وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء" ومجرد الهم لا ينافي العصمة، فإنها قد وقعت العصمة عن الوقوع في المعصية، وذلك المطلوب، وجواب لو في "لولا أن رأى برهان ربه" محذوف: أي لولا أن رأى برهان ربه لفعل ما هم به. واختلف في هذا البرهان الذي رآه ما هو؟ فقيل إن زليخا قامت عند أن همت به وهم بها إلى صنم لها في زاوية البيت فسترته بثوب فقال: ما تصنعين؟ قالت: أستحي من إلهي هذا أن يراني على هذه الصورة، فقال يوسف: أنا أولى أن أستحي من الله تعالى. وقيل إنه رأى في سقف البيت مكتوباً " ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة " الآية، وقيل رأى كفاً مكتوباً عليها "وإن عليكم لحافظين" وقيل إن البرهان هو تذكره عهد الله وميثاقه وما أخذه على عباده، وقيل نودي: يا يوسف أنت مكتوب في الأنبياء وتعمل عمل السفهاء؟ وقيل رأى صورة يعقوب على الجدار عاضاً على أنملته يتوعده، وقيل غير ذلك مما يطول ذكره. والحاصل أنه رأى شيئاً حال بينه وبين ما هم به قوله: " كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء " الكاف نعت مصدر محذوف، والإشارة بذلك إلى الإراءة المدلول عليها بقوله: "لولا أن رأى برهان ربه" أو إلى التثبيت المفهوم من ذلك: أي مثل تلك الإراءة أريناه، أم مثل ذلك التثبيت ثبتناه "لنصرف عنه السوء" أي كل ما يسوؤه، والفحشاء كل أمر مفرط القبح، وقيل السوء: الخيانة للعزيز في أهله، والفحشاء: الزنا، وقيل السوء: الشهوة، والفحشاء: المباشرة، وقيل السوء: الثناء القبيح. والأولى الحمل على العموم فيدخل فيه ما يدل عليه السياق دخولاً أولياً، وجملة "إنه من عبادنا المخلصين" تعليل لما قبله. قرأ ابن عامر وابن كثير وأبو عمرو المخلصين بكسر اللام. وقرأ الآخرون بفتحها. والمعنى على القراءة الأولى أن يوسف عليه السلام كان ممن أخلص طاعته لله، وعلى الثانية أنه كان ممن استخلصه الله للرسالة.
وقد كان عليه السلام مخلصاً مستخلصاً 25- "واستبقا الباب" أي تسابقا إليه، فحذف حرف الجر وأوصل الفعل بالمفعول، أو ضمن الفعل معنى فعل آخر يتعدى بنفسه كابتدرا الباب، وهذا الكلام متصل بقوله: "ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه" وما بينهما اعتراض، ووجه تسابقهما أن يوسف يريد الفرار والخروج من الباب، وامرأة العزيز تريد أن تسبقه إليه لتمنعه، ووحد الباب هنا وجمعه فيما تقدم، لأن تسابقهما كان إلى الباب الذي يخلص منه إلى خارج الدار "وقدت قميصه من دبر" أي جذبت قميصه من ورائه فانشق إلى أسفله، والقد: القطع، وأكثر ما يستعمل فيما كان طولاً، والقط بالطاء يستعمل فيما كان عرضاً، وقع منها ذلك عند أن فر يوسف لما رأى برهان ربه فأرادت أن تمنعه من الخروج بجذبها لقميصه "وألفيا سيدها لدى الباب" أي وجدا العزيز هنالك، وعنى بالسيد: الزوج لأن القبط يسمون الزوج سيداً، وإنما لم يقل سيدهما، لأن ملكه ليوسف لم يكن صحيحاً فلم يكن سيداً له، وجملة "قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً" مستأنفة جواب سؤال مقدر كأنه قيل: فما كان منهما عند أن ألفيا سيدها لدى الباب، وما استفهامية، والمراد بالسوء هنا الزنا، قالت هذه المقالة طلباً منها للحيلة وللستر على نفسها، فنسبت ما كان منها إلى يوسف: أي جزاء يستحقه من فعل مثل فعل هذا، ثم أجابت عن استفهامها بقولها: "إلا أن يسجن" أي ما جزاؤه إلا أن يسجن، ويحتمل أن تكون ما نافية: أي ليس جزاؤه إلا السجن أو العذاب الأليم، قيل والعذاب الأليم هو الضرب بالسياط، والظاهر أنه ما يصدق عليه العذاب الأليم من ضرب أو غيره، وفي الإبهام للعذاب زيادة تهويل.
وجملة 26- "قال هي راودتني عن نفسي" مستأنفة كالجملة الأولى. وقد تقدم بيان معنى المراودة: أي هي التي طلبت مني ذلك ولم أرد بها سوءاً "وشهد شاهد من أهلها" أي من قرابتها، وسمي الحكم بينهما شهادة لما يحتاج فيه من التثبت والتأمل، قيل لما التبس الأمر على العزيز احتاج إلى حاكم يحكم بينهما ليتبين له الصادق من الكاذب. قيل كان ابن عم لها واقفاً مع العزيز في الباب، وقيل ابن خال لها، وقيل إنه طفل في المهد تكلم. قال السهيلي: وهو الصحيح للحديث الوارد في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذكر من تكلم في المهد، وذكر من جملتهم شاهد يوسف، وقيل إنه رجل حكيم كان العزيز يستشيره في أموره، وكان من قرابة المرأة "إن كان قميصه قد من قبل" أي فقال الشاهد هذه المقالة مستدلاً على بيان صدق الصادق منهما وكذب الكاذب بأن قميص يوسف إن كان مقطوعاً من قبل: أي من جهة القبل "فصدقت" أي فقد صدقت بأنه أراد بها سوءاً "وهو من الكاذبين" في قوله إنها راودته عن نفسه. وقرأ يحيى بن يعمر وابن أبي إسحاق من قبل بضم اللام. وكذا قرأ من دبر قال الزجاج: جعلاهما غايتين كقبل وبعد كأنه قيل من قبله ومن دبره، فلما حذف المضاف إليه: وهو مراد صار المضاف غاية بعد أن كان المضاف إليه هو الغاية.
27- "وإن كان قميصه قد من دبر" أي من ورائه "فكذبت" في دعواها عليه "وهو من الصادقين" في دعواها عليها، ولا يخفي أن هاتين الجملتين الشرطيتين لا تدوم لا تلازم بين مقدميهما وتالييهما، لا عقلاً ولا عادة، وليس ها هنا إلا مجرد أمارة غير مطردة، إذ من الجائز أن تجذبه إليها وهو مقبل عليها فينقد القميص من دبر، وأن تجذبه وهو مدبر عنها فينقد القميص من قبل.
28- "فلما رأى" أي العزيز "قميصه" أي قميص يوسف "قد من دبر قال إنه" أي هذا الأمر الذي وقع فيه الاختلاف بينكما، أو أن قولك: "ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً" "من كيدكن" أي من جنس كيدكن يا معشر النساء "إن كيدكن عظيم" والكيد: المكر والحيلة.
ثم خاطب العزيز يوسف بقوله 29- "يوسف أعرض عن هذا" أي عن هذا الأمر الذي جرى واكتمه ولا تتحدث به، ثم أقبل عليها بالخطاب فقال "واستغفري لذنبك" الذي وقع منك "إنك كنت" بسبب ذلك "من الخاطئين" أي من جنسهم، والجملة تعليل لما قبلها من الأمر بالاستغفار ولم يقل من الخاطئات تغليباً للمذكر على المؤنث كما في قوله "وكانت من القانتين"، ومعنى من الخاطئين من المتعمدين، يقال خطىء إذا أذنب متعمداً، وقيل إن القائل ليوسف ولامرأة العزيز بهذه المقالة هو الشاهد الذي حكم بينهما. وقد أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيوخ عن قتادة في قوله: " وراودته التي هو في بيتها عن نفسه" قال: هي امرأة العزيز. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد قال: راودته حين بلغ مبلغ الرجال. وأخرج أبو عبيد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس في قوله: " هيت لك " قال: هلم لك تدعوه إلى نفسها. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه اقلأ: هلم لك بالقبطية وأخرج ابن جرير عن الحسن قال: هي كلمة بالسريانية: أي عليك. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير قال: معناها تعال: وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد: إنها لغة عربية تدعوه بها إلى نفسها. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "إنه ربي" قال: سيدي، قال: يعني زوج المرأة. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وصححه عن ابن عباس قال: لما همت به تزينت ثم استلقت على فراشها، وهم بها جلس بين رجليها يحل ثيابه، فنودي من السماء يابن يعقوب لا تكن كطائر نتف ريشه فبقي لا ريش له، فلم يتعظ على النداء شيئاً حتى رأى برهان ربه جبريل في صورة يعقوب عاضاً على أصبعه، ففزع فخرجت شهوته من أنامله فوثب فأدركته، فوضعت يديها في قميصه فشقته حتى بلغت عضلة ساقه فألفيا سيدها لدى الباب. وأخرج أبو نعيم في الحلية عن علي بن أبي طالب في قوله: "همت به وهم بها" قال: طمعت فيه وطمع فيها. وكان فيه من الطمع أن هم أن يحل التكة، فقامت إلى صنم لها مكلل بالدر والياقوت في ناحية البيت فسترته بثوب أبيض بينها وبينه، فقال: أي شيء تصنعين؟ فقالت: أستحي من إلهي أن يراني على هذه السوءة، فقال يوسف: تستحين من صنم لا يأكل ولا يشرب، ولا أستحي أنا من إلهي الذي هو قائم على كل نفس بما كسبت؟ ثم قال: لا تناليها مني أبداً، وهو البرهان الذي رأى. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله: "لولا أن رأى برهان ربه" قال: مثل له يعقوب، فضرب بيده في صدره فخرجت شهوته من أنامله. وقد أطال المفسرون في تعيين البرهان الذي رآه، واختلفت أقوالهم في ذلك اختلافاً كثيراً. وأخرج ابن جرير عن زيد بن ثابت: قال السيد: الزوج، يعني في قوله " وألفيا سيدها لدى الباب " وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد نحوه. وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: " إلا أن يسجن أو عذاب أليم " قال: القيد. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "وشهد شاهد من أهلها" قال: صبي أنطقه الله كان في الدار. وأخرج أحمد وابن جرير والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "تكلم أربعة وهم صغار: ابن ماشطة فرعون، وشاهد يوسف، وصاحب جريح، وعيسى بن مريم". وأخرج عبد الرزاق والفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "وشهد شاهد من أهلها" قال: كان رجلاً ذا لحية. وأخرج الفريابي وابن جرير وأبو الشيخ عنه قال: كان من خاصة الملك. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن قال: هو رجل له فهم وعلم. وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم قال: ابن عم لها كان حكيماً. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد قال: إنه ليس بإنسي ولا جني هو خلق من خلق الله. قلت: ولعله لم يستحضر قوله تعالى: "من أهلها".
يقال نسوة بضم النون، وهي قراءة الأعمش والفضل وسليمان. ويقال نسوة بكسر النون، وهي قراءة الباقين، والمراد جماعة من النساء، ويجوز التذكير في العفل المسند إليهن كما يجوز التأنيث. قيل: وهن امرأة ساقي العزيز وامرأة خبازه، وامرأة صاحب دوابه، وامرأة صاحب سجنه، وامرأة حاجبه. وافتى في كلام العرب: الشاب، والفتاة: الشابة، والمراد به هنا: غلامها، يقال فتاي وفتاتي: أي غلامي واجاريتي. وجملة 30- "قد شغفها حباً" في محل رفع على أنها خبر ثان للمبتدأ، أو في محل نصب على الحال، ومعنى شغفها حباً: غلبها حبه، وقيل دخل حبه في شغافها. قال أبو عبيدة: وشغاف القلب غلافه وهو جلدة عليه، وقيل هو وسط القلب. وعلى هذا يكون المعنى: دخل حبه إلى شغافها فغلب عليه، وأنشد الأصمعي قول الراجز: يتبعها وهي له شغاف وقرأ جعفر بن محمد وابن محيصن والحسن شعفها بالعين المهملة. قال ابن الأعرابي: معناه أجرى حبه عليها. وقرأ غيرهم بالمعجمة. قال الجوهري: شعفه الحب أحرق قلبه. وقال أبو زيد: أمرضه. قال النحاس: معناه عند أكثر أهل اللغة: قد ذهب بها كل مذهب، لأن شعاف الجبال: أعاليها، وقد شغف بذلك شغفاً بإسكان الغين المعجمة: إذا ولع به، وأنشد أبو عبيدة بيت امرئ القيس: أتقتلني من قد شغفت فؤادها كما شغف المهنوة الرجل الطالي قال: فشبهت لوعة الحب بذلك. وقرأ الحسن قد شغفها بضم الغين. قال النحاس: وحكي قد شغفها بكسر الغين، ولا يعرف ذلك في كلام العرب إلا شغفها بفتح الغين، ويقال إن الشغاف: الجلدة اللاصقة بالكبد التي لا ترى، وهي الجلدة البيضاء، فكأنه لصق حبه بقلبها كلصوق الجلدة بالكبد، وجملة "إنا لنراها في ضلال مبين" مقررة لمضمون ما قبلها. والمعنى: إنا لنراها: أي نعلمها في فعلها هذا، وهو المراودة لتاها في ضلال عن طريق الرشد والصواب مبين: واضح لا يلتبس على من نظر فيه.