تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 239 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 239

238

31- "فلما سمعت" امرأة العزيز "بمكرهن" أي بغيبهن إياها، سميت الغيبة مكراً لاشتراكهما في الإخفاء، وقيل أردن أن يتوسلن بذلك إلى رؤية يوسف، فلهذا سمي قولهن مكراً، وقيل إنها أسرت عليهن فأفشين سرها فسمى بذلك مكراً "أرسلت إليهن" أي تدعوهن إليها لينظرن إلى يوسف حتى يقعن فيما وقعت فيه " وأعتدت لهن متكئا " أي هيأت لهن مجالس يتكئن عليها، وأعتجت من الاعتداد، وهو كل ما جعلته عدة لشيء. وقرأ مجاهد وسعيد بن جبير متكأ مخففاً غير مهموز، والمتك: هو الأترج بلغة القبط، ومنه قول الشاعر: نشرب الإثم بالصواع جهاراً وترى المتك بيننا مستعاراً وقيل إن ذلك هو لغة أزدشنوءة، وقيل حكي ذلك عن الأخفش. وقال الفراء: إنه ماء الورد. وقرأ الجمهور متكأ بالهمز والتشديد، وأصح ما قيل فيه إنه المجلس، وقيل هو الطعام، وقيل المتكأ كل ما اتكئ عليه عند طعام أو شراب أو حديث. وحكى القتيبي أنه يقال اتكأنا عند فلان: أي أكلنا، ومنه قول الشاعر: فظللنا بنعمة واتكأنا وشربنا الحلال من قلله ويؤيد هذا قوله: "وآتت كل واحدة منهن سكيناً" فإن ذلك إنما يكون لشيء يأكلنه بعد أن يقطعنه، والسكين تذكر وتؤنث، قاله الكسائي والفراء. قال الجوهري: والغالب عليه التذكر، والمراد من إعطائها لكل واحدة سكيناً أن يقطعن ما يحتاج إلى التقطيع من الأطعمة، ويمكن أنها أرادت بذلك ما سيقطع منهن من تقطيع أيديهن "وقالت" ليوسف " اخرج عليهن " أي في تلك الحالة التي هن عليها من الاتكاء والأكل وتقطيع ما يحتاج إلى التقطيع من الطعام. وقوله: "فلما رأينه أكبرنه" أي عظمته، وقيل أمذين، ومنه قول الشاعر: إذا ما رأين الفحل من فوق قلة صهلن وأكبرن المني المقطرا وقيل حضن. قال الأزهري: أكبرن بمعنى حضن، والهاء للسكت، يقال أكبرت المرأة: أي دخلت في الكبر بالحيض: وقع منهن ذلك دهشاً وفزعاً لما شاهدنه من جماله الفائق، وحسنه الرائق، ومن ذلك قول الشاعر: نأتي النساء على أطهارهن ولا نأتي النساء إذا أكبرن إكبارا وأنكر ذلك أبو عبيدة وغيره وقالوا: ليس ذلك في كلام العرب. قال الزجاج: يقال أكبرنه ولا يقال حضنه، فليس الإكبار بمعنى الحيض. وأجاب الأزهري فقال: يجوز أن تكون هاء الوقف لا هاء الكناية. وقد زيف هذا بأن هاء الوقف تسقط في الوصل. وقال ابن الأنباري: إن الهاء كناية عن مصدر الفعل: أي أكبرن إكباراً بمعنى حضن حيضاً "وقطعن أيديهن" أي جرحنها، وليس المراد به القطع الذي تبين منه اليد، بل المراد به الخدش والحز، وذلك معروف في اللغة كما قال النحاس، يقال قطع يد صاحبه: إذا خدشها، وقيل المراد بأيديهن هنا: أناملهن، وقيل أكمامهن. والمعنى: أنه لما خرج يوسف عليهن أعظمنه ودهشن وراعهن حسنه حتى اضطربت أيديهن فوقع القطع عليها وهن في شغل عن ذلك بما دهمهن، مما تطيش عنده الأحلام وتضطرب له الأبدان وتزول به العقول " وقلن حاش لله " كذا قرأ أبو عمرو بن العلاء بإثبات الألف في حاشا. وقرأ الباقون بحذفها. وقرأ الحسن حاش لله بإسكان الشين، وروي عنه أنه قرأ حاش لله وقرأ ابن مسعود وأبي حاشا لله. قال الزجاج: وأصل الكلمة من الحاشية بمعنى الناحية، تقول كنت في حاشية فلان. أي في ناحيته، فقولك حاشا لزيد من هذا: أي تباعد منه. وقال أبو علي: هو من المحاشاة: وقيل إن حاش حرف. وحاش فعل، وكلام أهل النحو في هذه الكلمة معروف، ومعناها هنا التنزيه كما تقول: أسى القوم حاشا زيداً، فمعنى حاشا لله: براءة لله وتنزيه له. قوله: "ما هذا بشراً" إعمال ما عمل ليس هي لغة أهل الحجاز، وبها نزل القرآن كهذه الآية، وكقوله سبحانه " ما هن أمهاتهم "، وأما بنو تميم فلا يعملونها عمل ليس. وقال الكوفيون: أصله ما هذا ببشر، فلما حذفت الباء انتصب. قال أحمد بن يحيى ثعلب: إذا قلت مازيد بمنطلق، فموضع الباء موضع نصب، وهكذا سائر حروف الخفض. وأما الخليل وسيبويه وجمهور النحويين فقد أعملوها عمل ليس، وبه قال البصريون والبحث مقرر في كتب النحو بشواهده وحججه، وإنما نفين عنه البشرية لأنه قد برز في صورة قد لبست من الجمال البديع ما لم يعهد على أحد من البشر، ولا أبصر المبصرون ما يقاربه في جميع الصور البشرية، ثم لما نفين عنه البشرية لهذه العلة أثبتن له الملكية وإن كن لا يعرفن الملائكة لكنه قد تقرر في الطباع أنهم على شكل فوق شكل البشر في الذات والصفات، وأنهم فائقون في كل شيء، كما تقرر أن الشياطين على العكس من ذلك، ومن هذا قول الشاعر: فلست لإنسي ولكن لملاك تنزل من جو السماء يصوت وقرأ الحسن ما هذا بشراء على أن الباء حرف جر، والشين مكسورة: أي ما هذا بعبد يشترى وهذه قراءة ضعيفة لا تناسب ما بعدها من قوله: "إن هذا إلا ملك كريم". وأعلم أنه لا يلزم من قول النسوة هذا أن الملائكة صورهم أحسن من صور بني آدم، فإنهن لم يقلنه لدليل، بل حكمن على الغيب بمجرد الاعتقاد المرتكز في طباعهن وذلك ممنوع، فإن الله سبحانه يقول "لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم". وظاهر هذا أنه لم يكن شيء مثله من أنواع المخلوقات في حسن تقويمه وكمال صورته، فما قاله صاحب الكشاف في هذا المقام هو من جلمة تعصباته لما رسخ في عقله من أقوال المعتزلة، على أن هذه المسألة: أعني مسألة المفاضلة بين الملائكة والبشر ليست من مسائل الدين في ورد ولا صدر، فما أغنى عباد الله عنها وأحوجهم إلى غيرها من مسائل التكليف.
32- "قالت فذلكن الذي لمتنني فيه" الإشارة إلى يوسف، والخطاب للنسوة: أي عيرتنني فيه. قالت لهن هذا لما رأت افتتانهن بيوسف إظهاراً لعذر نفسها، ومعنى فيه: أي في حبه، وقيل الإشارة إلى الحب، والضمير له أيضاً، والمعنى: فذلك الحب الذي لمتنني فيه هو ذلك الحب، والأول أولى. ورجحه ابن جرير. وأصل اللوم: الوصف بالقبيح، ثم لما أظهرت عذر نفسها عند النسوة بما شاهدته مما وقعن فيه عند ظهوره لهن ضاق صدرها عن كتم ما تجده في قلبها من حبه، فأقرت بذلك وصرحت بما وقع منها من المراودة له، فقالت "ولقد راودته عن نفسه فاستعصم" أي استعف وامتنع مما أريده طالباً لعصمة نفسه عن ذلك، ثم توعدته إن لم يفعل ما تريده كاشفة لجلباب الحياء هاتكة لستر العفاف فقالت "ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكوناً من الصاغرين" أي لئن لم يفعل ما قد أمرته به فيما تقدم ذكره عند أن غلقت الأبواب وقالت هيت لك ليسجنن: أي يعتقل في السجن وليكونن من الصاغرين الأذلاء لما يناله من الإهانة، ويسلب عنه من النعمة والعزة في زعمها، قرئ ليكونن بالتثقيل والتخفيف، قيل والتخفيف أولى لأن النون كتبت في المصحف ألفاً على حكم الوقف، وذلك لا يكون إلا في الخفيفة، وأما ليسجنن فبالتثقيل لا غير، فلما سمع يوسف مقالها هذا، وعرف أنها عزمة منها مع ما قد علمه من نفاذ قولها عند زوجها العزيز قال مناجياً لربه سبحانه.
33- "رب السجن" أي يا رب السجن الذي أوعدتني هذه به "أحب إلي مما يدعونني إليه" من مؤاتاتها والوقوع في المعصية العظيمة التي تذهب بخير الدنيا والآخر. قال الزجاج: أي دخول السجن، فحذف المضاف. وحكى أبو حاتم أن عثمان بن عفان رضي الله عنه قرأ السجن بفتح السين، وقرأ كذلك ابن أبي إسحاق وعبد الرحمن والأعرج ويعقوب، وهو مصدر سجنه سجناً، وإسناد الدعوة إليهن جميعاً، لأن النسوة رغبنه في مطاوعتها وخوفنه من مخالفتها، ثم جرى على هذا في نسبة الكيد إليهن جميعاً، فقال: "وإلا تصرف عني كيدهن" أما الكيد من امرأة العزيز فما قد قصه الله سبحانه في هذه السورة، وأما كيد سائر النسوة فهو ما تقدم من الترغيب له في المطاوعة والتخويف من المخالفة وقيل إنها كانت كل واحدة تخلو به وحدها وتقول له: يا يوسف اقض لي حاجتي فأنا خير لك من امرأة العزيز، وقيل إنه خاطب امرأة العزيز بما يصلح لخطاب جماعة النساء تعظيماً لها، أو عدولاً عن التصريح إلى التعويض، والكيد: الاحتيال، وجزم "أصب إليهن" على أنه جواب الشرط: أي أمل إليهن، من صبا يصبو: إذا مال واشتاق، ومنه قول الشاعر: إلى هند صبا قلبي وهند حبها يصبي "وأكن من الجاهلين" معطوف على أصب: أي أكن ممن يجهل ما يحرم ارتكابه ويقدم عليه، أو ممن يعمل عمل الجهال.
وقوله 34- "فاستجاب له ربه" لما قال: وإلا تصرف عني كيدهن كان ذلك منه تعرضا للدعاء، وكأنه قال: اللهم اصرف عني كيدهن، فالاستجابة من الله تعالى له هي بهذا الاعتبار، لانه لم يتقدم دعاء صادق منه عليه السلام، والمعنى: أنه لطف به وعصمه عن الوقوع في المعصية، لأنه إذا صرف عنه كيدهن لم يقع شيء مما رمنه منه، ووجه إسناد الكيد قد تقدم، وجملة "إنه هو السميع العليم" تعليل لما قبلها من صرف كيد النسوة عنه: أي إنه هو السميع لدعوات الداعين له: العليم بأحوال الملتجئين إليه. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "قد شغفها" قال: غلبها. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه "قد شغفها" قال: قتلها حب يوسف، الشغف: الحب القاتل، والشغف: حب دون ذلك، والشغاف: حجاب القلب. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضاً "قد شغفها" قال: قد علقها. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "فلما سمعت بمكرهن" قال: بحديثهن. وأخرج ابن أبي حاتم عن سفيان "فلما سمعت بمكرهن" قال: بعلمهن، وكل مكر في القرآن فهو عمل. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في قوله: " وأعتدت لهن متكئا " قال: هيأت لهن مجلساً، وكان سنتهم إذا وضعوا المائدة أعطوا كل إنسان سكيناً يأكل بها "فلما رأينه" قال: فلما خرج عليهن يوسف "أكبرنه" قال: أعظمنه ونظرن إليه، وأقبلن يحززن أيديهن بالسكاكين وهن يحسبن أنهن يقطعن الطعام. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس " وأعتدت لهن متكئا " قال: أعطنهن أترنجاً، وأعطت كل واحدة منهن سكيناً، فلما رأين يوسف أكبرنه، وجعلن يقطعن أيديهن وهن يحسبن أنهن يقطعن الأترنج. وأخرج مسدد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عنه المتكأ: الأترنج، وكان يقرأها خفيفة. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد " متكئا " قال: طعاماً. وأخرج أبو عبيد وابن المنذر عنه قال هو الأترنج. وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: هو كل شيء يقطع بالسكين. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن الضحاك مثله. وأخرج أبو الشيخ من طريق عبد العزيز بن الوزير بن الكميت بن زيد قال حدثني أبي عن جدي يقول في قوله "فلما رأينه أكبرنه" قال: أمنين، وأنشد: ولما رأته الخيل من رأس شاهق صهلن وأمنين المني المدفقا وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق عبد الصمد بن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه عن جده ابن عباس في قوله "فلما رأينه أكبرنه" قال: لما خرج عليهن يوسف حضن من الفرح وذكر قول الشاعر الذي قدمنا ذكره: نأثي النساء لدى أطهارهن وأخرج ابن أبي شيبة وابن جريروابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "أكبرنه" قال: أعظمنه "وقطعن أيديهن" قال: حزاً بالسكين حتى ألقينها " وقلن حاش لله " قال: معاذ الله. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: " إن هذا إلا ملك كريم " قال: قلن ملك من الملائكة من حسنه. وأخرج أبو الشيخ عن منبه عن أبيه قال: مات من النسوة التي قطعن أيديهن تسع عشرة امرأة كمداً. وأخرج أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أعطي يوسف وأمه شطر الحسن، وقد وردت روايات عن جماعة من السلف في وصف حسن يوسف، والمبالغة في ذلك، ففي بعضها أنه أعطي نصف الحسن، وفي بعضها ثلثه، وفي بعضها ثلثيه، وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس "فاستعصم" قال: امتنع. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن قتادة "فاستعصم" قال: فاستعصى. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن زيد في قوله: "وإلا تصرف عني كيدهن" قال: إن لا تكن منك أنت القوى والمنعة لا تكن مني ولا عندي. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ "أصب إليهن" قال: أتبعهن وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس قال: أطاوعهن.
معنى: 35- "بدا لهم" ظهر لهم، والضمير للعزيز وأصحابه الذين يدبرون الأمر معه ويشيرون عليه، وأما فاعل" بدا لهم" فقال سيبويه هو "ليسجننه": أي ظهر لهم أن يسجنوه. قال المبرد: وهذا غلط لأن الفاعل لا يكون جملة، ولكن الفاعل ما دل عليه بدا وهو المصدر كما قال الشاعر: وحق لمن أبو موسى أبوه يوفقه الذي نصب الجبالا أي وحق الحق فحذف الفاعل لدلالة الفعل عليه: وقيل الفاعل المحذوف هو رأى: أي وظهر لهم رأي لم يكونوا يعرفونه من قبل، وهذا الفاعل حذف [لدلالته] وليسجننه عليه، واللام في ليسجننه جواب قسم محذوف على تقدير القول: أي ظهر لهم من بعد ما رأوا الآيات قائلين والله ليسجننه. وقرىء لتسجننه بالمثناة الفوقية على الخطاب، إما للعزيز ومن معه، أو له وحده على طريق التعظيم، والآيات قيل هي القميص وشهادة الشاهد وقطع الأيدي، وقيل هي البركات التي فتحها الله عليهم بعد وصول يوسف إليهم ولم يجد ذلك فيهم بل كانت امرأته هي الغالبة على رأيه الفاعلة لما يطابق هواها في يوسف، وإنفاذ ما تقدم منها من الوعيد له بقولها" ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين " قيل وسبب ظهور هذا الرأي لهم في سجن يوسف أنهم أرادوا ستر القالة وكتم ما شاع في الناس من قصة امرأة العزيز معه، وقيل إن العزيز قصد بسجنه الحيلولة بينه وبين امرأته لما علم أنها قد صارت بمكان من حبه لا تبالي معه بحمل نفسها علبه على أي صفة كانت، ومعنى قوله "حتى حين" إلى مدة غير معلومة كما قال أكثر المفسرين، وقيل إلى انقطاع ما شاع في المدينة. وقال سعيد بن جبير: إلى سبع سنين، وقيل إلى خمس، وقيل إلى ستة أشهر، وقد تقدم في البقرة الكلام في تفسير الحين، وحتى بمعنى إلى.
قوله:36- "ودخل معه السجن فتيان" في الكلام حذف متقدم عليه، والتقدير: وبدا لهم من بعد ما رأو الآيات ليسجننه حتى حين فسجنوه، ودخل معه السجن فتيان، ومع للمصاحبة، وفتيان تثنية فتى، وذلك يدل على أنهما عبدان له، ويحتمل أن يكون الفتى اسماً للخادم وإن لم يكن مملوكاً، وقد قيل إن أحدهما خباز الملك، والآخر ساقيه، وقد كانا وضعا للملك سماً لما ضمن لهما أهل مصر مالاً في مقابلة ذلك، ثم إن الساقي رجع عن ذلك وقال للملك: لا تأكل الطعام فإنه مسموم، وقال الخباز: لا تشرب فإن الشراب مسموم، فقال الملك للساقي: اشرب فشرب فلم يضره، وقال للخباز كل فأبى، فجرب الطعام على حيوان فهلك مكانه فحبسهما، وكان دخولهما السجن مع دخول يوسف، وقيل قبله، وقيل بعده. قال ابن جرير: إنهما سألا يوسف عن علمه فقال: إني أعبر الرؤيا، فسألاه عن رؤياهماكما قص الله سبحانه "قال أحدهما إني أراني أعصر خمراً" أي رأيتني، والتعبير بالمضارع لاستحضار الصورة. والمعنى: إني أراني أعصر عنباً، فسماه باسم ما يؤول إليه لكونه المقصود من العصر. وفي قراءة ابن مسعود أعصر عنباً قال الأصمعي: أخبرني المعتمر بن سليمان أنه لقي أعرابياً ومعه عنب، فقال له: ما معك؟ فقال خمر. وقيل معنى أعصر خمراً. أي عنب خمر، فهو على حذف المضاف، وهذا الذي رأى هذه الرؤيا هو الساقي، وهذه الجملة مستأنفة بتقدير سؤال، وكذلك الجملة التي بعدها وهي "وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزاً" ثم وصف الخبز هذا بقوله: "تأكل الطير منه" وهذا الرائي لهذه الرؤيا هو الخباز، قم قالا ليوسف حميعاً بعد أن قصا رؤياهما عليه "نبئنا بتأويله" أي بتأويل ما قصصناه عليك من مجموع المرئيين، أو بتأويل المذكور لك من كلامنا، وقيل إن كل واحد منهما قال له ذلك عقب قص رؤياه عليه، فيكون الضمير راحعاً إلى ما رآه كل واحد منهما، وقيل إن الضمير في بتأويله موضوع موضع اسم الإشارة، والتقدير يتأويل ذلك "إنا نراك من المحسنين" أي من الذين يحسنون عبارة الرؤيا وكذا قال الفراء : إن معنى من المحسنين من العالمين الذين أحسنوا العلم. وقال ابن إسحاق: من المحسنين إلينا إن فسرت ذلك، أو من المحسنين إلى اهل السجن، فقد روي أنه كان كذلك.
وجملة 37- "قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما" مستأنفة جواب سؤال مقدر، ومعنى ذلك أنه يعلم شيئاً من الغيب، وأنه لا يأتيهما إلى السجن طعام إلا أخبرهما بماهيته قبل أن يأتيهما، وهذا ليس من جواب سؤالهما تعبير ما قصاه عليه، بل جعله عليه السلام مقدمة قبل تعبيره لرؤياهما بياناً لعلو مرتبته في العلم، وأنه ليس من المعبرين الذين يعبرون الرؤيا عن ظن وتخمين، فهو كقول عيسى عليه السلام "وأنبئكم بما تأكلون" وإنما قال يوسف عليه السلام لها بهذا ليحصل الانقياد منها له فيما يدعوهما إليه بعد ذلك من الإيمان بالله والخروج من الكفر، ومعنى ترزقانه: يجري عليهما من جهة الملك أو غيره، والجملة صفة لطعام، أو يرزقكما الله سبحانه، والاستثناء بقوله: "إلا نبأتكما بتأويله" مفرغ من أعم الأحوال: أي يأتيكما، وسماه تـأويلاً بطريق المشاكلة، لأن الكلام في تأويل الرؤيا، أو المعنى: إلا نبأتكما بما يؤول إليه الكلام من مطابقة ما أخبركما به للواقع، والإشارة بقوله: "ذلكما" إلى التأويل، والخطاب للسائلين له عن تعبير رؤياهما "مما علمني ربي" بما أوحاه إلي وأهمني إياه لا من قبيل الكهانة والتنجيم ونحو ذلك مما يكثر فيه الخطأ، ثم بين لهما أن ذلك الذي ناله من هذه الرتبة العلية والعلوم الجملة هو بسبب ترك الملة التي لا يؤمن أهلها بالله ولا بالآخرة واتباعه لملة الأنبياء من آبائه فقال: "إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله" وهو كلام مستأنف يتضمن التعليل لما قبله، والمراد بالترك هو عدم التلبس بذلك من الأصل، لا أنه قد كان تلبس به، ثم تركه كما يدل عليه قوله: "ما كان لنا أن نشرك بالله" ثم وصف هؤلاء القوم بما يدل على تصلبهم في الكفر وتهالكهم عليه. فقال " وهم بالآخرة هم كافرون " أي هم مختصون بذلك دون غيرهم لإفراطهم في الكفر بالله .