تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 240 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 240

239

وقوله: 38- "واتبعت" معطوف على تركت، وسماهم آباء جميعاً لأن الأجداد آباء، وقدم الجد الأعلى، ثم الجلد الأقرب ثم الأب لكون إبراهيم هو أصل هذه الملة التي كان عليها أولاده ثم تلقاها عنه إسحاق ثم يعقوب، وهذا منه عليه السلام لترغيب صاحبيه في الإيمان بالله "ما كان لنا أن نشرك بالله" أي ما صح لنا ذلك فضلاً عن وقوعه، والضمير في لنا له وللأنبياء المذكورين، والإشارة بقوله: "ذلك" إلى الإيمان المفهوم من قوله ما كان لنا أن نشرك بالله، و"من فضل الله علينا" خبر اسم الإشارة: أي ناشئ من تفضلات الله علينا ولطفه بنا بما جعله لنا من النبوة المتضمنة للعصمة عن معاصيه، ومن فضل الله على الناس كافة ببعثة الأنبياء إليهم وهدايتهم إلى ربهم وتبيين طرائق الحق لهم "ولكن أكثر الناس لا يشكرون" الله سبحانه على نعمه التي أنعم بها عليهم فيؤمنون به ويوحدونه ويعملون بما شرعه لهم.
قوله: 39- " يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار " جعلهما مصاحبين للسجن لطول مقامهما فيه، وقيل المراد: يا صاحبي في السجن، لأن السجن ليس بمصحوب بل مصحوب فيه، وأن ذلك من باب يا سارق الليلة. وعلى الأول يكون من باب قوله: "أصحاب الجنة أصحاب النار" والاستفهام للإنكار مع التقريع والتوبيخ، ومعنى التفرق هنا هو التفرق في الذوات والصفات والعدد: أي هل الأرباب المتفرقون في ذواتهم المختلفون في صفاتهم المتنافون في عددهم خير لكما يا صاحبي السجن، أم الله المعبود بحق المتفرد في ذاته وصفاته الذي لا ضد له ولا ند ولا شريك، القهار الذي لا يغالبه مغالب ولا يعانده معاند؟ أورد يوسف عليه السلام على صاحبي السجن هذه الحجة القاهرة على طريق الاستفهام، لأنهما كانا ممن يعبد الأصنام، وقد قيل إنه كان بين أيديهما أصنام يعبدونها عند أن خاطبهما بهذا الخطاب.
ولهذا قال لهما 40- "ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها" أي إلا أسماء فارغة سميتموها ولا مسميات لها، وإن كنتم تزعمون أن لها مسميات، وهي الآلهة التي تعبدونها، لكنها لما كانت لا تستحق التسمية بذلك صارت الأسماء كأنها لا مسيمات لها، وقيل المعنى: ما تعبدون من دون الله إلا مسميات أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم من تلقاء أنفسكم، وليس لها من الإلهية شيء إلا مجرد الأسماء لكونها جمادات لا تسمع ولا تصبر ولا تنفع ولا تضر، وإنما قال: "ما تعبدون" على خطاب الجمع وكذلك ما بعده من الضمائر، لأنه قصد خطاب صاحبي السجن ومن كان على دينهم، ومفعول سميتموها الثاني محذوف: أي سميتموها آلهة من عند أنفسكم "ما أنزل الله بها" أي بتلك التسمية "من سلطان" من حجة تدل على صحتها "إن الحكم إلا لله" أي ما الحكم إلا لله في العبادة، فهو الذي خلقكم وخلق هذه الأصنام التي جعلتموها معبودة بدون حجة ولا برهان، وجملة " أمر أن لا تعبدوا إلا إياه " مستأنفة، والمعنى: أنه أمركم بتخصيصه بالعبادة دون غيره مما تزعمون أنه معبود، ثم بين لهم أن عبادته وحده دون غيره هي دين الله الذي لا دين غيره فقال: "ذلك" أي تخصيصه بالعبادة "الدين القيم" أي المستقيم الثابت "ولكن أكثر الناس لا يعلمون" أن ذلك هو دينه القويم، وصراطه المستقيم، لجهلكم وبعدكم عن الحقائق. وقد أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عكرمة قال: سألت ابن عباس عن قوله: "ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات" فقال: ما سألني عنها أحد قبلك، من الآيات قد القميص وأثرها في جسده، وأثر السكين، وقالت امرأة العزيز: إن أنت لم تسجنه ليصدقنه الناس. وأخرج أبو الشيخ عن ابن زيد قال: من الآيات كلام الصبي. وأخرج ابن جرير عن قتادة قال: الآيات حزهن أيديهن وقد القميص. وأقول: إن كان المراد بالآيات: الآيات الدالة على براءته فلا يصح عد قطع أيدي النسوة منها، لأنه وقع منهن ذلك لما حصل لهن من الدهشة عند ظهوره لهن مع ما ألبسه الله سبحانه من الجمال الذي تنقطع عند مشاهدته عرى الصبر وتضعف عند رؤيته قوى التجلد، وإن كان المراد بالآيات الدالة على أنه قد أعطي من الحسن ما يسلب عقول المبصرين، ويذهب بإدراك الناظرين، فنعم يصح عد قطع الأيدي من جملة الآيات، ولكن ليس هذه الآيات هي المرادة هنا. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وصححه عن ابن عباس قال: عوقب يوسف ثلاثة مرات: أما أول مرة فبالحبس لما كان من حمه بها، والثانية لقوله: "اذكرني عند ربك" "فلبث في السجن بضع سنين" عوقب بطول الحبس، والثالثة حيث قال: "أيتها العير إنكم لسارقون" فاستقبل في وجهه "إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل". وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما" خازن الملك على طعامه، والآخر سياقه على شرابه. وأخرج ابن جرير عنه في قوله: "إني أراني أعصر خمراً" قال: عنباً. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن مجاهد " نبئنا بتأويله " قال : عبارته . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "إنا نراك من المحسنين" قال: كان إحسانه فيما ذكر لنا أنه كان يعزي حزينهم ويداوي مريضهم، ورأو منه عبادة واجتهاداً فأحبوه. وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في الشعب عن الضحاك قال: كان إحسانه أنه إذا مرض إنسان في السجن قام عليه. وإذا ضاق عليه المكان أوسع له، وإذا احتاج جمع له. وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس قال: دعا يوسف لأهل السجن فقال: اللهم لا تعم عليهم الأخبار وهون عليهم مر الأيام. وأخرج أبو عبيد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن جريح في قوله: "لا يأتيكما طعام" الآية قال: كره العبارة لهما فأجابهما بغير جوابهما ليريهما أن عنده علماً، وكان الملك إذا أراد قتل إنسان نع له طعاماً معلوماً فأرسل به إليه، فقال يوسف "لا يأتيكما طعام ترزقانه" إلى قوله: "يشكرون" فلم يدعه صاحبا الرؤيا حتى يعبر لهما، فكره العبارة فقال: "يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون" إلى قوله: "ولكن أكثر الناس لا يعلمون" قال: فلم يدعاه فعبر لهما. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس" قال: إن المؤمن ليشكر ما به نعمة الله، ويشكر ما بالناس من نعم الله، ذكر لنا أن أبا الدرداء كان يقول: يا رب شاكر نعمة غير منعم عليه لا يدري، ويا رب حامل فقه غير فقيه. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "أأرباب متفرقون" الآية قال: لما عرف يوسف أن أحدهما مقتول دعاهما إلى حظهما من ربهما وإلى نصيبهما من آخرتهما. وأخرج أبو الشيخ عن ابن جريح في قوله: "ذلك الدين القيم" قال: العدل.
فقال: هذا هو بيان ما طلباه منه من تعبير رؤياهما، والمراد بقوله: "أما أحدكما" هو الساقي، وإنما أبهمه لكونه مفهوماص أو لكراهة التصريح للخباز بأنه الذي سيصلب "فيسقي ربه خمراً" أي مالكه، وهي عهدته التي كان قائماً بها في خدمة الملك، فكأنه قال: أما أنت أيها الساقي فستعود إلى ما كنت عليه ويدعو بك الملك ويطلقك من الحبس "وأما الآخر" وهو الخباز "فيصلب فتأكل الطير من رأسه" تعبيراً لما رآه من أنه يحمل فوق رأسه خبزاً فتأكل الطير منه "قضي الأمر الذي فيه تستفتيان" وهو ما رأياه وقصاه عليه، يقال استفتاه: إذا طلب منه بيان حكم شيء سأله عنه مما أشكل عليه، وهما قد سألاه تعبير ما أشكل عليهما من الرؤيا.
42- "وقال للذي ظن أنه ناج منهما" أي قال يوسف، والظان هو أيضاً يوسف، والمراد بالظن العلم لأنه قد علم من الرؤيا نجاة الشرابي وهلاك الخباز، هكذا قال جمهور المفسرين. وقيل الظاهر على معناه، لأن عابر الرؤيا إنما يظن ظناً، والأول أولى وأنسب بحال الأنبياء. ولا سيما وقد أخبر عن نفسه عليه السلام بأنه قد أطلعه الله على كل شيء من علم الغيب كما في قوله: "لا يأتيكما طعام ترزقانه" الآية،وجملة "اذكرني عند ربك" هي مقول القول أمره بأن يذكره عند سيده ويصفه بما شاهده منه من جودة التعبير والاطلاع على شيء من علم الغيب، وكانت هذه المقالة منه عليه السلام صادرة عن هول ونسيان عن ذكر الله بسبب الشيطان، فيكون ضمير المفعول في أنساه عائداً إلى يوسف، هكذا قال بعض المفسرين ويكون المراد بربه في قوله: "ذكر ربه" هو الله سبحانه: أي إنساء الشيطان يوسف ذكر الله تعالى في تلك الحال "وقال للذي ظن أنه ناج منهما" يذكره عند سيده ليكون ذلك سبباً لانتباهه على ما أوقعه من الظلم البين عليه بسجنه بعد أن رأى من الآيات ما يدل على براءته. وذهب كثير من المفسرين إلى أن الذي أنساه الشيطان ذكر ربه هو الذي نجا من الغلامين: وهو الشرابي، والمعنى: إنساء الشيطان الشرابي ذكر سيده: أي ذكره لسيده فلم يبلغ إليه ما اوصاه به يوسف مع ذكره عند سيده، ويكون المعنى: فأنساه الشيطان ذكر إخباره بما أمره به يوسف مع خلوصه من السجن ورجوعه إلى ما كان عليه من القيام بسقي الملك، وقد رجح هذا بكون الشيطان لا سبيل له على الأنبياء. وأجيب بأن النسيان وقع من يوسف، ونسبته إلى الشيطان على طريق المجاز، والأنبياء غير معصومين عن النسيان إلا فيما يخبرون به عن الله سبحانه، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني" ورجح أيضاً بأن النسيان ليس بذنب، فلو كان الذي أنساه الشيطان ذكر ربه هو يوسف لم يستحق العقوبة على ذلك بلبثه في السجن بضع سنين. وأجيب بأن النسيان هنا بمعنى الترك، وأنه عوقب بسبب استعانته بغير الله سبحانه، وبؤيد رجوعه الضمير إلى يوسف ما بعده من قوله: "فلبث في السجن بضع سنين" ويؤيد رجوعه إلى الذي نجا من الغلامين قوله فيما سيأتي "وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة" سنة " فلبث" أي يوسف "في السجن" بسبب ذلك القول قاله للذي نجا من الغلامين،أو بسبب ذلك الإنساء "بضع سنين" البضع: ما بين الثلاث إلى التسع كما حكاه الهروي عن العرب. وحكي عن أبي عبيدة أن البضع: ما دون نصف العقد، يعني ما بين واحد إلى أربعة، وقيل ما بين ثلاث إلى سبع، حكاه قطرب. وحكى الزجاج أنه ما بين الثلاث إلى الخمس. وقد اختلف في تعيين قدر المدة التي لبث قيها يوسف في السجن فقيل سبع سنين، وقيل ثنتا عشرة سنة، وقيل أربع عشرة سنة، وقيل خمس سنين. وقد أخرج ابن جرير عن عكرمة في قوله: "أما أحدكما" قال: أتاه فقال: رأيت فيما يرى النائم أني غرست حبلة من عنب فنبتت، فخرج فيه عناقيد فعصرتهن ثم سقيتهن الملك، فقال: تمكث في السجن ثلاثة أيام، ثم تخرج فتسقيه خمراً. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن مسعود قال: ما رأى صاحبا يوسف شيئاً، إنما تحالما ليجربا علمه، فلما أول رؤياهما قالا: إنما كنا نلعب ولم نر شيئاً، فقال "قضي الأمر الذي فيه تستفتيان" يقول: وقعت العبارة فصار الأمر على ما عبر يوسف. وأخرج أبو عبيد وابن المنذر وأبو الشيخ عن أبي مجلز قال: كان أحد اللذين قصا على يوسف الرؤيا كاذبا. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن ساباط "وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك" قال: عند ملك الأرض. وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب العقوبات وابن جرير والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لو لم يقل يوسف الكلمة التي قال ما لبث في السجن طول ما لبث حيث يبتغي الفرج من عند غير الله". وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وأبو الشيخ عن عكرمة مرفوعاً نحوه وهو مرسل. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة مرفوعاً نحوه. وأخرج أحمد في الزهد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم أبو الشيخ عن الحسن مرفوعاً نحوه وهو مرسل. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن قتادة فذكر نحوه وهو مرسل أيضاً. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أنس قال: أوحي إلى يوسف: من استنقذك من القتل حين هم إخوتك أن يقتلوك؟ قال: أنت يا رب، قال: فمن استنقذك من الجب إذ ألقوك فيه؟ قال: أنت يا رب، قال: فمن استنقذك من المرأة إذ همت بك؟ قال: أنت يا رب، قال: فما لك نسيتني وذكرت آدمياً؟ قال: جزعاً وكلمة تكلم بها لساني، قال: فوعزتي لأخلدنك في السجن بضع سنين، فلبث فيه سبع سنين. وقد اختلف السلف في تقدير مدة لبثه في السجن على حسب ما قدمنا ذكره، فلم نشتغل ها هنا بذكر من قال بذلك ومن خرجه.
المراد بالملك هنا: هو الملك الأكبر، وهو الريان بن الوليد الذي كان العزيز وزيراً له، رأى في نومه لما دنا فرج يوسف عليه السلام أنه خرج من نهر يابس 43- "سبع بقرات سمان" جمع سمين وسمينة، في إثرهن سبع عجاف: أي مهازيل، وقد أقبلت العجاف على السمان فأكلتهن. والمعنى: إني رأيت، ولكنه عبر بالمضارع لاستحضار الصورة، وكذلك قوله "يأكلهن" عبر بالمضارع للاستحضار، والعجاف جمع عجفاء، وقياس جمعه عجف، لأن فعلاء وأفعل لا تجمع على فعال، ولكنه عدل عن القياس حملا على سمان "وسبع سنبلات" معطوف على سبع بقرات، والمراد بقوله "خضر" أنه قد انعقد حبها، واليابسات التي قد بلغت الحصاد، والمعنى: وأرى سبعاً أخر يابسات، وكان قد رأى أن السبع السنبلات اليابسات قد أدركت الخضر والتوت عليها حتى غلبتها، ولعل عدم التعرض لذكر هذا في النظم القرآني للاكتفاء بما ذكر من حال البقرات "يا أيها الملأ" خطاب للأشراف من قومه "أفتوني في رؤياي" أي أخبروني بحكم هذه الرؤيا "إن كنتم للرؤيا تعبرون" أي تعلمون عبارة الرؤيا، وأصل العبارة مشتقة من عبور النهر، فمعنى عبرت النهر: بلغت شاطئه، فعابر الرؤيا يخبر بما يؤول إليه أمرها. قال الزجاج: اللام في للرؤيا للتبيين: أي إن كنتم تعبرون، ثم بين فقال للرؤيا وقيل هو للتقوية، وتأخير الفعل العامل فيه لرعاية الفواصل.