تفسير الطبري تفسير الصفحة 239 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 239
240
238
 الآية : 31
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَلَمّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنّ مُتّكَئاً وَآتَتْ كُلّ وَاحِدَةٍ مّنْهُنّ سِكّيناً وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنّ فَلَمّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطّعْنَ أَيْدِيَهُنّ وَقُلْنَ حَاشَ للّهِ مَا هَـَذَا بَشَراً إِنْ هَـَذَآ إِلاّ مَلَكٌ كَرِيمٌ }.
يقول تعالـى ذكره: فلـما سمعت امرأة العزيز بـمكر النسوة اللاتـي قلن فـي الـمدينة ما ذكره الله عزّ وجلّ عنهنّ. وكان مكرهنّ ما:
14714ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا عمرو بن مـحمد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: فَلَـمّا سَمِعَتْ بِـمَكْرِهِنّ يقول: بقولهنّ.
14715ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قال: لـما أظهر النساء ذلك من قولهنّ: تراود عبدها مكرا بها لتريهنّ يوسف, وكان يوصف لهنّ بحسنه وجماله فَلَـمّا سَمِعَتْ بِـمَكْرِهِنّ أرْسَلَتْ إلَـيْهِنّ وأعْتَدَتْ لَهُنّ مُتّكَئا.
14716ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: فَلَـمّا سَمِعَتْ بِـمَكْرِهِنّ: أي بحديثهنّ, أرْسَلَتْ إلَـيْهِنّ يقول: أرسلت إلـى النسوة اللاتـي تـحدّثن بشأنها وشأن يوسف.
وأعْتَدَتْ أفعلت من العتاد, وهو العدّة, ومعناه: أعدّت لهنّ متكئا يعنـي مـجلسا للطعام, وما يتكئن علـيه من النـمارق والوسائد, وهو مفتعل من قول القائل: اتكأت, يقال: ألقِ له مُتّكَئا, يعنـي: ما يتكىء علـيه.
وبنـحو ما قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
14717ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا يحيى بن الـيـمان, عن أشعث, عن جعفر, عن سيعد: وأعْتَدَتْ لَهُنّ مُتّكَئا قال: طعاما وشرابـا ومتكئا.
14718ـ قال: حدثنا عمرو بن مـحمد, عن أسبـاط, عن السديّ: وأعْتَدَتْ لَهُنّ مُتّكَأً قال: يتكئن علـيه.
14719ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: ثنـي معاوية. عن علـيّ, عن ابن عبـاس: وأعْتَدَتْ لَهُنّ مُتّكأً قال: مـجلسا.
14720ـ قال: حدثنا عمرو بن عون, قال: أخبرنا هشيـم, عن أبـي الأشهب, عن الـحسن أنه كان يقرأ: مُتّكَأً ويقول: هو الـمـجلس والطعام.
14721ـ قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن يزيد: من قرأ: «مُتّكَأً» خفـيفة, يعنـي طعاما, ومن قرأ مُتّكَأً يعنـي الـمتكأ.
فهذا الذي ذكرنا عمن ذكرنا عنه من تأويـل هذه الكلـمة, هو معنى الكلـمة وتأويـل الـمتكأ, وأنها أعدّت للنسوة مـجلسا فـيه متكأً وطعام وشراب وأترجّ. ثم فسّر بعضهم الـمتكأ بأنه الطعام علـى وجه الـخبر عن الذين أعدّ من أجله الـمتكأ, وبعضهم عن الـخبر عن الأترجّ, إذ كان فـي الكلام: وآتت كلّ واحدة منهن سكينا, لأن السكين إنـما تعدّ للأترجّ وما أشبهه مـما يقطع به. وبعضهم علـى البزماورد:
حدثنـي هارون بن حاتـم الـمقرىء, قال: حدثنا هشيـم بن الزبرقان, عن أبـي روق عن الضحاك, فـي قوله: وأعْتَدَتْ لَهُنّ مُتّكَئا قال: البزماورد.
وقال أبو عبـيدة معمر بن الـمثنى: الـمتكأ: هو النّـمرق يتكأ علـيه. وقال: زعم قوم أنه الأترجّ, قال: وهذا أبطل بـاطل فـي الأرض, لكن عسى أن يكون مع الـمتكإ أترجّ يأكلونه. وحكى أبو عبـيد القاسم بن سلام قول أبـي عبـيدة, ثم قال: والفقهاء أعلـم بـالتأويـل منه. ثم قال: ولعله بعض ما ذهب من كلام العرب, فإن الكسائي كان يقول: قد ذهب من كلام العرب شيء كثـير انقرض أهله. والقول فـي أن الفقهاء أعلـم بـالتأويـل من أبـي عبـيدة كما قال أبو عبـيدة لا شكّ فـيه, غير أن أبـا عبـيدة لـم يبعد من الصواب فـي هذا القول, بل القول كما قال من أن من قال للـمتكإ هو الأترجّ إنـما بـين الـمعدّ فـي الـمـجلس الذي فـيه الـمتكأ والذي من أجله أعطين السكاكين, لأن السكاكين معلوم أنها لا تعدّ للـمتكإ إلا لتـخريقه, ولـم يُعْطَين السكاكين لذلك. ومـما يبـين صحة ذلك القول الذي ذكرناه عن ابن عبـاس, من أن الـمتكإ هو الـمـجلس.
ثم رُوى عن مـجاهد عنه, ما:
14722ـ حدثنـي به سلـيـمان بن عبد الـجبـار, قال: حدثنا مـحمد بن الصلت, قال: حدثنا أبو كدينة, عن حصين, عن مـجاهد, عن ابن عبـاس: وأعْتَدَتْ لَهُنّ مُتّكَئا وآتَتْ كُلّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنّ سِكّينا قال: أعطتهنّ أترجّا, وأعطت كل واحدة منهنّ سكينا.
فبـين ابن عبـاس فـي رواية مـجاهد هذه ما أعطت النسوة, وأعرض عن ذكر بـيان معنى الـمتكإ, إذا كان معلوما معناه. ذكر من قال فـي تأويـل الـمتكإ ما ذكرنا:
14723ـ حدثنـي يحيى بن طلـحة الـيربوعي, قال: حدثنا فضيـل بن عياض, عن حصين, عن مـجاهد, عن ابن عبـاس: وأعْتَدَتْ لَهُنّ مُتّكَئا قال: الترنـج.
14724ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عمرو بن عون, قال: حدثنا هشيـم, عن عوف, قال: حُدثت عن ابن عبـاس أنه كان يقرؤها: «مُتْكا» مخففة, ويقول: هو الأترجّ.
14725ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا ابن إدريس, عن أبـيه, عن عطية: «وأعْتَدَتْ لَهُنّ مُتّكَأً» قال الطعام.
14726ـ حدثنـي يعقوب والـحسن بن مـحمد, قالا: حدثنا ابن علـية, عن أبـي رجاء, عن الـحسن, فـي قوله: وأعْتَدَتْ لَهُنّ مُتّكَأً قال: طعاما.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا ابن علـية, عن أبـي رجاء, عن الـحسن, مثله.
14727ـ حدثنا ابن بشار وابن وكيع, قالا: حدثنا غندر, قال: حدثنا شعبة, عن أبـي بشر, عن سعيد بن جبـير, فـي قوله: وأعْتَدَتْ لَهُنّ مُتّكَأً قال: طعاما.
حدثنا ابن الـمثنى, قال: حدثنا وهب بن جرير, قال: حدثنا شعبة, عن أبـي بشر, عن سعيد بن جبـيرة نـحوه.
14728ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان, عن منصور, عن مـجاهد, قال: من قرأ مُتّكَأً فهو الطعام, ومن قرأها «مُتّكا» فخففها, فهو الأترجّ.
14729ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, فـي قوله: مُتّكَأً قال: طعاما.
حدثنا الـحسن بن مـحمد, قال: حدثنا شبـابة, قال: حدثنا ورقاء, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد. وحدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله, عن ورقاء, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
14730ـ حدثنا الـحسن بن مـحمد, قال: حدثنا أبو خالد القرشي, قال: حدثنا سفـيان, عن منصور, عن مـجاهد, قال: من قرأ: «مُتْكأً» خفـيفة, فهو الأترجّ.
حدثنـي الـحارث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا سفـيان, عن منصور, عن مـجاهد, بنـحوه.
14731ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا جرير, عن لـيث, قال سمعت بعضهم يقول: الأترجّ.
14732ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: وأعْتَدَتْ لَهُنّ مُتّكَأً: أي طعاما.
حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى, قال: حدثنا مـحمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة, مثله.
14733ـ قال: حدثنا يزيد, عن أبـي رجاء, عن عكرمة, فـي قوله: مُتّكَأً قال: طعاما.
حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس: وأعْتَدَتْ لَهُنّ مُتّكَأً يعنـي الأترجّ.
14734ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق: وأعْتَدَتْ لَهُنّ مُتّكَأً والـمتكأ: الطعام.
قال: حدثنا جرير عن لـيث, عن مـجاهد: وأعْتَدَتْ لَهُنّ مُتّكَأً قال: الطعام.
14735ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: وأعْتَدَتْ لَهُنّ مُتّكَأً قال: طعاما.
14736ـ حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ, قال: حدثنا عبـيد بن سلـمان, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: مُتّكَأً فهو كلّ شيء يجزّ بـالسكين.
قال الله تعالـى ذكره مخبرا عن امرأة العزيز والنسوة اللاتـي تـحدّثن بشأنها فـي الـمدينة: وآتَتْ كُلّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنّ سِكّينا يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: وأعطت كل واحدة من النسوة اللاتـي حضرنها سكينا لتقطع به من الطعام ما تقطع به, وذلك ما ذكرت أنها آتتهنّ إما من الأترجّ, وإما من البزماورد, أو غير ذلك مـما يقطع بـالسكين. كما:
14737ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا عمرو بن مـحمد, عن أسبـاط, عن السديّ: وآتَتْ كُلّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنّ سِكّينا وأترجّا يأكلنه.
14738ـ حدثنا سلـيـمان بن عبد الـجبـار, قال: حدثنا مـحمد بن الصلت, قال: حدثنا أبو كدينة, عن حصين, عن مـجاهد, عن ابن عبـاس: وآتَتْ كُلّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنّ سِكينا قال: أعطتهن أترجّا, وأعطت كل واحدة منهنّ سكينا.
14739ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق: وآتَتْ كُلّ وَاحِدَةٍ مِنُهْنّ سِكّينا لـيحتززن به من طعامهنّ.
14740ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: وآتَتْ كُلّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنّ سِكّينا وأعطتهنّ ترنـجا وعسلاً, فكنّ يحززن الترنـج بـالسكين, ويأكلن بـالعسل.
وفـي هذه الكلـمة بـيان صحة ما قلنا واخترنا فـي قوله: وأعْتَدَتْ لَهُنّ مُتّكَأً وذلك أن الله تعالـى ذكره أخبر عن إيتاء امرأة العزيز النسوة السكاكين, وترك ماله آتتهنّ السكاكين, إذا كان معلوما أن السكاكين لاتدفع إلـى من دعى إلـى مـجلس إلا لقطع ما يؤكل إذا قطع بها, فـاستغنـي بفهم السامع بذكر إيتائها صواحبـاتها السكاكين عن ذكر ماله آتتهنّ ذلك, فكذلك استغنـي بذكر اعتدادها لهنّ الـمتكأ عن ذكر ما يعتدّ له الـمتكأ مـما يحضر الـمـجالس من الأطعمة والأشربة والفواكه وصنوف الالتهاء لفهم السامعين بـالـمراد من ذلك, ودلالة قوله: وأعْتَدَتْ لَهُنّ مُتّكَأً علـيه. فأما نفس الـمتكأ فهو ما وصفنا خاصة دون غيره.
وقوله: وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَـيْهِنّ فَلَـمّا رأيْنَهُ أكْبَرْنَهُ يقول تعالـى ذكره: وقالت امرأة العزيز لـيوسف: اخْرُجْ عَلَـيْهِنّ فخرج علـيهنّ يوسف, فَلَـمّا رأيْنَهُ أكْبَرْنَهُ يقول جلّ ثناؤه: فلـما رأين يوسف أعظمنه وأجللنه.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
14741ـ حدثنا الـحسن بن مـحمد, قال: حدثنا شبـابة, قال: حدثنا ورقاء, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: أكْبَرْنَهُ أعظمنه.
حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد مثله.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح. قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله, عن ورقاء, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
14742ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: فَلَـمّا رأيْنَهُ أكْبَرْنَهُ: أي أعظمنه.
14743ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا عمرو بن مـحمد, عن أسبـاط, عن السديّ: وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَـيْهِنّ لـيوسف, فَلَـمّا رأيْنَهُ أكْبَرْنَهُ: عظمنه.
حدثنا إسماعيـل بن سيف العجلـي, قال: حدثنا علـيّ بن عابس, قال: سمعت السديّ يقول فـي قوله: فَلَـمّا رأيْنَهُ أكْبَرْنَهُ قال: أعظمنه.
14744ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: اخْرُجْ عَلَـيْهِنّ فخرج فَلَـمّا رأيْنَهُ أعظمنه وبهتن.
14745ـ حدثنا إسماعيـل بن سيف, قال: حدثنا عبد الصمد بن علـيّ الهاشميّ, عن أبـيه, عن جدّه, فـي قوله: فَلَـمّا رأيْنَهُ أكْبَرْنَهُ قال: حضن.
14746ـ حدثنا علـيّ بن داود, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, فـي قوله: فَلَـمّا رأيْنَهُ أكْبَرْنَهُ يقول: أعظمنه.
حدثنـي الـحارث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا يحيى بن أبـي زائدة, عن ابن جريج, عن مـجاهد مثله.
وهذا القول, أعنـي القول الذي رُوي عن عبد الصمد, عن أبـيه, عن جده, فـي معنى أكْبَرْنَهُ أنه حِضْنَ, إن لـم يكن عنى به أنهنّ حضن من إجلالهنّ يوسف وإعظامهنّ لـما كان الله قسم له من البهاء والـجمال, ولـما يجد من مثل ذلك النساء عند معايَنتهنّ إياه, فقول لا معنى له لأن تأويـل ذلك: فلـما رأين يوسف أكبرنه, فـالهاء التـي فـي أكبرنه من ذكر يوسف, ولا شكّ أن من الـمـحال أن يَحِضْن يوسف, ولكن الـخبر إن كان صحيحا عن ابن عبـاس علـى ما رُوي, فخـلـيق أن يكون كان معناه فـي ذلك أنهن حضن لـما أكبرن من حُسن يوسف وجماله فـي أنفسهن ووجدن ما يجدد النساء من مثل ذلك. وقد زعم بعض الرواة أن بعض الناس أنشده فـي أكبرن بـمعنى حضن, بـيتا لا أحسب أن له أصلاً, لأنه لـيس بـالـمعروف عند الرواة, وذلك:
نَأْتِـي النّسَاءَ علـى أطْهارِهِنّ وَلانَأْتِـي النّساءَ إذَا أكْبَرْنَ إكْبـارا
وزعم أن معناه: إذا حضن.
وقوله: وَقَطّعْنَ أيْدِيَهُنّ اختلف أهل التأويـل فـي معنى ذلك, فقال بعضهم: معناه: أنهن حززن بـالسكين فـي أيديهن وهن يحسبن أنهنّ يقطعن الأترجّ. ذكر من قال ذلك:
14747ـ حدثنا الـحسن بن مـحمد, قال: حدثنا شبـابة, قال: حدثنا ورقاء, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: وَقَطّعْنَ أيْدِيَهُنّ حزّا حزّا بـالسكين.
حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: وَقَطّعْنَ أيْدِيَهُنّ قال: حزّا حزّا بـالسكاكين.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد قال: وثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله, عن ورقاء, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: وَقَطّعْنَ أيْدِيَهُنّ قال: حزّا حزّا بـالسكين.
14748ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا عمرو بن مـحمد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: وَقَطّعْنَ أيْدِيَهُنّ قال: جعل النسوة يحززن أيديهنّ, يحسبن أنهن يقطعن الأترجّ.
14749ـ حدثنا إسماعيـل بن سيف, قال: حدثنا علـيّ بن عابس, قال: سمعت السديّ يقول: كانت فـي أيديهن سكاكين مع الأترجّ, فقطعن أيديهن, وسالت الدماء, فقلن: نـحن نلومك علـى حبّ هذا الرجل, ونـحن قد قطّعنا أيدينا وسالت الدماء
14750ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: جعلن يَحِززن أيديهن بـالسكين, ولا يحسبن إلا أنهن يحززن الترنـج, قد ذهبت عقولهنّ مـما رأين.
14751ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: وَقَطّعْنَ أيْدِيَهُنّ وحززن أيديهن.
14752ـ حدثنـي سلـيـمان بن عبد الـجبـار, قال: حدثنا مـحمد بن الصلت, قال: حدثنا ابن كدينة, عن حصين, عن مـجاهد, عن ابن عبـاس, قال: جعلن يقطعن أيديهن وهن يحسبن أنهن يقطعن الأترجّ.
14753ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى, قال: حدثنا مـحمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: وَقَطّعْنَ أيْدِيَهُنّ قال: جعلن يحززن أيديهن, ولا يشعرن بذلك.
14754ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قال: قالت لـيوسف: اخرج علـيهنّ فخرج علـيهن, فلـما رأينه أكبرنه, وغلبت عقولهن عجبـا حين رأينه, فجعلن يقطعن أيديهن بـالسكاكين التـي معهن ما يعقلن شيئا مـما يصنعن, وَقُلْنَ حاشَ لِلّهِ ما هَذَا بَشَرا.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أنهن قطعن أيديهن حتـى أبنّها وهن لا يشعرن. ذكر من قال ذلك:
14755ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى, قال: حدثنا مـحمد بن ثور, عن معمر, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قال: قطّعن أيديهن حتـى ألقـينها.
14756ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, فـي قوله: وَقَطّعْنَ أيْدِيَهُنّ قال: قطعن أيديهن حتـى ألقـينها.
والصواب من القول فـي ذلك أن يقال: إن الله أخبر عنهن أنهن قطعن أيديهن وهن لا يشعرن لإعظام يوسف, وجائز أن يكون ذلك كان قطعا بإبـانة, وجائز أن يكون كان قطع حزّ وخدش, ولا قول فـي ذلك أصوب من التسلـيـم لظاهر التنزيـل.
14757ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان, عن أبـي إسحاق, عن أبـي الأحوص, عن عبد الله, قال: أعطي يوسف وأمه ثلث الـحسن.
حدثنا مـحمد بن الـمثنى, قال: حدثنا مـحمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن أبـي إسحاق, عن أبـي الأحوص عن عبد الله, مثله.
وبه عن أبـي الأحوص, عن عبد الله, قال: قسم لـيوسف وأمه ثلثُ الـحسن.
حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن سفـيان, عن أبـي إسحاق, عن أبـي الأحوص, عن عبد الله, قال: أعطي يوسف وأمه ثلثَ حسن الـخـلق.
14758ـ حدثنـي أحمد بن ثابت, وعبد الله بن الرازيان, قالا: حدثنا عفـان, قال: أخبرنا حماد بن سلـمة, قال: أخبرنا ثابت, عن أنس, عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم, قال: «أُعْطِيَ يُوسُفُ وأُمّهُ شَطْرَ الـحُسْنِ».
14759ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, عن أبـي معاذ, عن يونس, عن الـحسن, أن النبـيّ صلى الله عليه وسلم قال: «أُعْطِيَ يُوسُفُ وأُمّهُ ثُلُثَ حُسْنِ أهْلِ الدّنْـيا, وأُعْطِيَ النّاسُ الثّلُثَـيْنِ» أو قال: «أُعْطِيَ يُوسُفُ وأُمّهُ الثّلُثَـيْنِ, وأُعْطِيَ النّاسُ الثّلُثَ».
14760ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن سفـيان, عن منصور, عن مـجاهد, عن ربـيعة الـجرشي, قال: قسم الـحسن نصفـين, فأعطي يوسف وأمه سارّة نصف الـحسن, والنصف الاَخر بـين سائر الـخـلق.
14761ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري, قال: حدثنا سفـيان, عن منصور, عن مـجاهد, عن ربـيعة الـجرشي, قال: قسم الـحسن نصفـين: فقسم لـيوسف وأمه النصف, والنصف لسائر الناس.
حدثنا ابن وكيع وابن حميد, قالا: حدثنا جرير, عن منصور, عن مـجاهد, عن ربـيعة الـجرشي, قال: قسم الـحسن نصفـين, فجعل لـيوسف وسارّة النصف, وجعل لسائر الـخـلق نصف.
14762ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, عن عيسى بن يزيد, عن الـحسن: أعطي يوسف وأمه ثلث حسن الدنـيا, وأعطي الناس الثلثـين.
وقوله: وَقُلْنَ حاشَ لِلّهِ اختلفت القراء فـي قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء الكوفـيـين: حاشَ لِلّهِ بفتـح الشين وحذف الـياء. وقرأه بعض البصريـين بإثبـات الـياء «حاشى لله». وفـيه لغات لـم يقرأ بها: «حاشَى اللّهِ» كما قال الشاعر:
حاشَى أبـي ثَوْبـانَ إنّ بهِضَنّا عَنِ الـمَلْـحاةِ والشّتْـمِ
وذُكر عن ابن مسعود أنه كان يقرأ بهذه اللغة: «حاشْ اللّهَ» بتسكين السين والألف يجمع بـين الساكنـين. وأما القراءة فإنـما هي بإحدى اللغتـين الأولـيـين, فمن قرأ: حاشَ لِلّهِ بفتـح الشين وإسقاط الـياء فإنه أراد لغة من قال: «حاشى لله», بإثبـات الـياء, ولكنه حذف الـياء لكثرتها علـى ألسن العرب, كما حذفت العرب الألف من قولهم: لا أب لغيرك, ولا أب لشانـيك, وهم يعنون: لا أبـا لغيرك, ولا أبـا لشانـيك.
وكان بعض أهل العلـم بكلام العرب يزعم أن لقولهم: «حاشى لله», موضعين فـي الكلام: أحدهما: التنزيه, والاَخر: الاستثناء, وهو فـي هذا الـموضع عندنا بـمعنى التنزيه لله, كأنه قـيـل: معاذ الله.
وأما القول فـي قراءة ذلك, فإنه يقال للقارىء, فـي قراءته بأيّ القراءتـين شاء, إن شاء بقراءة الكوفـيـين وإن شاء بقراءة البصريـين, وهو: حاشَ لِلّهِ و«حاشَى لِلّهِ» لأنهما قراءتان مشهورتان ولغتان معروفتان بـمعنى واحد, وما عدا ذلك فلغات لا تـجوز القراءة بها, لأنا لا نعلـم قارئا قرأ بها.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
14763ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا ابن نـمير, عن ورقاء, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: وَقُلْنَ حاشَ لِلّهِ قال: معاذ الله.
حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, فـي قوله: حاشَ لِلّهِ: معاذ الله.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: وَقُلْنَ حاشَ لِلّهِ: معاذ الله.
حدثنا الـحسن بن مـحمد, قال: حدثنا شبـابة, قال: حدثنا ورقاء, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: حاشَ لِلّهِ: معاذ الله.
14764ـ قال: حدثنا عبد الوهاب, عن عمرو, عن الـحسن: حَاشَ لِلّهِ: معاذ الله.
حدثنـي الـحارث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا يحيى, عن ابن جريج, عن مـجاهد, مثله.
وقوله: ما هَذَا بَشَرا يقول: قلن ما هذا بشرا, لأنهنّ لـم يرين فـي حسن صورته من البشر أحدا, فقلن: لو كان من البشر لكان كبعض ما رأينا من صورة البشر, ولكنه من الـملائكة لا من البشر. كما:
14765ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: وَقُلْنَ حاشَ لِلّهِ ما هَذَا بَشَرا: ما هكذا تكون البشر.
وبهذه القراءة قرأ عامة قرّاء الأمصار. وقد:
14766ـ حُدثت عن يحيى بن زياد الفراء, قال: ثنـي دعامة بن رجاء التـيـمي, وكان غرّا, عن أبـي الـحويرث الـحنفـي أنه قرأ: «ما هَذَا بِشِرًى»: أي ما هذا بـمشترًى, يريد بذلك أنهن أنكرن أن يكون مثله مستعبدا يشتري ويبـاع. وهذه القراءة لا أستـجيز القراءة بها لإجماع قرّاء الأمصار علـى خلافها. وقد بـيّنا أن ما أجمعت علـيه فغير جائز خلافها فـيه. وأما نصب البشر, فمن لغة أهل الـحجاز إذا أسقطوا البـاء من الـخبر نصبوه, فقالوا: ما عمرو قائما. وأما أهل نـجد, فإن من لغتهم رفعه, يقولون: ما عمرو قائم ومنه قول بعضهم حيث يقول:
لَشَتّانَ ما أنْوِي وَينْوِي بنُو أبـيجميعا, فما هَذَانِ مُسْتَوِيانِ
تَـمّنْوا لِـيَ الـمْوتَ الذي يَشْعَبُ الفَتـىوكُلّ فَتـى والـمَوْتُ يَـلْتَقِـيانِ
وأما القرآن, فجاء بـالنصب فـي كل ذلك, لأنه نزل بلغة أهل الـحجاز.
وقوله: إنْ هَذَا إلاّ مَلَكٌ كَرِيـمٌ يقول: قلن ما هذا إلا ملَك من الـملائكة. كما:
حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى, قال: حدثنا مـحمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: إنْ هَذَا إلاّ مَلَكٌ كَرِيـمٌ قال: قلن: ملَك من الـملائكة.
الآية : 32
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قَالَتْ فَذَلِكُنّ الّذِي لُمْتُنّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتّهُ عَن نّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لّمْ يَفْعَلْ مَآ آمُرُهُ لَيُسْجَنَنّ وَلَيَكُوناً مّن الصّاغِرِينَ }.
يقول تعالـى ذكره: قالت امرأة العزيز للنسوة اللاتـي قطعن أيديهن, فهذا الذي أصابكن فـي رؤيتكن إياه وفـي نظرة منكن نظرتن إلـيه ما أصابكن من ذهاب العقل وغروب الفهم ولها إلـيه حتـى قطعتنّ أيديكنّ, هو الذي لـمتننـي فـي حبـي إياه وشغف فؤادي به, فقلتنّ: قد شغف امرأة العزيز فتاها حبّـا إنا لنراها فـي ضلال مبـين. ثم أقرّت لهنّ بأنها قد راودته عن نفسه, وأن الذي تـحدثن به عنها فـي أمره حقّ, فقالت: وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فـاسْتَعْصَمَ مـما راودته علـيه من ذلك. كما:
14767ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا عمرو بن مـحمد, عن أسبـاط, عن السديّ, قالت: فَذَلِكُنّ الّذِي لُـمْتُنّنِـي فِـيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فـاسْتَعْصَمَ: تقول: بعد ما حلّ السراويـل استعصى, لا أدري ما بدا له.
14768ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: فـاسْتَعْصَمَ: أي فـاستعصى.
14769ـ حدثنـي علـيّ بن داود, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: فـاسْتَعْصَمَ يقول: فـامتنع.
وقوله: لَئِنْ لَـمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَـيُسْجَننّ وَلَـيَكُونا مِنَ الصّاغِرِينَ تقول: ولئن لـم يطاوعنـي علـى ما أدعوه إلـيه من حاجتـي إلـيه لـيسجننّ, تقول: لـيحبسنّ فـي السجن, ولـيكونا من أهل الصغار والذلة بـالـحبس والسجن, ولأهيننه. والوقـف علـى قوله: «لـيسجننّ» بـالنون لأنها مشددة, كما قـيـل: لَـيُبَطّئَنّ.
وأما قوله: وَلَـيَكُونا فإن الوقـف علـيه بـالألف لأنها النون الـخفـيفة, وهي شبـيهة نون الإعراب فـي الأسماء فـي قول القائل: رأيت رجلاً عندك, فإذا وقـف علـى الرجل قـيـل: رأيت رجلاً, فصارت النون ألفـا, فكذلك ذلك فـي: ولـيكونا, ومثله قوله: لَنَسْفَعا بـالنّاصِيَةِ ناصِيَةٍ الوقـف علـيه بـالألف لـما ذكرت ومنه قول الأعشى:
وَصَلّ علـى حِينِ العَشِيّاتِ وَالضّحَىوَلا تعْبُدِ الشّيْطانَ وَاللّهَ فـاعْبُدَا
وإنـما هو: «فـاعبدن», ولكن إذا وقـف علـيه كان الوقـف بـالألف.
الآية : 33
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قَالَ رَبّ السّجْنُ أَحَبّ إِلَيّ مِمّا يَدْعُونَنِيَ إِلَيْهِ وَإِلاّ تَصْرِفْ عَنّي كَيْدَهُنّ أَصْبُ إِلَيْهِنّ وَأَكُن مّنَ الْجَاهِلِينَ }.
وهذا الـخبر من الله يدلّ علـى أن امرأة العزيز قد عاودت يوسف فـي الـمراودة عن نفسه, وتوعدته بـالسجن والـحبس إن لـم يفعل ما دعته إلـيه, فـاختار السجن علـى ما دعته إلـيه من ذلك لأنها لو لـم تكن عاودته وتوعدته بذلك, كان مـحالاً أن يقول: رَبّ السّجْنُ أحَبّ إلـيّ مِـمّا يَدْعُونَنِـي إلَـيْهِ وهو لا يدعى إلـى شيء ولا يخوّف بحبس. والسجن هو الـحبس نفسه, وهو بـيت الـحبس. وبكسر السين قرأه قرّاء الأمصار كلها, والعرب تضع الأماكن الـمشتقة من الأفعال مواضع الأفعال فتقول: طلعت الشمس مَطْلِعا, وغربت مَغْرِبـا, فـيجعلونها وهي أسماء خـلَفـا من الـمصادر, فكذلك السجن, فإذا فتـحت السين من السجن كان مصدرا صحيحا. وقد ذُكر عن بعض الـمتقدمين أنه يقرؤه: «السّجْنُ أحَبّ إلـيّ» بفتـح السين. ولا أستـجيز القراءة بذلك لإجماع الـحجة من القرّاء علـى خلافها. وتأويـل الكلام: قال يوسف: يا ربّ الـحبس فـي السجن أحبّ إلـيّ مـما يدعوننـي إلـيه من معصيتك ويراودننـي علـيه من الفـاحشة. كما:
14770ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: قالَ رَبّ السّجْنُ أحَبّ إلـيّ مِـمّا يَدْعُونَنِـي إلَـيْهِ: من الزنا.
14771ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قال: قال يوسف, وأضاف إلـى ربه واستعانه علـى ما نزل به: رَبّ السّجْنُ أحَبّ إلـيّ مِـمّا يَدْعُونَنِـي إلَـيْهِ: أي السجن أحبّ إلـيّ من أن آتـيَ ما تكره.
وقوله: وَإلاّ تَصْرِفْ عَنّـي كَيْدَهُنّ أصْبُ إلَـيْهِنّ يقول: وإن لـم تدفع عنـي يا ربّ فعلهنّ الذي يفعلن بـي فـي مراودتهنّ إياي علـى أنفسهن أَصْبُ إلـيهنّ, يقول: أميـل إلـيهنّ, وأتابعهنّ علـى ما يردن منـي, ويهوَين من قول القائل: صبـا فلان إلـى كذا, ومنه قول الشاعر:
إلـى هِنْدٍ صَبـا قَلْبِـيوهِنْدٌ مثْلُها يُصْبِـي
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
14772ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: أصْبُ إلَـيْهِنّ يقول: أتابعهنّ.
14773ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق: وَإلاّ تَصْرِفْ عَنِـي كَيْدَهُنّ: أي ما أتـخوّف منهنّ أصْبُ إلَـيْهِنّ.
14774ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: وَإلاّ تَصْرِفْ عَنّـي كَيْدَهُنّ أصْبُ إلَـيْهِنّ وأكُنْ مِنَ الـجاهِلِـينَ قال: إلا يكن منك أنت العون والـمنعة, لا يكن منـي ولا عندي.
وقوله: وأكُنْ مِنَ الـجاهِلِـينَ يقول: وأكن بصبوتـي إلـيهنّ من الذين جهلوا حقك وخالفوا أمرك ونهيك. كما:
14775ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق: وأكُنْ مِنَ الـجاهِلِـينَ: أي جاهلاً إذا ركبت معصيتك.
الآية : 34
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنّ إِنّهُ هُوَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ }.
إن قال قائل: وما وجه قوله: فـاسْتَـجابَ لَه رَبّهُ ولا مسألة تقدمت من يوسف لربه, ولا دعا بصرف كيدهنّ عنه, وإنـما أخبر ربه أن السجن أحبّ إلـيه من معصيته؟ قـيـل: إن فـي إخبـاره بذلك شكاية منه إلـى ربه مـما لقـي منهنّ, وفـي قوله: وَإلاّ تَصْرِفْ عَنّـي كَيْدَهُنّ أصْبُ إلَـيْهِنّ معنى دعاء ومسألة منه ربه صرف كيدهنّ, ولذلك قال الله تعالـى ذكره: فـاسْتَـجابَ لَهُ رَبّهُ وذلك كقول القائل لاَخر: إن لا تزرنـي أُهِنْكَ, فـيجيبه الاَخر: إذن أزورَك, لأن فـي قوله: إن لا تزرنـي أهنك, معنـي الأمر بـالزيارة. وتأويـل الكلام: فـاستـجاب الله لـيوسف دعاءه, فصرف عنه ما أرادت منه امرأة العزيز وصواحبـاتها من معصية الله. كما:
14776ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق: فـاسْتَـجابَ لَهُ رَبّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنّ إنّهُ هُوَ السّمِيعُ العَلِـيـمُ: أي نـجاه من أن يركب الـمعصية فـيهنّ, وقد نزل به بعض ما حَذِر منهنّ.
وقوله: إنّهُ هُوَ السّمِيعُ دعاء يوسف حين دعاه بصرف كيد النسوة عنه ودعاء كل داع من خـلقه. العَلِـيـمُ بـمطلبه وحاجته, وما يصلـحه, وبحاجة جميع خـلقه وما يصلـحهم.
الآية : 35
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {ثُمّ بَدَا لَهُمْ مّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الاَيَاتِ لَيَسْجُنُنّهُ حَتّىَ حِينٍ }.
يقول تعالـى ذكره: ثم بدا للعزيز زوج الـمرأة التـي راودت يوسف عن نفسه. وقـيـل: «بدا لهم», وهو واحد, لأنه لـم يذكر بـاسمه ويقصد بعينه, وذلك نظير قوله: الّذِينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ إنّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فـاخْشَوْهُمْ وقـيـل: إنّ قائل ذلك كان واحدا. وقـيـل: معنى قوله: ثُمّ بَدَا لَهُمْ فـي الرأي الذي كانوا رأوه من ترك يوسف مطلقا, ورأوا أن يسجُنوه مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الاَياتِ ببراءته مـما قدفته به امرأة العزيز. وتلك الاَيات كانت: قَدّ القميص من دُبر, وخمشا فـي الوجه, وقطع أيديهن, كما:
14777ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا وكيع, عن نصر بن عوف, عن عكرمة, عن ابن عبـاس: ثُمّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الاَياتِ قال: كان من الاَيات قدّ فـي القميص وخمش فـي الوجه.
14778ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي وابن نـمير, عن نصر, عن عكرمة, مثله.
14779ـ حدثنا الـحسن بن مـحمد, قال: حدثنا شبـابة, قال: حدثنا ورقاء, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, ثُمّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الاَياتِ قال: قدّ القميص من دُبر.
حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الاَياتِ قال: قدّ القميص من دُبر.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد قال: وثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن أبـي جعفر, عن ورقاء, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
14780ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى, قال: حدثنا مـحمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الاَياتِ قال: الاَيات: حزّهن أيديهن, وقدّ القميص.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد, قال: قدّ القميص من دبر.
14781ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق: ثُمّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الاَياتِ لَـيَسْجُنُنّهُ ببراءته مـما اتهم به من شقّ قميصه من دُبر, لَـيَسْجُنُنّهُ حتـى حِينٍ.
14782ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا عمرو, عن أسبـاط, عن السديّ: مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الاَياتِ قال: الاَيات: القميص, وقطع الأيدي.
وقوله: لَـيَسْجُنُنّهُ حتـى حِينٍ يقول: لـيسجننه إلـى الوقت الذي يرون فـيه رأيهم. وجعل الله ذلك الـحبس لـيوسف فـيـما ذكر عقوبة له من همه بـالـمرأة وكفّـارة لـخطيئته.
14783ـ حُدثت عن يحيى بن أبـي زائدة, عن إسرائيـل, عن خصيف, عن عكرمة, عن ابن عبـاس: لَـيَسْجُنُنّهُ حتـى حِينٍ عثر يوسف علـيه السلام ثلاث عثرات: حين همّ بها فسجن, وحين قال: اذْكُرْنِـي عِنْدَ رَبكّ فَلَبِثَ فِـي السّجْن بضْعَ سنـينَ وأنساه الشيطان ذكر ربه, وقال لهم: إنّكُمْ لَسارِقُونَ ف قالُوا إن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ.
وذُكر أن سبب حبسه فـي السجن: كان شكوى امرأة العزيز إلـى زوجها أمره وأمرها. كما:
14784ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا عمرو بن مـحمد, عن أسبـاط, عن السديّ: ثُمّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الاَياتِ لَـيَسْجُنُنّهُ حتـى حِينٍ قال: قالت الـمرأة لزوجها: إن هذا العبد العبرانـيّ قد فضحنـي فـي الناس يعتذر إلـيهم ويخبرهم أنـي راودته عن نفسه, ولست أطيق أن أعتذر بعذري, فإما أن تأذن لـي فأخرج فأعتذر, وإما أن تـحبِسه كما حبستنـي, فذلك قول الله تعالـى: ثُمّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الاَياتِ لَـيَسْجُنُنّهُ حتـى حِينٍ.
وقد اختلف أهل العربـية فـي وجه دخول هذه اللام فـي: لَـيَسْجُنُنّهُ فقال بعض البصريـين: دخـلت هاهنا لأنه موضع يقع فـيه «أيّ», فلـما كان حرف الاستفهام يدخـل فـيه دخـلته النون, لأن النون تكون فـي الاستفهام, تقول: بدا لهم أيّهم يَأْخُذُنّ: أي استبـان لهم. وأنكر ذلك بعض أهل العربـية, فقال: هذا يـمين, ولـيس قوله: هل تقومنّ بـيـمين, ولَتقومنّ, لا يكون إلا يـمينا.
وقال بعض نـحويـي الكوفة: بدا لهم, بـمعنى: القول, والقول يأتـي بكلَ: الكلام بـالقسم وبـالاستفهام, فلذلك جاز: بدا لهم قام زيد, وبدا لهم لـيقومنّ. وقـيـل: إن الـحين فـي هذا الـموضع معنـيّ به سبع سنـين. ذكر من قال ذلك:
14785ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا الـمـحاربـي, عن داود, عن عكرمة: لَـيَسْجُنُنّهُ حتـى حِينٍ قال: سبع سنـين.
الآية : 36
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَدَخَلَ مَعَهُ السّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنّيَ أَرَانِيَ أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الاَخَرُ إِنّي أَرَانِيَ أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطّيْرُ مِنْهُ نَبّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ }.
يقول تعالـى ذكره: ودخـل مع يوسف السجن فتـيان, فدلّ بذلك علـى متروك قد ترك من الكلام وهو:ثُمّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الاَياتِ لَـيَسْجُنُنّهُ حتـى حِينٍ فسجنوه وأدخـلوه السجن ودخـل معه فتـيان, فـاستغنى بدلـيـل قوله: وَدَخَـلَ مَعَهُ السّجْنَ فَتَـيانِ علـى إدخالهم يوسف السجن من ذكره. وكان الفتـيان فـيـما ذكر: غلامين من غلـمان ملك مصر الأكبر: أحدهما صاحب شرابه, والاَخر صاحب طعامه. كما:
14786ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قال: فطرح فـي السجن, يعنـي يوسف, ودخـل معه السجن فتـيان, غلامان كانا للـملك الأكبر: الريان بن الولـيد, كان أحدهما علـى شرابه, والاَخر علـى بعض أمره, فـي سخطة سخطها علـيهما, اسم أحدهما مـجلث والاَخر نبو, ونبو الذي كان علـى الشراب.
14787ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: وَدَخَـلَ مَعَهُ السّجْنَ فَتَـيانِ قال: كان أحدهما خبـازا للـملك علـى طعامه, وكان الاَخر ساقـيه علـى شرابه.
وكان سبب حبس الـملك الفتـيـين فـيـما ذكر, ما:
14788ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا عمرو, عن أسبـاط, عن السديّ, قال: إن الـملك غضب علـى خبـازه, بلغه أنه يريد أن يسمّه, فحبسه وحبس صاحب شرابه, ظنّ أنه مالأه علـى ذلك فحبسهما جميعا فذلك قول الله تعالـى ودخـل معه السجن فتـيان.
وقوله: قالَ أحَدُهُما إنّـي أرَانِـي أعْصِرُ خَمْرا ذكر أن يوسف صلوات الله وسلامه علـيه لـما أدخـل السجن, قال لـمن فـيه من الـمـحبّسين, وسألوه عن عمله: إنـي أعبر الرؤيا, فقال أحد الفتـيـين اللذين أدخلا معه السجن لصاحبه: تعال فلنـجرّبه. كما:
14789ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا عمرو بن مـحمد, عن أسبـاط, عن السديّ, قال: لـما دخـل يوسف السجن قال: أنا أعبر الأحلام. فقال أحد الفتـيـين لصاحبه: هلـمّ نـجرّب هذا العبد العبرانـيّ نتراءى له فسألاه من غير أن يكونا رأيا شيئا. فقال الـخبـاز: إنـي أرانـي أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه, وقال الاَخر: إنـي أرانـي أعصر خمرا.
14790ـ حدثنا ابن وكيع وابن حميد, قالا: حدثنا جرير, عن عمارة بن القعقاع, عن إبراهيـم, عن عبد الله, قال: ما رأى صاحبـا يوسف شيئا, وإنـما كانا تـحالُـما لـيجرّبـا علـمه.
وقال قوم: إنـما سأله الفتـيان عن رؤيا كانا رأياها علـى صحة وحقـيقة, وعلـى تصديق منهما لـيوسف لعلـمه بتعبـيرها. ذكر من قال ذلك:
14791ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قال: لـما رأى الفتـيان يوسف, قالا: والله يا فتـى لقد أحببناك حين رأيناك.
14792ـ قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عن عبد الله, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: أن يوسف قال لهم حين قالا له ذلك: أنشدكما الله أن لا تـحبـانـي فوالله ما أحبنـي أحد قطّ إلا دخـل علـيّ من حبه بلاء, لقد أحبتنـي عمتـي فدخـل علـيّ من حبها بلاء, ثم لقد أحبنـي أبـي فدخـل علـيّ بحبه بلاء, ثم لقد أحبتنـي زوجة صاحبـي هذا فدخـل علـيّ بحبها إياي بلاء, فلا تـحبـانـي بـارك الله فـيكما قال: فأبـيا إلا حبه وإلفه حيث كان, وجعلا يعجبهما ما يريان من فهمه وعقله, وقد كانا رأيا حين أدخلا السجن رؤيا, فرأى «مـجلث» أنه يحمل فوق رأسه, خبزا تأكل الطير منه, ورأى «نبو» أنه يعصر خمرا, فـاستفتـياه فـيها وقالا له: نَبّئْنا بتأْوِيـلِهِ إنّا نَرَاكَ مِنَ الـمُـحْسِنِـينَ إن فعلت.
وعنـي بقوله: أعْصِرُ خَمْرا أي إنـي أرى فـي نومي أنـي أعصر عنبـا. وكذلك ذلك فـي قراءة ابن مسعود فـيـما ذكر عنه.
14793ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن أبـي سلـمة الصائغ, عن إبراهيـم بن بشير الأنصاريّ, عن مـحمد بن الـحنفـية قال فـي قراءة ابن مسعود: «إنّـي أَرَانِـي أعْصِرُ عِنَبـا».
وذكر أن ذلك من لغة أهل عُمان, وأنهم يسمون العنب خمرا. ذكر من قال ذلك:
14794ـ حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ, يقول: حدثنا عبـيد, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: إنّـي أرَانـي أعْصِرُ خَمْرا يقول: أعصر عنبـا, وهو بلغة أهل عُمان, يسمون العنب خمرا.
حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا وكيع وثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن سلـمة بن نبـيط, عن الضحاك: إنّـي أرَانـي أعْصِرُ خَمْرا قال: عنبـا, أرض كذا وكذا يدعون العنب خمرا.
14795ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: قال ابن عبـاس: إنّـي أرَانـي أعْصِرُ خَمْرا قال: عنبـا.
14796ـ حُدثت عن الـمسيب بن شريك, عن أبـي حمزة, عن عكرمة, قال: أتاه فقال: رأيت فـيـما يرى النائم أنـي غرست حَبَلَةً من عنب, فنبتت, فخرج فـيه عناقـيد فعصرتهن, ثم سقـيتهنّ الـملك, فقال: تـمكث فـي السجن ثلاثة أيام, ثم تـخرج فتسقـيه خمرا.
وقوله: وَقالَ الاَخَرُ إنْـي أرَانِـي أحْمِلُ فَوْقَ رأسِي خُبْزا تَأْكُلُ الطّيْرُ مِنْهُ نَبّئْنا بتأْوِيـلهِ يقول تعالـى ذكره: وقال الاَخر من الفتـيـين: إنـي أرانـي فـي منامي أحمل فوق رأسي خبزا يقول: أحمل علـى رأسي, فوضعت «فوق» مكان «علـى» تَأْكُلُ الطّيْرُ مِنْهُ يعنـي من الـخبز.
وقوله: نَبّئْنا بتَأْوِيـلِهِ يقول: أخبرنا بـما يؤول إلـيه ما أخبرناك أنا رأيناه فـي منامنا ويرجع إلـيه. كما:
14797ـ حدثنـي الـحارث, قال: حدثنا القاسم, قال: حدثنا يزيد, عن ورقاء, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: نَبّئْنا بتَأْوِيـلِهِ قال: به. قال الـحارث, قال أبو عبـيد: يعنـي مـجاهد: أن تأويـل الشيء: هو الشيء. قال: ومنه تأويـل الرؤيا, إنـما هو الشيء الذي تئول إلـيه.
وقوله: إنّا نَرَاكَ مِنَ الـمُـحْسِنِـينَ اختلف أهل التأويـل فـي معنى الإحسان الذي وصف به الفتـيان يوسف, فقال بعضهم: هو أنه كان يعود مريضهم, ويعزي حزينهم, وإذا احتاج منهم إنسان جمَع له. ذكر من قال ذلك:
14798ـ حدثنا الـحسن بن مـحمد, قال: حدثنا سعيد بن منصور, قال: حدثنا خـلف بن خـلـيفة, عن سلـمة بن نبـيط, عن الضحاك بن مزاحم, قال: كنت جالسا معه ببلـخ, فسئل عن قوله: نَبّئْنا بَتأْوِيـلِهِ إنّا نَرَاكَ مِن الـمُـحْسِنِـينَ قال: قـيـل له: ما كان إحسان يوسف؟ قال: كان إذا مرض إنسان قام علـيه, وإذا احتاج جمع له, وإذا ضاق أوسع له.
حدثنا إسحاق, عن أبـي إسرائيـل, قال: حدثنا خـلف بن خـلـيفة, عن سلـمة بن نبـيط, عن الضحاك, قال: سأل رجل الضحاك عن قوله: إنّا نَرَاكَ مِنَ الـمُـحْسِنِـينَ ما كان إحسانه؟ قال: كان إذا مرض إنسان فـي السجن قام علـيه, وإذا احتاج جمع له, وإذا ضاق علـيه الـمكان أوسع له.
14799ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن أبـي بكر بن عبد الله, عن قتادة, قوله: إنّا نَرَاكَ مِنَ الـمُـحْسِنِـينَ قال: بلغنا أن إحسانه أنه كان يداوي مريضهم, ويعزّي حزينهم, ويجتهد لربه. وقال: لـما انتهى يوسف إلـى السجن وجد فـيه قوما قد انقطع رجاؤهم واشتدّ بلاؤهم, فطال حزنهم, فجعل يقول: أبشروا واصبروا تؤجروا, إن لهذا أجرا, إن لهذا ثوابـا فقالوا: يا فتـى بـارك الله فـيك ما أحسن وجهك وأحسن خـلقك, لقد بورك لنا فـي جوارك, ما نـحبّ أنا كنا فـي غير هذا منذ حبسنا لـما تـخبرنا من الأجر والكفّـارة والطهارة, فمن أنت يا فتـى؟ قال: أنا يوسف ابن صفـيّ الله يعقوب ابن ذبـيح الله إسحاق بن إبراهيـم خـلـيـل الله. وكانت علـيه مـحبة, وقال له عامل السجن: يا فتـى والله لو استطعت لـخـلـيت سبـيـلك, ولكن سأحسن جوارك وأحسن إسارك, فكن فـي أيّ بـيوت السجن شئت.
حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا وكيع, عن خـلف الأشجعي, عن سلـمة بن نبـيط, عن الضحاك فـي: إنّا نَرَاكَ مِنَ الـمُـحْسِنِـينَ قال: كان يوسع للرجل فـي مـجلسه, ويتعاهد الـمرضى.
وقال آخرون: معناه: إنّا نَرَاكَ مِنَ الـمُـحْسِنِـينَ إذ نبأتنا بتأويـل رؤيانا هذه. ذكر من قال ذلك:
14800ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قال: استفتـياه فـي رؤياهما, وقالا له: نَبَئّنْا بتَأْوِيـلِهِ إنّا نَرَاكَ مِنَ الـمُـحْسِنِـينَ إن فعلت.
وأولـى الأقوال فـي ذلك عندنا بـالصواب القول الذي ذكرناه عن الضحاك وقتادة.
فإن قال قائل: وما وجه الكلام إن كان الأمر إذن كما قلت, وقد علـمت أن مسألتهما يوسف أن ينبئهما بتأويـل رؤياهما لـيست من الـخبر عن صفته بأنه يعود الـمريض ويقوم علـيه ويحسن إلـى من احتاج فـي شيء, وإنـما يقال للرجل: نبئنا بتأويـل هذا فإنك عالـم, وهذا من الـمواضع التـي تـحسن بـالوصف بـالعلـم لا بغيره؟
قـيـل: إن وجه ذلك أنهما قالا له: نبئنا بتأويـل رؤيانا مـحسنا إلـينا فـي إخبـارك إيانا بذلك, كما نراك تـحسن فـي سائر أفعالك, إنا نراك من الـمـحسنـين.
الآية : 37
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاّ نَبّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذَلِكُمَا مِمّا عَلّمَنِي رَبّيَ إِنّي تَرَكْتُ مِلّةَ قَوْمٍ لاّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُمْ بِالاَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: قالَ يوسف للفتـيـين اللذين استعبراه الرؤيا: لا يَأْتِـيكُما أيها الفتـيان فـي منامكما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إلاّ نَبّأْتُكُما بتأْوِيـلِهِ فـي يقظتكما قَبْلَ أنْ يَأْتِـيَكُما.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
14801ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا عمرو, عن أسبـاط, عن السديّ, قال: قال يوسف لهما: لاَ يأْتِـيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ فـي النوم إلاّ نَبّأْتُكُما بتأويـله فـي الـيقظة.
14802ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قال: قال يوسف لهما: لاَ يأْتِـيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ يقول: فـي نومكما إلاّ نَبّأْتُكُما بتَأْوِيـلِهِ.
ويعنـي بقوله بِتَأْوِيـلِهِ: ما يئول إلـيه ويصير ما رأيا فـيى منامهما من الطعام الذي رأيا أنه أتاهما فـيه.
وقوله: ذَلِكُما مِـمّا عَلّـمَنِـي رَبّـي يقول: هذا الذي أذكر أنـي أعلـمه من تعبـير الرؤيا مـما علـمنـي ربـي فعلّـمته. إنّـي تَرَكْتُ مِلّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بـاللّهِ وجاء الـخبر مبتدأ: أي تركت ملة قوم, والـمعنى: ما ملت. وإنـما ابتدأ بذلك لأن فـي الابتداء الدلـيـل علـى معناه.
وقوله: إنّـي تَرَكْتُ مِلّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بـاللّهِ يقول: إنـي برئت من ملة من لا يصدّق بـالله, ويقرّ بوحدانـيته. وَهُمْ بـالاَخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ يقول: وهم مع تركهم الإيـمان بوحدانـية الله لا يقرّون بـالـمعاد والبعث ولا بثواب ولا عقاب. وكرّرت «هم» مرّتـين, فقـيـل: وَهُمْ بـالاَخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ لـما دخـل بـينهما قوله: بـالاَخِرَةِ فصارت «هم» الأولـى كالـملغاة, وصار الاعتـماد علـى الثانـية, كما قـيـل: وَهُمْ بـالاَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ وكما قـيـل: أيَعِدُكُمْ أنّكُمْ إذا مِتّـمُ وكُنْتُـمْ تُرَابـا وَعِظاما أنّكُمْ مُخْرَجُونَ.
فإن قال قائل: ما وجه هذا الـخبر ومعناه من يوسف, وأين جوابه الفتـيـين عما سألاه من تعبـير رؤياهما من هذا الكلام؟
قـيـل له: إن يوسف كره أن يجيبهما عن تأويـل رؤياهما لـما علـم من مكروه ذلك علـى أحدهما, فأعرض عن ذكره وأخذ فـي غيره لـيعرضا عن مسألته الـجواب بـما سألاه من ذلك.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
14803ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُريج, فـي قوله: إنّـي أرانِـي أعْصِرُ خَمْرا وَقالَ الاَخَرُ إنّـي أرَانِـي أحْمِلُ فَوْقَ رأسِي خُبْزا تَأْكُلُ الطّيْرُ مِنْهُ نَبّئْنا بَتأْوِيـلِهِ. قال: فكره العبـارة لهما, وأخبرهما بشيء لـم يسألاه عنه لـيريهما أن عنده علـما. وكان الـملك إذا أراد قتل إنسان, صنع له طعاما معلوما, فأرسل به إلـيه, ف (قال) يوسف: لاَ يأْتِـيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ.... إلـى قوله: تَشْكُرُونَ. فلـم يَدَعاه, فعدل بهما, وكره العبـارة لهما, فلـم يدعاه حتـى يعبر لهما, فعدل بهما وقال: يا صَاحِبَـيِ السّجْنِ أأرْبـابٌ مُتَفَرّقُونَ خَيْرٌ أمِ اللّهُ الوَاحِدُ القَهّارُ... إلـى قوله: يَعْلَـمُونَ فلـم يدعاه حتـى عَبّر لهما, فقال: يا صَاحِبَـيِ السّجْن أمّا أحَدُكمَا فَـيَسْقِـي رَبّه خَمْرا وأمّا الاَخَرُ فَـيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطّيْرُ مِنْ رأسِهِ. قالا: ما رأينا شيئا, إنـما كنا نلعب قال: قُضِيَ الأمْرُ الّذِي فِـيهِ تَسْتَفْتِـيانِ.
وعلـى هذا التأويـل الذي تأوّله ابن جريج. فقوله: لاَ يأْتِـيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ فـي الـيقظة لا فـي النوم. وإنـما أعلـمهما علـى هذا القول أن عنده علـمَ ما يؤول إلـيه أمر الطعام الذي يأتـيهما من عند الـملك ومن عند غيره, لأنه قد علـم النوع الذي إذا أتاهما كان علامة لقتل من أتاه ذلك منهما, والنوع الذي إذا أتاه كان علامة لغير ذلك, فأخبرهما أنه عنده علـمُ ذلك