تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 244 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 244

243

70- "ثم"بعد ذلك "أذن مؤذن" أي نادى مناد قالاً: "أيتها العير" قال الزجاج: معناه يا أصحاب العير، وكل ما امتير عليه من الإبل والحمير والبغال فهو عير، وقيل هي قافلة الحمير. وقال أبو عبيدة: العير الإبل المرحولة المركوبة "إنكم لسارقون" نسية السرق إليهم على حقيقتها، لأن المنادي غير عالم بما دبره يوسف، وقيل إن المعنى: إن حالكم حال السارقين كون الصواع صار لديكم من غير رضا من الملك.
71- "قالوا"أي إخوة يوسف "وأقبلوا عليهم" أي حال كونهم مقبلين على من نادى منهم المنادي من أصحاب الملك "ماذا تفقدون" أي ما الذي فقدتموه، يقال فقدت الشيء إذا عدمته بضياع أو نحوه، فكأنهم قالوا ماذا ضاع عليكم؟ وصيغة المستقبل لاستحضار الصورة.
72- "قالوا"في جوابهم "نفقد صواع الملك" قرأ يحيى ين يعمر صواغبالغين المعجمة. وقرأ أبو رجاء صوع بضم الصاد المهملة وسكون الواو وبعدها عين مهملة. وقرأ أبي صياع. وقرأ أبو جعفر صاع،وبها قرأ أبو هريرة. وقرأ الجمهور صواع بالصاد والعين المهملتين. قال الزجاج: الصواع هو الصاع بعينه، وهو يذكر ويؤنث، وهو السقاية، ومنه قول الشاعر: نشرب الخمر بالصواع جهاراً "ولمن جاء به حمل بعير" أي قالوا: ولمن جاء بالصواع من جهة نفسه حمل بعير. والبعير الجمل، وفي لغة بعض العرب أنه الحمار، والمراد بالحمل ها هنا ما يحمله البعير من الطعام، ثم قال المنادي "وأنا به زعيم" أي بحمل البعير الذي جعل لمن جاء بالصواع قبل التفتيش للأوعية، والزعيم هو الكفيل، ولعل القائل نفقد صواع الملك هو المنادي وحده لأنه القائل بالحقيقة.
73- "قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض" التاء بدل من واو القسم عند الجمهور، وقيل من الباء، وقيل أصل بنفسها، ولا تدخل إلا على هذا الاسم الشريف دون سائر أسمائه سبحانه، وقد دخلت نادراً على الرب، وعلى الرحمن، والكلام على هذا مستوفى في علم الإعراب، وجعلوا المقسم عليه هو علم يوسف وأصحابه بنزاهة جانبهم وطهارة ذيلهم عن التلوث بقذر الفساد في الأرض الذي من أعظم أنواعه السرقة، لأنهم قد شاهدوا منهم في قدومهم عليه المرة الأولى، وهذه المرة من التعفف والزهد عما هو دون السرقة بمراحل ما يستفاد منه العلم الجازم بأنهم ليسوا بمن يتجارأ على هذا النوع العظيم من أنواع الفساد، ولو لم يكن من ذلك إلا ردهم لبضاعتم التي وجدوها في رحالهم. والمراد بالأرض هنا أرض مصر، ثم أكدوا هذه الجملة التي أقسموا بالله عليها بقولهم "وما كنا سارقين" لزيادة التبري مما قرفوهم به والتنزه عن هذه النقيصة الخسيسة والرذيلة الشنعاء.
74- "قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين" هذه الجملة مستأنفة كما تقدم غير مرة في نظائرها، والقائلون هم أصحاب يوسف، أو المنادي منهم وحده كما مر، والضمير في جزاؤه للصواع على حذف مضاف: أي فما جزاء سرقة الصواع عندكم، أو الضمير للسارق، أي فما جزاء سارق الصواع عندكم "إن كنتم كاذبين" فيما تدعونه لأنفسكم من البراءة عن السرقة، وذلك بأن يوجد الصواع معكم، فأجاب أخوة يوسف.
70- "قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه" أي جزاء سرقة الصواع أو جزاء سارق الصواع وجزاؤه مبتدأ، والجملة الشرطية: وهي من وجد في رحله فهو جزاؤه خبر المبتدأ على إقامة الظاهر مقام المضمر فيها، والأصل جزاؤه من وجد في رحله فهو، فيكون الضمير الثاني عائد إلى المبتدأ، والأول إلى من، ويجوز أن يكون خبر المبتدأ من وجد في رحله، والتقدير: جزاء السرقة للصواع أخذ من وجد في رحله، وتكون جملة فهو جزاؤه لتأكيد الجملة الولى وتقريرها. قال الزجاج: وقوله "فهو جزاؤه" زيادة في البيان: أي جزاؤه أخذ السارق فهو جزاؤه لا غير. قال المفسرون: وكان حكم السارق في آل يعقوب أن يسترق سنة فلذلك استفتوهم في جزائه "كذلك نجزي الظالمين" أي مثل ذلك الجزاء الكامل نجزي الظالمين لغيرهم من الناس بسرقة أمتعتهم، وهذه الجملة مؤكدة لما قبلها إذا كانت من كلام إخوة يوسف، ويجوز أن تكون من كلام أصحاب يوسف: أي كذلك نحن نجزي الظالمين بالسرق. ثم لما ذكروا جزاء السارق أرادوا أن يفتشوا أمتعتهم حتى يتبين الأمر.
فأقبل يوسف على ذلك 76- " فبدأ بأوعيتهم " تفتيش "أوعيتهم" أي أوعية الإخوة العشرة "قبل وعاء أخيه" أي قبل تفتيشهلوعاء أخيه بنيامين دفعاً للتهمة ورفعاً لما دبره من الحيلة "ثم استخرجها" أي السقاية أو الصواع، لأنه يذكر ويؤنث " كذلك كدنا ليوسف " أي مثل ذلك الكيد العجيب كدنا ليوسف: يعني علمناه إياه وأوحينا إليه، والكيد مبدؤه السعي في الحيلة والخديعة، ونهايته إلقاء المخدوع من حيث لا يشعر في أمر مكروه لا سبيل إلى دفعه، وهو محمول في حق الله سبحانه على النهاية لا على البداية. قال القتيبي: معنى كدنادبرنا. وقال ابن الأنباري أردنا. وفي الآية دليل على جواز التوصل إلى الأغراض الصحيحة بما صورته صورة الحيلة والمكيدة إذا لم يخالف ذلك شرعاً ثابتاً "ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك" أي ما كان يوسف ليأخذ أخاه بنيامين في دين الملك: أي ملك مصر، وفي شريعته التي كان عليها، بل كان دينه وقضاؤه أن يضرب السارق ويغرم ضعف ما سرقه دون الاستعباد سنة كما هو دين يعقوب وشريعته. وحاصل أن يوسف ما كان يتمكن من إجراء حكم يعقوب على أخيه مع كونه مخالفاً لدين الملك وشريعته لولا ما كاد الله له ودبره وأراده حتى وجد السبيل إليه: وهو ما أجراه على ألسن إخوته من قولهم: إن جزاء السارق الاسترقاق، فكان قولهم هذا هو يمشيئة الله وتدبيره، وهو معنى قوله: "إلا أن يشاء الله" أي إلا حال مشيئته وإذنه بذلك وإرادته له، وهذه الجملة: أعني ما كان ليأخذ أخاه إلخ تعليل لما صنعه الله من الكيد ليوسف أو تفسير له. "نرفع درجات من نشاء" بضروب العلوم والمعارف والعطايا والكرامات كما رفعنا درجة يوسف بذلك "فوق كل ذي علم" ممن رفعه الله بالعلم "عليم" أرفع رتبة منهم وأعلى درجة لا يبلغون مداه ولا يرتقون شأوه. وقيل معنى ذلك: أن فوق كل أهل العلم عليم وهو الله سبحانه. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد" قال: رهب يعقوب عليهم العين. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن محمد بن كعب قال: خشي عليهم العين. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وأبو الشيخ عن النخعي في قوله: "وادخلوا من أبواب متفرقة" قال: أحب يعقوب أن يلقى يوسف أخاه في خلوة. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها" قال: خيفة العين على بنيه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "وإنه لذو علم لما علمناه" قال: إنه لعامل بما علم، ومن لا يعمل لا يكون عالماً. وأخرج هؤلاء عنه في قوله: " آوى إليه أخاه " قال: ضمه إليه. وفي قوله: "فلا تبتئس" قال: لا تحزن ولا تيأس، وفي قوله: "فلما جهزهم بجهازهم" قال: قضى حاجتهم وكال لهم طعامهم، وفي قوله: "جعل السقاية" قال: هو إناء الملك الذي يشرب منه "في رحل أخيه" قال: في متاع أخيه. وأخرج ابن أبي حاتم وابن الأنباري في المصاحف عن ابن عباس في قوله: "جعل السقاية" قال: هو الصواع، وكل شيء يشرب منه فهو صواع. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد نحوه أيضاً. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "أيتها العير" قال: كانت العير حميراً. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله: " ولمن جاء به حمل بعير " قال: حمل حمار طعام، وهي لغة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "وأنا به زعيم" يقول: كفيل. وأخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير ومجاهد وقتادة والضحاك مثله. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الربيع بن أنس في قوله: "ما جئنا لنفسد في الأرض" يقول: ما جئنا لنعصي في الأرض. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله: "فما جزاؤه" قال: عرفوا الحكم في حكمهم فقالوا "من وجد في رحله فهو جزاؤه" وكان الحكم عند الأنبياء يعقوب وبنيه أن يؤخذ السارق بسرقته عبداً يسترق. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "فبدأ بأوعيتهم" قال: ذكر لنا أنه كان كلما فتح متاع رجل استغفر تأثما مما صنع حتى بقي متاع الغلام، قال ما اظن أن هذا أخذ شيئاً، قالوا بلى فاستبره، وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن لضحاك في قوله: "كذلك كدنا ليوسف" قال: كذلك صنعنا ليوسف "ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك" يقول: في سلطان الملك، قال: كان في دين ملكهم أنه سرق أخذت منه السرقة ومثلها معها من ماله فيعطيه المسروق. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك" يقول: في سلطان الملك. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "إلا أن يشاء الله" قال: إلا بعلة كادها الله ليوسف فاعتل بها. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه في قوله: "نرفع درجات من نشاء" قال: يوسف وإخوته أوتوا علماً فرفعنا يوسف في العلم فوقهم درجة. وأخرج الفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير قال: كنا عند ابن عباس فحدث بحديث، فقال رجل عنده: "وفوق كل ذي علم عليم" فقال ابن عباس: بئس ما قلت، الله العليم الخبير، وهو فوق كل عالم. وأخرج ابن جرير عن محمد بن كعب قال: سأل رجل علياً عن مسألة، فقال فيها، فقال الرجل ليس هكذا ولكن كذا وكذا، قال علي: أصبت وأخطأت "وفوق كل ذي علم عليم". وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن عكرمة في قوله: "وفوق كل ذي علم عليم" قال: علم الله فوق كل عالم.
قوله: 77- "قالوا إن يسرق" أي بنيامين "فقد سرق أخ له من قبل" يعنون يوسف. وقد اختلف المفسرون في هذه السرقة التي نسبوها إلى يوسف ما هي؟ فقيل إنه كان ليوسف عمة هي أكبر من يعقوب، وكانت عندها منطقة إسحاق لكونها أسن أولاده وكانوا يتوارثونها فيأخذها الأكبر سناً من ذكر أو أنثى، وكانت قد حضنت يوسف وأحبته حباً شديداً، فلما ترعرع قال لها يعقوب: سلمي يوسف إلي فأشفقت من فراقه واحتالت في بقائه لديها، فجعلت المنطقة تحت ثيابه وحزمته بها، ثم قالت: قد سرقت منطقة إسحاق فانظروا من سرقها، فبحثوا عنها فوجدوها مع يوسف فأخذته عندها كما هو شرع الأنبياء في ذلك الوقت من آل إبراهيم. وقد سبق بيان شريعتهم في السرقة: وقيل إن يوسف أخذ صنماً كان لجده أبي أمه فكسره وألقاه على الطريق تغييراً للمنكر. وحكي عن الزجاج أنه كان صنماً من ذهب. وحكى الواحدي عن الزجاج أنه قال: الله أعلم، أسرق أخ له أم لا؟ وحكى القرطبي في تفسيره عن الزجاج أنه قال: كذبوا عليه فيما نسبوه إليه. قلت: وهذا أولى، فما هذه الكذبه بأول كذباتهم، وقد قدمنا ما يدفع قول من قال إنهم قد كانوا أنبياء عند صدور هذه الأمور منهم. قوله: "فأسرها يوسف في نفسه" قال الزجاج وغيره: الضمير في أسرها يعود إلى الكلمة أو الجملة، كأنه قيل فأسر الجملة في نفسه "ولم يبدها لهم" ثم فسرها بقوله: "قال أنتم شر مكاناً" وقد رد أبو علي الفارسي هذا فقال: إن هذا النوع من الإضمار على شريطة التفسير غير مستعمل، وقيل الضمير عائد إلى الإجابة: أي أسر يوسف إجابتهم في ذلك الوقت إلى وقت آخر، وقيل أسر في نفسه قولهم: إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل وهذا هو ألأولى ، ويكون معنى "ولم يبدها لهم" أنه لم يبد لهم هذه المقالة التي أسرها في نفسه بأن يذكر لهم صحتها أو بطلانها، وجملة "قال أنتم شر مكاناً" مفسرة على القول الأول، ومستأنفة على القولين الأخرين، كأنه قيل: فماذا قال يوسف لما قال هذه المقالة؟ أي أنتم شر مكاناً: أي موضعاً ومنزلاً ممن نسبتموه إلى السرقة وهو بريء، فإنكم قد فعلتم من إلقاء يوسف إلى الجب والكذب على أبيكم وغير ذلك من افاعيلكم. ثم قال: "والله أعلم بما تصفون" من الباطل بنسبة السرق إلى يوسف، وأنه لا حقيقة لذلك، ثم أرادوا أن يستعطفوه ليطلق له أخاهم بنيامين يكون معهم يرجعون به إلى أبيهم لما تقدم من أخذه الميثاق عليهم بأن يردوه إليه.
78- " قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا " أي إن لبنيامين هذا أباً متصفاً بهذه الصفة، وهي كونه شيخاً كبيراً لا يستطيع فراقه ولا يصبر عنه ولا يقدر على الوصول إليه "فخذ أحدنا مكانه" يبقى لديك، فإن له منزلة في قلب أبيه ليست لواحد منافلا يتضرر بفراق أحدنا كما [يتضرر] بفراق بنيامين، ثم عللوا ذلك بقوله، "إنا نراك من المحسنين" إلى الناس كافة. وإلينا خاصة، فتمم إحسانك إلينا بإجابتنا إلى هذا المطلب.