سورة إبراهيم | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 257 من المصحف
11- "قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم" أي ما نحن في الصورة والهيئة إلا بشر مثلكم كما قلتم "ولكن الله يمن على من يشاء من عباده" أي يتفضل على من يشاء منهم بالنبوة، وقيل بالتوفيق والهداية "وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان" أي ما صح ولا استقام لنا أن نأتيكم بحجة من الحجج "إلا بإذن الله" أي إلا بمشيئته وليس ذلك في قدرتنا. قيل المراد بالسلطان هنا هو ما يطلبه الكفار من الآيات على سبيل التعنت، وقيل أعم من ذلك، فإن ما شاءه الله كان وما لم يشأه لم يكن "وعلى الله فليتوكل المؤمنون" أي عليه وحده، وهذا أمر منهم للمؤمنين بالتوكل على الله دون من عداه.
وكأن الرسل قصدوا بهذا الأمر للمؤمنين الأمر لهم أنفسهم قصداً أولياً، ولهذا قالوا: 12- " وما لنا أن لا نتوكل على الله " أي وأي عذر لنا في ألا نتوكل عليه سبحانه "وقد هدانا سبلنا" أي والحال أنه قد فعل بنا ما يوجب توكلنا عليه من هدايتنا إلى الطريق الموصل إلى رحمته، وهو ما شرعه لعباده وأوجب عليهم سلوكه " ولنصبرن على ما آذيتمونا " بما يقع منكم من التكذيب لنا والاقتراحات الباطلة "وعلى الله" وحده دون من عداه "فليتوكل المتوكلون" قيل المراد بالتوكل الأول استحداثه، وبهذا السعي في بقائه وثبوته، وقيل معنى الأول: إن الذين يطلبون المعجزات يجب عليهم أن يتوكلوا في حصولها على الله سبحانه لا علينا، فإن شاء سبحانه أظهرها وإن شاء لم يظهرها. ومعنى الثاني: إبداء التوكل على الله في دفع شر الكفار وسفاهتهم. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن الربيع في قوله: "وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم" قال: أخبرهم موسى عن ربه أنهم إن شكروا النعمة زادهم من فضله وأوسع لهم من الرزق وأظهرهم على العالم. وأخرج ابن جرير عن الحسن لأزيدنكم قال: من طاعتي. وأخرج ابن المبارك وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن علي بن صالح مثله. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن سفيان الثوري في الآية قال: لا تذهب أنفسكم إلى الدنيا فإنها أهون عند الله من ذلك، ولكن يقول لئن شكرتم لأزيدنكم من طاعتي. وأخرج أحمد والبيهقي عن أنس قال: "أتى النبي صلى الله عليه وسلم سائل فأمر له بتمرة فلم يأخذها، وأتاه آخر فأمر له بتمرة فقبلها وقال: تمرة من رسول الله، فقال للجارية: اذهبي إلى أم سلمة فأعطيه الأربعين درهماً التي عندها" وفي إسناده أحمد عمارة بن زاذان، وثقه أحمد ويعقوب بن سفيان وابن حبان، وقال ابن معين: صالح، وقال أبو زرعة: لا بأس به، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به ليس بالمتين، وقال البخاري: ربما يضطرب في حديثه، وقال أحمد: روي عنه أحاديث منكرة، وقال أبو داود: ليس بذاك، وضعفه الدارقطني، وقال ابن عدي: لا بأس به. وأخرج البخاري في تاريخه والضياء المقدسي في المختارة عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ألهم خمسة لم يحرم خمسة، وفيها: ومن ألهم الشكر لم يحرم الزيادة". وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأغر أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أربع من أعطيهن لم يمنع من الله أربعاً، وفيها: ومن أعطي الشكر لم يمنع الزيادة؟" ولا وجه لتقييد الزيادة بالزيادة في الطاعة بل الظاهر من الآية العموم كما يفيده جعل الزيادة جزاء للشكر، فمن شكر الله على ما رزقه وسع الله عليه في رزقه، ومن شكر الله على ما أقدره عليه من طاعته زاده من طاعته، ومن شكره على ما أنعم عليه به من الصحة زاده الله صحة ونحو ذلك. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن مسعود أنه كان يقرأ "والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله" ويقول: كذب النسابون. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن عمرو بن ميمون مثله. وأخرج ابن الضريس عن أبي مجلز قال: قال رجل لعلي بن أبي طالب: أنا أنسب الناس، قال: إنك لا تنسب الناس، فقال بلى، فقال له علي: أرأيت قوله: "وعاداً وثمود وأصحاب الرس وقروناً بين ذلك كثيراً" قال: أنا أنسب ذلك الكثير، قال: أرأيت قوله: "ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله" فسكت. وأخرج أبو عبيد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عروة بن الزبير قال: ما وجدنا أحداً يعرف ما وراء معد بن عدنان. وأخرج أبو عبيد وابن المنذر عن ابن عباس قال: بين عدنان وإسماعيل ثلاثون أباً لا يعرفون. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله: "فردوا أيديهم في أفواههم" قال: لما سمعوا كتاب الله عجبوا ورجعوا بأيديهم إلى أفواههم "وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب" يقولون: لا نصدقكم فيما جئتم به فإن عندنا فيه شكاً قوياً. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وأبو عبيد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه عن ابن مسعود: فردوا أيديهم في أفواههم قال: عضوا عليها. وفي لفظ: على أناملهم غيظاً على رسلهم.
قوله: 13- "وقال الذين كفروا" هؤلاء القائلون هم طائفة من المتمردين عن إجابة الرسل، واللام في "لنخرجنكم" هي الموطئة للقسم: أي والله لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا، لم يقنعوا بردهم لما جاءت به الرسل وعدم امتثالهم لما دعوهم إليه حتى اجترأوا عليهم بهذا، وخيروهم بين الخروج من أرضهم، أو العود في ملتهم الكفرية وقد قيل إن أو في "أو لتعودن" بمعنى حتى أو: يعني إلا أن تعودوا كما قاله بعض المفسرين، ورد بأنه لا حاجة إلى ذلك، بل أو على بابها للتخيير بين أحد الأمرين، وقد تقدم تفسير الآية في سورة الأعراف. قيل والعود هنا بمعنى الصيرورة لعصمة الأنبياء عن أن يكونوا على ملة الكفر قبل النبوة وبعدها، وقيل إن الخطاب للرسل ولمن آمن بهم فغلب الرسل على أتباعهم "فأوحى إليهم ربهم" أي إلى الرسل "لنهلكن الظالمين" أي قال لهم: لنهلكن الظالمين.
14- "ولنسكننكم الأرض" أي أرض هؤلاء الكفار الذين توعدوكم بما توعدوا من الإخراج أو العود، ومثل هذه الآية قوله سبحانه: "وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها"، وقال "وأورثكم أرضهم وديارهم". وقرئ ليهلكن وليسكننكم بالتحتية في الفعلين اعتباراً بقوله فأوحى، والإشارة بقوله: "ذلك" إلى ما تقدم من إهلاك الظالمين وإسكان المؤمنين في مساكنهم "لمن خاف مقامي" أي موقفي، وذلك يوم الحساب، فإنه موقف الله سبحانه، والمقام بفتح الميم مكان الإقامة، وبالضم فعل الإقامة، وقيل: إن المقام هنا مصدر بمعنى القيام: أي لمن خاف قيامي عليه ومراقبتي له كقوله تعالى: "أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت" وقال الأخفش: ذلك لمن خاف مقامي: أي عذابي "وخاف وعيد" أي خاف وعيدي بالعذاب، وقيل بالقرآن وزواجره، وقيل هو نفس العذاب، والوعيد الاسم من الوعد.
15- "واستفتحوا" معطوف على أوحى، والمعنى: أنهم استنصروا بالله على أعدائهم، أو سألوا الله القضاء بينهم، من الفتاحة وهي الحكومة، ومن المعنى الأول قوله: "إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح" أي إن تستنصروا فقد جاءكم النصر، ومن المعنى الثاني قوله: "ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق" أي احكم، والضمير في استفتحوا للرسل، وقيل للكفار، وقيل للفريقين "وخاب كل جبار عنيد" الجبار المتكبر الذي لا يرى لأحد عليه حقاً، هكذا حكاه النحاس عن أهل اللغة، والعنيد المعاند للحق والمجانب له، وهو مأخوذ من العند، وهو الناحية: أي أخذ في ناحية معرضاً. قال الشاعر: إذا نزلت فاجعلوني وسطاً إني كبير لا أطيق العندا قال الزجاج: العنيد الذي يعدل عن القصد، وبمثله قال الهروي، وقال أبو عبيد: هو الذي عند وبغى، وقال ابن كيسان: هو الشامخ بأنفه، وقيل المراد به المعاصي، وقيل الذي أبى أن يقول لا إله إلا الله، ومعنى الآية: أنه خسر وهلك من كان متصفاً بهذه الصفة.
16- "من ورائه جهنم" أي من بعده جهنم، والمراد بعد هلاكه على أن وراء ها هنا بمعنى بعد، ومنه قول النابغة: حلفت فلم أترك لنفسك ريبة وليس وراء الله للمرء مذهب أي ليس بعد الله، ومثله قوله: " ومن ورائه عذاب غليظ " أي من بعده. كذا قال الفراء، وقيل من ورائه: أي من أمامه. قال أبو عبيد: هو من أسماء الأضداد، لأن أحدهما ينقلب إلى الآخر، ومنه قول الشاعر: ومن ورائك يوم أنت بالغه لا حاضر معجز عنه ولا بادي وقال آخر: أترجو بنو مروان سمعي وطاعتي وقومي تميم والفلاة ورائيا أي أمامي، ومنه قوله تعالى: "وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً" أي أمامهم، وبقول أبي عبيدة هذا قال قطرب. وقال الأخفش: هو كما يقال: هذا الأمر من ورائك: أي سوف يأتيك، وأنا من وراء فلان أي في طلبه. وقال النحاس: من ورائه: أي من أمامه، وليس من الأضداد، ولكنه من توارى: أي استتر فصارت جهنم من ورائه، لأنها لا ترى، وحكى مثله ابن الأنباري "ويسقى من ماء صديد" معطوف على مقدر جواباً عن سؤال سائل، كأنه قيل فماذا يكون إذن؟ قيل يلقى فيها ويسقى، والصديد ما يسيل من جلود أهل النار واشتقاقه من الصد، لأنه يصد الناظرين عن رؤيته، وهو دم مختلط بقيح، والصديد صفة لماء، وقيل عطف بيان منه.
و 17- "يتجرعه" في محل جر على أنه صفة لماء، أو في محل نصب على أنه حال، وقيل هو استئناف مبني على سؤال، والتجرع التحسي: أي يتحساه مرة بعد مرة لا مرة واحدة لمرارته وحرارته "ولا يكاد يسيغه" أي يبتلعه، يقال ساغ الشراب في الحلق يسوغ سوغاً: إذا كان سهلاً، والمعنى: ولا يقارب إساغته، فكيف تكون الإساغة؟ بل يغص به فيطول عذابه بالعطش تارة، ويشربه على هذه الحال أخرى، وقيل إنه يسيغه بعد شدة وإبطاء، كقوله: "وما كادوا يفعلون" أي يفعلون بعد إبطاء، كما يدل عليه قوله تعالى في آية أخرى "يصهر به ما في بطونهم" "ويأتيه الموت من كل مكان" أي تأتيه أسباب الموت من كل جهة من الجهات، أو من كل موضع من مواضع بدنه. وقال الأخفش: المراد بالموت هنا البلايا التي تصيب الكافر في النار، سماها موتاً لشدتها "وما هو بميت" أي والحال أنه لم يمت حقيقة فيستريح، وقيل تعلق نفسه في حنجرته فلا تخرج من فيه فيموت، ولا ترجع إلى مكانها من جوفه فيحيا، ومثله قوله تعالى: "لا يموت فيها ولا يحيا"، وقيل معنى وما هو بميت: لتطاول شدائد الموت به وامتداد سكراته عليه. والأولى تفسير الآية بعدم الموت حقيقة لما ذكرنا من قوله سبحانه: "لا يموت فيها ولا يحيا" وقوله: "لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها" " ومن ورائه عذاب غليظ " أي من أمامه، أو من بعده عذاب شديد، وقيل هو الخلود، وقيل حبس النفس.
18- "مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد" قال سيبويه: مثل مرتفع على الابتداء، والخبر مقدر: أي فيما يتلى عليكم مثل الذين كفروا وبه قال الزجاج. وقال الفراء: التقدير مثل أعمال الذين كفروا فحذف المضاف. وروي عنه أنه قال بإلغاء مثل، والتقدير الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد، وقيل هو: أعني مثل مبتدأ وخبره أعمالهم كرماد على أن معناه الصفة، فكأنه قال صفتهم العجيبة أعمالهم كرماد. والمعنى: أن أعمالهم باطلة غير مقبولة، والرماد ما يبقى بعد احتراق الشيء ضرب الله سبحانه هذه الآية مثلاً لأعمال الكفار في أنه يمحقها كما تمحق الريح الشديدة الرماد في يوم عاصف. ومعنى اشتدت به الريح: حملته بشدة وسرعة، والعصف شدة الريح، وصف به زمانها مبالغة كما يقال: يوم حار ويوم بارد، والبرد والحر فيهما لا منهما "لا يقدرون مما كسبوا على شيء" أي لا يقدر الكفار مما كسبوا من تلك الأعمال الباطلة على شيء منها، ولا يرون له أثراً في الآخرة يجازون به ويثابون عليه، بل جميع ما عملوه في الدنيا باطل ذاهب كذهاب الريح بالرماد عند شدة هبوبها، والإشارة بقوله: "ذلك" إلى ما دل عليه التمثيل: أي هذا البطلان لأعمالهم وذهاب أثرها "هو الضلال البعيد" عن طريق الحق المخالف لمنهج الصواب، لما كان هذا خسراناً لا يمكن تداركه سماه بعيداً. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "لنخرجنكم من أرضنا" الآية، قال كانت الرسل والمؤمنون يستضعفهم قومهم ويقهرونهم ويكذبونهم ويدعونهم إلى أن يعودوا في ملتهم، فأبى الله لرسوله والمؤمنين أن يعودوا في ملة الكفر، وأمرهم أن يتوكلوا على الله، وأمرهم أن يستفتحوا على الجبابرة، ووعدهم أن يسكنهم الأرض من بعدهم، فأنجز لهم ما وعدهم، واستفتحوا كما أمرهم الله أن يستفتحوا. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال: وعدهم النصر في الدنيا والجنة في الآخرة، فبين الله من يسكنها من عباده فقال "ولمن خاف مقام ربه جنتان" وإن لله مقاماً هو قائمه، وإن أهل الإيمان خافوا ذلك المقام فنصبوا ودأبوا الليل والنهار. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "واستفتحوا" قال: للرسل كلها يقول استنصروا، وفي قوله: "وخاب كل جبار عنيد" قال: معاند للحق مجانب له. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال: استنصرت الرسل على قومها "وخاب كل جبار عنيد" يقول: عنيد عن الحق معرض عنه، أبى أن يقول لا إله إلا الله. وأخرج ابن جرير عن إبراهيم النخعي قال: العنيد الناكب عن الحق. وأخرج أحمد والترمذي والنسائي وابن أبي الدنيا وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبو نعيم في الحلية وصححه وابن مردويه والبيهقي عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: " ويسقى من ماء صديد * يتجرعه " قال: يقرب إليه فيتكرهه، فإذا دنا منه شوى وجهه، ووقعت فروة رأسه، فإذا شربه قطع أمعاءه حتى تخرج من دبره، يقول الله تعالى: "وسقوا ماءً حميماً فقطع أمعاءهم" وقال: "وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه". وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عباس في قوله: "من ماء صديد" قال: يسيل من جلد الكافر ولحمه. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن عكرمة قال: "من ماء صديد" هو القيح والدم. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ويأتيه الموت من كل مكان" قال: أنواع العذاب، وليس منها نوع إلا الموت يأتيه منه لو كان يموت، ولكنه لا يموت لأن الله يقول: "لا يقضى عليهم فيموتوا". وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ميمون بن مهران "ويأتيه الموت من كل مكان" قال: من كل عظم وعرق وعصب. وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن محمد بن كعب نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن إبراهيم التيمي قال: من موضع كل شعرة في جسده " ومن ورائه عذاب غليظ " قال: الخلود. وأخرج ابن المنذر عن الفضيل بن عياض " ومن ورائه عذاب غليظ " قال: حبس الأنفاس. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "مثل الذين كفروا بربهم" الآية قال: مثل الذين عبدوا غيره فأعمالهم يوم القيامة كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون على شيء من أعمالهم ينفعهم كما لا يقدر على الرماد إذا أرسل في يوم عاصف.
قوله: "ألم تر أن الله خلق السموات والأرض بالحق" الرؤية هنا هي القلبية، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم تعريضاً لأمته، أو الخطاب لكل من يصلح له. وقرأ حمزة والكسائي " خلق السماوات " ومعنى بالحق: بالوجه الصحيح الذي يحق أن يخلقها عليه ليستدل بها على كمال قدرته. ثم بين كمال قدرته سبحانه واستغناءه عن كل واحد من خلقه فقال: "إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد" فيعدم الموجودين ويوجد المعدومين ويهلك العصاة ويأتي بمن يطيعه من خلقه، والمقام يحتمل أن يكون هذا الخلق الجديد من نوع الإنسان، ويحتمل أن يكون من نوع آخر.
فتح القدير - صفحة القرآن رقم 257
25611- "قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم" أي ما نحن في الصورة والهيئة إلا بشر مثلكم كما قلتم "ولكن الله يمن على من يشاء من عباده" أي يتفضل على من يشاء منهم بالنبوة، وقيل بالتوفيق والهداية "وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان" أي ما صح ولا استقام لنا أن نأتيكم بحجة من الحجج "إلا بإذن الله" أي إلا بمشيئته وليس ذلك في قدرتنا. قيل المراد بالسلطان هنا هو ما يطلبه الكفار من الآيات على سبيل التعنت، وقيل أعم من ذلك، فإن ما شاءه الله كان وما لم يشأه لم يكن "وعلى الله فليتوكل المؤمنون" أي عليه وحده، وهذا أمر منهم للمؤمنين بالتوكل على الله دون من عداه.
وكأن الرسل قصدوا بهذا الأمر للمؤمنين الأمر لهم أنفسهم قصداً أولياً، ولهذا قالوا: 12- " وما لنا أن لا نتوكل على الله " أي وأي عذر لنا في ألا نتوكل عليه سبحانه "وقد هدانا سبلنا" أي والحال أنه قد فعل بنا ما يوجب توكلنا عليه من هدايتنا إلى الطريق الموصل إلى رحمته، وهو ما شرعه لعباده وأوجب عليهم سلوكه " ولنصبرن على ما آذيتمونا " بما يقع منكم من التكذيب لنا والاقتراحات الباطلة "وعلى الله" وحده دون من عداه "فليتوكل المتوكلون" قيل المراد بالتوكل الأول استحداثه، وبهذا السعي في بقائه وثبوته، وقيل معنى الأول: إن الذين يطلبون المعجزات يجب عليهم أن يتوكلوا في حصولها على الله سبحانه لا علينا، فإن شاء سبحانه أظهرها وإن شاء لم يظهرها. ومعنى الثاني: إبداء التوكل على الله في دفع شر الكفار وسفاهتهم. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن الربيع في قوله: "وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم" قال: أخبرهم موسى عن ربه أنهم إن شكروا النعمة زادهم من فضله وأوسع لهم من الرزق وأظهرهم على العالم. وأخرج ابن جرير عن الحسن لأزيدنكم قال: من طاعتي. وأخرج ابن المبارك وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن علي بن صالح مثله. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن سفيان الثوري في الآية قال: لا تذهب أنفسكم إلى الدنيا فإنها أهون عند الله من ذلك، ولكن يقول لئن شكرتم لأزيدنكم من طاعتي. وأخرج أحمد والبيهقي عن أنس قال: "أتى النبي صلى الله عليه وسلم سائل فأمر له بتمرة فلم يأخذها، وأتاه آخر فأمر له بتمرة فقبلها وقال: تمرة من رسول الله، فقال للجارية: اذهبي إلى أم سلمة فأعطيه الأربعين درهماً التي عندها" وفي إسناده أحمد عمارة بن زاذان، وثقه أحمد ويعقوب بن سفيان وابن حبان، وقال ابن معين: صالح، وقال أبو زرعة: لا بأس به، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به ليس بالمتين، وقال البخاري: ربما يضطرب في حديثه، وقال أحمد: روي عنه أحاديث منكرة، وقال أبو داود: ليس بذاك، وضعفه الدارقطني، وقال ابن عدي: لا بأس به. وأخرج البخاري في تاريخه والضياء المقدسي في المختارة عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ألهم خمسة لم يحرم خمسة، وفيها: ومن ألهم الشكر لم يحرم الزيادة". وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأغر أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أربع من أعطيهن لم يمنع من الله أربعاً، وفيها: ومن أعطي الشكر لم يمنع الزيادة؟" ولا وجه لتقييد الزيادة بالزيادة في الطاعة بل الظاهر من الآية العموم كما يفيده جعل الزيادة جزاء للشكر، فمن شكر الله على ما رزقه وسع الله عليه في رزقه، ومن شكر الله على ما أقدره عليه من طاعته زاده من طاعته، ومن شكره على ما أنعم عليه به من الصحة زاده الله صحة ونحو ذلك. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن مسعود أنه كان يقرأ "والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله" ويقول: كذب النسابون. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن عمرو بن ميمون مثله. وأخرج ابن الضريس عن أبي مجلز قال: قال رجل لعلي بن أبي طالب: أنا أنسب الناس، قال: إنك لا تنسب الناس، فقال بلى، فقال له علي: أرأيت قوله: "وعاداً وثمود وأصحاب الرس وقروناً بين ذلك كثيراً" قال: أنا أنسب ذلك الكثير، قال: أرأيت قوله: "ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله" فسكت. وأخرج أبو عبيد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عروة بن الزبير قال: ما وجدنا أحداً يعرف ما وراء معد بن عدنان. وأخرج أبو عبيد وابن المنذر عن ابن عباس قال: بين عدنان وإسماعيل ثلاثون أباً لا يعرفون. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله: "فردوا أيديهم في أفواههم" قال: لما سمعوا كتاب الله عجبوا ورجعوا بأيديهم إلى أفواههم "وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب" يقولون: لا نصدقكم فيما جئتم به فإن عندنا فيه شكاً قوياً. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وأبو عبيد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه عن ابن مسعود: فردوا أيديهم في أفواههم قال: عضوا عليها. وفي لفظ: على أناملهم غيظاً على رسلهم.
قوله: 13- "وقال الذين كفروا" هؤلاء القائلون هم طائفة من المتمردين عن إجابة الرسل، واللام في "لنخرجنكم" هي الموطئة للقسم: أي والله لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا، لم يقنعوا بردهم لما جاءت به الرسل وعدم امتثالهم لما دعوهم إليه حتى اجترأوا عليهم بهذا، وخيروهم بين الخروج من أرضهم، أو العود في ملتهم الكفرية وقد قيل إن أو في "أو لتعودن" بمعنى حتى أو: يعني إلا أن تعودوا كما قاله بعض المفسرين، ورد بأنه لا حاجة إلى ذلك، بل أو على بابها للتخيير بين أحد الأمرين، وقد تقدم تفسير الآية في سورة الأعراف. قيل والعود هنا بمعنى الصيرورة لعصمة الأنبياء عن أن يكونوا على ملة الكفر قبل النبوة وبعدها، وقيل إن الخطاب للرسل ولمن آمن بهم فغلب الرسل على أتباعهم "فأوحى إليهم ربهم" أي إلى الرسل "لنهلكن الظالمين" أي قال لهم: لنهلكن الظالمين.
14- "ولنسكننكم الأرض" أي أرض هؤلاء الكفار الذين توعدوكم بما توعدوا من الإخراج أو العود، ومثل هذه الآية قوله سبحانه: "وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها"، وقال "وأورثكم أرضهم وديارهم". وقرئ ليهلكن وليسكننكم بالتحتية في الفعلين اعتباراً بقوله فأوحى، والإشارة بقوله: "ذلك" إلى ما تقدم من إهلاك الظالمين وإسكان المؤمنين في مساكنهم "لمن خاف مقامي" أي موقفي، وذلك يوم الحساب، فإنه موقف الله سبحانه، والمقام بفتح الميم مكان الإقامة، وبالضم فعل الإقامة، وقيل: إن المقام هنا مصدر بمعنى القيام: أي لمن خاف قيامي عليه ومراقبتي له كقوله تعالى: "أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت" وقال الأخفش: ذلك لمن خاف مقامي: أي عذابي "وخاف وعيد" أي خاف وعيدي بالعذاب، وقيل بالقرآن وزواجره، وقيل هو نفس العذاب، والوعيد الاسم من الوعد.
15- "واستفتحوا" معطوف على أوحى، والمعنى: أنهم استنصروا بالله على أعدائهم، أو سألوا الله القضاء بينهم، من الفتاحة وهي الحكومة، ومن المعنى الأول قوله: "إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح" أي إن تستنصروا فقد جاءكم النصر، ومن المعنى الثاني قوله: "ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق" أي احكم، والضمير في استفتحوا للرسل، وقيل للكفار، وقيل للفريقين "وخاب كل جبار عنيد" الجبار المتكبر الذي لا يرى لأحد عليه حقاً، هكذا حكاه النحاس عن أهل اللغة، والعنيد المعاند للحق والمجانب له، وهو مأخوذ من العند، وهو الناحية: أي أخذ في ناحية معرضاً. قال الشاعر: إذا نزلت فاجعلوني وسطاً إني كبير لا أطيق العندا قال الزجاج: العنيد الذي يعدل عن القصد، وبمثله قال الهروي، وقال أبو عبيد: هو الذي عند وبغى، وقال ابن كيسان: هو الشامخ بأنفه، وقيل المراد به المعاصي، وقيل الذي أبى أن يقول لا إله إلا الله، ومعنى الآية: أنه خسر وهلك من كان متصفاً بهذه الصفة.
16- "من ورائه جهنم" أي من بعده جهنم، والمراد بعد هلاكه على أن وراء ها هنا بمعنى بعد، ومنه قول النابغة: حلفت فلم أترك لنفسك ريبة وليس وراء الله للمرء مذهب أي ليس بعد الله، ومثله قوله: " ومن ورائه عذاب غليظ " أي من بعده. كذا قال الفراء، وقيل من ورائه: أي من أمامه. قال أبو عبيد: هو من أسماء الأضداد، لأن أحدهما ينقلب إلى الآخر، ومنه قول الشاعر: ومن ورائك يوم أنت بالغه لا حاضر معجز عنه ولا بادي وقال آخر: أترجو بنو مروان سمعي وطاعتي وقومي تميم والفلاة ورائيا أي أمامي، ومنه قوله تعالى: "وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً" أي أمامهم، وبقول أبي عبيدة هذا قال قطرب. وقال الأخفش: هو كما يقال: هذا الأمر من ورائك: أي سوف يأتيك، وأنا من وراء فلان أي في طلبه. وقال النحاس: من ورائه: أي من أمامه، وليس من الأضداد، ولكنه من توارى: أي استتر فصارت جهنم من ورائه، لأنها لا ترى، وحكى مثله ابن الأنباري "ويسقى من ماء صديد" معطوف على مقدر جواباً عن سؤال سائل، كأنه قيل فماذا يكون إذن؟ قيل يلقى فيها ويسقى، والصديد ما يسيل من جلود أهل النار واشتقاقه من الصد، لأنه يصد الناظرين عن رؤيته، وهو دم مختلط بقيح، والصديد صفة لماء، وقيل عطف بيان منه.
و 17- "يتجرعه" في محل جر على أنه صفة لماء، أو في محل نصب على أنه حال، وقيل هو استئناف مبني على سؤال، والتجرع التحسي: أي يتحساه مرة بعد مرة لا مرة واحدة لمرارته وحرارته "ولا يكاد يسيغه" أي يبتلعه، يقال ساغ الشراب في الحلق يسوغ سوغاً: إذا كان سهلاً، والمعنى: ولا يقارب إساغته، فكيف تكون الإساغة؟ بل يغص به فيطول عذابه بالعطش تارة، ويشربه على هذه الحال أخرى، وقيل إنه يسيغه بعد شدة وإبطاء، كقوله: "وما كادوا يفعلون" أي يفعلون بعد إبطاء، كما يدل عليه قوله تعالى في آية أخرى "يصهر به ما في بطونهم" "ويأتيه الموت من كل مكان" أي تأتيه أسباب الموت من كل جهة من الجهات، أو من كل موضع من مواضع بدنه. وقال الأخفش: المراد بالموت هنا البلايا التي تصيب الكافر في النار، سماها موتاً لشدتها "وما هو بميت" أي والحال أنه لم يمت حقيقة فيستريح، وقيل تعلق نفسه في حنجرته فلا تخرج من فيه فيموت، ولا ترجع إلى مكانها من جوفه فيحيا، ومثله قوله تعالى: "لا يموت فيها ولا يحيا"، وقيل معنى وما هو بميت: لتطاول شدائد الموت به وامتداد سكراته عليه. والأولى تفسير الآية بعدم الموت حقيقة لما ذكرنا من قوله سبحانه: "لا يموت فيها ولا يحيا" وقوله: "لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها" " ومن ورائه عذاب غليظ " أي من أمامه، أو من بعده عذاب شديد، وقيل هو الخلود، وقيل حبس النفس.
18- "مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد" قال سيبويه: مثل مرتفع على الابتداء، والخبر مقدر: أي فيما يتلى عليكم مثل الذين كفروا وبه قال الزجاج. وقال الفراء: التقدير مثل أعمال الذين كفروا فحذف المضاف. وروي عنه أنه قال بإلغاء مثل، والتقدير الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد، وقيل هو: أعني مثل مبتدأ وخبره أعمالهم كرماد على أن معناه الصفة، فكأنه قال صفتهم العجيبة أعمالهم كرماد. والمعنى: أن أعمالهم باطلة غير مقبولة، والرماد ما يبقى بعد احتراق الشيء ضرب الله سبحانه هذه الآية مثلاً لأعمال الكفار في أنه يمحقها كما تمحق الريح الشديدة الرماد في يوم عاصف. ومعنى اشتدت به الريح: حملته بشدة وسرعة، والعصف شدة الريح، وصف به زمانها مبالغة كما يقال: يوم حار ويوم بارد، والبرد والحر فيهما لا منهما "لا يقدرون مما كسبوا على شيء" أي لا يقدر الكفار مما كسبوا من تلك الأعمال الباطلة على شيء منها، ولا يرون له أثراً في الآخرة يجازون به ويثابون عليه، بل جميع ما عملوه في الدنيا باطل ذاهب كذهاب الريح بالرماد عند شدة هبوبها، والإشارة بقوله: "ذلك" إلى ما دل عليه التمثيل: أي هذا البطلان لأعمالهم وذهاب أثرها "هو الضلال البعيد" عن طريق الحق المخالف لمنهج الصواب، لما كان هذا خسراناً لا يمكن تداركه سماه بعيداً. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "لنخرجنكم من أرضنا" الآية، قال كانت الرسل والمؤمنون يستضعفهم قومهم ويقهرونهم ويكذبونهم ويدعونهم إلى أن يعودوا في ملتهم، فأبى الله لرسوله والمؤمنين أن يعودوا في ملة الكفر، وأمرهم أن يتوكلوا على الله، وأمرهم أن يستفتحوا على الجبابرة، ووعدهم أن يسكنهم الأرض من بعدهم، فأنجز لهم ما وعدهم، واستفتحوا كما أمرهم الله أن يستفتحوا. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال: وعدهم النصر في الدنيا والجنة في الآخرة، فبين الله من يسكنها من عباده فقال "ولمن خاف مقام ربه جنتان" وإن لله مقاماً هو قائمه، وإن أهل الإيمان خافوا ذلك المقام فنصبوا ودأبوا الليل والنهار. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "واستفتحوا" قال: للرسل كلها يقول استنصروا، وفي قوله: "وخاب كل جبار عنيد" قال: معاند للحق مجانب له. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال: استنصرت الرسل على قومها "وخاب كل جبار عنيد" يقول: عنيد عن الحق معرض عنه، أبى أن يقول لا إله إلا الله. وأخرج ابن جرير عن إبراهيم النخعي قال: العنيد الناكب عن الحق. وأخرج أحمد والترمذي والنسائي وابن أبي الدنيا وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبو نعيم في الحلية وصححه وابن مردويه والبيهقي عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: " ويسقى من ماء صديد * يتجرعه " قال: يقرب إليه فيتكرهه، فإذا دنا منه شوى وجهه، ووقعت فروة رأسه، فإذا شربه قطع أمعاءه حتى تخرج من دبره، يقول الله تعالى: "وسقوا ماءً حميماً فقطع أمعاءهم" وقال: "وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه". وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عباس في قوله: "من ماء صديد" قال: يسيل من جلد الكافر ولحمه. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن عكرمة قال: "من ماء صديد" هو القيح والدم. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ويأتيه الموت من كل مكان" قال: أنواع العذاب، وليس منها نوع إلا الموت يأتيه منه لو كان يموت، ولكنه لا يموت لأن الله يقول: "لا يقضى عليهم فيموتوا". وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ميمون بن مهران "ويأتيه الموت من كل مكان" قال: من كل عظم وعرق وعصب. وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن محمد بن كعب نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن إبراهيم التيمي قال: من موضع كل شعرة في جسده " ومن ورائه عذاب غليظ " قال: الخلود. وأخرج ابن المنذر عن الفضيل بن عياض " ومن ورائه عذاب غليظ " قال: حبس الأنفاس. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "مثل الذين كفروا بربهم" الآية قال: مثل الذين عبدوا غيره فأعمالهم يوم القيامة كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون على شيء من أعمالهم ينفعهم كما لا يقدر على الرماد إذا أرسل في يوم عاصف.
قوله: "ألم تر أن الله خلق السموات والأرض بالحق" الرؤية هنا هي القلبية، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم تعريضاً لأمته، أو الخطاب لكل من يصلح له. وقرأ حمزة والكسائي " خلق السماوات " ومعنى بالحق: بالوجه الصحيح الذي يحق أن يخلقها عليه ليستدل بها على كمال قدرته. ثم بين كمال قدرته سبحانه واستغناءه عن كل واحد من خلقه فقال: "إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد" فيعدم الموجودين ويوجد المعدومين ويهلك العصاة ويأتي بمن يطيعه من خلقه، والمقام يحتمل أن يكون هذا الخلق الجديد من نوع الإنسان، ويحتمل أن يكون من نوع آخر.
الصفحة رقم 257 من المصحف تحميل و استماع mp3