تفسير الطبري تفسير الصفحة 257 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 257
258
256
 الآية : 11
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نّحْنُ إِلاّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ وَلَـَكِنّ اللّهَ يَمُنّ عَلَىَ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَآ أَن نّأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلاّ بِإِذْنِ اللّهِ وَعلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكّلِ الْمُؤْمِنُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: قال الأمـم التـي أتتهم الرسل لرسلهم إنْ نَـحْنُ إلاّ بَشَرَ مِثْلُكُمْ صدقتـم فـي قولكم إنْ أنْتُـمْ إلاّ بَشَرٌ مِثْلُنا فما نـحن إلا بشر من بنـي آدم إنس مثلكم, وَلكِنّ اللّهَ يَـمُنّ عَلـى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبـادِهِ يقول: ولكن الله يتفضّل علـى من يشاء من خـلقه, فـيهديه ويوفّقه للـحقّ, ويفضله علـى كثـير من خـلقه. وَما كانَ لَنا أنْ نَأْتِـيَكُمْ بِسُلْطانٍ يقول: وما كان لنا أن نأتـيكم بحجة وبرهان علـى ما ندعوكم إلـيه إلاّ بإذْنِ اللّهِ يقول: إلا بأمر الله لنا بذلك. وَعلـى الله فَلْـيَتَوَكّلِ الـمُؤْمِنُونَ يقول: وبـالله فلـيثق به من آمن به وأطاعه فإنا به نثق وعلـيه نتوكل.
15660ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد, قوله: فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِـينٍ قال: السلطان الـمبـين: البرهان والبـينة. وقوله: ما لَـمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطانا قال: بـينة وبرهانا.
الآية : 12
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{وَمَا لَنَآ أَلاّ نَتَوَكّلَ عَلَى اللّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنّ عَلَىَ مَآ آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكّلِ الْمُتَوَكّلُونَ }.
( شا يقول تعالـى ذكره مخبرا عن قـيـل الرسل لأمـمها: وَما لَنا أنْ لا نَتَوَكّلَ علـى اللّهِ فنثق به وبكفـايته ودفـاعه إياكم عنا, وَقَدْ هَدَانا سُبُلَنا يقول: وقد بصرنا طريق النـجاة من عذابه, فبـين لنا. وَلَنَصْبِرَنّ علـى ما آذَيْتُـمُونا فـي الله وعلـى ما نلقـي منكم من الـمكروه فـيه بسبب دعائنا إلـيكم إلـى ما ندعوكم إلـيه من البراءة من الأوثان والأصنام وإخلاص العبـادة له. وَعَلَـى اللّهِ فَلْـيَتَوَكّلِ الـمُتَوَكّلُونَ يقول: وعلـى الله فلـيتوكل من كان به واثقا من خـلقه, فأما من كان به كافرا فإن ولـيه الشيطان.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{وَقَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنّـكُمْ مّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنّ فِي مِلّتِنَا فَأَوْحَىَ إِلَيْهِمْ رَبّهُمْ لَنُهْلِكَنّ الظّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنّـكُمُ الأرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ }.
( شا يقول عزّ ذكره: وقال الذين كفروا بـالله لرسلهم الذين أرسلوا إلـيهم حين دعوهم إلـى توحيد الله وإخلاص العبـادة له وفراق عبـادة الاَلهة والأوثان: لَنُـخْرِجَنّكُمْ مِنْ أرْضِنا يعنون: من بلادنا, فنطردكم عنها. أوْ لَتَعُودُنّ فـي ملّتِنا يعنون: إلا أن تعودوا فـي ديننا الذي نـحن علـيه من عبـادة الأصنام. وأدخـلت فـي قوله: لَتَعُودُنّ لام, وهو فـي معنى شرط, كأنه جواب للـيـمين.
وإنـما معنى الكلام: لنـحرجنّكم من أرضنا أو تعودنّ فـي ملتنا, ومعنى «أو» ههنا معنى «إلا» أو معنى «حتـى» كما يقال فـي الكلام: لأضربنك أو تقرّ لـي, فمن العرب من يجعل ما بعد «أو» فـي مثل هذا الـموضع عطفـا علـى ما قبله, إن كان ما قبله جزما جزموه, وإن كان نصبـا نصبوه, وإن كان فـيه لام جعلوا فـيه لاما, إذ كانت «أو» حرف نَسق. ومنهم من ينصب «ما» بعد «أو» بكل حال, لـيعلـم بنصبه أنه عن الأوّل منقطع عما قبله, كما قال امرؤ القـيس:
بَكَى صَاحِبـي لَـمّا رأى الدّرْبَ دُونَهُوأيْقَنَ أنّا لاحِقانِ بقَـيْصَرَا
فَقُلْتُ لَهُ: لا تَبْكِ عَيْنُكَ إنّـمانـحاوِلُ مُلْكا أو نَـمُوتَ فَنُعْذَرَا
فنصب «نـموتَ فنعذرا» وقد رفع «نـحاولُ», لأنه أراد معنى: إلا أن نـموت, أو حتـى نـموت, ومنه قول الاَخر:
لا أسْتَطِيعُ نُزُوعا عَنْ مَوَدّتِهاأو يَصْنَعُ الـحُبّ بـي غيرَ الّذِي صَنَعا
وقوله: فَأَوحَى إلَـيْهِمْ رَبّهُمْ لَنُهْلِكَنّ الظّالِـمِينَ الذين ظلـموا أنفسهم, فأوجبوا لها عقاب الله بكُفرهم وقد يجوز أن يكون قـيـل لهم: الظالـمون لعبـادتهم, مَنْ لا تـجوز عبـادته من الأوثان والاَلهة, فـيكون بوضعهم العبـادة فـي غير موضعها إذ كان ظلـما سُموا بذلك ظالـمين.
وقوله: وَلَنُسْكِنَنّكُمُ الأرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ هذا وعد من الله مَن وَعَد من أنبـيائه النصر علـى الكفرة به من قومه, يقول: لـما تـمادت أمـم الرسل فـي الكفر, وتوعّدوا رسلهم بـالوقوع بهم, أوحى الله إلـيهم بإهلاك من كفر بهم من أمـمهم ووعدهم النصر. وكلّ ذلك كان من الله وعيدا وتهديدا لـمشركي قوم نبـينا مـحمد صلى الله عليه وسلم علـى كفرهم به وجراءتهم علـى نبـيه, وتثبـيتا لـمـحمد صلى الله عليه وسلم وأمرا له بـالصبر علـى ما لقـي من الـمكروه فـيه من مشركي قومه, كما صبر من كان قبله من أولـي العز من رسله, ومعرّفَهُ أن عاقبة أمر من كفر به الهلاك وعاقبته النصر علـيهم, سُنّةَ اللّهِ فـي الّذِينَ خَـلَوْا مِنْ قَبْلُ.
15661ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيدُ, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: وَلَنُسْكنَنّكُمْ الأرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ قال: وعدهم النصر فـي الدنـيا, والـجنة فـي الاَخرة.
وقوله: ذلكَ لِـمَنْ خافَ مَقامي وَخافَ وَعِيدِ يقول جلّ ثناؤه: هكذا فِعْلـى لـمن خاف مقامه بـين يديّ, وخاف وعيدي فـاتقانـي بطاعته وتـجنب سخطي, أنصره علـى من أراد به سوءا وبغاه مكروها من أعدائي, أُهلك عدوّه وأخزيه وأورثه أرضه ودياره. وقال: لِـمَنْ خافَ مَقامي ومعناه ما قلت من أنه لـمن خاف مقامه بـين يديّ بحيث أقـيـمه هنالك للـحساب, كمَا قال: وَتَـجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أنّكُمْ تُكَذّبُونَ معناه: وتـجعلون رزقـي إياكم أنكم تكذبون, وذلك أن العرب تضيف أفعالها إلـى أنفسها, وإلـى ما أوقعت علـيه, فتقول: قد سررت برؤيتك وبرؤيتـي إياك, فكذلك ذلك.)

القول فـي تأويـل قوله تعالـى:{وَاسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلّ جَبّارٍ عَنِيدٍ }.
يقول تعالـى ذكره: واستفتـحت الرسل علـى قومها: أي استنصرت الله علـيها. وَخابَ كُلّ جَبّـارٍ عَنـيدٍ يقول: هلك كل متكبر جائر حائد عن الإقرار بتوحيد الله وإخلاص العبـادة له. والعنـيد والعاند والعنود بـمعنى واحد, ومن الـجبـار تقول: هو جبـار بـيّن الـجَبَرِية والـجَبَروتـية والـجَبْرُوّة والـجَبَرُوت.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
15662ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: وَاسْتَفْتَـحُوا قال: الرسل كلها, يقول: استنصروا علـى أعدائهم ومعانديهم: أي علـى من عاند عن اتبـاع الـحقّ وتـجنبه.
حدثنا الـحسن بن مـحمد, قال: حدثنا شبـابة, قال: حدثنا ورقاء, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, «ح» وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, فـي قوله: وَاسْتَفْتَـحُوا قال: الرسل كلها استنصروا. وَخابَ كُلّ جَبّـارٍ عَنِـيدٍ قال: معاند للـحقّ مـجانبه.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد, مثله.
وقال ابن جريج: استفتـحوا علـى قومهم.
15663ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس: وَاسْتَفْتَـحُوا وَخابَ كُلّ جَبّـارٍ عَنِـيدٍ قال: كانت الرسل والـمؤمنون يستضعفهم قومهم, ويَقْهَرونهم, ويكذّبونهم, ويدعونهم إلـى أن يعودوا فـي ملّتِهم, فأبى الله عزّ وجلّ لرسله وللـمؤمنـين أن يعودوا فـي ملّة الكفر, وأمرهم أن يتوكّلوا علـى الله, وأمرهم أن يستفتـحوا علـى الـجبـابرة, ووعدهم أن يسكنهم الأرض من بعدهم, فأنـجز الله لهم ما وعدهم, واستفتـحوا كما أمرهم أن يستفتـحوا. وَخابَ كُلّ جَبـارٍ عَنِـيدٍ.
15664ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا الـحجاج بن الـمنهال, قال: حدثنا أبو عوانة, عن الـمغيرة, عن إبراهيـم, فـي قوله: وَخابَ كُلّ جَبّـارٍ عَنِـيدٍ قال: هو الناكب عن الـحقّ أي الـحائد عن اتبـاع طريق الـحقّ.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا مطرف, عن بشر, عن هشيـم, عن مغيرة, عن سماك, عن إبراهيـم: وَخابَ كُلّ جَبّـارٍ عَنِـيدٍ قال: الناكب عن الـحقّ.
15665ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيدُ, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَاسْتَفْتَـحُوا يقول: استنصرت الرسل علـى قومها, قوله: وَخابَ كُلّ جَبّـارٍ عَنِـيدٍ والـجبـار العنـيد: الذي أبى أن يقول: لا إله إلا الله.
حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى, قال: حدثنا مـحمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: وَاسْتَفْتَـحُوا قال: استنصرت الرسل علـى قومها. وَخابَ كُلّ جَبّـارٍ عَنِـيدٍ يقول: بعيد عن الـحقّ مُعرض عنه.
حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, مثله, وزاد فـيه: معرض عنه, أبى أن يقول: لا إله إلا الله.
15666ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: وَخابَ كُلّ جَبّـارٍ عَنِـيدٍ قال: العنـيد عن الـحقّ الذي يعند عن الطريق, قال: والعرب تقول: شرّ الإبل العنـيد الذي يخرج عن الطريق.
15667ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: وَاسْتَفْتَـحُوا وَخابَ كُلّ جَبّـارٍ عَنِـيدٍ قال: الـجبـار: هو الـمتـجبر.
وكان ابن زيد يقول فـي معنى قوله: وَاسْتَفْتَـحُوا خلاف قول هؤلاء, ويقول: إنـما استفتـحت الأمـم, فأجيبت.
15668ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: وَاسْتَفْتَـحُوا قال: استفتاحهم بـالبلاء, قالوا: اللهمّ إن كان هذا الذي أتـى به مـحمد هو الـحق من عندك فأمطر علـينا حجارة من السماء كما أمطرتها علـى قوم لوط, أو ائتنا بعذاب ألـيـم قال: كان استفتاحهم بـالبلاء كما استفتـح قوم هود. ائْتِنا بِـمَا تَعِدُنا إنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِـينَ قال: فـالاستفتاح: العذاب. قال: قـيـل لهم: إن لهذا أجلاً, حين سألوا الله أن ينزل علـيهم, فقال: بل نؤخرهم لـيوم تشخص فـيه الأبصار, فقالوا: لا نريد أن نؤخر إلـى يوم القـيامة رَبّنا عَجّلْ لنَا قِطّنَا عذابنا قَبْلَ يَوْمِ الـحِسَابِ. وقرأ: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بـالعَذَابِ وَلَوْلا أجَلٌ مُسَمّى لَـجاءَهُمُ العَذَابُ حتـى بلغ: وَمِنْ تَـحْتِ أرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُـمْ تَعْمَلُونَ.
الآية : 13-14
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{وَمَا لَنَآ أَلاّ نَتَوَكّلَ عَلَى اللّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنّ عَلَىَ مَآ آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكّلِ الْمُتَوَكّلُونَ }.
( شا يقول تعالـى ذكره مخبرا عن قـيـل الرسل لأمـمها: وَما لَنا أنْ لا نَتَوَكّلَ علـى اللّهِ فنثق به وبكفـايته ودفـاعه إياكم عنا, وَقَدْ هَدَانا سُبُلَنا يقول: وقد بصرنا طريق النـجاة من عذابه, فبـين لنا. وَلَنَصْبِرَنّ علـى ما آذَيْتُـمُونا فـي الله وعلـى ما نلقـي منكم من الـمكروه فـيه بسبب دعائنا إلـيكم إلـى ما ندعوكم إلـيه من البراءة من الأوثان والأصنام وإخلاص العبـادة له. وَعَلَـى اللّهِ فَلْـيَتَوَكّلِ الـمُتَوَكّلُونَ يقول: وعلـى الله فلـيتوكل من كان به واثقا من خـلقه, فأما من كان به كافرا فإن ولـيه الشيطان.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{وَقَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنّـكُمْ مّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنّ فِي مِلّتِنَا فَأَوْحَىَ إِلَيْهِمْ رَبّهُمْ لَنُهْلِكَنّ الظّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنّـكُمُ الأرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ }.
( شا يقول عزّ ذكره: وقال الذين كفروا بـالله لرسلهم الذين أرسلوا إلـيهم حين دعوهم إلـى توحيد الله وإخلاص العبـادة له وفراق عبـادة الاَلهة والأوثان: لَنُـخْرِجَنّكُمْ مِنْ أرْضِنا يعنون: من بلادنا, فنطردكم عنها. أوْ لَتَعُودُنّ فـي ملّتِنا يعنون: إلا أن تعودوا فـي ديننا الذي نـحن علـيه من عبـادة الأصنام. وأدخـلت فـي قوله: لَتَعُودُنّ لام, وهو فـي معنى شرط, كأنه جواب للـيـمين.
وإنـما معنى الكلام: لنـحرجنّكم من أرضنا أو تعودنّ فـي ملتنا, ومعنى «أو» ههنا معنى «إلا» أو معنى «حتـى» كما يقال فـي الكلام: لأضربنك أو تقرّ لـي, فمن العرب من يجعل ما بعد «أو» فـي مثل هذا الـموضع عطفـا علـى ما قبله, إن كان ما قبله جزما جزموه, وإن كان نصبـا نصبوه, وإن كان فـيه لام جعلوا فـيه لاما, إذ كانت «أو» حرف نَسق. ومنهم من ينصب «ما» بعد «أو» بكل حال, لـيعلـم بنصبه أنه عن الأوّل منقطع عما قبله, كما قال امرؤ القـيس:
بَكَى صَاحِبـي لَـمّا رأى الدّرْبَ دُونَهُوأيْقَنَ أنّا لاحِقانِ بقَـيْصَرَا
فَقُلْتُ لَهُ: لا تَبْكِ عَيْنُكَ إنّـمانـحاوِلُ مُلْكا أو نَـمُوتَ فَنُعْذَرَا
فنصب «نـموتَ فنعذرا» وقد رفع «نـحاولُ», لأنه أراد معنى: إلا أن نـموت, أو حتـى نـموت, ومنه قول الاَخر:
لا أسْتَطِيعُ نُزُوعا عَنْ مَوَدّتِهاأو يَصْنَعُ الـحُبّ بـي غيرَ الّذِي صَنَعا
وقوله: فَأَوحَى إلَـيْهِمْ رَبّهُمْ لَنُهْلِكَنّ الظّالِـمِينَ الذين ظلـموا أنفسهم, فأوجبوا لها عقاب الله بكُفرهم وقد يجوز أن يكون قـيـل لهم: الظالـمون لعبـادتهم, مَنْ لا تـجوز عبـادته من الأوثان والاَلهة, فـيكون بوضعهم العبـادة فـي غير موضعها إذ كان ظلـما سُموا بذلك ظالـمين.
وقوله: وَلَنُسْكِنَنّكُمُ الأرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ هذا وعد من الله مَن وَعَد من أنبـيائه النصر علـى الكفرة به من قومه, يقول: لـما تـمادت أمـم الرسل فـي الكفر, وتوعّدوا رسلهم بـالوقوع بهم, أوحى الله إلـيهم بإهلاك من كفر بهم من أمـمهم ووعدهم النصر. وكلّ ذلك كان من الله وعيدا وتهديدا لـمشركي قوم نبـينا مـحمد صلى الله عليه وسلم علـى كفرهم به وجراءتهم علـى نبـيه, وتثبـيتا لـمـحمد صلى الله عليه وسلم وأمرا له بـالصبر علـى ما لقـي من الـمكروه فـيه من مشركي قومه, كما صبر من كان قبله من أولـي العز من رسله, ومعرّفَهُ أن عاقبة أمر من كفر به الهلاك وعاقبته النصر علـيهم, سُنّةَ اللّهِ فـي الّذِينَ خَـلَوْا مِنْ قَبْلُ.
15661ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيدُ, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: وَلَنُسْكنَنّكُمْ الأرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ قال: وعدهم النصر فـي الدنـيا, والـجنة فـي الاَخرة.
وقوله: ذلكَ لِـمَنْ خافَ مَقامي وَخافَ وَعِيدِ يقول جلّ ثناؤه: هكذا فِعْلـى لـمن خاف مقامه بـين يديّ, وخاف وعيدي فـاتقانـي بطاعته وتـجنب سخطي, أنصره علـى من أراد به سوءا وبغاه مكروها من أعدائي, أُهلك عدوّه وأخزيه وأورثه أرضه ودياره. وقال: لِـمَنْ خافَ مَقامي ومعناه ما قلت من أنه لـمن خاف مقامه بـين يديّ بحيث أقـيـمه هنالك للـحساب, كمَا قال: وَتَـجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أنّكُمْ تُكَذّبُونَ معناه: وتـجعلون رزقـي إياكم أنكم تكذبون, وذلك أن العرب تضيف أفعالها إلـى أنفسها, وإلـى ما أوقعت علـيه, فتقول: قد سررت برؤيتك وبرؤيتـي إياك, فكذلك ذلك.)

القول فـي تأويـل قوله تعالـى:{وَاسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلّ جَبّارٍ عَنِيدٍ }.
يقول تعالـى ذكره: واستفتـحت الرسل علـى قومها: أي استنصرت الله علـيها. وَخابَ كُلّ جَبّـارٍ عَنـيدٍ يقول: هلك كل متكبر جائر حائد عن الإقرار بتوحيد الله وإخلاص العبـادة له. والعنـيد والعاند والعنود بـمعنى واحد, ومن الـجبـار تقول: هو جبـار بـيّن الـجَبَرِية والـجَبَروتـية والـجَبْرُوّة والـجَبَرُوت.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
15662ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: وَاسْتَفْتَـحُوا قال: الرسل كلها, يقول: استنصروا علـى أعدائهم ومعانديهم: أي علـى من عاند عن اتبـاع الـحقّ وتـجنبه.
حدثنا الـحسن بن مـحمد, قال: حدثنا شبـابة, قال: حدثنا ورقاء, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, «ح» وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, فـي قوله: وَاسْتَفْتَـحُوا قال: الرسل كلها استنصروا. وَخابَ كُلّ جَبّـارٍ عَنِـيدٍ قال: معاند للـحقّ مـجانبه.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد, مثله.
وقال ابن جريج: استفتـحوا علـى قومهم.
15663ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس: وَاسْتَفْتَـحُوا وَخابَ كُلّ جَبّـارٍ عَنِـيدٍ قال: كانت الرسل والـمؤمنون يستضعفهم قومهم, ويَقْهَرونهم, ويكذّبونهم, ويدعونهم إلـى أن يعودوا فـي ملّتِهم, فأبى الله عزّ وجلّ لرسله وللـمؤمنـين أن يعودوا فـي ملّة الكفر, وأمرهم أن يتوكّلوا علـى الله, وأمرهم أن يستفتـحوا علـى الـجبـابرة, ووعدهم أن يسكنهم الأرض من بعدهم, فأنـجز الله لهم ما وعدهم, واستفتـحوا كما أمرهم أن يستفتـحوا. وَخابَ كُلّ جَبـارٍ عَنِـيدٍ.
15664ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا الـحجاج بن الـمنهال, قال: حدثنا أبو عوانة, عن الـمغيرة, عن إبراهيـم, فـي قوله: وَخابَ كُلّ جَبّـارٍ عَنِـيدٍ قال: هو الناكب عن الـحقّ أي الـحائد عن اتبـاع طريق الـحقّ.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا مطرف, عن بشر, عن هشيـم, عن مغيرة, عن سماك, عن إبراهيـم: وَخابَ كُلّ جَبّـارٍ عَنِـيدٍ قال: الناكب عن الـحقّ.
15665ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيدُ, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَاسْتَفْتَـحُوا يقول: استنصرت الرسل علـى قومها, قوله: وَخابَ كُلّ جَبّـارٍ عَنِـيدٍ والـجبـار العنـيد: الذي أبى أن يقول: لا إله إلا الله.
حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى, قال: حدثنا مـحمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: وَاسْتَفْتَـحُوا قال: استنصرت الرسل علـى قومها. وَخابَ كُلّ جَبّـارٍ عَنِـيدٍ يقول: بعيد عن الـحقّ مُعرض عنه.
حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, مثله, وزاد فـيه: معرض عنه, أبى أن يقول: لا إله إلا الله.
15666ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: وَخابَ كُلّ جَبّـارٍ عَنِـيدٍ قال: العنـيد عن الـحقّ الذي يعند عن الطريق, قال: والعرب تقول: شرّ الإبل العنـيد الذي يخرج عن الطريق.
15667ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: وَاسْتَفْتَـحُوا وَخابَ كُلّ جَبّـارٍ عَنِـيدٍ قال: الـجبـار: هو الـمتـجبر.
وكان ابن زيد يقول فـي معنى قوله: وَاسْتَفْتَـحُوا خلاف قول هؤلاء, ويقول: إنـما استفتـحت الأمـم, فأجيبت.
15668ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: وَاسْتَفْتَـحُوا قال: استفتاحهم بـالبلاء, قالوا: اللهمّ إن كان هذا الذي أتـى به مـحمد هو الـحق من عندك فأمطر علـينا حجارة من السماء كما أمطرتها علـى قوم لوط, أو ائتنا بعذاب ألـيـم قال: كان استفتاحهم بـالبلاء كما استفتـح قوم هود. ائْتِنا بِـمَا تَعِدُنا إنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِـينَ قال: فـالاستفتاح: العذاب. قال: قـيـل لهم: إن لهذا أجلاً, حين سألوا الله أن ينزل علـيهم, فقال: بل نؤخرهم لـيوم تشخص فـيه الأبصار, فقالوا: لا نريد أن نؤخر إلـى يوم القـيامة رَبّنا عَجّلْ لنَا قِطّنَا عذابنا قَبْلَ يَوْمِ الـحِسَابِ. وقرأ: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بـالعَذَابِ وَلَوْلا أجَلٌ مُسَمّى لَـجاءَهُمُ العَذَابُ حتـى بلغ: وَمِنْ تَـحْتِ أرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُـمْ تَعْمَلُونَ.
الآية : 15
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{وَمَا لَنَآ أَلاّ نَتَوَكّلَ عَلَى اللّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنّ عَلَىَ مَآ آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكّلِ الْمُتَوَكّلُونَ }.
( شا يقول تعالـى ذكره مخبرا عن قـيـل الرسل لأمـمها: وَما لَنا أنْ لا نَتَوَكّلَ علـى اللّهِ فنثق به وبكفـايته ودفـاعه إياكم عنا, وَقَدْ هَدَانا سُبُلَنا يقول: وقد بصرنا طريق النـجاة من عذابه, فبـين لنا. وَلَنَصْبِرَنّ علـى ما آذَيْتُـمُونا فـي الله وعلـى ما نلقـي منكم من الـمكروه فـيه بسبب دعائنا إلـيكم إلـى ما ندعوكم إلـيه من البراءة من الأوثان والأصنام وإخلاص العبـادة له. وَعَلَـى اللّهِ فَلْـيَتَوَكّلِ الـمُتَوَكّلُونَ يقول: وعلـى الله فلـيتوكل من كان به واثقا من خـلقه, فأما من كان به كافرا فإن ولـيه الشيطان.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{وَقَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنّـكُمْ مّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنّ فِي مِلّتِنَا فَأَوْحَىَ إِلَيْهِمْ رَبّهُمْ لَنُهْلِكَنّ الظّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنّـكُمُ الأرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ }.
( شا يقول عزّ ذكره: وقال الذين كفروا بـالله لرسلهم الذين أرسلوا إلـيهم حين دعوهم إلـى توحيد الله وإخلاص العبـادة له وفراق عبـادة الاَلهة والأوثان: لَنُـخْرِجَنّكُمْ مِنْ أرْضِنا يعنون: من بلادنا, فنطردكم عنها. أوْ لَتَعُودُنّ فـي ملّتِنا يعنون: إلا أن تعودوا فـي ديننا الذي نـحن علـيه من عبـادة الأصنام. وأدخـلت فـي قوله: لَتَعُودُنّ لام, وهو فـي معنى شرط, كأنه جواب للـيـمين.
وإنـما معنى الكلام: لنـحرجنّكم من أرضنا أو تعودنّ فـي ملتنا, ومعنى «أو» ههنا معنى «إلا» أو معنى «حتـى» كما يقال فـي الكلام: لأضربنك أو تقرّ لـي, فمن العرب من يجعل ما بعد «أو» فـي مثل هذا الـموضع عطفـا علـى ما قبله, إن كان ما قبله جزما جزموه, وإن كان نصبـا نصبوه, وإن كان فـيه لام جعلوا فـيه لاما, إذ كانت «أو» حرف نَسق. ومنهم من ينصب «ما» بعد «أو» بكل حال, لـيعلـم بنصبه أنه عن الأوّل منقطع عما قبله, كما قال امرؤ القـيس:
بَكَى صَاحِبـي لَـمّا رأى الدّرْبَ دُونَهُوأيْقَنَ أنّا لاحِقانِ بقَـيْصَرَا
فَقُلْتُ لَهُ: لا تَبْكِ عَيْنُكَ إنّـمانـحاوِلُ مُلْكا أو نَـمُوتَ فَنُعْذَرَا
فنصب «نـموتَ فنعذرا» وقد رفع «نـحاولُ», لأنه أراد معنى: إلا أن نـموت, أو حتـى نـموت, ومنه قول الاَخر:
لا أسْتَطِيعُ نُزُوعا عَنْ مَوَدّتِهاأو يَصْنَعُ الـحُبّ بـي غيرَ الّذِي صَنَعا
وقوله: فَأَوحَى إلَـيْهِمْ رَبّهُمْ لَنُهْلِكَنّ الظّالِـمِينَ الذين ظلـموا أنفسهم, فأوجبوا لها عقاب الله بكُفرهم وقد يجوز أن يكون قـيـل لهم: الظالـمون لعبـادتهم, مَنْ لا تـجوز عبـادته من الأوثان والاَلهة, فـيكون بوضعهم العبـادة فـي غير موضعها إذ كان ظلـما سُموا بذلك ظالـمين.
وقوله: وَلَنُسْكِنَنّكُمُ الأرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ هذا وعد من الله مَن وَعَد من أنبـيائه النصر علـى الكفرة به من قومه, يقول: لـما تـمادت أمـم الرسل فـي الكفر, وتوعّدوا رسلهم بـالوقوع بهم, أوحى الله إلـيهم بإهلاك من كفر بهم من أمـمهم ووعدهم النصر. وكلّ ذلك كان من الله وعيدا وتهديدا لـمشركي قوم نبـينا مـحمد صلى الله عليه وسلم علـى كفرهم به وجراءتهم علـى نبـيه, وتثبـيتا لـمـحمد صلى الله عليه وسلم وأمرا له بـالصبر علـى ما لقـي من الـمكروه فـيه من مشركي قومه, كما صبر من كان قبله من أولـي العز من رسله, ومعرّفَهُ أن عاقبة أمر من كفر به الهلاك وعاقبته النصر علـيهم, سُنّةَ اللّهِ فـي الّذِينَ خَـلَوْا مِنْ قَبْلُ.
15661ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيدُ, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: وَلَنُسْكنَنّكُمْ الأرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ قال: وعدهم النصر فـي الدنـيا, والـجنة فـي الاَخرة.
وقوله: ذلكَ لِـمَنْ خافَ مَقامي وَخافَ وَعِيدِ يقول جلّ ثناؤه: هكذا فِعْلـى لـمن خاف مقامه بـين يديّ, وخاف وعيدي فـاتقانـي بطاعته وتـجنب سخطي, أنصره علـى من أراد به سوءا وبغاه مكروها من أعدائي, أُهلك عدوّه وأخزيه وأورثه أرضه ودياره. وقال: لِـمَنْ خافَ مَقامي ومعناه ما قلت من أنه لـمن خاف مقامه بـين يديّ بحيث أقـيـمه هنالك للـحساب, كمَا قال: وَتَـجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أنّكُمْ تُكَذّبُونَ معناه: وتـجعلون رزقـي إياكم أنكم تكذبون, وذلك أن العرب تضيف أفعالها إلـى أنفسها, وإلـى ما أوقعت علـيه, فتقول: قد سررت برؤيتك وبرؤيتـي إياك, فكذلك ذلك.)

القول فـي تأويـل قوله تعالـى:{وَاسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلّ جَبّارٍ عَنِيدٍ }.
يقول تعالـى ذكره: واستفتـحت الرسل علـى قومها: أي استنصرت الله علـيها. وَخابَ كُلّ جَبّـارٍ عَنـيدٍ يقول: هلك كل متكبر جائر حائد عن الإقرار بتوحيد الله وإخلاص العبـادة له. والعنـيد والعاند والعنود بـمعنى واحد, ومن الـجبـار تقول: هو جبـار بـيّن الـجَبَرِية والـجَبَروتـية والـجَبْرُوّة والـجَبَرُوت.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
15662ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: وَاسْتَفْتَـحُوا قال: الرسل كلها, يقول: استنصروا علـى أعدائهم ومعانديهم: أي علـى من عاند عن اتبـاع الـحقّ وتـجنبه.
حدثنا الـحسن بن مـحمد, قال: حدثنا شبـابة, قال: حدثنا ورقاء, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, «ح» وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, فـي قوله: وَاسْتَفْتَـحُوا قال: الرسل كلها استنصروا. وَخابَ كُلّ جَبّـارٍ عَنِـيدٍ قال: معاند للـحقّ مـجانبه.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد, مثله.
وقال ابن جريج: استفتـحوا علـى قومهم.
15663ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس: وَاسْتَفْتَـحُوا وَخابَ كُلّ جَبّـارٍ عَنِـيدٍ قال: كانت الرسل والـمؤمنون يستضعفهم قومهم, ويَقْهَرونهم, ويكذّبونهم, ويدعونهم إلـى أن يعودوا فـي ملّتِهم, فأبى الله عزّ وجلّ لرسله وللـمؤمنـين أن يعودوا فـي ملّة الكفر, وأمرهم أن يتوكّلوا علـى الله, وأمرهم أن يستفتـحوا علـى الـجبـابرة, ووعدهم أن يسكنهم الأرض من بعدهم, فأنـجز الله لهم ما وعدهم, واستفتـحوا كما أمرهم أن يستفتـحوا. وَخابَ كُلّ جَبـارٍ عَنِـيدٍ.
15664ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا الـحجاج بن الـمنهال, قال: حدثنا أبو عوانة, عن الـمغيرة, عن إبراهيـم, فـي قوله: وَخابَ كُلّ جَبّـارٍ عَنِـيدٍ قال: هو الناكب عن الـحقّ أي الـحائد عن اتبـاع طريق الـحقّ.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا مطرف, عن بشر, عن هشيـم, عن مغيرة, عن سماك, عن إبراهيـم: وَخابَ كُلّ جَبّـارٍ عَنِـيدٍ قال: الناكب عن الـحقّ.
15665ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيدُ, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَاسْتَفْتَـحُوا يقول: استنصرت الرسل علـى قومها, قوله: وَخابَ كُلّ جَبّـارٍ عَنِـيدٍ والـجبـار العنـيد: الذي أبى أن يقول: لا إله إلا الله.
حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى, قال: حدثنا مـحمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: وَاسْتَفْتَـحُوا قال: استنصرت الرسل علـى قومها. وَخابَ كُلّ جَبّـارٍ عَنِـيدٍ يقول: بعيد عن الـحقّ مُعرض عنه.
حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, مثله, وزاد فـيه: معرض عنه, أبى أن يقول: لا إله إلا الله.
15666ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: وَخابَ كُلّ جَبّـارٍ عَنِـيدٍ قال: العنـيد عن الـحقّ الذي يعند عن الطريق, قال: والعرب تقول: شرّ الإبل العنـيد الذي يخرج عن الطريق.
15667ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: وَاسْتَفْتَـحُوا وَخابَ كُلّ جَبّـارٍ عَنِـيدٍ قال: الـجبـار: هو الـمتـجبر.
وكان ابن زيد يقول فـي معنى قوله: وَاسْتَفْتَـحُوا خلاف قول هؤلاء, ويقول: إنـما استفتـحت الأمـم, فأجيبت.
15668ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: وَاسْتَفْتَـحُوا قال: استفتاحهم بـالبلاء, قالوا: اللهمّ إن كان هذا الذي أتـى به مـحمد هو الـحق من عندك فأمطر علـينا حجارة من السماء كما أمطرتها علـى قوم لوط, أو ائتنا بعذاب ألـيـم قال: كان استفتاحهم بـالبلاء كما استفتـح قوم هود. ائْتِنا بِـمَا تَعِدُنا إنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِـينَ قال: فـالاستفتاح: العذاب. قال: قـيـل لهم: إن لهذا أجلاً, حين سألوا الله أن ينزل علـيهم, فقال: بل نؤخرهم لـيوم تشخص فـيه الأبصار, فقالوا: لا نريد أن نؤخر إلـى يوم القـيامة رَبّنا عَجّلْ لنَا قِطّنَا عذابنا قَبْلَ يَوْمِ الـحِسَابِ. وقرأ: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بـالعَذَابِ وَلَوْلا أجَلٌ مُسَمّى لَـجاءَهُمُ العَذَابُ حتـى بلغ: وَمِنْ تَـحْتِ أرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُـمْ تَعْمَلُونَ.
الآية : 16-17
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:{مّن وَرَآئِهِ جَهَنّمُ وَيُسْقَىَ مِن مّآءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ }.
يقول عزّ ذكره: مِنْ وَرَائِهِ من أمام كلّ جبـار جَهَنّـمُ يردونها. ووراء فـي هذا الـموضع: يعنـي أمام, كما يقال: إن الـموت من ورائك: أي قدامك, وكما قال الشاعر:
أتُوعِدُنـي وَرَاءَ بَنِـي رِياحٍكَذَبْتَ لَتَقْصُرّنّ يَداكَ دُونِـي
يعنـي وراء بنـي رياح: قدّام بنـي رياح وأمامهم.
وكان بعض نـحويـيّ أهل البصرة يقول: إنـما يعنـي بقوله: مِنْ وَرَائِهِ أي من أمامه, لأنه وراء ما هو فـيه, كما يقول لك: وكلّ هذا من ورائك: أي سيأتـي علـيك, وهو من وراء ما أنت فـيه قد كان قبل ذلك وهو من ورائه. وقال: وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يأْخُذُ كُلّ سَفِـينَةٍ غَصْبـا من هذا الـمعنى: أي كان وراءَ ما هم فـي أمامَهم. وكان بعض نـحويّـي أهل الكوفة يقول: أكثر ما يجوز هذا فـي الأوقات, لأن الوقت يـمرّ علـيك فـيصير خـلفك إذا جُزته, وكذلك كان وراءهم ملك, لأنهم يجوزونه فـيصير وراءهم. وكان بعضهم يقول: هو من حروف الأضداد, يعنـي وراء يكون قداما وخـلفـا.
وقوله: وَيُسْقَـى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ يقول: ويُسقـى من ماء, ثم بـين ذلك الـماء جلّ ثناؤه وما هو, فقال: هو صديد ولذلك ردّ الصديد فـي إعرابه علـى الـماء, لأنه بـيان عنه, والصديد: هو القـيح والدم. وكذلك تأوّله أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
15669ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن قال: حدثنا ورقاء «ح» وحدثنا الـحسن بن مـحمد, قال: حدثنا شبـابة, قال: حدثنا ورقاء, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, فـي قوله: مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ قال: قـيح ودم.
حدثنا الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
15670ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَيُسْقَـى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ والصديد: ما يسيـل من دمه ولـحمه وجلده.
حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, فـي قوله: وَيُسْقَـى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ قال: ما يسيـل من بـين لـحمه وجلده.
15671ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا هشام, عمن ذكره, عن الضحاك: وَيُسْقَـى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ قال: يعنـي بـالصديد: ما يخرج من جوف الكافر قد خالط القـيْحَ والدم.
وقوله: يَتَـجَرّعُهُ يتـحسّاه, وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ يقول: ولا يكاد يزدرده من شدّة كراهته, وهو يسيغه من شدّة العطش. والعرب تـجعل «لا يكاد» فـيـما قد فُعِل, وفـيـما لـم يفعل. فأما ما قد فعل فمنه هذا, لأن الله جلّ ثناؤه جعل لهم ذلك شرابـا وأما ما لـم يُفْعل وقد دخـلت فـيه «كاد» فقوله: حتـى إذَا أخرْجَ يَدَهُ لَـمْ يَكَدْ يَرَاها فهو لا يراها.
وبنـحو ما قلنا من أن معنى قوله: وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وهو يسيغه, جاء الـخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ذكر الرواية بذلك:
15672ـ حدثنـي مـحمد بن الـمثنى, قال: حدثنا إبراهيـم أبو إسحاق الطالَقانـيّ, قال: حدثنا ابن الـمبـارك, عن صفوان بن عمرو, عن عبـيد الله بن بسر, عن أبـي أمامة, عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم فـي قوله: وَيُسْقَـى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ يَتَـجَرّعُهُ: «فإذَا شَرِبَهُ قَطّعَ أمْعاءَهُ حتـى يَخْرُجَ مِنْ دُبُرِهِ» يقول الله عزّ وجلّ: وَسَقُوا ماءً حَمِيـما فَقَطّعَ أمْعاءَهُمْ, ويقول: وَإنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِـمَاءٍ كالـمُهْلِ يَشْوِي الوُجُوهَ بِئْسَ الشّرَابُ.
حدثنا ابن الـمثنى, قال: حدثنا معمر, عن ابن الـمبـارك, قال: حدثنا صفوان بن عمرو, عن عبـيد الله بن بُسْر, عن أبـي أمامة, عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم, فـي قوله: وَيُسْقَـى مِنْ ماءِ صَدِيدٍ فذكر مثله, إلا أنه قال سُقُوا ماءَ حَمِيـما.
حدثنـي مـحمد بن خـلف العَسْقلانـي, قال: حدثنا حَيْوة بن شُرَيْحِ الـحِمْصِيّ, قال: حدثنا بقـية, عن صفوان ابن عمرو, قال: ثنـي عبـيد الله بن بسر, عن أبـي أمامة, عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم مثله سواء.
وقوله: وَيأْتِـيهِ الـمَوْتُ مِنْ كُلّ مَكانٍ وَما هُوَ بِـمَيّت فإنه يقول: ويأتـيه الـموت من بـين يديه ومن خـلفه, وعن يـمينه وشماله, ومن كلّ موضع من أعضاء جسده. وَما هُوَ بِـمَيّتِ لأنه لا تـخرج نَفْسه فـيـموت فـيستريح, ولايحيا لتعلق نفسه بـالـحناجر, فلا ترجع إلـى مكانها. كما:
15673ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن ماهد, فـي قوله: يَتَـجَرّعُهُ وَلا يَكادُ يُسيغُهُ وَيَأَتِـيهِ الـمَوْتُ مِنْ كُلّ مَكانٍ وَما هُوَ بِـمَيّتٍ قال: تعلق نفسه عند حنـجرته, فلا تـخرج من فـيه فـيـموت ولا ترجع إلـى مكانها من جوفه فـيجد لذلك راحة فتنفعه الـحياة.
15674ـ حدثنا الـحسن بن مـحمد, قال: حدثنا يزيد بن هارون, قال: حدثنا العوّام بن حوشب, عن إبراهيـم التـيـميّ قوله: وَيأْتِـيهِ الـمَوْتُ مِنْ كُلّ مَكانٍ قال: من تـحت كلّ شعرة فـي جسده. وقوله: وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلـيظٌ يقول: ومن وراء ما هو فـيه من العذاب, يعنـي أمامَه وقدامَه عذاب غلـيظ.
الآية : 18
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{مّثَلُ الّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدّتْ بِهِ الرّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاّ يَقْدِرُونَ مِمّا كَسَبُواْ عَلَىَ شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضّلاَلُ الْبَعِيدُ }.
( شا اختلف أهل العربـية فـي رافع مَثَلُ, فقال بعض نـحويّـي البصرة: إنـما هو كأنه قال: ومـما نقصّ علـيك مَثَلُ الّذِينَ كَفَرُوا, ثم أقبل يفسر كما قال: مَثَلُ الـجَنّة, وهذا كثـير. وقال بعض نـحوّيـي الكوفـيـين: إنـما الـمَثَل للأعمال, ولكن العرب تُقَدّم الأسماء لأنها أعرف, ثم تأتـي بـالـخبر الذي تـخبر عنه مع صاحبه. معنى الكلام: مثل أعمال الذين كفروا بربهم كرَماد, كما قـيـل: وَيَوْمَ القِـيامَةِ تَرى الّذِين كَذَبُوا علـى اللّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدّةٌ ومعنى الكلام: ترى ويوم القـيامة وجوه الذين كذبوا علـى الله مسودّة. قال: ولو خفض الأعمال جاز, كما قال: يَسْألُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الـحَرَامِ قِتالٍ فِـيهِ... الاَية. وقوله: مَثَلُ الـجَنّةِ التـي وُعِدَ الـمُتّقُونَ تَـجْرِفي مِنْ تَـحْتِها الأنهارُ قال: فتـجري هو فـي موضع الـخبر, كأنه قال: أن تـجريَ, وأن يكون كذا وكذا, فلو أدخـل «أن» جاز, قال: ومنه قول الشاعر:
ذَرِينـي إنّ أمْرَكِ لَنْ يُطاعاوَما ألْفَـيْتِنـي حِلْـمِي مُضَاعَا
قال: فـالـحلـم منصور ب «ألفـيت» علـى التكرير, قال: ولو رفعه كان صوابـا. قال: وهذا مثَل ضربه الله لأعمال الكفّـار, فقال: مثل أعمال الذين كفروا يوم القـيامة التـي كانوا يعملونها فـي الدنـيا يزعمون أنهم يريدون الله بها, مثل رماد عصفت الريح علـيه فـي يوم ريح عاصف, فنسفته وذهبت به, فكذلك أعمال أهل الكفر به يوم القـيامة, لا يجدون منها شيئا ينفعهم عند الله فـينـجيهم من عذابه, لأنهم لـم يكونوا يعملونها لله خالصا, بل كانوا يشركون فـيها الأوثان والأصنام, يقول الله عزّ وجلّ: ذلكَ هُوَ الضّلالُ البَعِيدُ يعنـي أعمالهم التـي كانوا يعملونها فـي الدنـيا التـي يشركون فـيها مع الله شركاء, هي أعمال عُملت علـى غير هدى واستقامة, بل علـى جَوْر عن الهدى بعيد, وأخذ علـى غير استقامة شديد. وقـيـل: فِـي يَوْمٍ عاصِفٍ فوُصف بـالعُصوف, وهو من صفة الريح, لأن الريح تكون فـيه كما يقال: يوم بـارد, ويوم حارّ, لأن البرد والـحرارة يكونان فـيه وكما قال الشاعر:
ثديك سنة وجه غير مقرفةملساء لـيس بها خال ولا ندب
وقوله: ذلكَ هُوَ الضّلالُ البَعيدُ: أي الـخطأ البـين البعيد عن طريق الـحقّ.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحقّ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللّهِ بِعَزِيزٍ }.
يقول عزّ ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: ألـم تر يا مـحمد بعين قلبك, فتعلـم أن الله أنشأ السموات والأرض بـالـحقّ منفردا بـانشائها بغير ظهير ولا معين. إنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيأْتِ بِخَـلْقٍ جَدِيدٍ يقول: إن الذي تفرّد بخـلق ذلك وإنشائه من غير معين ولا شريك, إن هو شاء أن يُذْهَبكم فـيفنـيَكم أذهبكم وأفناكم, ويأت بخـلق آخر سواكم مكانكم, فـيجدّد خـلقهم. وَما ذلكَ علـى اللّهِ بِعَزِيزٍ يقول: وما إذهابكم وإفناؤهم وإنشاء خـلق آخر سواكم مكانكم علـى الله بـمـمتنع ولا متعذّر, لأنه القادر علـى ما يشاء.
واختلفت القرّاء فـي قراءة قوله: ألَـمْ تَرَ أنّ اللّهَ خَـلَقَ فقرأ ذلك عامّة قرّاء أهل الـمدينة والبصرة وبعض الكوفـيـين: «خَـلَق» علـى «فعَل». وقرأته عامّة قرّاء أهل الكوفة «خالق» علـى «فـاعل», وهما قراءتان مستفـيضتان قد قرأ بكل واحدة منهما أئمة من القرّاء متقاربتا الـمعنى, فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب