تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 287 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 287

286

50- " قل كونوا حجارة أو حديدا * أو خلقا " آخر " مما يكبر في صدوركم " قال ابن جرير: معناه إن عجبتم من إنشاء الله لكم عظاماً ولحماً فكونوا أنتم حجارة أو حديداً إن قدرتم على ذلك، وقال علي بن عيسى: معناه إنكم لو كنتم حجارة أو حديداً لأعادكم كما بدأكم ولأماتكم ثم أحياكم. قال النحاس: وهذا قول حسن، لأنهم لا يستطيعون أن يكونوا حجارة أو حديداً، وإنما المعنى أنهم قد أقروا بخالقهم وأنكروا البعث، فقيل لهم استشعروا أن تكونوا ما شئتم، فلو كنتم حجارة أو حديداً لبعثتم كما خلقتم أول مرة. قلت: وعلى هذا الوجه قررنا جواب الشبهة قبل هذا.
51- "أو خلقاً مما يكبر في صدوركم" أي يعظم عندكم مما هو أكبر من الحجارة والحديد مباينة للحياة فإنكم مبعوثون لا محالة، وقيل المراد به السموات والأرض والجبال لعظمها في النفوس. وقال جماعة من العلماء والتابعين: المراد به الموت، لأنه ليس شيء أكبر في نفس ابن آدم منه. والمعنى: لو كنتم الموت لأماتكم الله ثم بعثكم، ولا يخفى ما في هذا من البعد، فإن معنى الآية الترقي من الحجارة إلى الحديد، ثم من الحديد إلى ما هو أكبر في صدور القوم منه، والموت نفسه ليس بشيء يعقلويحس حتى يقع الترقي من الحديد إليه "فسيقولون من يعيدنا" إذا كنا عظاماً ورفاتاً، أو حجارة أو حديداً مع ما بين الحالتين من التفاوت "قل الذي فطركم أول مرة" أي يعيدكم الذي خلقكم واخترعكم عند ابتداء خلقكم من غير مثال سابق ولا صورة متقدمة "فسينغضون إليك رؤوسهم" أي يحركونها استهزاءً، يقال نغض رأسه ينغض وينغض وينغض نغضاً ونغوضاً: أي تحرك، وأنغض رأسه حركه كالمتعجب، ومنه قول الراجز: أنغض نحوي رأسه وأقنعا وقول الراجز الآخر: ونغضت من هرم أسنانها وقال آخر: لما رأتني أنغضت لي رأسها "ويقولون متى هو" أي البعث والإعادة استهزاءً منهم وسخرية "قل عسى أن يكون قريباً" أي هو قريب، لأن عسى في كلام الله واجب الوقوع، ومثله "وما يدريك لعل الساعة تكون قريباً" وكل ما هو آت قريب.
52- "يوم يدعوكم" الظرف منتصب بفعل مضمر: أي اذكر، أو بدل من قريباً، أو التقدير: يوم يدعوكم كان ما كان، الدعاء النداء إلى المحشر بكلام يسمعه الخلائق، وقيل هو الصيحة التي تسمعونها، فتكون داعية لهم إلى الاجتماع في أرض المحشر "فتستجيبون بحمده" أي منقادين له حامدين لما فعله بكم فهو في محل نصب على الحال. وقيل المعنى: فتستجيبون والحمد لله كما قال الشاعر: وإني بحمد الله لا ثوب فاخر لبست ولا من غدرة أتقنع وقد روي أن الكفار عند خروجهم من قبورهم يقولون: سبحانك وبحمدك، وقيل المراد بالدعاء هنا البعث وبالاستجابة أنهم يبعثون، فالمعنى: يوم يبعثكم فتبعثون منقادين "وتظنون إن لبثتم إلا قليلا" أي تظنون عند البعث أنكم ما لبثتم في قبوركم إلا زمناً قليلاً، وقيل بين النفختين، وذلك أن العذاب يكف عن المعذبين بين النفختين، وذلك أربعون عاماً ينامون فيها، فلذلك " قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا "، وقيل إن الدنيا تحقرت في أعينهم وقلت حين رأوا يوم القيامة، فقالوا هذه المقالة.
53- "وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن" أي قل يا محمد لعبادي المؤمنين إنهم يقولون عند محاورتهم للمشركين الكلمة التي هي أحسن من غيرها من الكلام الحسن كقوله سبحانه: "ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن" وقوله: "فقولا له قولاً ليناً" لأن المخاشنة لهم ربما تنفرهم عن الإجابة أو تؤدي إلى ما قال سبحانه "ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم" وهذا كان قبل نزول آية السيف، وقيل المعنى: قل لهم يأمروا بما أمر الله وينهوا عما نهى عنه، وقيل هذه الآية للمؤمنين فيما بينهم خاصة، والأول أولى كما يشهد به السبب الذي سنذكره إن شاء الله "إن الشيطان ينزغ بينهم" أي بالفساد وإلقاء العداوة والإغراء. قال اليزيدي: يقال نزغ بيننا: أي أفسد. وقال غيره: النزغ الإغراء "إن الشيطان كان للإنسان عدواً مبيناً" أي متظاهراً بالعداوة مكاشفاً بها، وهو تعليل لما قبله، وقد تقدم مثل هذا في البقرة.
54- "ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم" قيل هذا خطاب للمشركين. والمعنى: إن يشأ يوفقكم للإسلام فيرحمكم أو يميتكم عن الشرك فيعذبكم، وقيل هو خطاب للمؤمنين: أي إن يشأ يرحمكم بأن يحفظكم من الكفار أو إن يشأ يعذبكم بتسليطهم عليكم، وقيل إن هذا تفسير للكلمة التي هي أحسن "وما أرسلناك عليهم وكيلاً" أي ما وكلناك في منعهم من الكفر، وقسرهم على الإيمان، وقيل: ما جعلناك كفيلاً لهم تؤخذ بهم، ومنه قول الشاعر: ذكرت أبا أروى فبت كأنني برد الأمور الماضيات وكيل أي كفيل.
55- "وربك أعلم بمن في السموات والأرض" أعلم بهم ذاتاً وحالاً واستحقاقاً، وهو أعم من قوله: "ربكم أعلم بكم" لأن هذا يشمل كل ما في السموات والأرض من مخلوقاته، وذاك خاص ببني آدم أو ببعضهم، وهذا كالتوطئة لقوله: "ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض" أي أن هذا التفضيل عن علم منه بمن هو أعلى رتبة وبمن دونه، وبمن يستحق مزيد الخصوصية بتكثير فضائلة وفواضله. وقد تقدم هذا في البقرة. وقد اتخذ الله إبراهيم خليلاً، وموسى كليماً، وجعل عيسى كلمته وروحه، وجعل لسليمان ملكاً عظيماً، وغفر لمحمد ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وجعله سيد ولد آدم. وفي هذه الآية دفع لما كان ينكره الكفار مما يحكيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من ارتفاع درجته عند ربه عز وجل، ثم ذكر ما فضل به داود، فقال: "وآتينا داود زبوراً" أي كتاباً مزبوراً. قال الزجاج: أي فلا تنكروا تفضيل محمد وإعطاءه القرآن فقد أعطى الله داود زبوراً. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ورفاتاً" قال: غباراً. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "ورفاتاً" قال: تراباً، وفي قوله: "قل كونوا حجارة أو حديداً" قال: ما شئتم فكونوا، فسيعيدكم الله كما كنتم. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عمر في قوله: " أو خلقا مما يكبر في صدوركم " قال: الموت، لو كنتم موتاً لأحييتكم. وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن جرير والحاكم عن ابن عباس مثله. وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن الحسن مثله أيضاً. وأخرج عبد الله بن أحمد وابن جرير وابن المنذر عن سعيد بن جبير نحوه، وزاد قال فكونوا الموت إن استطعتم فإن الموت سيموت. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "فسينغضون إليك رؤوسهم" قال: سيحركونها استهزاءً. وأخرج ابن المنذر عن مجاهد في قوله: "ويقولون متى هو" قال: الإعادة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: "فتستجيبون بحمده" قال: بأمره. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في الآية قال: يخرجون من قبورهم وهم يقولون: سبحانك اللهم وبحمدك. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة "فتستجيبون بحمده" قال: بمعرفته وطاعته "وتظنون إن لبثتم إلا قليلا" أي في الدنيا تحاقرت الدنيا في أنفسهم، وقلت حين عاينوا يوم القيامة. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن سيرين في قوله: "وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن" قال: لا إله إلا الله. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في الآية قال: يعفو عن السيئة. وأخرج ابن جرير عن الحسن قال: يقول له يرحمك الله يغفر الله لك. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة قال: نزغ الشيطان تحريشه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "وآتينا داود زبوراً" قال: كنا نحدث أنه دعاء علمه داود وتحميد وتمجيد لله عز وجل ليس فيه حلال ولا حرام ولا فرائض ولا حدود وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس قال: الزبور ثناء على الله ودعاء وتسبيح. قلت: الأمر كما قاله قتادة والربيع فإنا وقفنا على الزبور فوجدناه خطباً يخطبها داود عليه السلام ويخاطب بها ربه سبحانه عند دخوله الكنيسة وجملته مائة وخمسون خطبة كل خطبة تسمى مزموراً بفتح الميم الأولى وسكون الزاي وضم الميم الثانية وآخره راء، ففي بعض هذه الخطب يشكو داود إلى ربه من أعدائه ويستنصره عليهم، وفي بعضها يحمد الله ويمجده ويثني عليه بسبب ما وقع من النصر عليهم والغلبة لهم، وكان عند الخطبة يضرب بالقيثارة، وهي آلة من آلات الملاهي. وقد ذكر السيوطي في الدر المنثور ها هنا روايات عن جماعة من السلف يذكرون ألفاظاً وقفوا عليها في الزبور ليس لها كثير فائدة، فقد أغنى عنها وعن غيرها ما اشتمل عليه القرآن من المواعظ والزواجر.
قوله: 56- "قل ادعوا الذين زعمتم من دونه" هذا رد على طائفة من المشركين كانوا يعبدون تماثيل على أنها صور الملائكة، وعلى طائفة من أهل الكتاب كانوا يقولون بإلهية عيسى ومريم وعزير، فأمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم: ادعوا الذين زعمتم أنهم آلهة من دون الله، وقيل أراد بالذين زعمتم نفراً من الجن عندهم ناس من العرب، وإنما خصصت الآية بمن ذكرنا لقوله: "يبتغون إلى ربهم الوسيلة"، فإن هذا لا يليق بالجمادات "فلا يملكون كشف الضر عنكم" أي لا يستطيعون ذلك، والمعبود الحق هو الذي يقدر على كشف الضر، وعلى تحويله من حال إلى حال، ومن مكان إلى مكان، فوجب القطع بأن هذه التي تزعمونها آلهة ليست بآلهة.
ثم إنه سبحانه أكد عدم اقتدارهم ببيان غاية افتقارهم إلى الله في جلب المنافع ودفع المضار، فقال: 57- "أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة" فأولئك مبتدأ والذين يدعون صفته، وضمير الصلة محذوف: أي يدعونهم وخبر المبتدأ يبتغون إلى ربهم الوسيلة، ويجوز أن يكون الذين يدعون خبر المبتدأ: أي الذين يدعون عباده إلى عبادتهم، ويكون يبتغون في محل نصب على الحال. وقرأ ابن مسعود تدعون بالفوقية على الخطاب. وقرأ الباقون بالتحتية على الخبر، ولا خلاف في يبتغون أنه بالتحتية والوسيلة القربة بالطاعة والعبادة: أي يتضرعون إلى الله في طلب ما يقربهم إلى ربهم، والضمير في ربهم يعود إلى العابدين أو المعبودين "أيهم أقرب" مبتدأ وخبر. قال الزجاج: المعنى أيهم أقرب بالوسيلة إلى الله: أي يتقرب إليه بالعمل الصالح، ويجوز أن يكون بدلاً من الضمير في "يبتغون": أي يبتغي من هو أقرب إليه تعالى الوسيلة، فكيف بمن دونه؟ وقيل إن يبتغون مضمن معنى يحرصون أي يحرصون أيهم أقرب غليه سبحانه بالطاعة والعبادة "ويرجون رحمته" كما يرجوها غيرهم "ويخافون عذابه" كما يخافه غيرهم "إن عذاب ربك كان محذوراً" تعليل لقوله "يخافون عذابه": أي إن عذابه سبحانه حقيق بأن يحذره العباد من الملائكة والأنبياء وغيرهم.
ثم بين سبحانه مآل الدنيا وأهلها فقال: 58- "وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة" إن نافية، ومن للاستغراق: أي ما من قرية. أي قرية كانت من قرى الكفار. قال الزجاج: أي ما من أهل قرية إلا سيهلكون إما بموت وإما بعذاب يستأصلهم، فالمراد بالقرية أهلها، وإنما قيل قبل يوم القيامة لأن الإهلاك يوم القيامة غير مختص بالقرى الكافرة، بل يعم كل قرية لانقضاء عمر الدنيا، وقيل الإهلاك للصالحة والتعذيب للطالحة، والأول أولى لقوله: "وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون" "كان ذلك" المذكور من الإهلاك، والتعذيب "في الكتاب" أي اللوح المحفوظ "مسطوراً" أي مكتوباً، والسطر الخط وهو في الأصل مصدر، والسطر بالتحريك مثله. قال جرير: من شاء بايعته مالي وخلفته ما تكمل التيم في ديوانها سطرا والخلفة بضم الخاء خيار المال، والسطر جمع أسطار، وجمع السطر بالسكون أسطر.