تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 290 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 290

289

76- "وإن كادوا ليستفزونك" الكلام في هذا كالكلام في "وإن كادوا ليفتنونك": أي وإن الشأن أنهم قاربوا أن يزعجوك من أرض مكة لتخرج عنها، ولكنه لم يقع ذلك منهم، بل منعهم الله منه حتى هاجر بأمر ربه وبعد أن هموا به، وقيل إنه أطلق الإخراج على إرادة الإخراج تجويزا " وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا " معطوف على "ليستفزونك": أي لا يبقون بعد إخراجك إلا زمناً قليلاً. ثم عوقبوا عقوبة تستأصلهم جميعاً. وقرأ عطاء بن أبي رباح لا يلبثوا بتشديد الباء الموحدة. وقرئ لا يلبثوا بالنصب على إعمال إذن على أن الجملة معطوف على جملة "وإن كادوا" لا على الخبر فقط. وقرأ نافع وابن كثير وأبو بكر وأبو عمرو "خلفك" ومعناه بعدك. وقرأ ابن عامر وحفص وحمزة والكسائي خلافك ومعناه أيضاً بعدك. وقال ابن الأنباري: خلافك بمعنى مخالفتك، واختار أبو حاتم القراءة الثانية لقوله: "فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله" ومما يدل على أن خلاف بمعنى بعد قول الشاعر: عفت الديار خلافها فكأنما بسط الشواطب بينهن حصيرا يقال شطبت المرأة الجريد إذا شققته لتعمل منه الحصير. قال أبو عبيدة: ثم تلقيه الشاطبة إلى المثقبة.
77- "سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا" سنة منتصبة على المصدرية: أي سن الله سنة. وقال الفراء: أي يعذبون كسنة من قد أرسلنا فلما سقط الخافض عمل الفعل. وقيل المعنى: سنتنا سنة من قد أرسلنا. قال الزجاج: يقول إن سنتنا هذه السنة فيمن أرسلنا قبلك إليهم أنهم إذا أخرجوا نبيهم من بين أظهرهم أو قتلوه أن ينزل العذاب بهم "ولا تجد لسنتنا تحويلاً" أي ما أجرى الله به العادة لم يتمكن أحد من تحويله ولا يقدر على تغييره. وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "يوم ندعوا كل أناس بإمامهم" قال: إمام هدى وإمام ضلالة. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والخطيب في تاريخه عن أنس في الآية قال: نبيهم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن مجاهد مثله. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية قال: بكتاب أعمالهم. وأخرج ابن مردويه عن علي في الآية قال: يدعى كل قوم بإمام زمانهم، وكتاب ربهم وسنة نبيهم. وأخرج الترمذي وحسنه والبزار وابن أبي حاتم وابن حبان والحاكم وصححه وابن مردويه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "يوم ندعوا كل أناس بإمامهم" قال "يدعى أحدهم فيعطى كتابه بيمينه ويمد له في جسمه ستين ذراعاً ويبيض وجهه، ويجعل على رأسه تاج من لؤلؤ يتلألأ، فينطلق إلى أصحابه فيرونه من بعيد فيقولون: اللهم ائتنا بهذا وبارك لنا في هذا، حتى يأتيهم فيقول: أبشروا لكل رجل منكم مثل هذا، وأما الكافر فيسود وجهه ويمد له في جسمه ستين ذراعاً على صورة آدم، ويلبس تاجاً فيراه أصحابه فيقولون: نعوذ بالله من شر هذا، اللهم لا تأتنا بهذا، قال: فيأتيهم فيقولون اللهم اخزه، فيقول أبعدكم الله، فإن لكل رجل منكم مثل هذا". قال البزار بعد إخراجه: لا يروى إلا من هذا الوجه. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس في قوله: "ومن كان في هذه أعمى" يقول من كان في الدنيا أعمى عما يرى من قدرتي من خلق السماء والأرض والجبال والبحار والناس والدواب وأشباه هذا "فهو" عما وصفت له "في الآخرة" ولم يره "أعمى وأضل سبيلاً" يقول أبعد حجة. وأخرج الفريابي وابن أبي حاتم من طريق عكرمة عنه نحو هذا. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه أيضاً يقول من عمي عن قدرة الله في الدنيا فهو في الآخرة أعمى. وأخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه أيضاً قال: "إن أمية بن خلف وأبا جهل بن هشام ورجالاً من قريش أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: تعال فتمسح آلهتنا وندخل معك في دينك، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتد عليه فراق قومه ويحب إسلامهم فرق لهم، فأنزل الله "وإن كادوا ليفتنونك" إلى قوله: "نصيراً"". وأخرج ابن مردويه من طريق الكلبي عن ياذان عن جابر بن عبد الله مثله. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلم الحجر، فقالوا لا ندعك تستلمه حتى تستلم بآلهتنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما علي لو فعلت والله يعلم مني خلافه؟ فأنزل الله "وإن كادوا ليفتنونك" الآية". وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن شهاب نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن جبير بن نفير "أن قريشاً أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا له: إن كنت أرسلت إلينا فاطرد الذين اتبعوك من سقاط الناس ومواليهم لنكون نحن أصحابك، فركن إليهم، فأوحى الله إليه "وإن كادوا ليفتنونك" الآية". وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي قال: أنزل الله "والنجم إذا هوى" فقرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية "أفرأيتم اللات والعزى" فألقى عليه الشيطان: تلك الغرانيق العلى، واين شفاعتهم لترتجي، فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم ما بقي من السورة وسجد، فأنزل الله "وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك" الآية، فما زال مهموماً مغموماً حتى أنزل الله "وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى" الآية. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس "أن ثقيفاً قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أجلنا سنة حتى يهدى لآلهتنا، فإذا قبضنا الذي يهدى للآلهة أحرزناه ثم أسلمنا وكسرنا الآلهة فهم أن يؤجلهم، فنزلت "وإن كادوا ليفتنونك" الآية". وأخرج ابن جرير عنه في قوله: "ضعف الحياة وضعف الممات" يعني ضعف عذاب الدنيا والآخرة. وأخرج البيهقي عن الحسن في الآية قال: هو عذاب القبر. وأخرج أيضاً عن عطاء مثله. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: قال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم كانت الأنبياء تسكن الشام، فمالك والمدينة؟ فهم أن يشخص، فأنزل الله "وإن كادوا ليستفزونك من الأرض" الآية. وأخرج ابن جرير عن حضرمي أنه بلغه أن بعض اليهود فذكر نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل وابن عساكر عن عبد الرحمن بن غنم أن اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا إن كنت نبياً فالحق بالشام فإن الشام أرض المحشر وأرض الأنبياء فصدق النبي صلى الله عليه وسلم ما قالوا فتحرى غزوة تبوك لا يريد إلا الشام، فلما بلغ تبوك أنزل الله عليه آيات من سورة بني إسرائيل بعد ما ختمت السورة "وإن كادوا ليستفزونك" إلى قوله: "تحويلاً" فأمره بالرجوع إلى المدينة، وقال فيها محياك وفيها مماتك ومنها تبعث، وقال له جبريل سل ربك فإن لكل نبي مسألة فقال ما تأمرني أن أسأل؟ قال: "قل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً" فهؤلاء نزلن عليه في رجعته من تبوك. قال ابن كثير: وفي هذا الإسناد نظر، والظاهر أنه ليس بصحيح فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يغز تبوك عن قول اليهود، وإنما غزاها امتثالاً لقوله: "قاتلوا الذين يلونكم من الكفار" وغزاها ليقتص وينتقم ممن قتل أهل مؤتة من أصحابه. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "وإن كادوا ليستفزونك من الأرض" قال هم أهل مكة بإخراج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة وقد فعلوا بعد ذلك فأهلكهم الله يوم بدر ولم يلبثوا بعده إلا قليلاً حتى أهلكهم الله يوم بدر، وكذلك كانت سنة الله في الرسل إذا فعل بهم قومهم مثل ذلك. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: " وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا " قال: يعني بالقليل يوم أخذهم ببدر، فكان ذلك هو القليل الذين لبثوا بعده.
لما ذكر سبحانه الإلهيات والمعاد والجزاء أردفها بذكر أشرف الطاعات، وهي الصلاة، فقال: 78- "أقم الصلاة لدلوك الشمس". وقد أجمع المفسرون على أن هذه الآية بها الصلوات المفروضة. وقد اختلف العلماء في الدلوك المذكور في هذه الآية على قولين: أحدهما أنه زوال الشمس عن كبد السماء قال عمر وابنه وأبو هريرة وأبو برزة وابن عباس والحسن والشعبي وعطاء ومجاهد وقتادة والضحاك وأبو جعفر الباقر، واختاره ابن جرير. والقول الثاني: أنه غروب الشمس قاله علي وابن مسعود وأبي بن كعب، وروي عن ابن عباس. قال الفراء: دلوك الشمس: من لدن زوالها إلى غروبها. قال الأزهري: ومعنى الدلوك في كلام العرب الزوال، ولذلك قيل للشمس إذا زالت نصف النهار دالكة، وقيل لها إذا أفلت دالكة، لأنها في الحالتين زائلة. قال: والقول عندي أنه زوالها نصف النهار لتكون الآية جامعة للصلوات الخمس، والمعنى: أقم الصلاة من وقت دلوك الشمس "إلى غسق الليل" فيدخل فيها الظهر والعصر وصلاتا غسق الليل، وهما العشاءان، ثم قال "وقرآن الفجر" هذه خمس صلوات. وقال أبو عبيد: دلوكها غروبها، ودلكت براح: يعني الشمس: أي غابت، وأنشد قطرب على هذا قول الشاعر: هذا مقام قدمي رباح دبت حتى دلكت براح اسم من أسماء الشمس على وزن حذام وقطام، ومن ذلك قول ذي الرمة: مصابيح ليست باللواتي تقودها نجوم ولا بالآفلات الدوالك أي الغوارب، وغسق الليل اجتماع الظلمة. قال الفراء والزجاج: يقال غسق الليل وأغسق: إذا أقبل بظلامه قال أبو عبيد: الغسق سواد الليل. قال قيس بن الرقيات: إن هذا الليل قد غسقا واستكنت الهم والأرقا وقيل غسق الليل: مغيب الشفق، ومنه قول زهير: ظلت تجود يداها وهي لاهية حتى إذا جعجع الإظلام والغسق وأصل الكلمة من السيلان يقال: غسقت إذا سالت. وحكى الفراء غسق الليل وأغسق، وظلم وأظلم، ودجى وأدجى وغبش وأغبش، وقد استدل بهذه الغاية أعني قوله: "إلى غسق الليل" من قال إن صلاة الظهر يتمادى وقتها من الزوال إلى الغروب، روي ذلك عن الأوزاعي وأبي حنيفة وجوزه مالك والشافعي في حال الضرورة، وقد وردت الأحاديث الصحيحة المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعيين أوقات الصلوات، فيجب حمل مجمل هذه الآية على ما بينته السنة فلا نطيل بذكر ذلك. قوله: "وقرآن الفجر" انتصاب قرآن لكونه معطوفاً على الصلاة: أي وأقم قرآن الفجر، قاله الفراء. وقال الزجاج والبصريون: انتصابه على الإغراء: أي فعليك قرآن الفجر. قال المفسرون: المراد بقرآن الفجر صلاة الصبح. قال الزجاج: وفي هذه فائدة عظيمة تدل على أن الصلاة لا تكون إلا بقراءة حتى سميت الصلاة قرآناً، وقد دلت الأحاديث الصحيحة على أنه لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب، وفي بعض الأحاديث الخارجة من مخرج حسن وقرآن معها، وورد ما يدل على وجوب الفاتحة في كل ركعة، وقد حررته في مؤلفاتي تحريراً مجوداً، ثم علل سبحانه ذلك بقوله: "إن قرآن الفجر كان مشهوداً" أي تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار كما ورد ذلك في الحديث الصحيح، وبذلك قال جمهور المفسرين.
79- "ومن الليل فتهجد به نافلة لك" من للتبعيض، وانتصابه على الظرفية بمضمر: أي قم بعض الليل فتهجد به، والضمير المجرور راجع إلى القرآن وما قيل من أنه منتصب على الإغراء، والتقدير عليك بعض الليل فبعيد جداً، والتهجد مأخوذ من الهجود. قال أبو عبيدة وابن الأعرابي: هو من الأضداد، لأنه يقال هجد الرجل: إذا نام، وهجد إذا سهر فمن استعماله في السهر قول الشاعر: ألا زارت وأهل منى هجود فليت خيالها بمنى يعود يعني منتبهين، ومن استعماله في النوم قول آخر: ألا طرقتنا والرفاق هجود فباتت بعلات النوال تجود يعني نياماً. وقال الأزهري: الهجود في الأصل هو النوم بالليل، ولكن جاء التفعل فيه لأجل التجنب ومنه تأثم وتحرج: أي تجنب الإثم والحرج، فالمتهجد من تجنب الهجود، فقام بالليل. وروي عن الأزهري أيضاً أنه قال: المتهجد القائم إلى الصلاة من النوم هكذا حكى عنه الواحدي، فقيد التهجد بالقيام من النوم، وهكذا قال مجاهد وعلقمة والأسود فقالوا: التهجد بعد النوم. قال الليث: تهجد إذا استيقظ للصلاة "نافلة لك" معنى النافلة في اللغة الزيادة على الأصل، فالمعنى أنها للنبي صلى الله عليه وسلم نافلة زائدة على الفرائض، والأمر بالتهجد وإن كان ظاهره الوجوب لكن التصريح بكونه نافلة قرينة صارفة للأمر، وقيل المراد بالنافلة هنا أنها فريضة زائدة على الفرائض الخمس في حقه صلى الله عليه وسلم، ويدفع ذلك التصريح بلفظ النافلة، وقيل كانت صلاة الليل فريضة في حقه صلى الله عليه وسلم، ثم نسخ الوجوب فصار قيام الليل تطوعاً، وعلى هذا يحمل ما ورد في الحديث أنها عليه فريضة، ولأمته تطوع. قال الواحدي: إن صلاة الليل كانت زيادة للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة لرفع الدرجات، لا للكفارات، لأنه غفر له من ذنبه ما تقدم وما تأخر، وليس لنا بنافلة لكثرة ذنوبنا إنما نعمل لكفارتها، قال: وهو قول جميع المفسرين. والحاصل أن الخطاب في هذه الآية وإن كان خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم في قوله "أقم الصلاة"، فالأمر له أمر لأمته، فهو شرع عام، ومن ذلك الترغيب في صلاة الليل، فإنه يعم جميع الأمة، والتصريح بكونه نافلة يدل على عدم الوجوب، فالتهجد من الليل مندوب إليه ومشروع لكل مكلف. ثم وعده سبحانه على إقامة الفرائض والنوافل فقال: "عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً" قد ذكرنا في مواضع أن عسى من الكريم إطماع واجب الوقوع، وانتصاب مقاماً على الظرفية بإضمار فعل، أو بتضمين البعث معنى الإقامة، ويجوز أن يكون انتصابه على الحال: أي يبعثك ذا مقام محمود، ومعنى كون المقام محموداً: أنه يحمده كل من علم به. وقد اختلف في تعيين هذا المقام على أقوال: الأول أنه المقام الذي يقومه النبي صلى الله عليه وسلم للشفاعة يوم القيامة للناس ليريحهم ربهم سبحانه مما هو فيه، وهذا القول هو الذي دلت عليه الأدلة الصحيحة في تفسير الآية، وحكاه ابن جرير عن أكثر أهل التأويل. قال الواحدي: وإجماع المفسرين على أن المقام المحمود هو مقام الشفاعة. القول الثاني: أن المقام المحمود إعطاء النبي صلى الله عليه وسلم لواء الحمد يوم القيامة. ويمكن أن يقال أن هذا لا ينافي القول الأول، إذ لا منافاة بين كونه قائماً مقام الشفاعة وبيده لواء الحمد. القول الثالث: أن المقام المحمود هو أن الله سبحانه يجلس محمداً صلى الله عليه وسلم معه على كرسيه، حكاه ابن جرير عن فرقة منهم مجاهد، وقد ورد في ذلك حديث. وحكى النقاش عن أبي داود السجستاني أنه قال: من أنكر هذا الحديث فهو عندنا متهم ما زال أهل العلم يتحدثون بهذا الحديث. قال ابن عبد البر: مجاهد وإن كان أحد الأئمة بالتأويل، فإن له قولين مهجورين عند أهل العلم: أحدهما هذا، والثاني في تأويل " وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة " قال: معناه تنتظر الثواب، وليس من النظر انتهى، وعلى كل حال فهذا القول غير مناف للقول الأول لإمكان أن يقعده الله سبحانه هذا المقعد ويشفع تلك الشفاعة. القول الرابع: أنه مطلق في كل مقام يجلب الحمد من أنواع الكرامات، ذكره صاحب الكشاف والمقتدون به في التفسير، ويجاب عنه بأن الأحاديث الصحيحة الواردة في تعيين هذا المقام المحمود متواترة، فالمصير إليها متعين، وليس في الآية عموم في اللفظ حتى يقال: الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ومعنى قوله وهو مطلق في كل ما يجلب الحمد أنه عام في كل ما هو كذلك، ولكنه يعبر عن العام بلفظ المطلق، كما ذكره في ذبح البقرة، ولهذا قال هنا. وقيل المراد الشفاعة، وهي نوع واحد مما يتناوله يعني لفظ المقام. والفرق بين العموم البدلي والعموم الشمولي معروف، فلا نطيل بذكره.
80- "وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق" قرأ الجمهور "مدخل صدق" و "مخرج صدق" بضم الميمين. وقرأ الحسن وأبو العالية ونصر بن عاصم بفتحهما، وهما مصدران بمعنى الإدخال والإخراج، والإضافة إلى الصدق لأجل المبالغة نحو حاتم الجود: أي إدخالاً يستأهل أن يسمى إدخالاً، ولا يرى فيه ما يكره. قال الواحدي: وإضافتهما إلى الصدق مدح لهما، وكل شيء أضفته إلى الصدق فهو مدح. وقد اختلف المفسرون في معنى الآية، فقيل نزلت حين أمر بالهجرة، يريد إدخال المدينة والإخراج من مكة واختاره ابن جرير، وقيل المعنى: أمتني إماتة صدق وابعثني يوم القيامة مبعث صدق، وقيل المعنى: أدخلني فيما أمرتني به، وأخرجني مما نهيتني عنه، وقيل إدخاله موضع الأمن وإخراجه من بين المشركين، وهو كالقول الأول، وقيل المراد إدخال عز وإخراج نصر، وقيل المعنى: أدخلني القبر عند الموت مدخل صدق، وأخرجني منه عند البعث مخرج صدق، وقيل أدخلني حيثما أدخلتني بالصدق وأخرجني بالصدق، وقيل الآية عامة في كل ما تتناوله من الأمور فهي دعاء، ومعناها رب أصلح لي وردي في كل الأمور وصدري عنها "واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً" أي حجة ظاهرة قاهرة تنصرني بها على جميع من خالفني، وقيل اجعل لي من لدنك ملكاً وعزاً قوياً وكأنه صلى الله عليه وسلم علم أنه لا طاقة له بهذا الأمر إلا بسلطان فسأل سلطاناً نصيراً. وبه قال الحسن وقتادة واختاره ابن جرير. قال ابن كثير: وهو الأرجح، لأنه لا بد مع الحق من قهر لمن عاداه وناوأه، ولهذا يقول تعالى: "لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب"، وفي الحديث "إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن" أي ليمنع بالسلطان عن ارتكاب الفواحش والآثام ما لا يمنع كثيراً من الناس بالقرآن، وما فيه من الوعيد الأكيد والتهديد الشديد، وهذا هو الواقع انتهى.
81- "وقل جاء الحق وزهق الباطل" المراد بالحق الإسلام، وقيل القرآن، وقيل الجهاد ولا مانع من حمل الآية على جميع ذلك وعلى ما هو حق كائناً ما كان، والمراد بالباطل الشرك، وقيل الشيطان ولا يبعد أن يحمل على كل ما يقابل الحق من غير فرق بين باطل وباطل. ومعنى زهق بطل واضمحل، ومنه زهوق النفس وهو بطلانها "إن الباطل كان زهوقاً" أي إن هذا شأنه فهو يبطل ولا يثبت، والحق ثابت دائماً.
82- " وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين " قرأ الجمهور "ننزل" بالنون. وقرأ أبو عمرو بالتخفيف. وقرأ مجاهد بالياء التحتية والتخفيف، ورواها المروزي عن حفص، ومن لابتداء الغاية، ويصح أن تكون لبيان الجنس، وقيل للتبعيض وأنكره بعض المفسرين لاستلزامه أن بعضه لا شفاء فيه، ورده ابن عطية بأن المبعض هو إنزاله. واختلف أهل العلم في معنى كونه شفاء على القولين: الأول أنه شفاء للقلوب بزوال الجهل عنها وذهاب الريب وكشف الغطاء عن الأمور الدالة على الله سبحانه. القول الثاني أنه شفاء من الأمراض الظاهرة بالرقى والتعوذ ونحو ذلك، ولا مانع من حمل الشفاء على المعنيين من باب عموم المجاز، أو من باب حمل المشترك على معنييه. ثم ذكر سبحانه أنه رحمة للمؤمنين لما فيه من العلوم النافعة المشتملة على ما فيه صلاح الدين والدنيا، ولما في تلاوته وتدبره من الأجر العظيم الذي يكون سبباً لرحمة الله سبحانه ومغفرته ورضوانه، ومثل هذه الآية قوله تعالى: "قل هو للذين آمنوا هدىً وشفاءً، والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى" ثم لما ذكر سبحانه ما في القرآن من المنفعة لعباده المؤمنين ذكر ما فيه لمن عداهم من المضرة عليهم فقال: "ولا يزيد الظالمين إلا خساراً" أي ولا يزيد القرآن كله أو كل بعض منه الظالمين الذي وضعوا التكذيب موضع التصديق، والشك والارتياب موضع اليقين والاطمئنان "إلا خساراً" أي هلاكاً، لأن سماع القرآن يغيظهم ويحنقهم ويدعوهم إلى زيادة ارتكاب القبائح تمرداً وعناداً، فعند ذلك يهلكون، وقيل الخسار النقص كقوله: "فزادتهم رجساً إلى رجسهم".
ثم نبه سبحانه على فتح بعض ما جبل عليه الإنسان من الطبائع المذمومة فقال: 83- "وإذا أنعمنا على الإنسان" أي على هذا الجنس بالنعم التي توجب الشكر كالصحة والغنى "أعرض" عن الشكر لله والذكر له "ونأى بجانبه" النأي البعد والباء للتعدية أو للمصاحبة، وهو تأكيد للإعراض، لأن الإعراض عن الشيء هو أن يوليه عرض وجهه: أي ناحيته، والنأي بالجانب أن يلوي عنه عطفه ويوليه ظهره، ولا يبعد أن يراد بالإعراض هنا الإعراض عن الدعاء والابتهال الذي كان يفعله عند نزول البلوى والمحنة به، ويراد بالنأي بجانبه التكبر والبعد بنفسه عن القيام بحقوق النعم. وقرأ ابن عامر في رواية ابن ذكوان وأبو جعفر ناء مثل باع بتأخير الهمزة على القلب، وقرأ حمزة ناءي بإمالة الفتحتين ووافقه الكسائي، وأمال شعبة والسوسي الهمزة فقط. وقرأ الباقون بالفتح فيهما "وإذا مسه الشر" من مرض أو فقر "كان يؤوساً" شديد اليأس من رحمة الله، والمعنى: أنه إن فاز بالمطلوب الدنيوي، وظفر بالمقصود نسي المعبود، وإن فاته شيء من ذلك استولى عليه الأسف، وغلب عليه القنوط، وكلتا الخصلتين قبيحة مذمومة ولا ينافي ما في هذه الآية قوله تعالى: "وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض" ونظائره، فإن ذلك شأن بعض آخر منهم غير البعض المذكور في هذه الآية، ولا يبعد أن يقال لا منافاة بين الآيتين فقد يكون مع شدة يأسه وكثرة قنوطه كثير الدعاء بلسانه.
84- "قل كل يعمل على شاكلته" الشاكلة قال الفراء: الطريقة، وقيل الناحية، وقيل الطبيعة، وقيل الدين، وقيل النية، وقيل الجبلة، وهي مأخوذة من الشكل، يقال لست على شكلي ولا على شاكلتي والشكل: هو المثل والنظير. والمعنى: أن كل إنسان يعمل على ما يشاكل أخلاقه التي ألفها، وهذا ذم للكافر ومدح للمؤمن "فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلاً" لأنه الخالق لكم العالم بما جبلتم عليه من الطبائع وما تباينتم فيه من الطرائق، فهو الذي يميز بين المؤمن الذي لا يعرض عند النعمة ولا ييأس عند المحنة، وبين الكافر الذي شأنه البطر للنعم والقنوط عند النقم.
ثم لما أنجز الكلام إلى ذكر الإنسان وما جبل عليه، ذكر سبحانه سؤال السائلين لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح فقال: 85- "ويسألونك عن الروح" قد اختلف الناس في الروح المسؤول عنه، فقيل هو الروح المدبر للبدن الذي تكون به حياته، وبهذا قال أكثر المفسرين. قال الفراء: الروح الذي يعيش به الإنسان لم يخبر الله سبحانه به أحداً من خلقه، ولم يعط علمه أحداً من عباده فقال: "قل الروح من أمر ربي" أي إنكم لا تعلمونه، وقيل الروح المسؤول عنه جبريل، وقيل عيسى، وقيل القرآن، وقيل ملك من الملائكة عظيم الخلق، وقيل خلق كخلق بني آدم، وقيل غير ذلك مما لا طائل تحته ولا فائدة في إيراده، والظاهر القول الأول، وسيأتي ذكر سبب نزول هذه الآية، وبيان السائلين لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح، ثم الظاهر أن السؤال عن حقيقة الروح، لأن معرفة حقيقة الشيء أهم وأقدم من معرفة حال من أحواله، ثم أمره سبحانه أن يجيب على السائلين له عن الروح فقال: "قل الروح من أمر ربي" "من" بيانية، والأمر الشأن والإضافة للاختصاص، أي هو من جنس ما استأثر الله بعلمه من الأشياء التي لم يعلم بها عباده، وقيل معنى "من أمر ربي" من وحيه وكلامه لا من كلام البشر، وفي هذه الآية ما يزجر الخائضين في شأن الروح المتكلفين لبيان ما هيئته وإيضاح حقيقته أبلغ زجر ويردعهم أعظم ردع، وقد أطالوا المقال في هذا البحث بما لا يتم له المقام، وغالبه بل كله من الفضول الذي لا يأتي بنفع في دين ولا دنيا. وقد حكى بعض المحققين أن أقوال المختلفين في الروح بلغت إلى ثمانية عشر مائة قول، فانظر إلى هذا الفضول الفارغ والتعب العاطل عن النفع، بعد أن علموا أن الله سبحانه قد استأثر بعلمه ولم يطلع عليه أنبياءه ولا أذن لهم بالسؤال عنه ولا البحث عن حقيقته فضلاً عن أممهم المقتدين بهم، فيالله العجب حيث تبلغ أقوال أهل الفضول إلى هذا الحد الذي لم تبلغه ولا بعضه في غير هذه المسألة مما أذن الله بالكلام فيه، ولم يستأثر بعلمه. ثم ختم سبحانه هذه الآية بقوله سبحانه: "وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً" أي أن علمكم الذي علمكم الله، ليس إلا المقدار القليل بالنسبة إلى علم الخالق سبحانه، وإن أوتي حظاً من العلم وافراً، بل علم الأنبياء عليهم السلام ليس هو بالنسبة إلى علم الله سبحانه إلا كما يأخذ الطائر في منقاره من البحر، كما في حديث موسى والخضر عليهما السلام. وقد أخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن مسعود قال: "دلوك الشمس" غروبها، تقول العرب إذا غربت الشمس: دلكت الشمس. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن علي قال: دلوكها غروبها. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس، قال: "لدلوك الشمس" لزوال الشمس، وأخرج البزار وأبو الشيخ وابن مردويه والديلمي عن ابن عمر قال:" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دلوك الشمس زوالها" وضعف السيوطي إسناده، وأخرجه مالك في الموطأ وعبد الرزاق والفريابي وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عمر من قوله. وأخرج عبد الرزاق عنه قال: دلوك الشمس زياغها بعد نصف النهار. وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير عن ابن عباس قال: دلوكها زوالها. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عنه في قوله: "لدلوك الشمس" قال: إذا فاء الفيء. وأخرج ابن جرير عن أبي مسعود وعقبة بن عمرو قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتاني جبريل لدلوك الشمس حين زالت فصلى بي الظهر". وأخرج ابن جرير عن أبي برزة الأسلمي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر إذا زالت الشمس، ثم تلا "أقم الصلاة لدلوك الشمس". وأخرج ابن مردويه من حديث أنس نحوه، ومما يستشهد به على أن الدلوك الزوال وسط النهار ما أخرجه ابن جرير عن جابر قال "دعوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن شاء من أصحابه يطعمون عندي، ثم خرجوا حين زالت الشمس، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اخرج يا أبا بكر فهذا حين دلكت الشمس" وفي إسناده رجل مجهول ولكنه أخرجه عنه من طريق أخرى عن سهل بن بكار عن أبي عوانة عن الأسود بن قيس عن نبيح العنبري عن جابر فذكر نحوه مرفوعاً. وأخرج الطبراني عن ابن مسعود في قوله: "إلى غسق الليل" قال: إلى العشاء الآخرة. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس قال: "غسق الليل" اجتماع الليل وظلمته. وأخرج ابن جرير عنه قال: "غسق الليل" بدو الليل. وأخرج عبد الرزاق عن أبي هريرة قال: دلوك الشمس إذا زالت الشمس عن بطن السماء وغسق الليل غروب الشمس. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: "وقرآن الفجر" قال: صلاة الصبح. وأخرج أحمد والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة عن النبي لله في قوله: "وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهوداً". قال: تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار تجتمع فيها، وهو في الصحيحين عنه مرفوعاً بلفظ تجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر، ثم يقول أبو هريرة اقرأوا إن شئتم "وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهوداً" وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر والطبراني عن ابن مسعود موقوفاً نحوه. وأخرج الحكيم الترمذي وابن جرير والطبراني وابن مردويه عن أبي الدرداء قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن قرآن الفجر كان مشهوداً" قال: تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "نافلة لك" يعني خاصة للنبي صلى الله عليه وسلم، أمر بقيام الليل وكتب عليه. وأخرج الطبراني في الأوسط والبيهقي في سننه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "ثلاث هن علي فرائض وهن لكم سنة: الوتر والسواك، وقيام الليل". وأخرج أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي أمامة في قوله: "نافلة لك" قال: كانت للنبي صلى الله عليه وسلم نافلة ولكم فضيلة، وفي لفظ: إنما كانت النافلة خاصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخرج أحمد والترمذي وحسنه وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً" وسئل عنه، قال: هو المقام المحمود الذي أشفع فيه لأمتي. وأخرج أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن حبان والحاكم وصححه وابن مردويه عن كعب بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يبعث الناس يوم القيامة فأكون أنا وأمتي على تل ويكسوني ربي حلة خضراء، ثم يؤذن لي فأقول ما شاء الله أن أقول، فذلك المقام المحمود". وأخرج البخاري وغيره عن ابن عمر قال: إن كل أمة يوم القيامة تتبع نبيها، يقولون يا فلان اشفع، يا فلان اشفع حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذلك يوم يبعثه الله مقاماً محموداً. وأخرج عنه نحوه مرفوعاً، والأحاديث في هذا الباب كثيرة جداً ثابتة في الصحيحين وغيرهما فلا نطيل بذكرها، ومن رام الاستيفاء نظر في أحاديث الشفاعة في الأمهات وغيرها. وأخرج الطبراني في قوله: "عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً" قال: يجلسه فيما بينه وبين جبريل ويشفع لأمته، فذلك المقام المحمود. وأخرج الديلمي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً، قال: يجلسني معه على السرير" وينبغي الكشف عن إسناد هذين الحديثين. وأخرج أحمد والترمذي وصححه وابن جرير وابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي والضياء في المختارة عن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم بمكة ثم أمر بالهجرة، فأنزل الله "وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً". وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي في الدلائل عن قتادة في قوله: "وقل رب أدخلني" الآية قال: أخرجه الله من مكة مخرج صدق، وأدخله المدينة مدخل صدق. قال: وعلم نبي الله انه لا طاقة له بهذا الأمر إلا بسلطان فسأل سلطاناً نصيراً لكتاب الله وحدوده وفرائضه ولإقامة كتاب الله، فإن السلطان عزة من الله جعلها بين أظهر عباده، ولولا ذلك لأغار بعضهم على بعض، وأكل شديدهم ضعيفهم. وأخرج الخطيب عن عمر بن الخطاب قال: والله لما يزع الله بالسلطان أعظم مما يزع بالقرآن. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود قال: "دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة وحول البيت ستون وثلاثمائة نصب، فجعل يطعنها بعود في يده ويقول: "جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً"، "جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد"" وفي الباب أحاديث وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "ونأى بجانبه" قال: تباعد. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "كان يؤوساً" قال: قنوطاً، وفي قوله: "كل يعمل على شاكلته" قال: على ناحيته. وأخرج هناد وابن المنذر عن الحسن قال: على شاكلته. على نيته. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود قال: "كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في خرب المدينة وهو متكئ على عسيب، فمر بقوم من اليهود فقال بعضهم لبعض: اسألوه عن الروح، فقال بعضهم: لا تسألوه، فقالوا: يا محمد ما الروح؟ فما زال متكئاً على العسيب فظننت أنه يوحى إليه، فقال: "ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً"". وأخرج أحمد والترمذي وصححه، والنسائي وابن المنذر وابن حبان وأبو الشيخ في العظمة والحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي عن ابن عباس قال: قالت قريش لليهود أعطونا شيئاً نسأل هذا الرجل، قالوا: سلوه عن الروح، فنزلت "ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً" قالوا أوتينا علماً كثيراً، أوتينا التوراة، ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيراً كثيراً فأنزل الله "قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدداً" وفي الباب أحاديث وآثار.
لما بين سبحانه أنه ما آتاهم من العلم إلا قليلاً بين أنه لو شاء أن يأخذ منهم هذا القليل لفعل، فقال: 86- "ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك" واللام هي الموطئة، ولنذهبن جواب القسم ساد مسد جواب الشرط. قال الزجاج: معناه لو شئنا لمحوناه من القلوب ومن الكتب حتى لا يوجد له أثر انتهى، وعبر عن القرآن بالموصول تفخيماً لشأنه "ثم لا تجد لك به" أي بالقرآن "علينا وكيلاً" أي لا تجد من يتوكل علينا في رد شيء منه بعد أن ذهبنا به.