تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 291 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 291

290

والاستثناء بقوله: 87- "إلا رحمة من ربك" إن كان متصلاً فمعناه إلا أن يرحمك ربك فلا نذهب به، وإن كان منقطعاً فمعناه لكن لا يشأ ذلك رحمة من ربك، أو لكن رحمة من ربك تركته غير مذهوب به "إن فضله كان عليك كبيراً" حيث جعلك رسولاً وأنزل عليك الكتاب وصيرك سيد ولد آدم، وأعطاك المقام المحمود وغير ذلك مما أنعم به عليه.
ثم احتج سبحانه على المشركين بإعجاز القرآن فقال: 88- "قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن" المنزل من عند الله الموصوف بالصفات الجليلة من كمال البلاغة وحسن النظم وجزالة اللفظ "لا يأتون بمثله" أظهر في مقام الإضمار، ولم يكتف بأن يقول لا يأتون به على أن الضمير راجع إلى المثل المذكور، لدفع توهم أن يكون له مثل معين، وللإشعار بأن المراد نفي المثل على أي صفة كان، وهو جواب قسم محذوف كما تدل عليه اللام الموطئة، وساد مسد جواب الشرط، ثم أوضح سبحانه عجزهم عن المعارضة سواء كان المتصدي لها كل واحد منهم على الانفراد، أو كان المتصدر بها المجموع بالمظاهرة فقال "ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً" أي عوناً ونصيراً، وجواب لو محذوف، والتقدير: ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً لا يأتون بمثله، فثبت أنهم لا يأتون بمثله على كل حال، وقد تقدم وجه إعجاز القرآن في أوائل سورة البقرة في هذه الآية رد لما قاله الكفار "لو نشاء لقلنا مثل هذا" وإكذاب لهم.
ثم بين سبحانه أن الكفار مع عجزهم عن المعارضة استمروا على كفرهم وعدم إيمانهم فقال: 89- "ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل" أي رددنا القول فيه بكل مثل يوجب الاعتبار من الآيات والعبر والترغيب والترهيب والأوامر والنواهي وأقاصيص الأولين والجنة والنار والقيامة "فأبى أكثر الناس إلا كفوراً" يعني من أهل مكة، فإنهم جحدوا وأنكروا كون القرآن كلام الله بعد قيام الحجة عليهم، واقترحوا من الآيات ما ليس لهم، وأظهر في مقام الإضمار حيث قال: فأبى أكثر الناس توكيداً أو توضيحاً، ولما كان أبى مؤولاً بالنفي: أي ما قبل أو لم يرض صح الاستثناء منه قوله: "إلا كفوراً".
90- "وقالوا لن نؤمن لك" أي قال رؤساء مكة كعتبة وشيبة ابني ربيعة وأبي سفيان والنضر بن الحارث، ثم علقوا نفي إيمانهم بغاية طلبوها فقالوا: "حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً" قرأ حمزة والكسائي وعاصم "حتى تفجر" مخففاً مثل تقتل. وقرأ الباقون بالتشديد، ولم يختلفوا في "فتفجر الأنهار" أنها مشددة، ووجه ذلك أبو حاتم بأن الأولى بعدها ينبوع وهو واحد، والثانية بعدها الأنهار وهي جمع. وأجيب عنه بأن الينبوع وإن كان واحداً في اللفظ فالمراد به الجمع، فإن الينبوع العيون التي لا تنضب. ويرد بأن الينبوع عين الماء والجمع الينابيع، وإنما يقال للعين ينبوع إذا كانت غزيرة من شأنها النبوع من غير انقطاع والياء زائدة كيعبوب من عب الماء.
91- "أو تكون لك جنة" أي بستان تستر أشجاره أرضه. والمعنى هب أنك لا تفجر الأنهار لأجلنا ففجرها من أجلك بأن "تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار" أي تجريها بقوة "خلالها تفجيراً" أي وسطها تفجيراً كثيراً.
92- "أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً" قرأ مجاهد "أو تسقط" مسنداً إلى السماء. وقرأ من عداه "أو تسقط" على الخطاب. أي أو تسقط أنت يا محمد السماء. والكسف بفتح السين جمع كسفة: وهي قراءة نافع وابن عامر وعاصم، والكسفة القطعة. وقرأ الباقون "كسفاً" بإسكان السين. قال الأخفش: من قرأ بإسكان السين جعله واحداً ومن قرأ بفتحها جعله جمعاً. قال المهدوي: ويجوز أن يكون على قراءة الكون جمع كسفة، ويجوز أن يكون مصدراً. قال الجوهري: الكسفة القطعة من الشيء، يقال: أعطني كسفة من ثوبك، والجمع كسف وكسف، ويقال الكسف والكسفة واحد، وانتصاب كسفاً على الحال، والكاف في كما زعمت في محل نصب على أنه صفة مصدر محذوف: أي إسقاطاً ممائلاً لما زعمت، يعنون بذلك قول الله سبحانه: "إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفاً من السماء" قال أبو علي: الكسف بالسكون. الشيء المقطوع كالطحن للمطحون واشتقاقه على ما قال أبو زيد من كسفت الثوب كسفاً إذا قطعته. وقال الزجاج: من كسفت الشيء إذا غطيته كأنه قيل أو تسقطها طبقاً علينا "أو تأتي بالله والملائكة قبيلاً". اختلف المفسرون في معنى "قبيلاً" فقيل معناه معاينة قاله قتادة وابن جريج، واختاره أبو علي الفارسي فقال: إذا حملته على المعاينة كان القبيل مصدراً كالنكير والنذير. وقيل معناه كفيلاً قاله الضحاك، وقيل شهيداً قاله مقاتل، وقيل هو جمع القبيلة: أي تأتي بأصناف الملائكة قبيلة قبيلة قاله مجاهد وعطاء، وقيل ضمناً، وقيل مقابلاً كالعشير والمعاشر.
93- "أو يكون لك بيت من زخرف" أي من ذهب، وبه قرأ ابن مسعود، وأصله الزينة، والمزخرف المزين، وزخارف الماء طرائقه. وقال الزجاج: هو الزينة فرجع إلى الأصل معنى الزخرف، وهو بعيد لأنه يصير المعنى: أو يكون لك بيت من زينة "أو ترقى في السماء" أي تصعد في معارجها: يقال رقيت في السلم إذا صعدت وارتقيت مثله "ولن نؤمن لرقيك" أي لأجل رقيك وهو مصدر نحو مضى يمضي مضياً وهوى يهوي هوياً " حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه " أي حتى تنزل علينا من السماء كتاباً يصدقك ويدل على نبوتك نقرأه جميعاً، أو يقرأه كل واحد منا، وقيل معناه: كتاباً من الله إلى كل واحد منا كما في قوله: "بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفاً منشرة" فأمر سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأتي بما يفيد التعجب من قولهم، والتنزيه للرب سبحانه عن اقتراحاتهم القبيحة فقال: "قل سبحان ربي" أي تنزيهاً لله عن أن يعجز عن شيء. وقرأ أهل مكة والشام قال سبحان ربي يعني النبي صلى الله عليه وسلم "هل كنت إلا بشراً" من البشر لا ملكاً حتى أصعد السماء "رسولاً" مأموراً من الله سبحانه بإبلاغكم، فهل سمعتم أيها المقترحون لهذه الأمور أن بشراً قدر على شيء منها؟ وإن أردتم أني أطلب ذلك من الله سبحانه حتى يظهرها على يدي، فالرسول إذا أتى بمعجزة واحدة كفاه ذلك، لأن بها يتبين صدقه، ولا ضرورة إلى طلب الزيادة، وأنا عبد مأمور ليس لي أن أتحكم على ربي بما ليس بضروري، ولا دعت إليه حاجة، ولو لزمتني الإجابة لكل متعنت لاقترح كل معاند في كل وقت اقتراحات، وطلب لنفسه إظهار آيات، فتعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً، وتنزه عن تعنتاتهم، وتقدس عن اقتراحاتهم. وقد أخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود قال: إن هذا القرآن سيرفع، قيل كيف يرفع وقد أثبته الله في قلوبنا وأثبتناه في المصاحف؟ قال: يسري عليه في ليلة واحدة فلا يترك منه آية في قلب ولا مصحف إلا رفعت، فتصبحون وليس فيكم منه شيء، ثم قرأ "ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك" وقد روي عنه هذا من طرق. وأخرج ابن عدي عن أبي هريرة مرفوعاً نحوه. وأخرج محمد بن نصر عن عبد الله بن عمرو نحوه موقوفاً. وأخرج الديلمي في مسند الفردوس عن معاذ بن جبل مرفوعاً نحوه أيضاً. وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن أبي هريرة موقوفاً نحوه أيضاً. وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه والديلمي عن حذيفة بن اليمان مرفوعاً نحوه أيضاً. وأخرج ابن مردويه عن جابر مرفوعاً نحوه أيضاً. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن عمر مرفوعاً نحوه. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال "أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم محمود بن شيخان ونعيمان بن آصى وبحري بن عمرو وسلام بن مشكم، فقالوا: أخبرنا يا محمد بهذا الذي جئت به أحق من عند الله، فإنا لا نراه متناسقاً كما تناسق التوراة؟ فقال لهم: والله إنكم لتعرفونه أنه من عند الله، قالوا: إنا نجيئك بمثل ما تأتي به، فأنزل الله "قل لئن اجتمعت الإنس والجن" الآية". وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أن عتبة وشيبة ابني ربيعة وأبا سفيان بن حرب، ورجلاً من بني عبد الدار وأبا البحتري أخا بني أسيد والأسود بن عبد المطلب وربيعة بن الأسود والوليد بن المغيرة وأبا جهل بن هشام وعبد الله ابن أبي أمية وأمية بن خلف والعاص بن وائل ونبيهاً ومنبهاً ابني الحجاج السهميين اجتمعوا بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة، فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد وكلموه وخاصموه، وذكر حديثاً طويلاً يشتمل على ما سألوه عنه وتعنتوه، وأن ذلك كان سبب نزول قوله: "وقالوا لن نؤمن لك" إلى قوله: "بشراً رسولاً". وإسناده عند ابن جرير هكذا: حدثنا أبو كريب حدثنا يونس بن بكير حدثنا محمد بن إسحاق حدثني شيخ من أهل مصر، قدم منذ بضع وأربعين سنة عن عكرمة عن ابن عباس فذكره، ففيه هذا الرجل المجهول. وأخرج سعد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: "وقالوا لن نؤمن لك" قال: نزلت في أخي أم سلمة عبد الله بن أبي أمية. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله: "ينبوعاً" قال: عيوناً. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال: الينبوع هو النهر الذي يجري من العين. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "أو تكون لك جنة" يقول: ضيعة. وأخرج ابن جرير عنه "كسفاً" قال: قطعاً. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً "قبيلاً" قال: عياناً. وأخرج ابن جرير عنه أيضاً "من زخرف" قال: من ذهب. وأخرج أبو عبيد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري وأبو نعيم عن مجاهد قال: لم أكن أحسن ما الزخرف؟ حتى سمعتها في قراءة عبد الله أو يكون لك بيت من ذهب. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله: " كتابا نقرؤه " قال: من رب العالمين إلى فلان ابن فلان. يصبح عند كل رجل صحيفة عند رأسه موضوعة يقرأها.
حكى سبحانه عنهم شبهة أخرى قد تكرر في الكتاب العزيز التعرض لإيرادها وردها في غير موضع فقال: 94- " وما منع الناس أن يؤمنوا " المراد الناس على العموم، وقيل المراد أهل مكة على الخصوص: أي ما منعهم الإيمان بالقرآن وبنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وهو المفعول الثاني لمنع، ومعنى "إذ جاءهم الهدى" أنه جاءهم الوحي من الله سبحانه على رسوله، وبين ذلك لهم وأرشدهم إليه، وهو ظرف لمنع أو يؤمنوا: أي ما منعهم وقت مجيء الهدى أن يؤمنوا بالقرآن والنبوة "إلا أن قالوا" أي ما منعهم إلا قولهم، فهو في محل رفع على أنه فاعل منع، والهمزة في "أبعث الله بشراً رسولاً" للإنكار منهم أن يكون الرسول بشراً، والمعنى: أن هذا الاعتقاد الشامل لهم، وهو إنكار أن يكون الرسول من جنس البشر، هو الذي منعهم عن الإيمان بالكتاب وبالرسول، وعبر عنه بالقول للإشعار بأنه ليس إلا مجرد قول قالوه بأفواههم.
ثم أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجيب عن شبهتهم هذه فقال: 95- "قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين" أي لو وجد وثبت أن في الأرض بدل من فيها من البشر ملائكة يمشون على الأقدام كما يمشي الإنس مطمئنين مستقرين فيها ساكنين بها. قال الزجاج: مطمئنين مستوطنين في الأرض، ومعنى الطمأنينة السكون، فالمراد ها هنا المقام والاستيطان، فإنه يقال سكن البلد فلان إذا أقام فيها وإن كان ماشياً متقلباً في حاجاته "لنزلنا عليهم من السماء ملكاً رسولاً" حتى يكون من جنسهم وفيه إعلام من الله سبحانه بأن الرسل ينبغي أن تكون من جنس المرسل إليهم، فكأنه سبحانه اعتبر في تنزيل الرسول من جنس الملائكة أمرين: الأول كون سكان الأرض ملائكة. والثاني كونهم ماشين على الأقدام غير قادرين على الطيران بأجنحتهم إلى السماء، إذ لو كانوا قادرين على ذلك لطاروا إليها، وسمعوا من أهلها ما يجب معرفته وسماعه فلا يكون في بعثة الملائكة إليهم فائدة. وانتصاب بشراً وملكاً على أنهما مفعولان للفعلين، ورسولاً في الموضعين وصف لهما. وجوز صاحب الكشاف أن يكونا حالين في الموضعين من رسولاً فيهما وقواه صاحب الكشاف، ولعل وجه ذلك أن الإنكار يتوجه إلى الرسول المتصف بالبشرية في الموضع الأول، فيلزم بحكم التقابل أن يكون الآخر كذلك.
ثم ختم الكلام بما يجري مجرى التهديد، فقال: 96- "قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم" أي قل لهم يا محمد من جهتك كفى بالله وحده شهيداً على إبلاغي إليكم ما أمرني به من أمور الرسالة، وقال بيني وبينكم ولم يقل بيننا تحقيقاً للمفارقة الكلية، وقيل إن إظهار المعجزة على وفق دعوى النبي شهادة من الله له على الصدق، ثم علل كونه سبحانه شهيداً كافياً بقوله: "إنه كان بعباده خبيراً بصيراً" أي عالماً بجميع أحوالهم محيطاً بظواهرها وبواطنها بصيراً بما كان منها وما يكون.