تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 292 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 292

291

ثم بين سبحانه أن الإقرار والإنكار مستندان إلى مشيئته فقال: 97- " من يهد الله فهو المهتدي " أي من يرد الله هدايته فهو المهدي إلى الحق أو إلى كل مطلوب "ومن يضلل" أي يرد إضلاله "فلن تجد لهم أولياء" ينصرونهم "من دونه" يعني الله سبحانه ويهدونهم إلى الحق الذي أضلهم الله عنه أو إلى طريق النجاة، وقوله: "فهو المهتدي" حملاً على لفظ من، وقوله: "فلن تجد لهم" حملاً على المعنى، والخطاب في قوله: فلن تجد إما للنبي صلى الله عليه وسلم، أو لكل من يصلح له "ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم" هذا الحشر على الوجوه فيه وجهان للمفسرين: الأول أنه عبارة عن الإسراع بهم إلى جهنم، من قول العرب: قد مر القوم على وجوههم: إذا أسرعوا. الثاني أنهم يسحبون يوم القيامة على وجوههم حقيقة كما يفعل في الدنيا بمن يبالغ في إهانته وتعذيبه، وهذا هو الصحيح، لقوله تعالى: "يوم يسحبون في النار على وجوههم"، ولما صح في السنة كما سيأتي، ومحل على وجوههم النصب على الحال من ضمير المفعول و "عمياً" منتصب على الحال "وبكماً وصماً" معطوفان عليه والأبكم: الذي لا ينطق والأصم: الذي لا يسمع، وهذه هيئة يبعثون عليها في أقبح صورة، وأشنع منظر، قد جمع الله لهم بين عمى البصر وعدم النطق وعدم السمع مع كونهم مسحوبين على وجوههم، ثم من وراء ذلك "مأواهم جهنم" أي المكان الذي يأوون إليه، والجملة في محل نصب على الحال أو هي مستأنفة لا محل لها "كلما خبت زدناهم سعيراً" أي كلما سكن لهبها، يقال خبت النار تخبو خبواً: إذا خمدت وسكن لهبها. قال ابن قتيبة ومعنى زدناهم سعيراً تسعراً، وهو التلهب. وقد قيل إن في خبو النار تخفيفاً لعذاب أهلها، فكيف يجمع بينه وبين قوله: "لا يخفف عنهم العذاب"؟ وأجيب بأن المراد بعدم التخفيف أنه لا يتخلل زمان محسوس بين الخبو والتسعر، وقيل إنها تخبو من غير تخفيف عنهم من عذابها.
98- "ذلك" أي العذاب "جزاؤهم" الذي أوجبه الله لهم واستحقوه عنده، والباء في قوله: "بأنهم كفروا بآياتنا" للسببية: أي بسبب كفرهم بها فلم يصدقوا بالآيات التنزيلية ولا تفكروا في الآيات التكوينية، واسم الإشارة مبتدأ وخبره جزاؤهم، وبأنهم كفروا خبر آخر، ويجوز أن يكون جزاؤهم مبتدأ ثانياً، وخبره ما بعده، والجملة خبر المبتدأ الأول " وقالوا أإذا كنا عظاما ورفاتا " الهمزة للإنكار، وقد تقدم تفسير الآية في هذه السورة، وخلقاً في قوله: " أإنا لمبعوثون خلقا جديدا " مصدر من غير لفظه أو حال: أي مخلوقين.
فجاء سبحانه بحجة تدفعهم عن الإنكار وتردهم عن الجحود. فقال: 99- " أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم " أي من هو قادر على خلق هذا، فهو على إعادة ما هو أدون منه أقدر، وقيل المراد أنه قادر على أفنائهم وإيجاد غيرهم، وعلى القول الأول يكون الخلق بمعنى الإعادة، وعلى هذا القول هو على حقيقته، وجملة "وجعل لهم أجلاً لا ريب فيه" عطف على أو لم يروا، والمعنى: قد علموا بدليل العقل أن من قدر على خلق السموات والأرض فهو قادر على خلق أمثالهم، لأنهم ليسوا بأشد خلقاً منهن كما قال "أأنتم أشد خلقاً أم السماء" "وجعل لهم أجلاً لا ريب فيه" وهو الموت أو القيامة، ويحتمل أن تكون الواو للاستئناف، وقيل في الكلام تقديم وتأخير: أي أو لم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض وجعل لهم أجلاً لا ريب فيه قادر على أن يخلق مثلهم "فأبى الظالمون إلا كفوراً" أي أبى المشركون إلا جحوداً، وفيه وضع الظاهر موضع المضمر للحكم عليهم بالظلم ومجاوزة الحد.
ثم لما وقع من هؤلاء الكفار طلب إجراء الأنهار والعيون في أراضيهم لتتسع معايشهم، بين الله سبحانه أنهم لا يقنعون، بل يبقون على بخلهم وشحهم فقال: 100- "قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي" أنتم مرتفع على أنه فاعل فعل محذوف يفسره ما بعده: أي لو تملكون أنتم، تملكون على أن الضمير المنفصل مبدل من الضمير المتصل وهو الواو، وخزائن رحمته سبحانه: هي خزائن الأرزاق. قال الزجاج: أعلمهم الله أنهم لو ملكوا خزائن الأرزاق لأمسكوا شحاً وبخلاً، وهو خشية الإنفاق: أي خشية أن ينفقوا فيفتقروا، وفي حذف الفعل الذي ارتفع به أنتم، وإيراد الكلام في صورة المبتدأ والخبر دلالة على أنهم هم المختصون بالشح. قال أهل اللغة: أنفق وأصرم وأعدم وأقتر: بمعنى قل ماله، فيكون المعنى: لأمسكتم خشية قل المال "وكان الإنسان قتوراً" أي بخيلاً مضيقاً عليه. يقال قتر على عياله يقتر ويقتر قتراً وقتوراً: ضيق عليهم في النفقة، ويجوز أن يراد وكان الإنسان قتوراً: أي قليل المال، والظاهر أن المراد المبالغة في وصفه بالشح، لأن الإنسان ليس بقليل المال على العموم. بل بعضهم كثير المال، إلا أن يراد أن جميع النوع الإنساني قليل المال بالنسبة إلى خزائن الله وما عنده. وقد اختلف في هذه الآية على قولين: أحدهما أنها نزلت في المشركين خاصة، وبه قال الحسن، والثاني أنها عامة وهو قول الجمهور حكاه الماوردي. وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس قال "قيل يا رسول الله: كيف يحشر الناس على وجوههم؟ قال: الذي أمشاهم على أرجلهم قادر أن يمشيهم على وجوههم". وأخرج أبو داود والترمذي وحسنه وابن جرير وابن مردويه والبيهقي عن أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة أصناف: صنف مشاة، وصنف ركبانا، وصنف على وجوههم" ثم ذكر نحو حديث أنس. وفي الباب أحاديث. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس، في قوله: "مأواهم جهنم" قال: يعني أنهم وقودها. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عنه في قوله: "كلما خبت" قال: سكنت. وأخرج هؤلاء عنه أيضاً في الآية قال: كلما أحرقهم سعرتهم حطباً، فإذا أحرقتهم فلم يبق منهم شيء صارت جمراً تتوهج فذلك خبوها، فإذا بدلوا خلقاً جديداً عاودتهم. وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء في قوله: "خزائن رحمة ربي" قال: الرزق. وأخرج أيضاً عن عكرمة في قوله: "إذاً لأمسكتم خشية الإنفاق" قال: إذا ما أطعمتم أحداً شيئاً. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "خشية الإنفاق" قال: الفقر "وكان الإنسان قتوراً" قال: بخيلاً. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة "خشية الإنفاق" قال: خشية الفاقة "وكان الإنسان قتوراً" قال: بخيلاً ممسكاً.
قوله: 101- "ولقد آتينا موسى تسع آيات" أي علامات دالة على نبوته. قيل ووجه اتصال هذه الآية بما قبلها أن المعجزات المذكورة كأنها مساوية لتلك الأمور التي اقترحها كفار قريش، بل أقوى منها، فليس عدم الاستجابة لما طلبوه من الآيات إلا لعدم المصلحة في استئصالهم إن لمن يؤمنوا بها. قال أكثر المفسرين: الآيات التسع: هي الطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والعصا، واليد، والسنين، ونقص الثمرات. وجعل الحسن مكان السنين ونقص الثمرات البحر والجبل. وقال محمد بن كعب القرظي: هي الخمس التي في الأعراف، والبحر، والعصا، والحجر، والطمس على أموالهم. وقد تقدم الكلام على هذه الآيات مستوفى، وسيأتي حديث صفوان بن عسال في تعداد هذه الآيات التسع "فاسأل بني إسرائيل" قرأ ابن عباس وابن نهيك فسأل على الخبر: أي سأل موسى فرعون أن يخلي بني إسرائيل ويطلق سبيلهم ويرسلهم معه، وقرأ الآخرون "فاسأل" على الأمر: أي سلهم يا محمد حين "جاءهم" موسى، والسؤال سؤال استشهاد لمزيد الطمأنينة والإيقان، لأن الأدلة إذا تضافرت كان ذلك أقوى والمسؤولون مؤمنو بني إسرائيل كعبد الله بن سلام وأصحابه "فقال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحوراً" الفاء هي الفصيحة: أي فأظهر موسى عند فرعون ما آتيناه من الآيات البينات وبلغه ما أرسل به فقال له فرعون. والمسحور: الذي سحر فخولط عقله. وقال أبو عبيدة والفراء: هو بمعنى الساحر، فوضع المفعول موضع الفاعل.
فـ 102- "قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء" يعني الآيات التي أظهرها، وأنزل بمعنى أوجد "إلا رب السموات والأرض بصائر" أي دلالات يستدل بها على قدرته ووحدانيته، وانتصاب بصائر على الحال. قرأ الكسائي بضم التاء من "علمت" على أنها لموسى، وروي ذلك عن علي، وقرأ الباقون بفتحها على الخطاب لفرعون. ووجه القراءة الأولى أن فرعون لم يعلم ذلك، وإنما علمه موسى. ووجه قراءة الجمهور أن فرعون كان عالماً بذلك كما قال تعالى: "وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً" قال أبو عبيد: المأخوذ به عندنا فتح التاء، وهو الأصح للمعنى، لأن موسى لا يقول علمت أنا وهو الداعي، وروي نحو هذا عن الزجاج "وإني لأظنك يا فرعون مثبوراً" الظن هنا بمعنى اليقين، والثبور الهلاك والخسران. قال الكميت: ورأت قضاعة في الأيا من رأي مثبور وثابر أي مخسور وخاسر، وقيل المثبور الملعون، ومنه قول الشاعر: يا قومنا لا تروموا حزيناً سفهاً إن السفاه وإن البغي مثبور أي ملعون، ويل المثبور ناقص العقل، وقيل هو الممنوع من الخير، يقال ما ثبرك عن كذا: ما منعك منه، حكاه أهل اللغة، وقيل المسحور.
103- "فأراد أن يستفزهم من الأرض" أي أراد فرعون أن يخرج بني إسرائيل وموسى ويزعجهم من الأرض، يعني أرض مصر بإبعادهم عنها، وقيل أراد أن يقتلهم وعلى هذا يراد بالأرض مطلق الأرض، وقد تقدم قريباً معنى الاستفزاز "فأغرقناه ومن معه جميعاً" فوقع عليه وعليهم الهلاك بالغرق، ولم يبق منهم أحداً.
104- "وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض" أي من بعد إغراقه ومن معه، والمراد بالأرض هنا: أرض مصر التي أراد أن يستفزهم منها "فإذا جاء وعد الآخرة" أي الدار الآخرة وهو القيامة، أو الكرة الآخرة، أو الساعة الآخرة "جئنا بكم لفيفاً" قال الجوهري: اللفيف ما اجتمع من الناس من قبائل شتى، يقال جاء القوم بلفهم ولفيفهم: أي بأخلاطهم، فالمراد هنا جئنا بكم من قبوركم مختلطين من كل موضع، قد اختلط المؤمن بالكافر. قال الأصمعي: اللفيف جمع وليس له واحد، وهو مثل الجمع.