تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 300 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 300

299

لما ذكر سبحانه افتخار الكفرة على فقراء المسلمين بأموالهم وعشائرهم وأجابهم عن ذلك وضرب لهم الأمثلة الواضحة، حكى بعض أهوال الآخرة فقال: 54- "ولقد صرفنا" أي كررنا ورددنا "في هذا القرآن للناس" أي لأجلهم ولرعاية مصلحتهم ومنفعتهم "من كل مثل" من الأمثال التي من جملتها الأمثال المذكورة في هذه السورة، وقد تقدم تفسير هذه الآية في سورة بني إسرائيل، وحين لم يترك الكفار ما هم فيه من الجدال بالباطل، ختم الآية بقوله: "وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً" قال الزجاج: المراد بالإنسان الكافر، واستدل على أن المراد الكافر بقوله تعالى: "ويجادل الذين كفروا بالباطل" وقيل المراد به في الآية النضر بن الحارث، والظاهر العموم وأن هذا النوع أكثر الأشياء التي يتأتى منها الجدال جدلاً، ويؤيد هذا ما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث علي "أن النبي صلى الله عليه وسلم طرقه وفاطمة ليلاً، فقال: ألا تصليان؟ فقلت: يا رسول الله إنما أنفسنا بيد الله إن شاء أن يبعثنا بعثنا، فانصرف حين قلت ذلك ولم يرجع إلي شيئاً، ثم سمعته يضرب فخذه ويقول "وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً"" وانتصاب جدلاً على التمييز.
55- "وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين" قد تقدم الكلام على مثل هذا في سورة بني إسرائيل، وذكرنا أن "أن" الأولى في محل نصب، والثانية في محل رفع، والهدى القرآن ومحمد صلى الله عليه وسلم، والناس هنا هم أهل مكة، والمعنى على حذف مضاف: أي ما منع الناس من الإيمان والاستغفار إلا طلب إتيان سنة الأولين، أو انتظار إتيان سنة الأولين، وزاد الاستغفار في هذه السورة لأنه قد ذكر هنا ما فرط منهم من الذنوب التي من جملتها جدالهم بالباطل، وسنة الأولين هو أنهم إذا لم يؤمنوا عذبوا عذاب الاستئصال. قال الزجاج: سنتهم هو قولهم: "إن كان هذا هو الحق من عندك" الآية "أو يأتيهم العذاب" أي عذاب الآخرة "قبلاً" قال الفراء: إن قبلاً جمع قبيل: أي متفرقاً يتلو بعضه بعضاً، وقيل عياناً، وقيل فجأة. ويناسب ما قاله الفراء قراءة أبي جعفر وعاصم والأعمش وحمزة والكسائي ويحيى بن وثاب وخلف "قبلاً" بضمتين فإنه جمع قبيل، نحو سبيل وسبل، والمراد أصناف العذاب، ويناسب التفسير الثاني: أي عياناً، قراءة الباقين بكسر القاف وفتح الباء: أي مقابلة ومعاينة، وقرئ بفتحتين على معنى أو يأتيهم العذاب مستقبلاً، وانتصابه على الحال. فحاصل معنى الآية أنهم لا يؤمنون ولا يستغفرون إلا عند نزول عذاب الدنيا المستأصل لهم، أو عند إتيان أصناف عذاب الآخرة أو معاينته.
56- "وما نرسل المرسلين" من رسلنا إلى الأمم "إلا" حال كونهم "مبشرين" للمؤمنين "ومنذرين" للكافرين، فالاستثناء مفرغ من أعم العام، وقد تقدم تفسير هذا "ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق" أي ليزيلوا بالجدال بالباطل الحق ويبطلوه وأصل الدحض الزلق: يقال دحضت رجله: أي زلقت تدحض دحضاً، ودحضت الشمس عن كبد السماء زالت، ودحضت حجته دحوضاً بطلت، ومن ذلك قول طرفة: أبا منذر رمت الوفاء فهبته وحدت كما حاد البعير عن الدحض ومن مجادلة هؤلاء الكفار بالباطل قولهم للرسل " ما أنتم إلا بشر مثلنا " ونحو ذلك "واتخذوا آياتي" أي القرآن "وما أنذروا" به من الوعيد والتهديد " هزوا " أي لعباً وباطلاً، وقد تقدم هذا في البقرة.
57- "ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها" أي لا أحد أظلم لنفسه ممن وعظ بآيات ربه التنزيلية أو التكوينية أو مجموعهما فتهاون بها وأعرض عن قبولها، ولم يتدبرها حق التدبر ويتفكر فيها حق التفكر "ونسي ما قدمت يداه" من الكفر والمعاصي، فلم يتب عنها. قيل والنسيان هنا بمعنى الترك، وقيل هو على حقيقته "إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه" أي أغطية: والأكنة جمع كنان، والجملة تعليل لإعراضهم ونسيانهم. قال الزجاج: أخبر الله سبحانه أن هؤلاء طبع على قلوبهم "وفي آذانهم وقراً" أي وجعلنا في آذانهم ثقلاً يمنع من استماعه، وقد تقدم تفسير هذا في الأنعام "وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذاً أبداً" لأن الله قد طبع على قلوبهم بسبب كفرهم ومعاصيهم.
58- "وربك الغفور ذو الرحمة" أي كثير المغفرة، وصاحب الرحمة التي وسعت كل شيء فلم يعاجلهم بالعقوبة، ولهذا قال "لو يؤاخذهم بما كسبوا" أي بسبب ما كسبوه من المعاصي التي من جملتها الكفر والمجادلة والإعراض "لعجل لهم العذاب" لاستحقاقهم لذلك "بل" جعل "لهم موعد" أي أجل مقدر لعذابهم، قيل هو عذاب الآخرة، وقيل يوم بدر "لن يجدوا من دونه موئلاً" أي ملجأ يلجأون إليه. وقال أبو عبيدة منجا، وقيل محيصاً، ومنه قول الشاعر: لا وألت نفسك خليتها للعامريين ولم تكلم وقال الأعشى: وقد أخالس رب البيت غفلته وقد يحاذر مني ثم ما يئل أي ما ينجو.
59- "وتلك القرى" أي قرى عاد وثمود وأمثالها "أهلكناهم" هذا خبر اسم الإشارة والقرى صفته، والكلام على حذف مضاف: أي أهل القرى أهلكناهم "لما ظلموا" أي وقت وقوع الظلم منهم بالكفر والمعاصي "وجعلنا لمهلكهم موعداً" أي وقتاً معيناً، وقرأ عاصم "مهلكهم" بفتح الميم واللام، وهو مصدر هلك، وأجاز الكسائي والفراء كسر اللام وفتح الميم، وبذلك قرأ حفص، وقرأ الجمهور بضم الميم وفتح اللام. وقال الزجاج مهلك: اسم للزمان، والتقدير: لوقت مهلكهم. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "إلا أن تأتيهم سنة الأولين" قال: عقوبة الأولين. وأخرج ابن أبي حاتم عن الأعمش في قوله: "قبلاً" قال: جهاراً. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال فجأة. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "ونسي ما قدمت يداه" قال: نسي ما سلف من الذنوب الكثيرة. وأخرج أيضاً عن ابن عباس "بما كسبوا" يقول: بما عملوا. وأخرج ابن حاتم عن السدي "بل لهم موعد" قال: الموعد يوم القيامة. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: "موئلاً" قال: ملجأ: وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد "موئلاً" قال: محرزاً.
الظرف في قوله: 60- "وإذ قال" متعلق بفعل محذوف هو اذكر. قيل ووجه ذكر هذه القصة في هذه السورة، أن اليهود لما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن قصة أصحاب الكهف وقالوا: إن أخبركم فهو نبي وإلا فلا. ذكر الله قصة موسى والخضر تنبيهاً على أن النبي لا يلزمه أن يكون عالماً بجميع القصص والأخبار. وقد اتفق أهل العلم على أن موسى المذكور هو موسى بن عمران النبي المرسل إلى فرعون، وقالت فرقة لا التفات إلى ما تقوله منهم نوف البكالي: إنه ليس ابن عمران، وإنما هو موسى بن ميشي بن يوسف بن يعقوب، وكان نبياً قبل موسى بن عمران، وهذا باطل قد رده السلف الصالح من الصحابة ومن بعدهم كما في صحيح البخاري وغيره، والمراد بفتاه هنا هو يوشع بن نون. قال الواحدي: أجمعوا على أنه يوشع بن نون، وقد مضى ذكره في المائدة، وفي آخر سورة يوسف، ومن قال: إن موسى هو ابن ميشى قال: إن هذا الفتى لم يكن هو يوشع بن نون. قال الفراء: وإنما سمي فتى موسى لأنه كان ملازماً له يأخذ عنهم العلم ويخدمه، ومعنى "لا أبرح" لا أزال، ومنه قوله: "لن نبرح عليه عاكفين" ومنه قول الشاعر: وأبرح ما أدام الله قومي بحمد الله منتطقاً مجيداً وبرح إذا كان بمعنى زال فهو من الأفعال الناقصة، وخبره هنا محذوف اعتماداً على دلالة ما بعده وهو "حتى أبلغ مجمع البحرين" قال الزجاج: لا أبرح بمعنى لا أزال، وقد حذف الخبر لدلالة حال السفر عليه، ولأن قوله "حتى أبلغ" غاية مضروبة، فلا بد لها من ذي غاية، فالمعنى: لا أزال أسير إلى أن أبلغ، ويجوز أن يراد لا يبرح مسيري حتى أبلغ، وقيل معنى لا أبرح: لا أفارقك حتى أبلغ مجمع البحرين، وقيل يجوز أن يكون من برح التام، بمعنى زال يزال، ومجمع البحرين ملتقاهما. قيل المراد بالبحرين بحر فارس والروم، وقيل بحر الأردن وبحر القلزم، وقيل مجمع البحرين عند طنجة، وقيل بإفريقية. وقالت طائفة: المراد بالبحرين موسى والخضر، وهو من الضعف بمكان، وقد حكي عن ابن عباس ولا يصح "أو أمضي حقباً" أي أسير زماناً طويلاً. قال الجوهري: الحقب بالضم ثمانون سنة. وقال النحاس: الذي يعرفه أهل اللغة أن الحقب والحقبة زمان من الدهر مبهم غير محدود، كما أن رهطاً وقوماً منهم غير محدود، وجمعه أحقاب. وسبب هذه العزيمة على السير من موسى عليه السلام ما روي أنه سئل موسى من أعلم الناس؟ فقال أنا، فأوحى الله إليه: إن أعلم منك عبد لي عند مجمع البحرين.
61- "فلما بلغا" أي موسى وفتاه "مجمع بينهما" أي بين البحرين، وأضيف مجمع إلى الظرف توسعاً، وقيل البين: بمعنى الافتراق: أي البحران المفترقان يجتمعان هناك، وقيل الضمير لموسى والخضر: أي وصلا الموضع الذي فيه اجتماع شملهما، ويكون البين على هذا بمعنى الوصل، لأنه من الأضداد، والأول أولى "نسيا حوتهما" قال المفسرون: إنهما تزودا حوتاً مملحاً في زنبيل، وكانا يصيبان منه عند حاجتهما إلى الطعام، وكان قد جعل الله فقدانه أمارة لهما على وجدان المطلوب. والمعنى أنهما نسيا بفقد أمره، وقيل الذي نسي إنما هو فتى موسى، لأنه وكل أمر الحوت إليه، وأمره أن يخبره إذا فقده، فلما انتهيا إلى ساحل البحر وضع فتاه المكتل الذي فيه الحوت فأحياه الله، فتحرك واضطرب في المكتل، ثم انسرب في البحر، ولهذا قال: "فاتخذ سبيله في البحر سرباً" انتصاب سرباً على أنه المفعول الثاني لاتخذ، أي اتخذ سبيلاً سرباً، والسرب النفق الذي يكون في الأرض للضب ونحوه من الحيوانات، وذلك أن الله سبحانه أمسك جرية الماء على الموضع الذي انسرب فيه الحوت فصار كالطاق فشبه مسلك الحوت في البحر مع بقائه وانجياب الماء عنه بالسرب الذي هو الكوة المحفورة في الأرض. قال الفراء: لما وقع في الماء جمد مذهبه في البحر فكان كالسرب، فلما جاوزا ذلك المكان الذي كانت عنده الصخرة وذهب الحوت فيه انطلقا، فأصابهما ما يصيب المسافر من النصب والكلال، ولم يجدا النصب حتى جاوزا الموضع الذي فيه الخضر.