تفسير الطبري تفسير الصفحة 300 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 300
301
299
 الآية : 54
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلَقَدْ صَرّفْنَا فِي هَـَذَا الْقُرْآنِ لِلنّاسِ مِن كُلّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً }.
يقول عزّ ذكره: ولقد مثلنا فـي هذا القرآن للناس من كلّ مثل, ووعظناهم فـيه من كلّ عظة, واحتـججنا علـيهم فـيه بكلّ حجة لـيتذكّروا فـينـيبوا, ويعتبروا فـيتعظوا, وينزجروا عما هم علـيه مقـيـمون من الشرك بـالله وعبـادة الأوثان وكانَ الإنْسانُ أكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً يقول: وكان الإنسان أكثر شيء مراء وخصومة, لا ينـيب لـحقّ, ولا ينزجر لـموعظة, كما:
17457ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: وكانَ الإنْسانُ أكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً قال: الـجدل: الـخصومة, خصومة القوم لأنبـيائهم, وردّهم علـيهم ما جاءوا به. وقرأ: مَا هَذَا إلاّ بَشرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِـمّا تَأْكُلُونَ منه وَيَشْرَبُ مِـمّا تَشْرَبُونَ. وقرأ: يُرِيدُ أنْ يَتَفَضّلَ عَلَـيْكُمْ. وقرأ: حتـى تُوَفّـى... الاَية: وَلَوْ نَزّلْنا عَلَـيْكَ كِتابـا فِـي قِرْطاسٍ... الاَية. وقرأ: وَلَوْ فَتَـحْنا عَلَـيْهِمْ بـابـا مِنَ السّماءِ فَظَلّوا فِـيهِ يَعْرُجُونَ قال: هم لـيس أنت لقالوا إنّـمَا سُكّرَت أبْصَارُنا بَلْ نَـحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ.
الآية : 55
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَمَا مَنَعَ النّاسَ أَن يُؤْمِنُوَاْ إِذْ جَآءَهُمُ الْهُدَىَ وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبّهُمْ إِلاّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنّةُ الأوّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً }.
يقول عزّ ذكره: وما منع هؤلاء الـمشركين يا مـحمد الإيـمان بـالله إذ جاءهم الهدى بـيان الله, وعلـموا صحة ما تدعوهم إلـيه وحقـيقته, والاستغفـار مـما هم علـيه مقـيـمون من شركهم, إلا مـجيئهم سنتنا فـي أمثالهم من الأمـم الـمكذبة رسلها قبلهم, أو إتـيانهم العذاب قُبُلا.
واختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك, فقال بعضهم: معناه: أو يأتـيهم العذاب فجأة. ذكر من قال ذلك:
17458ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, فـي قوله: أوْ يَأتِـيَهُمُ العَذَابُ قُبُلاً قال فجأة.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد, مثله.
وقال آخرون: معناه: أو يأتـيهم العذاب عيانا. ذكر من قال ذلك:
17459ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله أوْ يَأتِـيَهُمُ العَذَابُ قُبُلاً قال: قبلاً معاينة ذلك القبل.
وقد اختلف القرّاء فـي قراءة ذلك, فقرأته جماعة ذات عدد أوْ يَأْتِـيَهُمْ العَذَابُ قُبُلاً بضمّ القاف والبـاء, بـمعنى أنه يأتـيهم من العذاب ألوان وضروب, ووجهوا القُبُل إلـى جمع قبـيـل, كما يُجمع القتـيـل القُتُل, والـجديد الـجُدُد. وقرأ جماعة أخرى: «أوْ يَأْتِـيَهُمْ العَذَابُ قِبَلاً» بكسر القاف وفتـح البـاء, بـمعنى أو يأتـيهم العذاب عيانا من قولهم: كلـمته قِبَلاً. وقد بـيّنت
القول فـي ذلك فـي سورة الأنعام بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع.
الآية : 56
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاّ مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَادِلُ الّذِينَ كَفَرُواْ بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ الْحَقّ وَاتّخَذُوَاْ آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُواْ هُزُواً }.
يقول عزّ ذكره: وما نرسل إلا لـيبشروا أهل الإيـمان والتصديق بـالله بجزيـل ثوابه فـي الاَخرة, ولـينذروا أهل الكفر به والتكذيب, عظيـم عقابه, وألـيـم عذابه, فـينتهوا عن الشرك بـالله, وينزجروا عن الكفر به ومعاصيه ويُجادِلُ الّذينَ كَفَرُوا بـالبـاطِلِ لِـيُدْحِضُوا بِهِ الـحَقّ يقول: ويخاصم الذين كذّبوا بـالله ورسوله بـالبـاطل, ذلك كقولهم للنبـيّ صلى الله عليه وسلم: أخبرنا عن حديث فتـية ذهبوا فـي أوّل الدهر لـم يدر ما شأنهم, وعن الرجل الذي بلغ مشارق الأرض ومغاربها, وعن الروح, وما أشبه ذلك مـما كانوا يخاصمونه به, يبتغون إسقاطه, تعنـيتا له صلى الله عليه وسلم, فقال الله لهم: إنا لسنا نبعث إلـيكم رسلنا للـجدال والـخصومات, وإنـما نبعثهم مبشرين أهل الإيـمان بـالـجنة, ومنذرين أهل الكفر بـالنار, وأنتـم تـجادلونهم بـالبـاطل طلبـا منكم بذلك أن تبطلوا الـحقّ الذي جاءكم به رسولـي. وعنى بقوله: لـيُدْحِضُوا بِهِ الـحَقّ لـيبطلوا به الـحقّ ويزيـلوه ويذهبوا به. يقال منه: دحض الشيء: إذا زال وذهب, ويقال: هذا مكان دَحْض: أي مُزِل مُزْلِق لا يثبت فـيه خفّ ولا حافر ولا قدم ومنه قوله الشاعر:
رَدِيتُ ونَـجّى الـيَشْكُرِيّ حِذَارُهُ
وحادَ كما حادَ البَعيرُ عَن الدّحْضِ
ويروى: ونـحّى, وأدحضته أنا: إذا أذهبته وأبطلته.
وقوله: واتّـخَذُوا آياتـي وَما أُنْذِرُوا هُزُوا يقول: واتـخذوا الكافرون بـالله حججه التـي احتـجّ بها علـيهم, وكتابه الذي أنزله إلـيهم, والنذر التـي أنذرهم بها سخريا يسخرون بها, يقولون: إنْ هَذَا إلاّ أساطِيرُ الأوّلِـينَ اكْتَتَبها فَهِيَ تُـمْلـىَ عَلـيْهِ بُكْرَةً وَأصِيلاً ولَوْ شِئْنا لَقُلْنا مِثْلَ هَذَا.
الآية : 57
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمّن ذُكّرَ بِآيِاتِ رَبّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدّمَتْ يَدَاهُ إِنّا جَعَلْنَا عَلَىَ قُلُوبِهِمْ أَكِنّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَىَ الْهُدَىَ فَلَنْ يَهْتَدُوَاْ إِذاً أَبَداً }.
يقول عزّ ذكره: وأيّ الناس أوضع للإعراض والصدّ فـي غير موضعهما مـمن ذكره بآياته وحججه, فدله بها علـى سبـيـل الرشاد, وهداه بها إلـى طريق النـجاة, فأعرض عن آياته وأدلته التـي فـي استدلاله بها الوصول إلـى الـخلاص من الهلاك وَنَسِيَ ما قَدّمَتْ يَدَاهُ يقول: ونسي ما أسلف من الذنوب الـمهلكة فلـم يتب, ولـم ينب كما:
17460ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَنَسِيَ ما قَدّمَتْ يَدَاهُ: أي نسي ما سلف من الذنوب.
وقوله: إنّا جَعَلْنا علـى قُلوبِهِمْ أكِنّةَ أنْ يَفْقَهُوهُ وفِـي آذانِهِمْ وَقْرا يقول تعالـى ذكره: إنا جعلنا علـى قلوب هؤلاء الذين يعرضون عن آيات الله إذا ذكروا بها أغطية لئلا يفقهوه, لأن الـمعنى أن يفقهوا ما ذكروا به. وقوله: وفِـي آذانِهِمْ وَقْرا يقول: فـي آذانهم ثقلاً لئلا يسمعوه وَإنْ تَدْعُهُمْ إلـى الهُدَى يقول عزّ ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: وَإنْ تَدْعُ يا مُـحَمّد هؤلاء الـمعرضين عن آيات الله عند التذكير بها إلـى الاستقامة علـى مـحجة الـحقّ والإيـمان بـالله, وما جئتهم به من عند ربك فَلَنْ يَهْتَدُوا إذًا أبَدًا يقول: فلن يستقـيـموا إذا أبدا علـى الـحقّ, ولن يؤمنوا بـما دعوتهم إلـيه, لأن الله قد طبع علـى قلوبهم, وسمعهم وأبصارهم.
الآية : 58
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَرَبّكَ الْغَفُورُ ذُو الرّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُواْ لَعَجّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَل لّهُم مّوْعِدٌ لّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلاٍ }.
يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: وربك الساتر يا مـحمد علـى ذنوب عبـاده بعفوه عنهم إذا تابوا منهم ذُو الرّحمَةِ بِهِمْ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِـمَا كَسَبُوا هؤلاء الـمعرضين عن آياته إذا ذكروا بها بـما كسبوا من الذنوب والاَثام, لَعجّلَ لَهُمُ العَذَابَ ولكنه لرحمته بخـلقه غير فـاعل ذلك بهم إلـى ميقاتهم وآجالهم, بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ يقول: لكن لهم موعد, وذلك ميقات مـحلّ عذابهم, وهو يوم بدر لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً يقول تعالـى: ذكره: لن يجد هؤلاء الـمشركون, وإن لـم يعجل لهم العذاب فـي الدنـيا من دون الـموعد الذي جعلته ميقاتا لعذابهم, ملـجأً يـلـجأون إلـيه, ومنـجى ينـجون معه, يعنـي أنهم لا يجدون معقلاً يعتقلون به من عذاب الله يقال منه: وألت من كذا إلـى كذا, أئل وُؤولاً, مثل وعولاً ومنه قول الشاعر:
لا وَاءَلَتْ نَفْسُكَ خَـلّـيْتَهاللْعامِرِيـيّن ولَـمْ تُكْلَـمِ
يقول: لانـجت وقول الأعشى:
وَقَدْ أُخالِسُ رَبّ البَـيْتِ غَفْلَتَهُوقَدْ يُحاذِرِ مِنّـي ثَمّ ما يَئِلُ
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك, قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
17461ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى «ح» وحدثنـي الـحرث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: مَوْئِلاً قال: مـحرزا.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد, مثله.
17462ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً: يقول: ملـجأ.
17463ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً: أي لن يجدوا من دونه ولـيا ولا ملْـجأً.
17464ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئلاً قال: لـيس من دونه ملـجأ يـلـجأون إلـيه.
الآية : 59
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَتِلْكَ الْقُرَىَ أَهْلَكْنَاهُمْ لَمّا ظَلَمُواْ وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مّوْعِداً }.
يقول تعالـى ذكره: وتلك القُرى من عاد وثمود وأصحاب الأيكة أهلكنا أهلها لـما ظلـموا, فكفروا بـالله وآياته, وَجَعَلْنا لِـمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدا يعنـي ميقاتا وأجلاً, حين بلغوه جاءهم عذاب فأهلكناهم به, يقول: فكذلك جعلنا لهؤلاء الـمشركين من قومك يا مـحمد الذين لا يؤمنون بك أبدا موعدا, إذا جاءهم ذلك الـموعد أهلكناهم سنتنا فـي الذين خـلوا من قبلهم من ضربـائهم كما:
17465ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى «ح» وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: لِـمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدا قال: أجلاً.
حدثنا القاسم, قال: ثنـي الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد, مثله.
واختلفت القرّاء فـي قراءة قوله لِـمَهْلِكِهِمْ فقرأ ذلك عامّة قرّاء الـحجاز والعراق: «لِـمُهْلِكِهمْ» بضمّ الـميـم وفتـح اللام علـى توجيه ذلك إلـى أنه مصدر من أهلكوا إهلاكا. وقرأه عاصم: «لِـمَهْلَكِهِمْ» بفتـح الـميـم واللام علـى توجيهه إلـى الـمصدر من هلكوا هلاكا ومهلكا.
وأولـى القراءتـين بـالصواب عندي فـي ذلك قراءة من قرأه: «لـمُهْلَكِهِمْ» بضمّ الـميـم وفتـح اللام لإجماع الـحجة من القرّاء علـيه, واستدلالاً بقوله: وَتِلْكَ القُرَى أهْلَكْناهُمْ فأن يكون الـمصدر من أهلكنا, إذ كان قد تقدّم قبله أولـى. وقـيـل: أهلكناهم, وقد قال قبل: وَتلكَ القُرَى, لأن الهلاك إنـما حلّ بأهل القرى, فعاد إلـى الـمعنى, وأجرى الكلام علـيه دون اللفظ.
وقال بعض نـحويـي البصرة: قال: وَتَلْكَ القُرَى أهْلَكْناهُمْ لَـمّا ظَلَـمُوا يعنـي أهلها, كما قال: وَاسْئَلِ القَرْيَةِ ولـم يجيء بلفظ القرى, ولكن أجرى اللفظ علـى القوم, وأجرى اللفظ فـي القرية علـيها إلـى قوله التـي كُنّا فِـيها, وقال: أهْلكْناهُمْ ولـم يقل: أهلكناها, حمله علـى القوم, كما قال: جاءت تـميـم, وجعل الفعل لبنـي تـميـم, ولـم يجعله لتـميـم, ولو فعل ذلك لقال: جاء تـميـم, وهذا لا يحُسن فـي نـحو هذا, لأنه قد أراد غير تـميـم فـي نـحو هذا الـموضع, فجعله اسما, ولـم يحتـمل إذا اعتلّ أن يحذف ما قبله كله معنى التاء من جاءت مع بنـي تـميـم, وترك الفعل علـى ما كان لـيعلـم أنه قد حذف شيئا قبل تـميـم. وقال بعضهم: إنـما جاز أن يقال: تلك القرى أهلكناهم, لأن القرية قامت مقام الأهل, فجاز أن ترد علـى الأهل مرة وعلـيها مرّة, ولا يجوز ذلك فـي تـميـم, لأن القبـيـلة تعرف به ولـيس تـميـم هو القبـيـلة, وإنـما عرفت القبـيـلة به, ولو كانت القبـيـلة قد سميت بـالرجل لـجرت علـيه, كما تقول: وقعت فـي هود, تريد فـي سورة هود ولـيس هود اسما للسورة وإنـما عرفت السورة به, فلو سميت السورة بهود لـم يجر, فقتل: وقعت فـي هود يا هذا, فلـم يجر, وكذلك لو سمي بنـي تـميـم تـميـما لقـيـل: هذه تـميـم قد أقبلت, فتأويـل الكلام: وتلك القرى أهلكناهم لـما ظلـموا, وجعلنا لإهلاكهم موعدا.

الآية : 60
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَىَ لِفَتَاهُ لآ أَبْرَحُ حَتّىَ أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً }.
يقول عزّ ذكره لنبـيه صلى الله عليه وسلم: واذكر يا مـحمد إذ قال موسى بن عمران لفتاه يوشع: لا أبْرَحُ يقول: لا أزال أسير حتـى أبْلُغَ مَـجْمَعَ البَحْرَيْنِ, كما:
17466ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: لا أبْرَحُ قال: لا أنتهي.
وقـيـل: عنى بقوله: مَـجْمَعَ البَحْرَيْنِ اجتـماع بحر فـارس والروم, والـمـجمع: مصدر من قولهم: جمع يجمع. ذكر من قال ذلك:
17467ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: حتـى أبْلُغَ مَـجْمَعَ البَحْرَيْنِ والبحران: بحر فـارس وبحر الروم, وبحر الروم مـما يـلـي الـمغرب, وبحر فـارس مـما يـلـي الـمشرق.
حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, قوله: مَـجْمَعَ البَحْرَيْنِ قال: بحر فـارس, وبحر الروم.
17468ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد مـجمَع البَحْرَينِ قال: بحر الروم, وبحر فـارس, أحدهما قِبَل الـمشرق, والاَخر قِبَل الـمغرب.
17469ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قال: مُـجْمَعَ البَحْرَيْنِ.
17470ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يحيى بن الضريس, قال: حدثنا أبو معشر, عن مـحمد بن كعب, فـي قوله: لا أبْرَحُ حتـى أبْلُغَ مَـجْمَعَ البَحْرَيْنِ قال: طنـجة.
وقوله: أوْ أمْضِيَ حُقُبـا يقول: أو أسير زمانا ودهرا, وهو واحد, ويجمع كثـيره وقلـيـله: أحقاب. وقد تقول العرب: كنت عنده حقبة من الدهر, ويجمعونها حُقبـا. وكان بعض أهل العربـية بوجه تأويـل قوله لا أبْرَحُ: أي لا أزول, ويستشهد لقوله ذلك ببـيت الفرزدق:
فمَا بَرِحُوا حتـى تَهادَتْ نِساؤُهُمْببَطْحاءِ ذِي قارٍ عِيابَ اللّطائِمِ
يقول: ما زالوا.
وذكر بعض أهل العلـم بكلام العرب, أن الـحقب فـي لغة قـيس: سنة. فأما أهل التأويـل فإنهم يقولون فـي ذلك ما أنا ذاكره, وهو أنهم اختلفوا فـيه, فقال بعضهم: هو ثمانون سنة. ذكر من قال ذلك:
17471ـ حُدثت عن هشيـم, قال: حدثنا أبو بلـج, عن عمرو بن ميـمون, عن عبد الله بن عمرو, قال: الـحقب: ثمانون سنة.
وقال آخرون: هو سبعون سنة. ذكر من قال ذلك:
17472ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد أوْ أمْضِيَ حُقُبـا قال: سبعين خريفـا.
حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
وقال آخرون فـي ذلك, بنـحو الذي قلنا. ذكر من قال ذلك:
17473ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: أوْ أمْضِيَ حُقُبـا قال: دهرا.
17474ـ حدثنا أحمد بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, فـي قوله حُقَبـا قال: الـحقب: زمان.
17475ـ حدثنا يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: أوْ أمْضِيَ حُقُبـا قال: الـحقب: الزمان.
الآية : 61
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَلَمّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً }.
يعنـي تعالـى ذكره: فلـما بلغ موسى وفتاه مـجمع البحرين, كما:
17476ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحرث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله مَـجْمَعَ بَـيْنِهِما قال: بـين البحرين.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد, مثله.
وقوله: نَسيا حُوَتهُما يعنـي بقوله: نسيا: تركا, كما:
17477ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد نَسيَا حُوَتهُما قال: أضلاه.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد, قال: أضلاه.
قال بعض أهل العربـية: إن الـحوت كان مع يوشع, وهو الذي نسيه, فأضيف النسيان إلـيهما, كما قال: يَخْرُجُ مِنْهُما اللّؤْلُؤُ والـمَرْجانُ وإنـما يخرج من الـملـح دون العذب.
وإنـما جاز عندي أن يقال: نَسِيا لأنهما كانا جميعا تزوّداه لسفرهما, فكان حمل أحدهما ذلك مضافـا إلـى أنه حمل منهما, كما يقال: خرج القوم من موضع كذا, وحملوا معهم كذا من الزاد, وإنـما حمله أحدهما ولكنه لـما كان ذلك عن رأيهم وأمرهم أضيف ذلك إلـى جميعهم, فكذلك إذا نسيه حامله فـي موضع قـيـل: نسي القوم زادهم, فأضيف ذلك إلـى الـجميع بنسيان حامله ذلك, فـيجرى الكلام علـى الـجميع, والفعل من واحد, فكذلك ذلك فـي قوله: نَسِيا حُوَتُهما لأن الله عزّ ذكره خاطب العرب بلغتها, وما يتعارفونه بـينهم من الكلام.
وأما قوله: يَخْرُجُ مِنْهُما اللّؤلُؤُ والـمَرْجانُ فإن القول فـي ذلك عندنا بخلاف ما قال فـيه, وسنبـينه إن شاء الله تعالـى إذا انتهينا إلـيه.
وأما قوله: فـاتّـخَذَ سَبِـيـلَهُ فِـي البَحْرِ سَرَبـا فإنه يعنـي أن الـحوت اتـخذ طريقه الذي سلكه فـي البحر سربـا, كما:
17478ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد فـاتّـخَذَ سَبِـيـلَهُ فِـي البَحْرِ سَرَبـا قال: الـحوت اتـخذ. ويعنـي بـالسرب: الـمسلك والـمذهب, يسرب فـيه: يذهب فـيه ويسلكه.
ثم اختلف أهل العلـم فـي صفة اتـخاذه سبـيـله فـي البحر سربـا, فقال بعضهم: صار طريقه الذي يسلك فـيه كالـحجر. ذكر من قال ذلك:
17479ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: قال ابن عبـاس, قوله سَرَبـا قال: أثره كأنه حجر.
17480ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, قال: ثنـي مـحمد بن إسحاق, عن الزهري, عن عبـيد الله بن عبد الله عن ابن عبـاس, عن أبـيّ بن كعب, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ذكر حديث ذلك: «ما انْـجابَ ماءٌ مُنْذُ كانَ النّاسُ غيرُهُ ثَبَتَ مَكانُ الـحُوتِ الّذِي فِـيهِ فـانْـجابَ كالكُوّةِ حتـى رَجَعَ إلَـيْهِ مُوسَى, فَرأى مَسْلَكَهُ, فقالَ: ذلكَ ما كُنّا نَبْغي».
17481ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا ابن عطية, قال: حدثنا عمرو بن ثابت, عن أبـيه, عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس, فـي قوله فـاتّـخَذَ سَبـيـلَهُ فِـي البَحْرِ سَرَبـا قال: جاء فرأى أثر جناحيه فـي الطين حين وقع فـي الـماء, قال ابن عبـاس فـاتّـخَذَ سَبِـيـلَهُ فِـي البَحْرِ سَرَبـا وحلق بـيده.
وقال آخرون: بل صار طريقه فـي البحر ماء جامدا. ذكر من قال ذلك:
17482ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قال: سرب من الـجرّ حتـى أفضى إلـى البحر, ثم سلك, فجعل لا يسلك فـيه طريقا إلا صار ماء جامدا.
وقال آخرون: بل صار طريقه فـي البحر حجرا. ذكر من قال ذلك:
17483ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قال: جعل الـحوت لا يـمسّ شيئا من البحر إلا يبس حتـى يكون صخرة.
وقال آخرون: بل إنـما اتـخذ سبـيـله سربـا فـي البرّ إلـى الـماء, حتـى وصل إلـيه لا فـي البحر. ذكر من قال ذلك:
17484ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: فـاتّـخَذَ سَبِـيـلَهُ فِـي البَحْرِ سَرَبـا قال: قال: حشر الـحوت فـي البطحاء بعد موته حين أحياه الله. قال ابن زيد, وأخبرنـي أبو شجاع أنه رآه قال: أتـيت به فإذا هو شقة حوت وعين واحدة, وشقّ آخر لـيس فـيه شيء.
والصواب من القول فـي ذلك أن يقال كما قال الله عزّ وجلّ: واتـخذ الـحوت طريقه فـي البحر سربـا. وجائز أن يكون ذلك السرب كان بـانـجياب عن الأرض وجائز أن يكون كان بجمود الـماء وجائز أن يكون كان بتـحوّله حجرا.
وأصحّ الأقوال فـيه ما رُوي الـخبر به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ذكرنا عن أبـيّ عنه