تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 313 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 313

312

13- "وأنا اخترتك" قرأ أهل المدينة، وأهل مكة وأبو عمرو وابن عامر وعاصم والكسائي "وأنا اخترتك" بالإفراد. وقرأ حمزة " وأنا اخترتك " بالجمع. قال النحاس: والقراءة الأولى أولى من جهتين: إحداهما أنها أشبه بالخط، والثانية أنها أولى بنسق الكلام لقوله: " يا موسى * إني أنا ربك "، ومعنى اخترتك اصطفيتك للنبوة والرسالة، والفاء في قوله: "فاستمع لما يوحى" لترتيب ما بعدها على ما قبلها وما موصولة أو مصدرية أي فاستمع للذي يوحى إليك، أو للوحي.
وجملة 14- "إنني أنا الله" بدل من ما في لما يوحى. ثم أمره سبحانه بالعبادة فقال: " فاعبدني " والفاء هنا كالفاء التي قبلها لأن اختصاص الإلهية به سبحانه موجب لتخصيصه بالعبادة "وأقم الصلاة لذكري" خص الصلاة بالذكر مع كونها داخلة تحت الأمر بالعبادة، لكونها أشرف طاعة وأفضل عبادة، وعلل الأمر بإقامة الصلاة بقوله "لذكري": أي لتذكرني فإن الذكر الكامل لا يتحقق إلا في ضمن العبادة والصلاة، أو المعنى لتذكرني فيهما لاشتمالهما على الأذكار، أو المعنى: أقم الصلاة متى ذكرت أن عليك صلاة. وقيل المعنى: لأذكرك بالمدح في عليين، فالمصدر على هذا يحتمل الإضافة إلى الفاعل أو إلى المفعول.
وجملة 15- "إن الساعة آتية" تعليل لما قبلها من الأمر: أي إن الساعة التي هي وقت الحساب والعقاب آتية، فاعمل الخير من عبادة الله والصلاة. ومعنى "أكاد أخفيها" مختلف فيه. قال الواحدي: قال أكثر المفسرين: أخفيها من نفسي، وهو قول سعيد بن جبير ومجاهد وقتادة. وقال المبرد وقطرب: هذا على عادة مخاطبة العرب يقولون إذاً بالغوا في كتمان الشيء كتمته حتى من نفسي: أي لم أطلع عليه أحداً، ومعنى الآية أن الله بالغ في إخفاء الساعة، فذكره بأبلغ ما تعرفه العرب. وقد روي سعيد بن جبير أنه قرأ أخفيها بفتح الهمزة ومعناه أظهرها، وكذا روى أبو عبيدة عن الكسائي عن محمد بن سهل عن وفاء بن إياس عن سعيد بن جبير. قال النحاس: وليس لهذه الرواية طريق غير هذا. قال القرطبي: وكذا رواه ابن الأنباري في كتاب الرد قال: حدثني أبي حدثنا محمد بن الجهم، حدثنا الفراء حدثنا الكسائي فذكره. قال النحاس: وأجود من هذا الإسناد ما رواه يحيى القطان عن الثوري عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير أنه قرأ أخفيها بضم الهمزة. قال ابن الأنباري: قال الفراء: ومعنى قراءة الفتح أكاد أظهرها، من خفيت الشيء إذا أظهرته أخفيه. قال القرطبي: وقد قال بعض اللغويين: يجوز أن يكون أخفيها بضم الألف معناه أظهرها، لأنه يقال خفيت الشيء وأخفيته من حروف الأضداد يقل على الستر والإظهار. قال أبو عبيدة: خفيت وأخفيت بمعنى واحد. قال النحاس: وهذا حسن، وقد أنشد الفراء وسيبويه ما يدل على أن معنى أخفاه أظهر، وذلك قول امريء القيس: فإن تكتموا الداء لا نخفه وإن تبعثوا الحرب لا نقعد أي: وإن تكتموا الداء لا نظهره. وقد حكى أبو عبيدة عن أبي الخطاب أنه بضم النون من نخفه، وقال: امرؤ القيس: خفاهن من أنفاقهن كأنما خطاهن ودق من غشي مخلب أي: أظهرهن. وقد زيف النحاس هذا القول وقال: ليس المعنى على أظهرها، ولا سيما وأخفيها قراءة شاذة، فكيف ترد القراءة الصحيحة الشائعة. وقال ابن الأنباري: في الآية تفسير آخر، وهو أن الكلام ينقطع على أكاد، ويعده مضمر: أي أكاد آتي بها، ووقع الابتداء بأخفيها " لتجزى كل نفس بما تسعى"، ومثله قول عمير ابن ضابيء البرجمي: هممت ولم أفعل وكدت وليتني تركت على عثمان تبكي حلائله أي وكدت أفعل، واختار هذا النحاس. وقال أبو علي الفارسي: هو من باب السلب وليس الأضداد، ومعنى أخفيها: أزيل عنها خفاءها، وهو سترها، ومن هذا قولهم أشكيته: أي أزلت شكواه. وحكى أبو حاتم عن الأخفش أن أكاد زائدة للتأكيد، قال: ومثله- إذا أخرج يده لم يكد يراها- ومثله قول الشاعر: سريع إلى الهيجاء شاك سلاحه فما أن يكاد قرنه يتنفس قال: والمعنى أكاد أخفيها: أي أقارب ذلك، لأنك إذا قلت: كاد زيد يقوم جاز أن يكون قام وأن يكون لم يقم، ودل على أنه أخفاها بدلالة غير هذه الآية على هذا، وقوله: "لتجزى كل نفس بما تسعى" متعلق بآتية، أو بأخفيها، وما مصدرية: أي لتجزئ كل نفس بسعيها، والسعي وإن كان ظاهراً في الأفعال، فهو هنا يعم الأفعال والتروك، للقطع بأن تارك ما يجب عليه معاقب بتركه مأخوذ به.
16- "فلا يصدنك عنها" أي لا يصرفنك عن الإيمان بالساعة، والتصديق بها، أو عن ذكرها ومراقبتها "من لا يؤمن بها" من الكفرة، وهذا النهي وإن كان للكافر بحسب الظاهر، فهو في الحقيقة نهي له صلى الله عليه وسلم عن الانصداد، أو عن إظهار اللين للكافرين فهو من باب: لا أرينك ها هنا، كما هو معروف. وقيل الضمير في عنها للصلاة وهو بعيد، وقوله: "واتبع هواه" معطوف على ما قبله: أي من لا يؤمن، ومن اتبع هواه: أي هوى نفسه بالانهاك في اللذات الحسية الفانية "فتردى" أي فتهلك لأن انصدادك عنها بصد الكفارين لك مستلزم للهلاك ومستتبع له. وقد أخرج ابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في الشعب وابن عساكر عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم "وأول ما نزل عليه الوحي كان يقوم على صدر قدميه إذا صلى، فأنزل الله " طه * ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى "". وأخرج ابن جرير وابن مردويه عنه قال: قالوا لقد شقي هذا الرجل بربه، فأنزل الله هذه الآية. وأخرج ابن عساكر عنه أيضاً قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يربط نفسه بحبل لئلا ينام، فأنزل الله هذه الآية. وأخرج البزار عن علي قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يراوح بين قدميه يقوم على كل رجل حتى نزلت: "ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى" وحسن السيوطي إسناده. وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً بأطول منه. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ربما قرأ القرآن إذا صلى، فقام على رجل واحدة، فأنزل الله "طه" برجليك فما أنزلنا عليك القرآن لتشقى. وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عنه في قوله: "طه" قال: يا رجل. وأخرج الحارث بن أبي أسامة وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: "طه" بالنبطية. أي طأ يا رجل. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه أيضاً قال: هو كقولك اقعد. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عنه قال: "طه" بالنبطية يا رجل. وأخرج ابن جرير عنه قال "طه" يا رجل بالسريانية. وأخرج الحاكم عنه أيضاً قال: "طه" هو كقولك يا محمد بلسان الحبش. وفي هذه الروايات عن ابن عباس اختلاف وتدافع. وأخرج ابن مردويه عن أبي الطفيل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لي عند ربي عشرة أسماء، قال أبو طفيل: حفظت منها ثمانية: محمد، وأحمد، وأبو القاسم، والفاتح، والخاتم، والماحي، والعاقب، والحاشر" وزعم سيف أن أبا جعفر قال له: الاسمان الباقيان طه ويس. وأخرج البيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله: " طه * ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى " قال: يا رجل ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى، وكان يقوم اللليل على رجليه فهي لغة لعك إن قلت لعكي يا رجل لم يلتفت، وإذا قلت طه التفت إليك. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال: "طه" قسم أقسم الله به، وهو من أسمائه. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "وما تحت الثرى" قال: الثرى كل شيء مبتل. وأخرج أبو يعلى عن جابر "أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل ما تحت هذه الأرض؟ قال: الماء، قيل: فما تحت الماء؟ قال: ظلمة، قيل: فما تحت الظلمة؟ قال: الهواء قيل: فما تحت الهواء؟ قال: الثرى، قيل: فما تحت الثرى؟ قال: انقطع علم المخلوقين عند علم الخالق". وأخرج ابن مردويه عنه نحوه بأطول منه. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله: " يعلم السر وأخفى " قال: السر ما أسره ابن آدم في نفسه وأخفى ما خفي عن ابن آدم مما هو فاعله قبل أن يعلمه، فإنه يعلم ذلك كله فيما مضى من ذلك وما بقي علم واحد وجميع الخلائق عنده في ذلك كنفس واحدة وهو كقوله: " ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة " وأخرج الحاكم وصححه عنه في الآية قال: السر ما علمته أنت، وأخفى ما قذف الله في قلبك مما لم تعلمه. وأخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وأبو الشيخ في العظمة والبيهقي بلفظ يعلم ما تسر في نفسك ويعلم ما تعمل غداً. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "أو أجد على النار هدى" يقول: من يدل على الطريق. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن علي في قوله: "فاخلع نعليك" قال: كانتا من جلد حمار ميت فقيل له اخلعهما. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس "إنك بالواد المقدس طوى" قال المبارك، طوى قال اسم الوادي. وأخرج ابن أبي حاتم عنه "بالواد المقدس طوى" يعني الأرض المقدسة، وذلك أنه مر بواديها ليلاً فطوى: يقال طويت وادي كذا وكذا. وأخرج ابن جرير عنه أيضاً في قوله: "طوى" قال: طإ الوادي. وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها فليصلها إذا ذكرها، فإن الله قال: "أقم الصلاة لذكري"". وأخرج الترمذي وابن ماجه وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان وابن مردويه من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها، فإن الله قال "أقم الصلاة لذكري"". وكان ابن شهاب يقرأها للذكرى. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "أكاد أخفيها" قال: لا أظهر عليها أحداً غيري. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: "أكاد أخفيها" من نفسي.
قوله: 17- "وما تلك بيمينك يا موسى" قال الزجاج والفراء: إن تلك اسم ناقص وصلت بيمينك: أي ما التي بيمينك؟ وروي عن الفراء أنه قال: تلك بمعنى هذه، ولو قال ما ذلك لجاز: أي ما ذلك الشيء؟ وبالأول قال الكوفيون. قال الزجاج: ومعنى سؤال موسى عما في يده من العصا التنبيه له عليها لتقع المعجزة بها بعد التثبيت فيها والتأمل لها. قال الفراء: ومقصود السؤال تقرير الأمر حتى يقول موسى هي عصاي لتثبيت الحجة عليه بعد ما اعترف، وإلا فقد علم الله ما هي في الأزل، ومحل ما الرفع على الابتداء، وتلك خبره، وبيمينك في محل نصب على الحال إن كانت تلك اسم إشارة على ما هو ظاهر اللفظ، وإن كانت إسماً موصولاً كان بيمينك صلة للموصول.
18- "قال هي عصاي" قرأ ابن أبي إسحاق عصي على لغة هذيل. وقرأ الحسن عصاي بكسر الياء لالتقاء الساكنين "أتوكأ عليها" أي أتحامل عليها في المشي وأعتمدها عند الإعياء والوقوف ومنه الاتكاء "وأهش بها على غنمي" هش بالعصا يهش هشاً: إذا خبط بها الشجر ليسقط منه الورق. قال الشاعر: أهش بالعصا على أغنامي من ناعم الأوراك والسنام وقرأ النخعي أهس بالسين المهملة، وهو زجر الغنم، وكذا قرأ عكرمة، وقيل هما لغتان لمعنى واحد "ولي فيها مآرب أخرى" أي حوائج واحدها مأربة ومأربة ومأربة مثلث الراء، كذا قال ابن الأعرابي وقطرب، ذكر تفصيل منافع العصا، ثم عقبه بالإجمال. وقد تعرض قوم لتعداد منافع العصا فذكروا من ذلك أشياء: منها قول بعض العرب: عصاي أركزها لصلاتي، وأعدها لعداتي، وأسوق بها دابتي، وأقوى بها على سفري، وأعتمد بها في مشيتي، ليتسع خطوي، وأثب بها النهر، وتؤمنني العثر، وألقي عليها كسائي، فتقيني الحر، وتدفيني من القر، وتدني إلي ما بعد مني وهي تحمل سفرتي، وعلاقة إداوتي، أعصي بها عند الضراب، وأقرع بها الأبواب، وأقي بها عقور الكلاب، وتنوب عن الرمح في الطعان، وعن السيف عند منازلة الأقران، ورثتها عن أبي وأورثها بعدي بني انتهى. وقد وقفت على مصنف في مجلد لطيف في منافع العصا لبعض المتأخرين، وذكر فيه أخباراً وأشعاراً وفوائد لطيفة ونكتاً رشيقة. وقد جمع الله سبحانه لموسى في عصاه من البراهين العظام والآيات الجسام ما أمن به مون كيد السحرة ومعرة المعاندين، واتخذها سليمان لخطبته وموعظته وطول صلاته، وكان ابن مسعود صاحب عصا النبي صلى الله عليه وسلم وعنزته وكان يخطب بالقضيب وكذلك الخلفاء من بعده، وكان عادة العرب العرباء أخذ العصا والاعتماد عليها عند الكلام، وفي المحافل والخطب.
19- "قال ألقها يا موسى" هذه جملة مستأنفة جواب سؤال مقدر، أمره سبحانه بإلقائها ليريه ما جعل له فيها من المعجزة الظاهرة.
20- "فألقاها" موسى على الأرض "فإذا هي حية تسعى" وذلك بقلب الله سبحانه لأوصافها وأعراضها حتى صارت حية تسعى: أي تمشي بسرعة وخفة، قيل كانت عصا ذات شعبتين فصار الشعبتان فما وباقيها جسم حية تنقل من مكان إلى مكان وتلتقم الحجارة مع عظم جرمها وفظاعة منظرها، فلما رآها كذلك خاف وفزع وولى مدبراً ولم يعقب.
فعند ذلك 21- "قال" سبحانه "خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى" قال الأخفش والزجاج: التقدير إلى سيرتها، مثل: "واختار موسى قومه" قال: ويجوز أن يكون مصدراً، لأن معنى سنعيدها سنسيرها، ويجوز أن يكون المصدر بمعنى اسم الفاعل: أي سائرة، أو بمعنى اسم المفعول: أي مسيرة. والمعنى: سنعيدها بعد أخذك لها إلى حالتها الأولى التي هي العصوبة. قيل إنه لما قيل له لا تخف بلغ من عدم الخوف إلى أن كان يدخل يده في فمها ويأخذ بلحيتها.
22- "واضمم يدك إلى جناحك" قال الفراء والزجاج: جناح الإنسان عضده، وقال قطرب: جناح الإنسان جنبه، وعبر عن الجنب بالجناح لأنه في محل الجناح، وقيل إلى بمعنى مع. أي مع جناحك، وجواب الأمر "تخرج بيضاء" أي تخرج يدك حال كونها بيضاء، ومحل "من غير سوء" النصب على الحال: أي كائنة من غير سوء، والسوء العيب، كنى به عن البرص: أي تخرج بيضاء ساطعاً نورها تضيء بالليل والنهار كضوء الشمس من غير برص، وانتصاب "آية أخرى" على الحال أيضاً: أي معجزة أخرى غير العصا. وقال الأخفش: إن آية منتصبة على أنها بدل من بيضاء. قال النحاس وهو قول حسن. وقال الزجاج: المعنى آتيناك أو نؤتيك آية أخرى لأنه لما قال "تخرج بيضاء" دل على أنه قد آتاه آية أخرى.
ثم علل سبحانه ذلك بقوله: 23- "لنريك من آياتنا الكبرى" قيل والتقدير: فعلنا ذلك لنريك، ومن آياتنا متعلق بمحذوف وقع حالاً، والكبرى معناها العظمى، وهو صفة لموصوف محذوف، والتقدير: لنريك من آياتنا الكبرى: أي لنريك بهاتين الآيتين يعني اليد والعصا بعض آياتنا الكبرى، فلا يلزم أن تكون اليد هي الآية الكبرى وحدها حتى تكون أعظم من العصا، فيرد على ذلك أنه لم يكن في اليد إلا تغير اللون فقط بخلاف العصا، فإن فيها مع تغير اللون الزيادة في الحجم وخلق الحياة والقدرة على الأمور الخارقة.
ثم صرح سبحانه بالغرض المقصود من هذه المعجزات فقال: 24- "اذهب إلى فرعون" وخصه بالذكر لأن قومع تبع له، ثم علل ذلك بقوله: "إنه طغى" أي عصى وتكبر وكفر وتجبر وتجاوز الحد.
وجملة 25- "قال رب اشرح لي صدري" مستأنفة جواب سؤال مقدر كأنه قيل فماذا قال؟ ومعنى شرح الصدر توسيعه، تضرع عليه السلام إلى ربه وأظهر عجزه بقوله: " ويضيق صدري ولا ينطلق لساني ".
26- "ويسر لي أمري" ومعنى تيسير الأمر تسهيله.
27- "واحلل عقدة من لساني" يعني العجمة التي كانت فيه من الجمرة التي ألقاها في فيه وهو طفل: أي أطلق عن لساني العقدة التي فيه، قيل أذهب الله سبحانه تلك العقدة جميعها بدليل قوله: " قد أوتيت سؤلك يا موسى " وقيل لم تذهب كلها لأنه لم يسأل حل عقدة لسانه بالكلية، بل سأل حل عقدة تمنع الإفهام بدليل قوله: "من لساني" أي كائنة من عقد لساني، ويؤيد ذلك قوله: "هو أفصح مني لساناً"، وقوله حكاية عن فرعون" ولا يكاد يبين".
وجواب الأمر قوله: 28- "يفقهوا قولي" أي يفهموا كلامي، والفقه في كلام العرب الفهم، ثم خص به علم الشريعة والعالم به فقيه، قاله الجوهري.
29- "واجعل لي وزيراً من أهلي".
29- " واجعل لي وزيرا من أهلي * هارون أخي " الوزير الموازر كالأكيل المواكل لأنه يحمل عن السلطان وزره: أي ثقله: قال الزجاج: واشتقاقه في اللغة من الوزر، وهو الجبل الذي يعتصم به لينجى من الهلكة، والوزير الذي يعتمد الملك على رأيه في الأمور ويلتجئ إليه. وقال الأصمعي: هو مشتق من الموازرة، وهي المعاونة، وانتصاب وزيراً وهارون على أنهما مفعولا اجعل، وقيل مفعولاه: لي وزيراً، ويكون هارون عطف بيان للوزير، والأول أظهر، ويكون لي متعلقاً بمحذوف: أي كائناً لي، ومن أهلي صفة لوزيراً، وأخي بدل من هارون.
قرأ الجمهور 31- "اشدد" بهمزة وصل.
و32- "أشركه" بهمزة قطع كلاهما على صيغة الدعاء: أي يا رب أحكم به قوتي واجعله شريكي في أمر الرسالة، والأزر القوة، يقال آزره: أي قواه، وقيل الظهر: أي اشدد به ظهري. وقرأ ابن عامر ويحيى بن الحارث وأبو حيوة والحسن وعبد الله بن أبي إسحاق " اشدد " بهمزة قطع "وأشركه" بضم الهمزة أي أشدد أنا به أزري وأشركه أنا في أمري. قال النحاس: جعلوا الفعلين في موضع جزم جواباً لقوله اجعل لي وزيراً، وقرأ بفتح الياء من "أخي" ابن كثير وأبو عمرو.lv hg
33- "كي نسبحك كثيراً".
34- " كي نسبحك كثيرا * ونذكرك كثيرا " هذا التسبيح والذكر هما الغاية من الدعاء المتقدم، والمراد التسبيح هنا باللسان، وقيل المراد به الصلاة، وانتصاب كثيراً في الموضعين على أنه نعت مصدر محذوف، أو لزمان محذوف.
35- "إنك كنت بنا بصيراً" البصير المبصر والبصير العالم بخفيات الأمور، وهو المراد هنا: أي إنك كنت بنا عالماً في صغرنا فأحسنت إلينا فأحسن إلينا أيضاً كذلك الآن. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في عصا موسى قال: أعطاه إياها ملك من الملائكة إذ توجه إلى مدين فكانت تضيء له بالليل، ويضرب بها الأرض فتخرج له النبات، ويهش بها على غنمه ورق الشجر. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله: "وأهش بها على غنمي" قال: أضرب بها الشجر فيتساقط منه الورق على غنمي، وقد روي نحو هذا عن جماعة من السلف. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم في قوله : " ولي فيها مآرب " قال : حوائج. وأخرج ابن أبي شيبه وعبد بن حميد وابن المنذر و ابن أبي حاتم عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي نحوه. وأخرج أيضاً عن قتادة قال: كانت تضيء له بالليل، وكانت عصا آدم عليه السلام. وأخرج أيضاً عن ابن عباس في قوله: "فألقاها فإذا هي حية تسعى" قال: ولم تكن قبل ذلك حية فمرت بشجرة فأكلتها، ومرت بصخرة فابتلعتها، فجعل موسى يسمع وقع الصخرة في جوفها فولى مدبراً فنودي أن يا موسى خذها، فلم يأخذها، ثم نودي الثانية أن خذها ولا تخف، فقيل له في الثالثة: إنك من الآمنين فأخذها. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه "سنعيدها سيرتها الأولى" قال: حالتها الأولى. وأخرجا عنه أيضاً "من غير سوء" قال من غير برص. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: " واجعل لي وزيرا من أهلي * هارون أخي " قال: كان أكبر من موسى. وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله: "وأشركه في أمري" قال نبئ هارون ساعتئذ حين نبئ موسى.
لما سأل موسى ربه سبحانه أن يشرح له صدره وييسر له أمره ويحلل عقدة من لسانه ويجعل له وزيراً من أهله أخبره الله سبحانه بأنه قد أجاب ذلك الدعاء، فقال: 36- "قد أوتيت سؤلك يا موسى" أي أعطيت ما سألته، والسؤال المسؤول: أي المطلوب كقولك: خبر بمعنى مخبور، وزيادة قوله "يا موسى" لتشريفه بالخطاب مع رعاية الفواصل.
وجملة 37- "ولقد مننا عليك مرة أخرى" كلام مستأنف لتقوية قلب موسى بتذكيره نعم الله عليه، والمن الإحسان والإفضال. والمعنى: ولقد أحسنا إليك مرة أخرى قبل هذه المرة، وهي حفظ الله سبحانه له من شر الأعداء كما بينه سبحانه ها هنا، وأخرى تأنيث آخر بمعنى غير.