تفسير الطبري تفسير الصفحة 327 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 327
328
326
 الآية : 59 -61
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { قَالُواْ مَن فَعَلَ هَـَذَا بِآلِهَتِنَآ إِنّهُ لَمِنَ الظّالِمِينَ * قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُواْ فَأْتُواْ بِهِ عَلَىَ أَعْيُنِ النّاسِ لَعَلّهُمْ يَشْهَدُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: قال قوم إبراهيـم لـما رأوا آلهتهم قد جُذّت, إلا الذي رَبَط به الفأسَ إبراهيـم: من فعل هذا بآلهتنا؟ إن الذي فعل هذا بآلهتنا لـمن الظالـمين أي لـمن الفـاعلـين بها ما لـم يكن له فعله. قالُوا سَمِعْنا فَتًـى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إبْرَاهِيـمُ يقول: قال الذين سمعوه يقول وَتاللّهِ لأَكِيدَنّ أصْنامَكُمْ بَعْدَ أنْ تُوَلّوا مُدْبِرِينَ سمعنا فتـى يذكرهم بعيب يقال له إبراهيـم. كما:
18607ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج: قالُوا سَمِعْنا فَتًـى يَذْكُرُهُمْ قال ابن جُرَيج: يذكرهم يعيبهم.
18608ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قوله: سَمَعْنا فَتَـىً يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إبْرَاهِيـمُ سمعناه يسبّها ويعيبها ويستهزىء بها, لـم نسمع أحدا يقول ذلك غيره, وهو الذي نظن صنع هذا بها.
وقوله: فَأْتُوا بِهِ عَلـى أعْيُنِ النّاسِ لَعَلّهُمْ يَشْهَدُونَ يقول تعالـى ذكره: قال قوم إبراهيـم بعضهم لبعض: فأتوا بـالذي فعل هذا بآلهتنا الذي سمعتـموه يذكرها بعيب ويسبّها ويذمها علـى أعين الناس فقـيـل: معنى ذلك: علـى رؤس الناس, وقال بعضهم: معناه: بأعين الناس ومرأى منهم, وقالوا: إنـما أريد بذلك أظهروا الذي فعل ذلك للناس كما تقول العرب إذا ظهر الأمر وشهر: كان ذلك علـى أعين الناس, يراد به كان بأيدي الناس.
واختلف أهل التأويـل قوله: لَعَلّهُمْ يَشْهَدُونَ فقال بعضهم: لعلّ الناس يشهدون علـيه أنه الذي فعل ذلك, فتكون شهادتهم علـيه حجة لنا علـيه. وقالوا: إنـما فعلوا ذلك لأنهم كرهوا أن يأخذوه بغير بـينة. ذكر من قال ذلك:
18609ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: فَأْتُوا بِهِ عَلـى أعْيُنِ النّاسِ لَعَلّهُمْ يَشْهَدونَ علـيه أنه فعل ذلك.
18610ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: فَأْتُوا بِهِ عَلـى أعْيُنِ النّاسِ لَعَلّهُمْ يَشْهَدونَ قال: كرهوا أن يأخذوه بغير بـيّنة.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: لعلهم يشهدون ما يعاقبونه به, فـيعاينونه ويرونه. ذكر من قال ذلك:
18611ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قال: بلغ ما فعل إبراهيـم بآلهة قومه نـمرود, وأشراف قومه, فقالوا: فَأْتُوا بِهِ عَلـى أعْيُنِ النّاسِ لَعَلّهُمْ يَشْهَدونَ: أي ما يُصْنع به.
وأظهرُ معنى ذلك أنهم قالوا: فأتوا به علـى أعين الناس لعلهم يشهدون عقوبتنا إياه, لأنه لو أريد بذلك لـيشهدوا علـيه بفعله كان يقال: انظروا من شهده يفعل ذلك, ولـم يقل: أحضروه بـمـجمع من الناس.

الآية : 62 - 63
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { قَالُوَاْ أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَـَذَا بِآلِهَتِنَا يَإِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَـَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: فأتوا بإبراهيـم, فلـما أتوا به قالوا له: أأنت فعلت هذا بآلهتنا من الكسر بها يا إبراهيـم؟ فأجابهم إبراهيـم: بل فعله كبـيرهم هذا وعظيـمهم, فـاسألوا الاَلهة من فعل بها ذلك وكسرها إن كانت تنطق أو تعبر عن نفسها
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
18612ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قال: لـما أُتِـي به واجتـمع له قومه عند ملكهم نـمرود قالُوا أأنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بآلِهَتِنا يا إبْراهِيـمُ قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِـيرُهُمْ هَذَا فـاسْئَلُوهُمْ إنْ كانُوا يَنْطِقُونَ غضب من أن يعبدوا معه هذه الصغار وهو أكبر منها, فكسرهن.
18613ـ حدثنا بِشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قَتادة, قوله: بَلْ فَعَلَهُ كَبِـيرُهِمْ هَذَا... الاَية, وهي هذه الـخصلة التـي كادهم بها.
وقد زعم بعض من لا يصدّق بـالاَثار ولا يقبل من الأخبـار إلا ما استفـاض به النقل من العوامّ, أن معنى قوله: بَلْ فَعَلَهُ كَبِـيرُهِمْ هَذَا إنـما هو: بل فعله كبـيرهم هذا إن كانوا ينطقون فـاسألوهم, أي إن كانت الاَلهة الـمكسورة تنطق فإن كبـيرهم هو الذي كسرهم. وهذا قول خلاف ما تظاهرت به الأخبـار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن إبراهيـم لـم يكذب إلا ثلاث كَذَبـات كلها فـي الله, قوله: بَلْ فَعَلَهُ كَبِـيرُهِمْ هَذَا, وقوله: إنّـي سَقِـيـمٌ, وقوله لسارة: هي أختـي. وغير مستـحيـل أن يكون الله ذكْره أذِن لـخـلـيـله فـي ذلك, لـيقرّع قومه به, ويحتـجّ به علـيهم, ويعرّفهم موضع خطئهم, وسوء نظرهم لأنفسهم, كما قال مؤذّن يوسف لإخوته: أيّتُها العيرُ إنّكُمْ لَسارِقُونَ ولـم يكونوا سرقوا شيئا.
الآية : 64 -65
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { فَرَجَعُوَاْ إِلَىَ أَنفُسِهِمْ فَقَالُوَاْ إِنّكُمْ أَنتُمُ الظّالِمُونَ * ثُمّ نُكِسُواْ عَلَىَ رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَـَؤُلآءِ يَنطِقُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: فذكروا حين قال لهم إبراهيـم صلوات الله علـيه: بَلْ فَعَلَهُ كَبِـيرُهِمْ هَذَا فـاسْئَلُوهُمْ إنْ كانُوا يَنْطِقُونَ فـي أنفسهم, ورجعوا إلـى عقولهم, ونظر بعضهم إلـى بعض, فقالوا: إنكم معشر القوم الظالـمون هذا الرجل فـي مسألتكم إياه وقـيـلكم له من فعل هذا بآلهتنا يا إبراهيـم؟ وهذه آلهتكم التـي فعل بها ما فعل حاضرتكم فـاسألوها
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
18614ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق: فَرَجَعُوا إلـى أنْفُسِهِمْ فَقالُوا إنّكُمْ أنْتُـمْ الظّالِـمُونَ قال: ارعوَوْا ورجعوا عنه يعنـي عن إبراهيـم, فـيـما ادّعوا علـيه من كسرهنّ إلـى أنفسهم فـيـما بـينهم, فقالوا: لقد ظلـمناه, وما نراه إلا كما قال.
18615ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج: فَرَجَعُوا إلـى أنْفُسِهِمْ قال: نظر بعضهم إلـى بعض فَقالُوا إنّكُمْ أنْتُـمْ الظّالِـمُونَ.
وقوله: ثُمّ نُكِسُوا علـى رُءُوسِهِمْ يقول جلّ ثناؤه: ثم غُلِبوا فـي الـحجة, فـاحتـجوا علـى إبراهيـم بـما هو حجة لإبراهيـم علـيهم, فقالوا: لقد علـمت ما هؤلاء الأصنام ينطقون. كما:
18616ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قال: ثم قالوا: يعنـي قوم إبراهيـم, وعرفوا أنها, يعنـي آلهُتهم لا تضرّ ولا تنفع ولا تبطِش: لَقَدْ عَلِـمْتَ ما هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ: أي لا تتكلـم فتـخبرنا من صنع هذا بها, وما تبطش بـالأيدي فنصدّقك, يقول الله: ثُمّ نُكِسُوا عَلـى رُءُوسِهِمْ فـي الـحجة علـيهم لإبراهيـم حين جادلهم, فقال عند ذلك إبراهيـم حين ظهرت الـحجة علـيهم بقولهم: لَقَدْ عَلِـمْتَ ما هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ.
18617ـ حدثنا بِشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قَتادة قال الله: ثُمّ نُكِسُوا عَلـى رُءُوسِهِمْ أدركت الناسَ حَيرة سَوْء.
وقال آخرون: معنى ذلك: ثم نُكسوا فـي الفتنة. ذكر من قال ذلك:
18618ـ حدثنا موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: ثُمّ نُكِسُوا عَلـى رُءُوسِهِمْ قال: نكسوا فـي الفتنة علـى رءوسهم, فقالوا: لقد علـمت ما هؤلاء ينطقون.
وقال بعض أهل العربـية: معنى ذلك: ثم رجعوا عما عرفوا من حجة إبراهيـم, فقالوا: لقد علـمت ما هؤلاء ينطقون.
وإنـما اخترنا القول الذي قلنا فـي معنى ذلك, لأن نَكْسَ الشيء علـى رأسه: قَلْبُه علـى رأسه وتَصْيِـيرُ أعلاه أسفله ومعلوم أن القوم لـم يُقْلبوا علـى رءوس أنفسهم, وأنهم إنـما نُكست حجتهم, فأقـيـم الـخبر عنهم مقام الـخبر عن حجتهم. وإذ كان ذلك كذلك, فنَكْس الـحجة لا شك إنـما هو احتـجاج الـمـحتـجّ علـى خصمه بـما هو حجة لـخصمه. وأما قول السديّ: ثم نكسوا فـي الفتنة, فإنهم لـم يكونوا خرجوا من الفتنة قبل ذلك فنكسوا فـيها. وأما قول من قال من أهل العربـية ما ذكرنا عنه, فقول بعيد من الفهوم لأنهم لو كانوا رجعوا عما عرفوا من حجة إبراهيـم, ما احتـجوا علـيه بـما هو حجة له, بل كانوا يقولون له: لا تسألهم, ولكن نسألك فأخبرنا مَنْ فعل ذلك بها, وقد سمعنا أنك فعلت ذلك ولكن صدقوا القول فَقالُوا لَقَدْ عَلِـمْتَ ما هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ ولـيس ذلك رجوعا عما كانوا عرفوا, بل هو إقرار به.

الآية : 66 -67
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلاَ يَضُرّكُمْ * أُفّ لّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: قال إبراهيـم لقومه: أفتعبدون أيها القوم ما لا ينفعكم شيئا ولا يضرّكم, وأنتـم قد علـمتـم أنها لـم تـمنع نفسها مـمن أرادها بسوء, ولا هي تقدر أن تنطق إن سئلت عمن يأتـيها بسوء فتـخبر به, أفلا تستَـحْيون من عبـادة ما كان هكذا؟ كما:
18619ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق: قالَ أفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ ما لا ينْفَعُكمْ شَيْئا وَلا يَضُرّكُمْ... الاَية, يقول يرحمه الله: ألا ترون أنهم لـم يدفعوا عن أنفسهم الضرّ الذي أصابهم, وأنهم لا ينطقون فـيخبرونكم من صَنع ذلك بهم, فكيف ينفعونكم أو يضرّون
وقوله: أُفّ لَكُمْ يقول: قُبحا لكم وللاَلهة التـي تعبدون من دون الله, أفلا تعقلون قبح ما تفعلون من عبـادتكم ما لا يضرّ ولا ينفع, فتتركوا عبـادته, وتعبدوا الله الذي فطر السموات والأرض, والذي بـيده النفع والضرّ؟

الآية : 68 -70
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { قَالُواْ حَرّقُوهُ وَانصُرُوَاْ آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَنَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاَمَا عَلَىَ إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأخْسَرِينَ }.
يقول تعالـى ذكره: قال بعض قوم إبراهيـم لبعض: حرّقوا إبراهيـم بـالنار وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إنْ كُنْتُـمْ فـاعِلِـينَ يقول: إن كنتـم ناصريها ولـم تريدوا ترك عبـادتها.
وقـيـل: إن الذي قال ذلك رجل من أكراد فـارس. ذكر من قال ذلك:
18620ـ حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا ابن علـية, عن لـيث, عن مـجاهد, فـي قوله: حَرّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ قال: قالها رجل من أعراب فـارس, يعنـي الأكراد.
18621ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, قال: أخبرنـي وهب بن سلـيـمان, عن شعيب الـجبئي, قال: إن الذي قال حرّقوه «هيزن» فخسف الله به الأرض, فهو يتـجلـجل فـيها إلـى يوم القـيامة.
18622ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قال: أجمع نـمرود وقومه فـي إبراهيـم فقالوا: حَرّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إنْ كُنْتُـمْ فـاعِلِـينَ أي لا تنصروها منه إلا بـالتـحريق بـالنار إن كنتـم ناصريها.
18623ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, قال: ثنـي مـحمد بن إسحاق, عن الـحسن بن دينار, عن لـيث بن أبـي سلـيـم, عن مـجاهد, قال: تلوت هذه الاَية علـى عبد الله بن عمر, فقال: أتدري يا مـجاهد من الذي أشار بتـحريق إبراهيـم بـالنار؟ قال: قلت لا. قال: رجل من أعراب فـارس. قلت: يا أبـا عبد الرحمن, أوَ هل للفرس أعراب؟ قال: نعم الكرد هم أعراب فـارس, فرجل منهم هو الذي أشار بتـحريق إبراهيـم بـالنار.
وقوله: قُلْنا يا نارُ كُونِـي بَرْدا وَسَلاما عَلـى إبْرَاهِيـمَ فـي الكلام متروك اجتزىء بدلالة ما ذكر علـيه منه, وهو: فأوقدوا له نارا لـيحرّقوه ثم ألقوه فـيها, فقلنا للنار: يا نار كونـي بردا وسلاما علـى إبراهيـم وذُكر أنهم لـما أرادوا إحراقه بنوا له بنـيانا كما:
18624ـ حدثنا موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ, قال: قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْـيانا فألْقُوهُ فـي الـجَحِيـمِ قال: فحبسوه فـي بـيت, وجمعوا له حطبـا, حتـى إن كانتِ الـمرأة لتـمرضُ فتقول: لئن عافـانـي الله لأجمعنّ حطبـا لإبراهيـم فلـما جمعوا له, وأكثروا من الـحطب حتـى إن الطير لتـمرّ بها فتـحترق من شدّة وهجها, فعمدوا إلـيه فرفعوه علـى رأس البنـيان, فرفع إبراهيـم صلى الله عليه وسلم رأسه إلـى السماء, فقالت السماء والأرض والـجبـال والـملائكة: ربنا, إبراهيـم يحرق فـيك فقال: أنا أعلـم به, وإن دعاكم فأغيثوه وقال إبراهيـم حين رفع رأسه إلـى السماء: اللهمّ أنت الواحد فـي السماء وأنا الواحد فـي الأرض لـيس فـي الأرض أحد يعبدك غيري, حسبـي الله ونعم الوكيـل فقذفوه فـي النار, فناداها فقال: يا نارُ كُونِـي بَرْدا وَسَلاما علـى إبْرَاهِيـمَ فكان جبريـل علـيه السلام هو الذي ناداها. وقال ابن عبـاس: لو لـم يُتبع بردها سلاما لـما مات إبراهيـم من شدّة بردها, فلـم يبق يومئذ نار فـي الأرض إلا طفئت, ظنت أنها هي تُعْنَى. فلـما طُفئت النار نظروا إلـى إبراهيـم, فإذا هو رجل آخر معه, وإذا رأس إبراهيـم فـي حجره يـمسح عن وجهه العرق وذكر أن ذلك الرجل هو ملك الظلّ. وأنزل الله نارا فأنتفع بها بنو آدم, وأخرجوا إبراهيـم, فأدخـلوه علـى الـملك, ولـم يكن قبل ذلك دخـل علـيه.
18625ـ حدثنـي إبراهيـم بن الـمقدام أبو الأشعث, قال: حدثنا الـمعتـمر, قال: سمعت أبـي, قال: حدثنا قَتادة, عن أبـي سلـيـمان, عن كعب, قال: ما أحرقت النار من إبراهيـم إلا وثاقه.
18626ـ حدثنا بِشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قَتادة, قوله: قُلْنا يا نارُ كُونِـي بَرْدا وَسَلاما عَلـى إبْرَاهِيـمَ قال: ذُكر لنا أن كعبـا كان يقول: ما انتفع بها يومئذ أحد من الناس. وكان كعب يقول: ما أحرقت النار يومئذ إلا وثاقه.
18627ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا مؤمل, قال: حدثنا سفـيان, عن الأعمش, عن شيخ, عن علـيّ بن أبـي طالب رضي الله عنه فـي قوله: يا نارُ كُونِـي بَرْدا وَسَلاما عَلـى إبْرَاهِيـمَ قال: بردت علـيه حتـى كادت تقتله, حتـى قـيـل: «وسلاما», قال: لا تضرّيه.
18628ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا جابر بن نوح, قال: أخبرنا إسماعيـل, عن الـمنهال بن عمرو, قال: قال إبراهيـم خـلـيـل الله: ما كنت أياما قطّ أنعم منـي من الأيام التـي كنت فـيها فـي النار.
18629ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يعقوب, عن جعفر, عن سعيد, قال: لـمّا ألقـي إبراهيـم خـلـيـل الله صلى الله عليه وسلم فـي النار, قال الـمَلَكُ خازن الـمطر: ربّ خـلـيـلك إبراهيـم رجا أن يؤذن له فـيرسل الـمطر. قال: فكان أمر الله أسرع من ذلك فقال: يا نارُ كُونِـي بَرْدا وَسَلاما عَلـى إبْرَاهِيـمَ فلـم يبق فـي الأرض نار إلا طُفئت.
18630ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن مغيرة, عن الـحرث, عن أبـي زرعة, عن أبـي هريرة, قال: إن أحسن شيء قاله أبو إبراهيـم لـما رفع عنه الطبق وهو فـي النار, وجده يرشح جبـينه, فقال عند ذلك: نِعْمَ الربّ ربّك يا إبراهيـم.
18631ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: أخبرنـي وهب بن سلـيـمان عن شعيب الـجَبَـيِء, قال: أُلقـي إبراهيـم فـي النار وهو ابن ستّ عشرة سنة, وذُبح إسحاق وهو ابن سبع سنـين, وولدته سارّة وهي ابنة تسعين سنة, وكان مذبحه من بـيت إيـلـياء علـى ميـلـين, ولـما علـمت سارّة بـما أراد بإسحاق بُطِنت يومين, وماتت الـيوم الثالث. قال ابن جُرَيج: قال كعب الأحبـار: ما أحرقت النار من إبراهيـم شيئا غير وثاقه الذي أوثقوه به.
18632ـ حدثنا الـحسن, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا معتـمر بن سلـيـمان التـيـمي, عن بعض أصحابه قال: جاء جبريـل إلـى إبراهيـم علـيهما السلام وهو يوثق أو يقمّط لـيـلقـى فـي النار, قال: يا إبراهيـم ألك حاجة؟ قال: أمّا إلـيك فلا.
18633ـ قال: حدثنا معتـمر, قال: حدثنا ابن كعب, عن أرقم: أن إبراهيـم قال حين جعلوا يوثقونه لـيـلقوه فـي النار: لا إله إلا أنت سبحانك ربّ العالـمين, لك الـحمد, ولك الـملك لا شريك لك.
18634ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن أبـي جعفر الرازي, عن الربـيع بن أنس, عن أبـي العالـية, فـي قوله: قُلْنا يا نارُ كُونِـي بَرْدا وَسَلاما عَلـى إبْرَاهِيـمَ قال: السلام لا يؤذيه بردها, ولولا أنه قال: «وسلاما» لكان البرد أشدّ علـيه من الـحرّ.
18635ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, قوله: بَرْدا قال: بردت علـيه وَسَلاما لا تؤذيه.
18636ـ حدثنا ابن عبد الأعلـى, قال: حدثنا مـحمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: قُلْنا يا نارُ كُونِـي بَرْدا وَسَلاما عَلـى إبْرَاهِيـمَ قال: قال كعب: ما انتفع أحد من أهل الأرض يومئذ بنار, ولا أحرقت النار يومئذ شيئا إلا وثاق إبراهيـم.
وقال قتادة: لـم تأت يومئذ دابة إلا أطفأت عنه النار, إلا الوزغ.
وقال الزهري: أمر النبـيّ صلى الله عليه وسلم بقتله, وسماه فُوَيسقا.
وقوله: وأرَادُوا بِهِ كَيْدا يقول تعالـى ذكره: وأرادوا بإبراهيـم كيدا, فَجَعَلْناهُمُ الأخْسَرِينَ يعنـي الهالكين. وقد:
18637ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج: وأرَادُوا بِهِ كَيْدا فجَعَلْناهُمُ الأَخْسَرِينَ قال: ألقوا شيخا منهم فـي النار لأن يصيبوا نـجاته, كما نُـجي إبراهيـم صلى الله عليه وسلم, فـاحترق.

الآية : 71
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وَنَجّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الأرْضِ الّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ }.
يقول تعالـى ذكره: ونـجينا إبراهيـم ولوطا من أعدائهما نـمرودٍ وقومِهِ من أرض العراق, إلـى الأرْضِ التـي بـارَكْنا فِـيها للْعالَـمِينَ وهي أرض الشأم, فـارق صلوات الله علـيه قومه ودينهم وهاجر إلـى الشأم.
وهذه القصة التـي قصّ الله من نبأ إبراهيـم وقومه تذكير منه بها قوم مـحمد صلى الله عليه وسلم من قريش أنهم قد سلكوا فـي عبـادتهم الأوثان, وأذاهم مـحمدا علـى نهيه عن عبـادتها, ودعائهم إلـى عبـادة الله مخـلصين له الدين, مسلك أعداء أبـيهم إبراهيـم ومخالفتهم دينه, وأن مـحمدا فـي براءته من عبـادتها وإخلاصه العبـادة لله, وفـي دعائهم إلـى البراءة من الأصنام, وفـي الصبر علـى ما يـلقـى منهم فـي ذلك سالك منهاج أبـيه إبراهيـم, وأنه مخرجه من بـين أظهرهم كما أخرج إبراهيـم من بـين أظهر قومه حين تـمادوا فـي غيهم إلـى مهاجره من أرض الشأم, ومسلَ بذلك نبـيه مـحمدا صلى الله عليه وسلم عما يَـلْقَـى من قومه من الـمكروه والأذى, ومعلـمه أنه منـجيه منهم كما نـجّى أبـاه إبراهيـم من كفرة قومه.
وقد اختلف أهل التأويـل فـي الأرض التـي ذكر الله أنه نـجّى إبراهيـم ولوطا إلـيها ووصفه أنه بـارك فـيها للعالـمين. فقال بعضهم بنـحو الذي قلنا فـي ذلك. ذكر من قال ذلك:
18638ـ حدثنا الـحسين بن حريث الـمروزي أبو عمار, قال: حدثنا الفضل بن موسى, عن الـحسين بن واقد, عن الربـيع بن أنس, عن أبـي العالـية, عن أبـيّ بن كعب: ونَـجّيْناهُ وَلُوطا إلـى الأرْضِ التـي بـارَكْنا فِـيها للْعالَـمِينَ قال: الشأم, وما من ماء عذب إلا خرج من تلك الصخرة التـي ببـيت الـمقدس.
18639ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا سفـيان, عن فرات القزاز, عن الـحسن, فـي قوله: إلـى الأرْضِ التـي بـارَكْنا فِـيها قال: الشام.
18640ـ حدثنا بِشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: ونَـجّيْناهُ وَلُوطا إلـى الأرْضِ التـي بـارَكْنا فِـيها للْعالَـمِينَ كانا بأرض العراق, فأنـجيا إلـى أرض الشام. وكان يُقال للشأم عماد دار الهجرة, وما نقص من الأرض زيد فـي الشأم, وما نقص من الشأم زيد فـي فلسطين. وكان يقال: هي أرض الـمـحشر والـمنشر, وبها مـجمع الناس, وبها ينزل عيسى ابن مريـم, وبها يهلك الله شيخ الضلالة الكذّاب الدجال. وحدثنا أبو قلابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رأيْتُ فِـيـما يَرَى النّائمُ كأنّ الـمَلائِكَةَ حَمَلَتْ عَمُودَ الكِتابِ فَوَضَعَتْه بـالشّأْمِ, فأوّلْتُه أن الفِتَنَ إذَا وَقَعَتْ فإنّ الإيـمَانَ بـالشّأْمِ».
وذُكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم فـي خطبه: «إنّهُ كائِنٌ بـالشّأْمِ جُنْدٌ, وبـالعِرَاقِ جُنْدٌ, وبـالـيَـمَنِ جُنْدٌ». فقال رجل: يا رسول الله خِرْ لـي فقال: «عَلَـيْكَ بـالشّأْمِ فإنّ اللّهَ قَدْ تَكَفّلَ لـي بـالشّامِ وأهْلِهِ, فَمَنْ أَبى فَلْـيَـلْـحَقْ بأَمْنِهِ وَلْـيَسْقِ بِقَدَرِهِ». وذُكر لنا أن عمر بن الـخطاب رضي الله عنه قال: يا كعب ألا تـحوّل إلـى الـمدينة فأنها مُهاجَر رسول الله صلى الله عليه وسلم وموضع قبره؟ فقال له كعب: يا أمير الـمؤمنـين, إنـي أجد فـي كتاب الله الـمنزل أن الشام كنز الله من أرضه وبها كنزه من عبـاده.
18641ـ حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قَتادة: وَنـجّيْناهُ وَلُوطا إلـى الأرْضِ التـي بـارَكْنا فِـيها للْعالَـمِينَ قال: هاجرا جميعا من كُوْثَىَ إلـى الشام.
18642ـ حدثنا موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ, قال: انطلق إبراهيـم ولوط قِبَل الشأم, فلقـي إبراهيـم سارَة, وهي بنت ملك حَرّان, وقد طعنت علـى قومها فـي دينهم, فتزوّجها علـى أن لا يغيرها.
18643ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قال: خرج إبراهيـم مهاجرا إلـى ربه, وخرج معه لوط مهاجرا, وتزوّج سارَة ابنة عمه, فخرج بها معه يـلتـمس الفرار بدينه والأمان علـى عبـادة ربه, حتـى نزل حرّان, فمكث فـيها ما شاء الله أن يـمكث. ثم خرج منها مهاجرا حتـى قدم مصر. ثم خرج من مصر إلـى الشام, فنزل السبع من أرض فلسطين, وهي برّية الشام, ونزل لوط بـالـمؤتَفِكَة, وهي من السبع علـى مسيرة يوم ولـيـلة, أو أقرب من ذلك, فبعثه الله نبـيّا صلى الله عليه وسلم.
18644ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, قوله: وَنـجّيْناهُ وَلُوطا إلـى الأرْضِ التـي بـارَكْنا فِـيها للْعالَـمِينَ قال: نـجاه من أرض العِراق إلـى أرض الشام.
18645ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن أبـي جعفر الرازيّ, عن الربـيع, عن أبـي العالـية, أنه قال فـي هذه الاَية: بـارَكْنا فِـيها للْعالَـمِينَ قال: لـيس ماء عذب إلا يهبط إلـى الصخرة التـي ببـيت الـمقدس, قال: ثم يتفرّق فـي الأرض.
18646ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: وَنـجّيْناهُ وَلُوطا إلـى الأرْضِ التـي بـارَكْنا فِـيها للْعالَـمِينَ قال: إلـى الشأم.
وقال آخرون: بل يعنـي مكة وهي الأرض التـي قال الله تعالـى: التـي بـارَكْنا فِـيها للْعالَـمِينَ. ذكر من قال ذلك:
18647ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: وَنـجّيْناهُ وَلُوطا إلـى الأرْضِ التـي بـارَكْنا فِـيها للْعالَـمِينَ يعنـي مكة ونزول إسماعيـل البـيت ألا ترى أنه يقول: إنّ أوّلَ بَـيْتٍ وُضِعَ للنّاسِ للّذِي بِبَكّةَ مُبـارَكا وَهُدًى للْعالَـمِينَ؟
قال أبو جعفر: وإنـما اخترنا ما اخترنا من القول فـي ذلك لأنه لا خلاف بـين جميع أهل العلـم أن هجرة إبراهيـم من العراق كانت إلـى الشام وبها كان مُقامه أيام حياته, وإن كان قد كان قدم مكة وبنى بها البـيت وأسكنها إسماعيـل ابنه مع أمه هاجر غير أنه لـم يُقِم بها ولـم يتـخذها وطنا لنفسه, ولا لوط, والله إنـما أخبر عن إبراهيـم ولوط أنهما أنـجاهما إلـى الأرض التـي بـارك فـيها للعالـمين