تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 330 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 330

329

91- "والتي أحصنت فرجها" أي واذكر خبرها، وهي مريم، فإنها أحصنت فرجها من الحلال والحرام ولم يمسسها بشر، وإنما ذكرها مع الأنبياء وإن لم تكن منهم لأجل ذكر عيسى، وما في ذكر قصتها من الآية الباهرة "فنفخنا فيها من روحنا" أضاف سبحانه الروح إليه، وهو للملك تشريفاً وتعظيماً، وهو يريد روح عيسى "وجعلناها وابنها آية للعالمين" قال الزجاج: الآية فيها واحدة لأنها ولدته من غير فحل، وقيل إن التقدير على مذهب سيبويه: وجعلناها آية وجعلنا ابنها آية كقوله سبحانه "والله ورسوله أحق أن يرضوه"، والمعنى: أن الله سبحانه جعل قصتهما آية تامة مع تكاثر آيات كل واحد منهما، وقيل أراد بالآية الجنس الشامل، لما لكل واحد منهما من الآيات، ومعنى أحصنت عفت فامتنعت من الفاحشة وغيرها، وقيل المراد بالفرج جيب القميص: أي أنها طاهرة الأثواب، وقد مضى بيان مثل هذا في سورة النساء ومريم.
ثم لما ذكر سبحانه الأنبياء بين أنهم كلهم مجتمعون على التوحيد فقال: 92- "إن هذه أمتكم أمة واحدة" والأمة الذين كما قال ابن قتيبة. ومثله "إنا وجدنا آباءنا على أمة" أي على دين، كأنه قال: إن هذا دينكم دين واحد لا خلاف بين الأمم المختلفة في التوحيد، ولا يخرج عن ذلك إلا الكفرة المشركون بالله، وقيل المعنى: إن هذه الشريعة التي بينتها لكم في كتابكم شريعة واحدة، وقيل المعنى: إن هذه ملتكم ملة واحدة، وهي ملة الإسلام. وانتصاب أمة واحدة على الحال. أي متفقة غير مختلفة، وقرئ إن هذه أمتكم بنصب أمتكم على البدل من اسم إن والخبر أمة واحدة. وقرأ الجمهور برفع أمتكم على أنه الخبر ونصب أمة على الحال كما قدمنا. وقال الفراء: والزجاج على القطع بسبب مجيء النكرة بعد تمام الكلام "وأنا ربكم فاعبدون" خاصة لا تعبدوا غير كائناً ما كان.
93- "وتقطعوا أمرهم بينهم" أي تفرقوا فرقاً في الدين حتى صار كالقطع المتفرقة.. وقال الأخفش: اختلفوا فيه، وهو كالقول الأول. قال الأزهري: أي تفرقوا في أمرهم، فنصب أمرهم بحذف في، والمقصود بالآية المشركون، ذمهم الله بمخالفة الحق واتخاذهم آلهة من دون الله، وقيل المراد جميع الخلق وأنهم جعلوا أمرهم في أديانهم قطعاً وتقسموه بينهم، فهذا موحد، وهذا يهودي، وهذا نصراني، وهذا مجوسي، وهذا عابد وثن. ثم أخبر سبحانه بأن مرجع الجميع إليه فقال: "كل إلينا راجعون" أي كل واحد من هذه الفرق راجع إلينا بالبعث، لا إلى غيرنا.
94- "فمن يعمل من الصالحات" أي من يعمل بعض الأعمال الصالحة، لا كلها، إذ لا يطيق ذلك أحد "وهو مؤمن" بالله ورسله واليوم الآخر "فلا كفران لسعيه" أي لا جحود لعمله، ولا تضييع لجزائه، والكفر ضد الإيمان، والكفر أيضاً جحود النعمة وهو ضد الشكر، يقال كفر كفوراً وكفراناً، وفي قراءة ابن مسعود فلا كفر لسعيه، "وإنا له كاتبون" أي لسعيه حافظون، ومثله قوله سبحانه: "أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى".
95- "وحرام على قرية أهلكناها". قرأ زيد بن ثابت وأهل المدينة "وحرام" وقرأ أهل الكوفة "وحرم" وقد اختار القراءة الأولى أبو عبيد وأبو حاتم، ورويت القراءة الثانية عن علي وابن مسعود وابن عباس: وهما لغتان مثل حل وحلال. وقرأ سعيد بن جبير وحرم بفتح الحاء وكسر الراء وفتح الميم. وقرأ عكرمة وأبو العالية حرم بضم الراء وفتح الحاء والميم، ومعنى "أهلكناها" قدرنا إهلاكها، وجملة "أنهم لا يرجعون" في محل رفع على أنه مبتدأ وخبره حرام، أو على أنه فاعل له ساد مسد خبره. والمعنى: وممتنع ألبتة عدم رجوعهم إلينا للجزاء، وقيل إن لا في لا يرجعون زائدة: أي حرام على قرية أهلكناها أن يرجعوا بعد الهلاك إلى الدنيا، واختار هذا أبو عبيدة، وقيل إن لفظ حرام هنا بمعنى الواجب: أي واجب على قرية، ومنه قول الخنساء: وإن حراماً لا أرى الدهر باكياً على شجوه إلا بكيت على صخر وقيل حرام: أي ممتنع رجوعهم إلى التوبة، على أن لا زائدة. قال النحاس: والآية مشكلة ومن أحسن ما قيل فيها وأجله ما رواه ابن عيينة وابن علية وهشيم وابن إدريس ومحمد بن فضل وسليم بن حبان ومعلى عن داود بن أبي الهند عن عكرمة عن ابن عباس في معنى الآية قال: واجب أنهم لا يرجعون: أي لا يتوبون. قال الزجاج وأبو علي الفارسي: إن في الكلام إضماراً، أي وحرام على قرية حكمنا باستئصالها، أو بالختم على قلوب أهلها، أن يتقبل منهم عمل لأنهم لا يرجعون، أي لا يتوبون.
96- "حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج" حتى هذه هي التي يحكى بعدها الكلام، على حذف المضاف، وقيل إن حتى هذه هي التي للغاية. والمعنى: أن هؤلاء المذكورين سابقاً مستمرون على ما هم عليه إلى يوم القيامة، وهي يوم فتح سد يأجوج ومأجوج "وهم من كل حدب ينسلون" الضمير ليأجوج ومأجوج والحدب كل أكمة من الأرض مرتفعة والجمع أحداب، مأخوذ من حدبة الأرض، ومعنى "ينسلون" يسرعون، وقيل يخرجون. قال الزجاج: والنسلان مشية الذئب إذا أسرع. يقال نسل فلان في العدو ينسل بالكسر والضم نسلاً ونسولاً ونسلاناً: أي أن يأجوج ومأجوج من كل مرتفع من الأرض يسرعون المشي وتفرقون في الأرض، وقيل الضمير في قوله: وهم لجميع الخلق، والمعنى أنهم يحشرون إلى أرض الموقف وهم يسرعون من كل مرتفع من الأرض. وقرئ بضم السين. حكى ذلك المهدوي عن ابن مسعود. وحكى هذه القراءة أيضاً الثعلبي عن مجاهد وأبي الصهباء.
97- "واقترب الوعد" عطف على فتحت، والمراد ما بعد الفتح من الحساب. وقال الفراء والكسائي وغيرهما: المراد بالوعد الحق القيامة والواو زائدة، والمعنى: حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج اقترب الوعد الحق وهو القيامة، فاقترب جواب إذا، وأنشد الفراء: فلما أجزنا ساحة الحي والتحى أي انتحى، ومنه قوله تعالى: " وتله للجبين * وناديناه "، وأجاز الفراء أن يكون جواب إذا "فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا" وقال البصريون: الجواب محذوف، والتقدير: قالوا يا ويلنا. وبه قال الزجاج، والضمير في فإذا هي للقصة، أو مبهم يفسره ما بعده، وإذا للمفاجأة، وقيل إن الكلام تم عند قوله هي، والتقدير: فإذا هي، يعني القيامة بارزة واقعة كأنها آتية حاضرة، ثم ابتدأ فقال شاخصة أبصار الذين كفروا على تقديم الخبر على المبتدأ: أي أبصار الذين كفروا شاخصة، و"يا ويلنا" على تقدير القول: "قد كنا في غفلة من هذا" أي من هذا الذي دهمنا من العبث والحساب "بل كنا ظالمين" أضربوا عن وصف أنفسهم بالغفلة: أي لم نكن غافلين بل كنا ظالمين لأنفسنا بالتكذيب وعدم الانقياد للرسل. وقد أخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله: "وأصلحنا له زوجه" قال: كان في لسان امرأة زكريا طول فأصلحه الله. وروي نحو ذلك عن جماعة من التابعين. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية قال: وهبنا له ولدها. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال: كانت عاقراً فجعلها ولوداً ووهب له منها يحيى، وفي قوله: "وكانوا لنا خاشعين" قال: أذلاء. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن جريج في قوله: "ويدعوننا رغباً ورهباً" قال: رغباً في رحمة الله ورهباً من عذاب الله. وأخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله سبحانه: "ويدعوننا رغباً ورهباً" قال: رغباً هكذا ورهباً هكذا وبسط كفيه، يعني جعل ظهرهما للأرض في الرغبة وعكسه في الرهبة. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن عبد الله بن عكيم قال: خطبنا أبو بكر الصديق فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد فإني أوصيكم بتقوى الله، وأن تثنوا عليه بما هو له أهل، وأن تخلطوا الرغبة بالرهبة، فإن الله أثنى على زكريا وأهل بيته فقال: "إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "إن هذه أمتكم أمة واحدة" قال: إن هذا دينكم ديناً واحداً. وأخرج ابن جرير عن مجاهد مثله. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة نحوه. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في قوله: "وتقطعوا أمرهم بينهم" قال: تقطعوا اختلفوا في الدين. وأخرج الفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله: "وحرام على قرية أهلكناها" قال: وجب إهلاكها "أنهم لا يرجعون" قال: لا يتوبون. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس أنه كان يقرأ وحرم على قرية قال: وجب على قرية "أهلكناها أنهم لا يرجعون" كما قال: " ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون ". وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة وسعيد بن جبير مثله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "من كل حدب" قال: شرف "ينسلون" قال: يقبلون، وقد ورد في صفة يأجوج ومأجوج وفي وقت خروجهم أحاديث كثيرة لا يتعلق بذكرها ها هنا كثير فائدة.
بين سبحانه حال معبودهم يوم القيامة فقال: 98- "إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم" وهذا خطاب منه سبحانه لأهل مكة، والمراد بقوله وما تعبدون: الأصنام التي كانوا يعبدون. قرأ الجمهور "حصب" بالصاد المهملة: أي وقود جهنم وحطبها، وكل ما أوقدت به النار أو هيجتها به فهو حصب، كذا قال الجوهري. قال أبو عبيدة: كل ما قذفته في النار فقد حصبتها به، ومثل ذلك قوله تعالى: "فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة" وقرأ علي بن أبي طالب وعائشة حطب جهنم بالطاء، وقرأ ابن عباس حضب بالضاد المعجمة. قال الفراء: ذكر لنا أن الحضب في لغة أهل اليمن الحطب، ووجه إلقاء الأصنام في النار مع كونها جمادات لا تعقل ذلك ولا تحس به: التبكيت لمن عبدها وزيادة التوبيخ لهم وتضاعف الحسرة عليهم، وقيل إنها تحمى فتلصق بهم زيادة في تعذيبهم، وجملة "أنتم لها واردون" إما مستأنفة أو بدل من حصب جهنم، والخطاب لهم ولما يعبدون تغليباً، واللام في لها للتقوية لضعف عمل اسم الفاعل، وقيل هي بمعنى على، والمراد بالورود هنا الدخول. قال كثير من أهل العلم: ولا يدخل في هذه الآية عيسى وعزير والملائكة، لأن ما لمن لا يعقل، ولو أراد العموم لقال ومن يعبدون. قال الزجاج: ولأن المخاطبين بهذه الآية مشركو مكة دون غيرهم.
99- "لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها" أي لو كانت هذه الأصنام آلهة كما تزعمون ما وردوها: أي ما ورد العابدون هم والمعبودون النار، وقيل ما ورد العابدون فقط، لكنهم وردوها فلم يكونوا آلهة، وفي هذا تبكيت لعباد الأصنام وتوبيخ شديد "وكل فيها خالدون" أي كل العابدين والمعبودين في النار خالدون لا يخرجون منها.
100- "لهم فيها زفير" أي لهؤلاء الذين وردوا النار، والزفير صوت نفس المغموم، والمراد هنا الأنين والتنفس الشديد، وقد تقدم بيان هذا في هود "وهم فيها لا يسمعون" أي لا يسمع بعضهم زفير بعض لشدة الهول، وقيل لا يسمعون شيئاً، لأنهم يحشرون صماً كما قال سبحانه "ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً وبكماً وصماً"، وإنما سلبوا السماع، لأن فيه بعض تروح وتأنس، وقيل لا يسمعون ما يسرهم، بل يسمعون ما يسوءهم.
ثم لما بين سبحانه حال هؤلاء الأشقياء شرع في بيان حال السعداء فقال: 101- "إن الذين سبقت لهم منا الحسنى" أي الخصلة الحسنى التي هي أحسن الخصال وهي السعادة، وقيل التوفيق، أو التبشير بالجنة، أو نفس الجنة "أولئك عنها مبعدون" إشارة إلى الموصوفين بتلك الصفة "عنها" أي عن جهنم "مبعدون" لأنهم قد صاروا في الجنة.