تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 337 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 337

336

أو كفر دون كفرهم 39- "أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا" قرىء أذن مبنياً للفاعل ومبنياً للمفعول وكذلك يقاتلون، قرىء مبنياً للفاعل ومبنياً للمفعول، وعلى كلا القرائتين فالإذن من الله سبحانه لعباده المؤمنين بأنهم إذا صلحوا للقتال، أو قاتلهم المشركون قاتلوهم. قال المفسرون: كان مشركو مكة يؤذون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بألسنتهم وأيديهم، فيشكون ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول لهم: "اصبروا فإني لم أومر بالقتال" حتى هاجر، فأنزل الله سبحانه هذه الآية بالمدينة، وهي أول آية نزلت في القتال. وهذه الآية مقررة أيضاً لمضمون قوله: "إن الله يدافع" فإن إباحة القتال لهم هي من جملة دفع الله عنهم، والباء في "بأنهم ظلموا" للسببية: أي بسبب أنهم ظلموا بما كان يقع عليهم من المشركين من سب وضرب وطرد، ثم وعدهم سبحانه النصر على المشركين، فقال: "وإن الله على نصرهم لقدير" وفيه تأكيد لما مر من المدافعة أيضاً.
ثم وصف هؤلاء المؤمنين بقوله: 40- "الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق" ويجوز أن يكون بدلاً من الذين يقاتلون، أو في محل نصب على المدح، أو محل رفع بإضمار مبتدأ، والمراد بالديار مكة "إلا أن يقولوا ربنا الله" قال سيبويه: هو استثناء منقطع: أي لكن لقولهم ربنا الله. أيأخرجوا بغير حق يوجب إخراجهم لكن لقولهم ربنا الله. وقال الفراء والزجاج: هو استثناء متصل، والتقدير الذين أخرجوا من ديارهم بلا حق إلا بأن يقولوا ربنا الله، فيكون مثل قوله سبحانه: " وما تنقم منا إلا أن آمنا " وقول النابغة: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب "ولولا دفع الله الناس" قرأ نافع " ولولا دفع " وقرأ الباقون "ولولا دفع" والمعنى: لولا ما شرعه الله للأنبياء والمؤمنين من قتال الأعداء لاستولى أهل الشرك، وذهبت مواضع العبادة من الأرض، ومعنى "لهدمت" لخربت باستيلاء أهل الشرك على أهل الملل، فالصوامع: هي صوامع الرهبان، وقيل صوامع الصابئين، والبيع: جمع بيعة، وهي كنيسة النصارى، والصلوات هي كنائس اليهود، واسمها بالعبرانية صلوثاً بالمثلثة فعربت، والمساجد هي مساجد المسلمين. وقيل المعنى: لولا هذا الدفع لهدمت في زمن موسى الكنائس، وفي زمن عيسى الصوامع والبيع، وفي زمن محمد المساجد. قال ابن عطية: هذا أصوب ما قيل في تأويل الآية. وقيل المعنى: ولولا دفع الله ظلم الظلمة بعدل الولاة، وقيل لولا دفع الله العذاب بدعاء الأخيار، وقيل غير ذلك. والصوامع: جمع صومعة، وهي بناء مرتفع، يقال صمع الثريدة: إذا رفع رأسها، ورجع أصمع القلب: أي حاد الفطنة، والأصمع من الرجال: الحديد القول، وقيل الصغير الأذن. ثم استعمل في المواضع التي يؤذن عليها في الإسلام. وقد ذكر ابن عطية في صلوات تسع قراءات، ووجه تقديم مواضع عبادات أهل الملل على موضع عبادة المسلمين كونها أقدم بناء وأسبق وجوداً. والظاهر من الهدم المذكور معناه الحقيقي كما ذكره الزجاج وغيره، وقيل المراد به المعنى المجازي، وهو تعطلها من العبادة، وقرئ "لهدمت" بالتشديد، وانتصاب كثيراً في قوله: "يذكر فيها اسم الله كثيراً" على أنه صفة لمصدر محذوف: أي ذكراً كثيراً، أو وقتاً كثيراً، والجملة صفة للمساجد، وقيل لجميع المذكورات "ولينصرن الله من ينصره" اللام هي جواب لقسم محذوف: أي والله لينصر الله من ينصره، والمراد بمن ينصر الله من ينصر دينه وأولياءه، والقوي القادر على الشيء، والعزيز الجليل الشريف قاله الزجاج، وقيل الممتنع الذي لا يرام ولا يدافع ولا يمانع.
والموصول في قوله: 41- "الذين إن مكناهم في الأرض" في موضع نصب صفة لمن في قوله من ينصره قاله الزجاج: وقال غيره هو في موضع جر صفة لقوله للذين يقاتلون. وقيل المراد بهم المهاجرون والأنصار والتابعون لهم بإحسان، وقيل أهل الصلوات الخمس، وقيل ولاة العدل، وقيل غير ذلك، وفيه إيجاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على من مكنه الله في الأرض وأقدره على القيام بذلك. وقد تقدم تفسير الآية، ومعنى "ولله عاقبة الأمور" أن مرجعها إلى حكمه وتدبيره دون غيره. وقد أخرج عبد الرزاق وأحمد وعبد بن حميد والترمذي وحسنه والنسائي وابن ماجه والبزار وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: لما أخرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة قال أبو بكر: أخرجوا نبيهم "إنا لله وإنا إليه راجعون" ليهلكن القوم، فنزلت "أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا" الآية. قال ابن عباس: وهي أول آية نزلت في القتال. قال الترمذي: حسن، وقد رواه غير واحد عن الثوري، وليس فيه ابن عباس انتهى. وقد روي نحو هذا عن جماعة من التابعين. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال: "الذين أخرجوا من ديارهم" أي من مكة إلى المدينة بغير حق، يعني محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن مردويه عن عثمان بن عفان قال: فينا نزلت هذه الآية "الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق" والآية بعدها أخرجنا من ديارنا بغير حق: ثم مكناهم في الأرض أقمنا الصلاة وآتينا الزكاة وأمرنا بالمعروف ونهينا عن المنكر فهي لي ولأصحابي. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن علي بن أبي طالب قال: إنما أنزلت هذه الآية في أصحاب محمد "ولولا دفع الله الناس" الآية: قال لولا دفع الله بأصحاب محمد عن التابعين لهدمت صوامع. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "لهدمت صوامع" الآية قال: الصوامع التي تكون فيها الرهبان، والبيع مساجد اليهود وصلوات كنائس النصارى، والمساجد مساجد المسلمين. وأخرجا عنه قال: البيع بيع النصارى، وصلوات كنائس اليهود. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم في قوله: "الذين إن مكناهم في الأرض" قال: أرض المدينة "أقاموا الصلاة" قال: المكتوبة "وآتوا الزكاة" قال: المفروضة "وأمروا بالمعروف" قال لا إله إلا الله "ونهوا عن المنكر" قال: عن الشرك بالله "ولله عاقبة الأمور" قال: وعند الله ثواب ما صنعوا.
قوله: 42- "وإن يكذبوك" إلخ هذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعزية له متضمنة للوعد له بإهلاك المكذبين له كما أهلك سبحانه المكذبين لمن كان قبله. وفيه إرشاد له صلى الله عليه وسلم إلى الصبر على قومه والاقتداء بمن قبله من الأنبياء في ذلك.
43- "وقوم إبراهيم وقوم لوط" وقد تقدم ذكر هذه الأمم وما كان منهم ومن أنبيائهم وكيف كانت عاقبتهم.
وإنما غير النظم في قوله: 44- "وكذب موسى" فجاء بالفعل مبنياً للمفعول، لأن قوم موسى لم يكذبوه وإنما كذبه غيرهم من القبط "فأمليت للكافرين" أي أخرت عنهم العقوبة وأمهلتهم والفاء لترتيب الإمهال على التكذيب "ثم أخذتهم" أي أخذت كل فريق من المكذبين بالعذاب بعد انقضاء مدة الإمهال "فكيف كان نكير" هذا الاستفهام للتقرير: أي فانظر كيف كان إنكاري عليهم وتغير ما كانوا فيه من النعم وإهلاكهم، والنكير اسم من المنكر. قال الزجاج: أي ثم أخذتهم فأنكرت أبلغ إنكار. قال الجوهري: النكير والإنكار تغيير المنكر.
ثم ذكر سبحانه كيف عذب أهل القرى المكذبة فقال 45- " فكأين من قرية أهلكناها " أي أهلكنا أهلها، وقد تقدم الكلام على هذا التركيب في آل عمران، وقرئ أهلكتها، وجملة "وهي ظالمة" حالية، وجملة "فهي خاوية" عطف على "أهلكناها"، لا على ظالمة لأنها حالية، والعذاب ليس في حال الظلم، والمراد بنسبة الظلم إليها نسبته إلى أهلها: والخواء: بمعنى السقوط: أي فهي ساقطة " على عروشها " أي على سقوفها، وذلك بسبب تعطل سكانها حتى تهدمت فسقطت حيطانها فوق سقوفها، وقد تقدم تفسير هذه الآية في البقرة "وبئر معطلة" معطوف على قرية، والمعنى: وكم من أهل قرية، ومن أهل بئر معطلة هكذا قال الزجاج. وقال الفراء: إنه معطوف على عروشها، والمراد بالمعظلة المتروكة. وقيل الخالية عن أهلها لهلاكهم، وقيل الغائرة، وقيل معطلة من الدلاء والأرشية، والقصر المشيد هو المرفوع البنيان كذا قال قتادة والضحاك، ويدل عليه قول عدي بن زيد: شاده مرمراً وجلله كلسا فللطير في ذراه وكور شاده: أي رفعه. وقال سعيد بن جبير وعطاء وعكرمة ومجاهد: المراد بالمشيد المجصص، مأخوذ من الشيد، وهو الجص، ومنه قول الراجز: لا تحسبني وإن كنت امرأ غمراً كحية الماء بين الطين والشيد وقيل المشيد الحصين قاله الكلبي. قال الجوهري: المشيد المعمول بالشيد، والشيد بالكسر كل شيء طليت به الحائط من جص أو بلاط، وبالفتح المصدر، تقول شاده يشيده جصصه، والمشيد بالتشديد المطول. قال الكسائي: للواحد من قوله تعالى: "في بروج مشيدة". والمعنى المعني: وكم من قصر مشيد معطل مثل البئر المعطلة؟ ومعنى التعطيل في القصر هو أنه معطل من أهله، أو من آلاته، أو نحو ذلك. قال القرطبي في تفسيره: ويقال إن هذه البئر والقصر بحضرموت معروفان، فالقصر مشرف على قلة جبل لا يرتقى إليه بحال، والبئر في سفحه لا تقر الريح شيئاً سقط فيها إلا أخرجته، وأصحاب القصر ملوك الحضر، وأصحاب البئر ملوك البدو. حكى الثعلبي وغيره: أن البئر كان بعدن من اليمن في بلد يقال لها حضوراء، نزل بها أربعة آلاف ممن آمن بصالح ونجوا من العذاب ومعهم صالح فمات صالح، فسمي المكان حضرموت، لأن صالحاً لما حضره مات فبنوا حضوراء وقعدوا على هذه البئر وأمروا عليهم رجلاً، ثم ذكر قصة طويلة، وقال بعد ذلك: وأما القصر المشيد فقصر بناه شداد بن عاد بن إرم، لم يبن في الأرض مثله فيما ذكروا وزعموا، وحاله أيضاً كحال هذه البئر المذكورة في إيحاشه بعد الأنس، وإقفاره بعد العمران، وأن أحداً لا يستطيع أن يدنو منه على أميال، لما يسمع فيه من عزيف الجن والأصوات المنكرة بعد النعيم والعيش الرغد وبهاء الملك، وانتظام الأهل كالسلك فبادروا وما عادوا، فذكرهم الله سبحانه في هذه الآية موعظة وعبرة. قال: وقيل إنهم الذين أهلكهم بختنصر على ما تقدم في سورة الأنبياء في قوله: "وكم قصمنا من قرية" فتعطلت بئرهم وخربت قصورهم انتهى.
ثم أنكر سبحانه على أهل مكة عدم اعتبارها بهذه الآثار قائلاً 46- "أفلم يسيروا في الأرض" حثاً لهم على السفر ليروا مصارع تلك الأمم فيعتبروا، ويحتمل أن يكونوا قد سافروا ولم يعتبروا، فلهذا أنكر عليهم، كما في قوله: " وإنكم لتمرون عليهم مصبحين * وبالليل أفلا تعقلون " ومعنى "فتكون لهم قلوب يعقلون بها" أنهم بسبب ما شاهدوا من العبر تكون لهم قلوب يعقلون بها ما يجب أن يتعقلوه وأسند التعقل إلى القلوب لأنها محل العقل، كما أن الآذان محل السمع، وقيل إن العقل محله الدماغ ولا مانع من ذلك، فإن القلب هو الذي يبعث على إدراك العقل وإن كان محله خارجاً عنه. وقد اختلف علماء المعقول في محل العقل وماهيته اختلافاً كثيراً لا حاجة إلى التطويل بذكره "أو آذان يسمعون بها" أي ما يجب أن يسمعوه مما تلاه عليهم أنبياؤهم من كلام الله، وما نقله أهل الأخبار إليهم من أخبار الأمم المهلكة "فإنها لا تعمى الأبصار" قال الفراء: الهاء عماد يجوز أن يقال: فإنه، وهي قراءة عبد الله بن مسعود، والمعنى واحد، التذكير على الخبر، والتأنيث على الأبصار أو القصة: أي فإن الأبصار لا تعمي، أو فإن القصة لا تعمي الأبصار: أي أبصار العيون " ولكن تعمى القلوب التي في الصدور " أي ليس الخلل في مشاعرهم، وإنما هو في عقولهم أي لا تدرك عقولهم مواطن الحق ومواضع الاعتبار. قال الفراء والزجاج: إن قوله التي في الصدور من التوكيد الذي تزيده العرب في الكلام كقوله: "عشرة كاملة"، و"يقولون بأفواههم"، و"يطير بجناحيه".