تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 35 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 35

034

قوله: 220- "في الدنيا والآخرة" متعلق بقوله: "تتفكرون" أي تتفكرون في أمرهما، فتحبسون من أموالكم ما تصلحون به معايش دنياكم، وتنفقون الباقي في الوجوه المقربة إلى الآخرة، وقيل في الكلام تقديم وتأخير: أي كذلك يبين الله لكم الآيات في الدنيا والآخرة لعلكم تتفكرون في الدنيا وزوالها وفي الآخرة وبقائها، فترغبون عن العاجلة إلى الآجلة، وقيل: يجوز أن يكون إشارة إلى قوله: "وإثمهما أكبر من نفعهما" أي لتتفكروا في أمر الدنيا والآخرة، وليس هذا بجيد. قوله: "ويسألونك عن اليتامى" هذه الآية نزلت بعد نزول قوله تعالى: "ولا تقربوا مال اليتيم" وقوله: "إن الذين يأكلون أموال اليتامى" وقد كان ضاق على الأولياء الأمر كما سيأتي بيانه إن شاء الله، فنزلت هذه الآية. والمراد بالإصلاح هنا مخالطتهم على وجه الإصلاح لأموالهم، فإن ذلك أصلح من مجانبتهم. وفي ذلك دليل على جواز التصرف في أموال الأيتام من الأولياء والأوصياء بالبيع والمضاربة والإجارة ونحو ذلك. قوله: "وإن تخالطوهم فإخوانكم" اختلف في تفسير المخالطة لهم، فقال أبو عبيدة، مخالطة اليتامى أن يكون لأحدهم المال ويشق على كافله أن يفرد طعامه عنه ولا يجد بداً من خلطه بعياله، فيأخذ من مال اليتيم ما يرى أنه كافيه بالتحري فيجعله مع نفقة أهله، وهذا قد تقع فيه الزيادة والنقصان، فدلت هذه الآية على الرخصة، وهي ناسخة لما قبلها، وقيل المراد بالمخالطة: المعاشرة للأيتام، وقيل المراد بها: المصاهرة لهم. والأولى عدم قصر المخالطة على نوع خاص بل تشمل كل مخالطة كما يستفاد من الجملة الشرطية. وقوله: "فإخوانكم" خبر لمبتدأ محذوف: أي فهم إخوانكم في الدين. وفي قوله: "والله يعلم المفسد من المصلح" تحذير للأولياء: أي لا يخفى على الله من ذلك شيء فهو يجازء كل أحد بعمله من أصلح فلنفسه، ومن أفسد فعلى نفسه، وقوله: "لأعنتكم" أي ولو شاء لجعل ذلك شاقاً عليكم ومتعباً لكم وأوقعكم فيما فيه الحرج والمشقة، وقيل النعت هنا: معناه الهلاك. قاله أبو عبيدة، وأصل العنت المشقة. وقال ابن الأنباري: أصل العنت التشديد ثم نقل إلى معنى الهلاك. وقوله: "عزيز" أي لا يمتنع عليه شيء، لأنه غالب لا يغالب "حكيم" يتصرف في ملكه بما تقتضيه مشيئته وحكمته، وليس لكم أن تختاروا لأنفسكم. وقد أخرج أحمد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد والترمذي وصححه والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والضياء في المختارة عن عمر أنه قال: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً فإنها تذهب المال والعقل، فنزلت "يسألونك عن الخمر والميسر" يعني هذه الآية، فدعي عمر فقرئت عليه، فقال: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزلت في سورة النساء "يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى" فكان ينادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة أن لا يقربن الصلاة سكران، فدعي عمر فقرئت عليه فقال: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزلت الآية التي في المائدة، فدعي عمر فقرئت عليه، فلما بلغ "فهل أنتم منتهون" قال عمر: انتهينا انتهينا. وأخرج ابن أبي حاتم عن أنس قال: كنا نشرب الخمر فأنزلت "يسألونك عن الخمر والميسر" الآية، فقلنا نشرب منها ما ينفعنا، فنزلت في المائدة "إنما الخمر والميسر" الآية فقالوا: اللهم انتهينا. وأخرج أبو عبيد والبخاري في الأدب المفرد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عمر قال: الميسر القمار. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد مثله. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر عن ابن عباس مثله قال: كان الرجل في الجاهلية يخاطر عن أهله وماله، فأيهما قمر صاحبه ذهب بأهله وماله. وقوله: "قل فيهما إثم كبير" يعني: ما ينقص من الدين عند شربها "ومنافع للناس" يقول: فيما يصيبون من لذتها وفرحها إذا شربوا "وإثمهما أكبر من نفعهما" يقول: ما يذهب من الدين فالإثم فيه أكبر مما يصيبون من لذتها وفرحها إذا شربوها، فأنزل الله بعد ذلك "لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى" الآية، فكانوا لا يشربونها عند الصلاة، فإذا صلوا العشاء شربوها، ثم إن ناساً من المسلمين شربوها فقاتل بعضهم بعضاً، وتكلموا بما لم يرض الله من القول فأنزل الله "إنما الخمر والميسر والأنصاب" الآية فحرم الخمر ونهى عنها. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه قال: منافعهما قبل التحريم، وإثمهما بعد ما حرمهما. وأخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم عنه أن نفراً من الصحابة حين أمروا بالنفقة في سبيل الله أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا لا ندري ما هذه النفقة التي أمرنا بها في أموالنا، فما ننفق منها؟ فأنزل الله: "ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو" وكان قبل ذلك ينفق ماله حتى ما يجد ما يتصدق به، ولا ما يأكل حتى يتصدق عليه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال: العفو هو ما لا يتبين في أموالكم، وكان هذا قبل أن تفرض الصدقة. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والبيهقي في الشعب عنه في الآية قال: "العفو" ما يفضل عن أهلك وفي لفظ قال: الفضل عن العيال. وأخرج ابن جرير عنه في قوله: "قل العفو" قال: لم تفرض فيه فريضة معلومة ثم قال: "خذ العفو وأمر بالعرف" ثم نزلت في الفرائض بعد ذلك مسماة. وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، وابدأ بمن تعول". وثبت نحوه في الصحيح مرفوعاً من حديث حكيم بن حزام. وفي الباب أحاديث كثيرة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: " لعلكم تتفكرون * في الدنيا والآخرة " قال: يعني في زوال الدنيا وفنائها وإقبال الآخرة وبقائها. وأخرج أبو داود والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عنه قال: لما أنزل الله "ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن" " إن الذين يأكلون أموال اليتامى " الآية، انطلق من كان عنده يتيم يعزل طعامه عن طعامه، وشرابه عن شرابه، فجعل يفصل له الشيء من طعامه فيحبس له حتى يأكله أو يفسد فيرمي به فاشتد ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله: "ويسألونك عن اليتامى" الآية. فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم. وقد روي نحو ذلك عن جماعة من التابعين. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وإن تخالطوهم" قال: المخالطة أن يشرب من لبنك وتشرب من لبنه، ويأكل من قصعتك وتأكل من قصعته، ويأكل من ثمرتك وتأكل من ثمرته "والله يعلم المفسد من المصلح" قال: يعلم من يتعمد أكل مال اليتيم، ومن يتحرج منه ولا يألو عن إصلاحه "ولو شاء الله لأعنتكم" يقول: لو شاء ما أحل لكم ما أعنتكم مما لا تتعمدون. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله: "لأعنتكم" يقول: لأحرجكم وضيق عليكم، ولكنه وسع ويسر. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله: " ولو شاء الله لأعنتكم " قال: ولو شاء لجعل ما أصبتم من أموال اليتامى موبقاً.
قوله: 221- "ولا تنكحوا" قرأه الجمهور بفتح التاء، وقرئ في الشواذ بضمها، قيل: والمعنى: كان المتزوج لها أنكحها من نفسها. وفي هذه الآية النهي عن نكاح المشركات، فقيل: المراد بالمشركات الوثنيات، وقيل: إنها تعم الكتابيات لأن أهل الكتاب مشركون "وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله" وقد اختلف أهل العلم في هذه الآية، فقالت طائفة: إن الله حرم نكاح المشركات فيها والكتابيات من الجملة، ثم جاءت آية المائدة فخصصت الكتابيات من هذا العموم. وهذا محكي عن ابن عباس ومالك وسفيان بن سعيد وعبد الرحمن بن عمر والأوزاعي. وذهبت طائفة إلى أن هذه الآية ناسخة لآية المائدة، وأنه يحرم نكاح الكتابيات والمشركات، وهذا أحد قولي الشافعي، وبه قال جماعة من أهل العلم. ويجاب عن قولهم أن هذه الآية ناسخة لآية المائدة بأن سورة البقرة من أول ما نزل وسورة المائدة من آخر ما نزل. والقول الأول هو الراجح. وقد قال به مع من تقدم عثمان بن عفان وطلحة وجابر وحذيفة وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والحسن وطاوس وعكرمة والشعبي والضحاك كما حكاه النحاس والقرطبي. وقد حكاه ابن المنذر عن المذكورين، وزاد عمر بن الخطاب وقال: لا يصح عن أحد من الأوائل أنه حرم ذلك. وقال بعض أهل العلم: إن لفظ المشرك لا يتناول أهل الكتاب لقوله تعالى: " ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم ". وقال: "لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين" وعلى فرض أن لفظ المشركين يعم، فهذا العموم مخصوص بآية المائدة كما قدمنا. قوله: "ولأمة مؤمنة" أي ولرقيقة مؤمنة، وقيل المراد بالأمة: الحرة لأن الناس كلهم عبيد الله وإماؤه والأول أولى لما سيأتي لأنه الظاهر من اللفظ ولأنه أبلغ، فإن تفضيل الأمة الرقيقة المؤمنة على الحرة المشركة يستفاد منه تفضيل الحرة المؤمنة على الحرة المشركة بالأولى. وقوله: "ولو أعجبتكم" أي ولو أعجبتكم المشركة من جهة كونها ذات جمال أو مال أو شرف، وهذه الجملة حالية. قوله: "ولا تنكحوا المشركين" أي لا تزوجوهم بالمؤمنات "حتى يؤمنوا" قال القرطبي: وأجمعت الأمة على أن المشرك لا يطأ المؤمنة بوجه لما في ذلك من الغضاضة على الإسلام، وأجمع القراء على ضم التاء من تنكحوا. وقوله: "ولعبد" الكلام فيه كالكلام في قوله: "ولأمة" والترجيح كالترجيح. قوله: "أولئك" إشارة إلى المشركين والمشركات "يدعون إلى النار" أي إلى الأعمال الموجبة للنار، فكان في مصاهرتهم ومعاشرتهم ومصاحبتهم من الخطر العظيم ما لا يجوز للمؤمنين أن يتعرضوا له ويدخلوا فيه "والله يدعو إلى الجنة" أي إلى الأعمال الموجبة للجنة، وقيل: المراد أن أولياء الله هم المؤمنون يدعون إلى الجنة. وقوله: "بإذنه" أي بأمره، فقاله الزجاج، وقيل: بتيسيره وتوفيقه، قاله صاحب الكشاف. وقد أخرج ابن أبي حاتم وابن المنذر عن مقاتل بن حيان قال: نزلت هذه الآية في أبي مرثد الغنوي استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في عناق أن يتزوجها، وكانت ذات حظ من الجمال وهي مشركة وأبو مرئد يومئذ مسلم، فقال: يا رسول الله إنها تعجبني، فأنزل الله: "ولا تنكحوا المشركات". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله: "ولا تنكحوا المشركات" قال استثنى الله من ذلك نساء أهل الكتاب، فقال: "والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب". وقد روي هذا المعنى عنه من طرق. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن سعيد بن جبير في قوله: "ولا تنكحوا المشركات" يعني أهل الأوثان. وأخرج عبد بن حميد والبيهقي عن مجاهد نحوه، وكذلك أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة نحوه أيضاً. وأخرج عبد بن حميد عن النخعي نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم عن ابن عمر أنه كره نكاح نساء أهل الكتاب، وتأول: "ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن". وأخرج البخاري عنه قال: حرم الله نكاح المشركات على المسلمين، ولا أعرف شيئاً من الإشراك أعظم من أن تقول المرأة ربها عيسى أو عبد من عباد الله. وأخرج الواحدي وابن عساكر من طريق السدي عن أبي مالك عن ابن عباس في قوله تعالى: "ولأمة مؤمنة خير من مشركة" قال: نزلت في عبد الله بن رواحة، وكانت له أمة سوداء وأنه غضب عليها فلطمها، ثم إنه فزع فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره خبرها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم له: ما هي يا عبد الله؟ قال: تصوم وتصلي وتحسن الوضوء، وتشهد أن لا إله إلآ الله وأنك رسول الله، فقال: يا عبد الله هذه مؤمنة، فقال عبد الله: فوالذي بعثك بالحق لأعتقنها ولأتزوجنها، ففعل فطعن عليه ناس من المسلمين وقالوا: نكح أمة، وكانوا يريدون أن ينكحوا إلى المشركين وينكحوهم رغبة في أحسابهم، فأنزل الله فيهم "ولأمة مؤمنة خير من مشركة". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن السدي مثله. وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان في قوله: "ولأمة مؤمنة" قال: بلغنا أنها كانت أمة لحذيفة سوداء، فأعتقها وتزوجها حذيفة. وأخرج ابن جرير عن أبي جعفر محمد بن علي قال: النكاح يولي في كتاب الله، ثم قرأ "ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا".
قوله: 222- "المحيض" هو الحيض، وهو مصدر، يقال: حاضت المرأة حيضاً ومحيضاً فهي حائض وحائضة، كذا قال الفراء وأنشد: كحائضة تزني بها غير طاهرة ونساء حيض وحوائض، والحيضة بالكسرة، المرة الواحدة وقيل: الاسم، وقيل: المحيض عبارة عن الزمان والمكان، وهو مجاز فيهما. وقال ابن جرير الطبري: المحيض اسم الحيض، ومثله قول رؤبة: إليك أشكو شدة المعيش أي العيش، وأصل هذه الكلمة من السيلان والانفجار يقال: حاض السيل وفاض، وحاضت الشجرة: أي سالت رطوبتها، ومنه الحيض: أي الحوض، لأن الماء يحوض إليه: أي يسيل. وقوله: "قل هو أذى" أي قل: هو شيء يتأذى به: أي برائحته، والأذى كناية عن القذر ويطلق على القول المكروه ومنه قوله تعالى: "لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى". ومنه قوله تعالى: "ودع أذاهم" وقوله: "فاعتزلوا النساء في المحيض" أي فاجتنبوهن في زمان الحيض إن حمل المحيض على المصدر أو في محل الحيض إن حمل على الإسم. والمراد من هذا الاعتزال ترك المجامعة لا ترك المجالسة أو الملامسة فإن ذلك جائز، بل يجوز الاستمتاع منها بما عدا الفرج أو بما دون الإزار على خلاف في ذلك، وما يروى عن ابن عباس وعبيدة السلماني أنه يجب على الرجل أن يعتزل فراش زوجته إذا حاضت فليس ذلك بشيء، ولا خلاف بين أهل العلم في تحريم وطء الحائض وهو معلوم من ضرورة الدين. قوله: "ولا تقربوهن حتى يطهرن" قرأ نافع وأبو عمرو وابن كثير وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر يطهرن بتشديد الطاء وفتحها وفتح الهاء وتشديدها. وفي مصحف أبي وابن مسعود ويتطهرن والطهر انقطاع الحيض، والتطهر: الاغتسال. وبسبب اختلاف القراء اختلف أهل العلم، فذهب الجمهور إلى أن الحائض لا يحل وطؤها لزوجها حتى تتطهر بالماء. وقال محمد بن كعب القظي ويحيى بن بكير: إذا طهرت الحائض وتيممت حيث لا ماء حلت لزوجها وإن لم تغتسل. وقال مجاهد وعكرمة: إن انقطاع الدم يحلها لزوجها، ولكن تتوضأ. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد: إن انقطع دمها بعد مضي عشرة أيام جاز له أن يطأها قبل الغسل، وإن كان انقطاعه قبل العشر لم يجز حتى تغتسل أو يدخل عليها وقت الصلاة. وقد رجح ابن جرير الطبري قراءة التشديد. والأولى أن يقال: إن الله سبحان جعل للحل غايتين كما تقتضيه القراءتان: إحداهما انقطاع الدم، والأخرى التطهر منه، والغاية الأخرى مشتملة على زيادة على الغاية الأولى، فيجب المصير إليها. وقد دل أن الغاية الأخرى هي المعتبرة. قوله تعالى بعد ذلك: "فإذا تطهرن" فإن ذلك يفيد أن المعتبر التطهر، لا مجرد انقطاع الدم. وقد تقرر أن القراءتين بمنزلة الآيتين، فكما أنه يجب الجمع بين الآيتين المشتملة إحداهما على زيادة بالعمل بتلك الزيادة، كذلك يجب الجمع بين القراءتين. قوله: " فاتوهن من حيث أمركم الله " أي فجامعوهن، وكنى عنه بالإتيان. والمراد أنهم يجامعونهن في المأتى الذي أباحه الله، وهو القبل قيل: و"من حيث" بمعنى في حيث، كما في قوله تعالى: "إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة" أي في يوم الجمعة، وقوله: "ماذا خلقوا من الأرض" أي في الأرض، وقيل: إن المعنى من الوجه الذي أذن الله لكم فيه: أي من غير صوم وإحرام واعتكاف، وقيل: إن المعنى من قبل الطهر لا من قبل الحيض، وقيل: من قبل الحلال، لا من قبل الزنا. قوله: "إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين" قيل: المراد التوابون من الذنوب، والمتطهرون من الجنابة والأحداث، وقيل: التوابون من إتيان النساء في أدبارهن، وقيل: من إتيانهن في الحيض، والأول أظهر.
قوله: 223- " نساؤكم حرث لكم فاتوا حرثكم أنى شئتم " لفظ الحرث يفيد أن الإباحة لم تقع إلا في الفرج الذي هو القبل خاصة، إذ هو مزدرع الذرية، كما أن الحرث مردرع النبات. فقد شبه ما يلقى في أرحامهن من النطف التي منها النسل بما يلقى في الأرض من البذور التي منها النبات بجامع أن كل واحد منهما مادة لما يحصل منه، وهذه الجملة بيان للجملة الأولى، أعني قوله: " فاتوهن من حيث أمركم الله ". وقوله: "أنى شئتم" أي من أي جهة شئتم من خلف وقدام وباركة ومستلقية ومضجعة، إذا كان في موضع الحرث، وأنشد ثعلب: إنما الأرحام أرضو ن لنــا محـترثـات فعلينا الزرع فيهـا وعلى الله النبات وإنما عبر سبحانه بقوله: "أنى" لكونها أعم في اللغة من كيف وأين ومتى. وأما سيبويه ففسرها هنا بكيف. وقد ذهب السلف والخلف من الصحابة والتابعين والأئمة إلى ما ذكرناه من تفسير الآية، وأن إتيان الزوجة في دبرها حرام. وروي عن سعيد بن المسيب ونافع وابن عمر ومحمد بن كعب القرظي وعبد الملك بن الماجشون أنه يجوز ذلك، حكاه عنهم القرطبي في تفسيره قال: وحكي ذلك عن مالك في كتاب له يسمى كتاب السر وحذاق أصحاب مالك ومشايخهم ينكرون ذلك الكتاب، ومالك أجل من أن يكون له كتاب سر، ووقع هذا القول في العتبية. وذكر ابن العربي أن ابن شعبان أسند جواز ذلك إلى زمرة كبيرة من الصحابة والتابعين وإلى مالك من روايات كثيرة في كتاب جماع النسوان وأحكام القرآن وقال الطحاوي: روى أصبغ بن الفرج عن عبد الرحمن بن القاسم قال: ما أدركت أحداً أقتدي به في ديني شك في أنه حلال: يعني وطء المرأة في دبرها ثم قرأ: "نساؤكم حرث لكم" ثم قال: فأي شيء أبين من هذا. وقد روى الحاكم والدارقطني والخطيب البغدادي عن مالك من طرق ما يقتضي إباحة ذلك. وفي أسانيدها ضعف. وقد روى الطحاوي عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم أنه سمع الشافعي يقول: ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في تحليله ولا تحريمه شيء، والقياس أنه حلال. وقد روى ذلك أبو بكر الخطيب. قال ابن الصباغ: كان الربيع يحلف بالله الذي لا إله إلا هو لقد كذب ابن عبد الحكم على الشافعي في ذلك، فإن الشافعي نص على تحريمه في ستة كتب من كتبه. قوله: "وقدموا لأنفسكم" أي خيراً كما في قوله تعالى: "وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله" وقيل: ابتغاء الولد، وقيل: التزويج بالعفائف، وقيل غير ذلك. وقوله: "واتقوا الله" فيه تحذير عن الوقوع في شيء من المحرمات. وفي قوله: "واعلموا أنكم ملاقوه" مبالغة في التحذير. وفي قوله: "وبشر المؤمنين" تأنيس لمن يفعل الخير ويجتنب الشر. وقد أخرج مسلم وأهل السنن وغيرهم عن أنس "أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة منهم أخرجوها من البيت ولم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يجامعوها في البيوت، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأنزل الله: "ويسألونك عن المحيض" الآية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: جامعوهن في البيوت واصنعوا كل شيء إلا النكاح". وأخرج النسائي والبزار عن جابر قال: إن اليهود قالوا: من أتى المرأة في دبرها كان ولده أحول، فجاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه عن ذلك وعن إتيان الحائض، فنزلت. وأخرج ابن جرير عن مجاهد قال الأذى: الدم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله: "فاعتزلوا النساء" يقول: اعتزلوا نكاح فروجهن. وفي قوله: "ولا تقربوهن حتى يطهرن" قال: من الدم. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد قال: حتى ينقطع الدم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس في قوله: "فإذا تطهرن" قال: بالماء. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن جرير عن عكرمة نحوه أيضاً. وأخرج ابن المنذر عن مجاهد وعطاء أنهما قالا إذا رأت الطهر فلا بأس أن تستطيب بالماء ويأتيها قبل أن تغتسل. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: " فاتوهن من حيث أمركم الله " قال: يعني أن يأتيها طاهراً غير حائض. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة نحوه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: " فاتوهن من حيث أمركم الله " قال: من حيث أمركم أن تعتزلوهن. وأخرج ابن أبي شيبة عن عكرمة مثله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر والبيهقي عن ابن عباس قال: من حيث نهاكم أن تأتوهن وهن حيض: يعني من قبل الفرج. وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن الحنفية قال: " فاتوهن من حيث أمركم الله " من قبل التزويج. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن عطاء في قوله: "يحب التوابين" قال: من الذنوب "ويحب المتطهرين" قال: بالماء. وأخرج ابن أبي حاتم عن الأعمش قال: التوبة من الذنوب والتطهير من الشرك. وأخرج البخاري وأهل السنن وغيرهم عن جابر قال: كانت اليهود تقول إذا أتى الرجل امرأته من خلفها في قبلها جاء الولد أحول، فنزلت: " نساؤكم حرث لكم فاتوا حرثكم أنى شئتم " إن شاء محتبية وإن شاء غير محتبية، غير أن ذلك في صمام واحد. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير عن مرة الهمداني نحوه. وقد روي هذا عن جماعة من السلف وصرحوا أنه السبب، ومن الراوين لذلك عبد الله بن عمر عند ابن عساكر، وأم سلمة عند عبد الرزاق وعبد بن حميد والبيهقي في الشعب. وأخرجه أيضاً عنها ابن أبي شيبة وأحمد والدارمي وعبد بن حميد والترمذي وحسنه "أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض نساء الأنصار عن التحبية، فتلا عليها الآية وقال: صماماً واحداً" والصمام: السبيل. وأخرج أحمد وعبد بن حميد والترمذي وحسنه والنسائي والضياء في المختارة وغيرهم عن ابن عباس قال: جاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله هلكت. قال: وما أهلكك؟ قال: حولت رحلي الليلة. فلم يرد عليه شيئاً. فأوحى الله إلى رسوله هذه الآية "نساؤكم حرث لكم" يقول: أقبل وأدبر واتق الدبر والحيضة. وأخرج أحمد عن ابن عباس مرفوعاً أن هذه الآية نزلت في أناس من الأنصار أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه فقال: ائتها على كل حال إذا كان في الفرج. وأخرج الدارمي وأبو داود وابن جرير وابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عنه قال ابن عمر: والله يغفر له أوهم، إنما كان هذا الحي من الأنصار وهم أهل وثن مع هذا الحي من اليهود وهم أهل الكتاب كانوا يرون لهم فضلاً عليهم في العلم، فكانوا يقتدون بكثير من فعلهم، فكان من أمر أهل الكتاب لا يأتون النساء إلا على حرف، وذلك أستر ما تكون المرأة، وكان هذا الحي من الأنصار قد أخذوا بفعلهم، وكان هذا الحي من قريش يشرحون النساء شرحاً ويتلذذون منهن مقبلات ومدبرات ومستلقيات فلما قدم المهاجرون المدينة تزوج رجل منهم امرأة من الأنصار. فذهب يفعل بها ذلك فأنكرته عليه، وقالت: إنما كنا نؤتي على حرف فاصنع ذلك وإلا فاجتنبني، فسرى أمرهما، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله الآية: "نساؤكم حرث لكم" يقول: مقبلات ومدبرات بعد أن يكون في الفرج وإن كان من قبل دبرها في قبلها، زاد الطبراني: قال ابن عباس، قال ابن عمر: في دبرها فأوهم، والله يغفر له، وإنما كان هذا الحديث على هذا. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد والدارمي والبيهقي عن ابن مسعود أنه قال: محاش النساء عليكم حرام. وأخرج الشافعي في الأم وابن أبي شيبة وأحمد والنسائي وابن ماجه وابن المنذر والبيهقي في سننه من طريق خزيمة بن ثابت "أن سائلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إتيان النساء في أدبارهن، فقال: حلال أو لا بأس، فلما ولي دعاه فقال: كيف قلت؟ أمن دبرها في قبلها فنعم، أم من دبرها في دبرها فلا، إن الله لا يستحي من الحق لا تأتوا النساء في أدبارهن". وأخرج ابن عدي والدارقطني عن جابر بن عبد الله نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة والترمذي وحسنه والنسائي وابن حبان عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ينظر الله إلى رجل أتى امرأة في الدبر". وأخرج أحمد والبيهقي في سننه عن ابن عمرو: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الذي يأتي امرأته في دبرها هي اللوطية الصغرى". وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ملعون من أتى امرأته في دبرها". وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد والنسائي والبيهقي عنه قال: إتيان الرجال والنساء في أدبارهن كفر. وقد رواه ابن عدي عن أبي هريرة مرفوعاً قال ابن كثير: والموقوف أصح. وقد ورد النهي عن ذلك من طرق منها عند البزار عن عمر مرفوعاً وعند النسائي عنه موقوفاً وهو أصح. وعند ابن عدي في الكامل عن ابن مسعود مرفوعاً عند ابن عدي أيضاً عن عقبة بن عامر مرفوعاً، وعند أحمد عن طلق بن يزيد أو يزيد بن طلق مرفوعاً، وعند ابن أبي شيبة وأحمد والترمذي وحسنه عن علي بن طلق مرفوعاً وقد ثبت نحو ذلك عن جماعة من الصحابة والتابعين مرفوعاً وموقوفاً. وأخرج البخاري وغيره عن نافع قال: قرأت ذات يوم: "نساؤكم حرث لكم" فقال ابن عمر: أتدري فيم أنزلت هذه الآية؟ قلت: لا، قال: نزلت في إتيان النساء في أدبارهن. وأخرج البخاري عن ابن عمر أنه قال: " فاتوا حرثكم أنى شئتم " قال: في الدبر. وقد روي هذا عن ابن عمر من طرق كثيرة. وفي رواية عند الدارقطني أنه قال له نافع: من دبرها في قبلها؟ فقال: لا: إلا في دبرها. وأخرج ابن راهويه وأبو يعلى وابن جرير والطحاوي وابن مردويه بإسناد حسن عن أبي سعيد الخدري، أن رجلاً أصاب امرأته في دبرها، فأنكر الناس عليه ذلك، فنزلت الآية. وأخرج البيهقي في سننه عن محمد بن علي قال: كنت عند محمد بن كعب القرظي فجاءه رجل فقال: ما تقول في إتيان المرأة في دبرها؟ فقال: هذا شيخ من قريش فسله، يعني عبد الله بن علي بن السائب: فقال: قذر ولو كان حلالاً. وقد روي القول بحل ذلك عن محمد بن المنكدر عند ابن جرير وعن ابن أبي مليكة عند ابن جرير أيضاً، وعن مالك بن أنس عند ابن جرير والخطيب وغيرهما، وعن الشافعي عند الطحاوي والحاكم والخطيب. وقد قدمنا مثل هذا، وليس في أقوال هؤلاء حجة ألبتة: ولا يجوز لأحد أن يعمل على أقوالهم، فإنهم لم يأتوا بدليل يدل على الجواز، فمن زعم منهم أنه فهم ذلك من الآية فقد أخطأ في فهمه. وقد فسرها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكابر أصحابه بخلاف ما قاله هذا المخطئ في فهمه كائناً من كان ومن زعم منهم أن سبب نزول الآية أن رجلاً أتى امرأته في دبرها، فليس في هذا ما يدل على أن الآية أحلت ذلك، ومن زعم ذلك فقد أخطأ، بل الذي تدل عليه الآية أن ذلك حرام، فكون ذلك هو السبب لا يستلزم أن تكون الآية نازلة في تحليله، فإن الآيات النازلة على أسباب تأتي تارة بتحليل هذا، وتارة بتحريمه. وقد روي عن ابن عباس أنه فسر هذه الآية بغير ما تقدم، فقال: معناها إن شئتم فاعزلوا وإن شئتم فلا تعزلوا. روى ذلك عنه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والضياء في المختارة. وروي نحو ذلك عن ابن عمر. وأخرجه ابن أبي شيبة وعن سعيد بن المسيب، أخرجه ابن أبي شيبة وابن جرير.
العرضة: النصبة، قاله الجوهري. يقال: جعلت فلاناً عرضة لكذا: أي نصبة: وقيل: العرضة من الشدة والقوة، ومنه قولهم للمرأة عرضة للنكاح: إذا صلحت له وقويت عليه، ولفلان عرضة: أي قوة، ومنه قول كعب بن زهير: من كل نضاخة الدفرى إذا عرقت عرضتها طامس الأعلام مجهول ومثله قول أوس بن حجر: وأدماء مثل العجل يوماً عرضتها لرحلي وفيها هزة وتقاذف ويطلق العرضة على الهمة، ومنه قول الشاعر: هم الأنصار عرضتها اللقاء أي همتها، ويقال: فلان عرضة للناس لا يزالون يقعون فيه- فعلى المعنى الذي ذكره الجوهري أن العرضة النصبة كالقبضة والغرفة يكون ذلك اسماً لما تعرضه دون الشيء: أي تجعله حاجزاً له ومانعاً منه: أي لا تجعلوا الله حاجزاً ومانعاً لما حلفتم عليه، وذلك لأن الرجل كان يحلف على بعض الخير من صلة رحم أو إحسان إلى الغير أو إصلاح بين الناس بأن لا يفعل ذلك، ثم يمتنع من فعله معللاً لذلك الامتناع بأنه قد حلف أن لا يفعله، وهذا المعنى هو الذي ذكره الجمهور في تفسير الآية، ينهاهم الله أن يجعلوه عرضة لأيمانهم: أي حاجزاً لما حلفوا عليه ومانعاً منه، وسمي المحلوف عليه يميناً لتلبسه باليمين، وعلى هذا يكون قوله: 224- "أن تبروا" عطف بيان لأيمانكم: أي لا تجعلوا الله مانعاً للأيمان التي هي بركم وتقواكم وإصلاحكم بين الناس، ويتعلق قوله: "لأيمانكم" بقوله: "لا تجعلوا" أي لا تجعلوا الله لأيمانكم مانعاً وحاجزاً، ويجوز أن يتعلق بعرضة: أي لا تجعلوه شيئاً معترضاً بينكم وبين البر وما بعده. وعلى المعنى الثاني، وهو أن العرضة: الشدة والقوة يكون معنى الآية: لا تجعلوا اليمين بالله قوة لأنفسكم، وعدة في الامتناع من الخير، ولا يصح تفسير الآية على المعنى الثالث، وهو تفسير العرضة بالهمة- وأما على المعنى الرابع، وهو من قولهم فلان لا يزال عرضة للناس: أي يقعون فيه، فيكون معنى الآية عليه: ولا تجعلوا الله معرضاً لأيمانكم، فتبذلونه بكثرة الحلف به، ومنه: "واحفظوا أيمانكم" وقد ذم الله المكثرين للحلف فقال: "ولا تطع كل حلاف مهين". وقد كانت العرب تتمادح بقلة الأيمان حتى قال قائلهم: قليل الألايا حافظ ليمينه وإن ندرت منه الألية برت وعلى هذا فيكون قوله: "أن تبروا" علة للنهي أي لا تجعلوا الله معرضاً لأيمانكم إرادة أن تبروا وتتقوا وتصلحوا لأن من يكثر الحف بالله يجترئ على الحنث ويفجر في يمينه. وقد قيل في تفسير الآية أقوال هي راجعة إلأى هذه الوجوه التي ذكرناها، فمن ذلك قول الزجاج معنى الآية أن يكون الرجل إذا طلب منه الفعل الذي فيه خير اعتل بالله، فقال على يمين وهو لم يحلف، وقيل معناها: لا تحلفوا بالله كاذبين إذا أردتم البر والتقوى والإصلاح، وقيل: معناها إذا حلفتم على أن لا تصلوا أراحامكم ولا تتصدقوا ولا تصلحوا وعلى أشباه ذلك من أبواب البر فكفروا عن اليمين. وقد قيل إن قوله: "أن تبروا" مبتدأ خبره محذوف أي البر والتقوى، والإصلاح أولى. قاله الزجاج وقيل إنه منصوب: أي لا تمنعكم اليمين بالله البر والتقوى والإصلاح وروي ذلك عن الزجاج أيضاً، وقيل: معناه أن لا تبروا، فحذف لا، كقوله: "يبين الله لكم أن تضلوا" أي لا تضلوا. قاله ابن جرير الطبري، وقيل: هو في موضع جر على قول الخليل والكسائي، والتقدير في "أن تبروا". وقوله: "سميع" أي لأقوال العباد "عليم" بما يصدر منهم.
واللغو: مصدر لغا يلغو لغواً، ولغى يلغي لغياً: إذا أتى بما لا يحتاج إليه في الكلام أو بما لا خير فيه وهو الساقط الذي لا يعتد به، فاللغو من اليمين: هو الساقط الذي لا يعتد به، ومنه اللغو في الدية، وهو الساقط الذي لا يعتد به من أولاد الإبل، قال جرير: ويذهب بينها المري لغواً كما ألغيت في الدية الحوارا وقال آخر: ورب أسراب حجيج كظم عن اللغا ورفث التكلم أي لا يتكلمن بالساقط والرفث، ومعنى الآية: لا يعاقبكم الله بالساقط من أيمانكم، ولكن يعاقبكم بما كسبت قلوبكم: أي اقترفته بالقصد إليه: وهي اليمين المعقودة، ومثله قوله تعالى: "ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان" ومثله قول الشاعر: ولست بمأخوذ بلغو يقوله إذا لم تعمد عاقدات العزائم وقد اختلف أهل العلم في تفسير اللغو، فذهب ابن عباس وعائشة وجمهور العلماء أيضاً: أنه قول الرجل لا والله وبلى والله في حديثه وكلامه غير معتقد لليمين، ولا مريد لها. قال المروزي: هذا معنى لغو اليمين الذي اتفق عليه عامة العلماء. وقال أبو هريرة وجماعة من السلف: هو أن يحلف الرجل على الشيء لا يظن إلا أنه إياه فإذا ليس هو ما ظنه، وإلى هذا ذهبت الحنفية والزيدية، وبه قال مالك في الموطأ. وروي عن ابن عباس أنه قال: لغو اليمين أن تحلف وأنت غضبان، وبه قال طاوس ومكحول، وروي عن مالك، وقيل: إن اللغو هو يمين المعصية، قاله سعيد بن المسيب وأبو بكر بن عبد الرحمن وعبد الله بن الزبير وأخوه عروة كالذي يقسم ليشربن الخمر أو ليقطعن الرحم، وقيل: لغو اليمين: هو دعاء الرجل على نفسه كأن يقول: أعمى الله بصره، أذهب الله ماله، هو يهودي، وهو مشرك. قاله زيد بن أسلم. وقال مجاهد: لغو اليمين أن يتبايع الرجلان فيقول أحدهما: والله لا أبايعك بكذا، ويقول الآخر: والله لا أشتريه بكذا. وقال الضحاك: لغو اليمين هي المكفرة: أي إذا كفرت سقطت وصارت لغواً. والراجح القول الأول لمطابقته للمعنى اللغوي، ولدلالة الأدلة عليه كما سيأتي. وقوله: 225- " والله غفور حليم " أي حيث لم يؤاخذكم بما تقولونه بألسنتكم من دون عمد وقصد. وآخذكم بما تعمدته قلوبكم وتكلمت به ألسنتكم، وتلك هي اليمين المعقودة المقصودة. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله: "ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم" يقول: لا تجعلني عرضة ليمينك أن لا تصنع الخير، ولكن كفر عن يمينك واصنع الخير. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عنه: هو أن يحلف الرجل أن لا يكلم قرابته أو لا يتصدق ويكون بين رجلين مغاضبة فيحلف لا يصلح بينهما ويقول: قد حلفت، قال: يكفر عن يمينه. وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء قال: جاء رجل إلى عائشة فقال: إني نذرت إن كلمت فلاناً فإن كل مملوك لي عتيق، وكل مال لي ستر للبيت، فقالت: لا تجعل مملوكيك عتقاء ولا تجعل مالك ستراً للبيت فإن الله يقول: "ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم" فكفر عن يمينك. وقد ورد أن هذه الآية نزلت في أبي بكر في شأن مسطح، رواه ابن جرير عن ابن جريج، والقصة مشهورة. وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه". وثبت أيضاً في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني". وأخرج ابن ماجه وابن جرير عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حلف على يمين قطيعة رحم أو معصية فبره أن يحنث فيها ويرجع عن يمينه". وأخرج أحمد وأبو داود وابن ماجه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا نذر ولا يمين فيما لا يملك ابن آدم ولا في معصية الله ولا في قطيعة رحم". وأخرج أبو داود والحاكم وصححه عن عمر مرفوعاً مثله. وأخرج النسائي وابن ماجه عن مالك الجشمي قال: قلت يا رسول الله: يأتيني ابن عمي فأحلف أن لا أعطيه ولا أصله، فقال: كفر عن يمينك. وأخرج مالك في الموطأ وعبد الرزاق وعبد بن حميد والبخاري وغيرهم عن عائشة قالت: أنزلت هذه الآية: "لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم" في قول الرجل: لا والله وبلى والله وكلا والله. وأخرج أبو داود وابن جرير وابن حبان وابن مردويه والبيهقي من طريق عطاء بن أبي رباح أنه سئل عن اللغو في اليمين فقال: قالت عائشة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "هو كلام الرجل في بيته كلا والله وبلى والله". وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن عائشة أنها قالت في تفسيره الآية: إن اللغو هو القوم يتدارون في الأمر يقول هذا لا والله ويقول هذا كلا والله، يتدارون في الأمر لا تعقد عليه قلوبهم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن عائشة أنها قالت: هو اللغو في المزاحة والهزل، وهو قول الرجل لا والله وبلى والله، فذاك لا كفارة فيه، وإنما الكفارة فيما عقد عليه قلبه أن يفعله ثم لا يفعله. وأخرج ابن جرير عن الحسن قال: "مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم ينتضلون ومع النبي صلى الله عليه وسلم رجل من أصحابه، فرمى رجل من القوم، فقال: أصبت والله وأخطأت والله، فقال الذي مع النبي صلى الله عليه وسلم: حنث الرجل يا رسول الله، فقال: كلا، أيمان الرماة لغو لا كفارة فيها ولا عقوبة". وقد روى أبو الشيخ عن عائشة وابن عباس وابن عمر وابن عمرو أن اللغو لا والله وبلى والله. أخرجه سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد عن ابن عباس أنه قال: لغو اليمين أن تحلف وأنت غضبان. وأخرج ابن جرير عن أبي هريرة قال: لغو اليمين حلف الإنسان على الشيء يظن أنه الذي حلف عليه فإذا هو غير ذلك. وأخرج ابن أبي حاتم والبيهقي عن عائشة نحوه. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس: أنها أن يحلف الرجل على تحريم ما أحل الله له. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: هو الرجل يحلف على المعصية. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن النخعي: هو أن يحلف الرجل على الشيء ثم ينسى. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: "والله غفور" يعني إذ تجاوز عن اليمين التي حلف عليها "حليم" إذ لم يجعل فيها الكفارة.