تفسير الطبري تفسير الصفحة 35 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 35
036
034
 الآية : 221
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتّىَ يُؤْمِنّ وَلأمَةٌ مّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مّن مّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنْكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتّىَ يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مّؤْمِنٌ خَيْرٌ مّن مّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَـَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النّارِ وَاللّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيّنُ آيَاتِهِ لِلنّاسِ لَعَلّهُمْ يَتَذَكّرُونَ }
اختلف أهل التأويـل فـي هذه الآية: هل نزلت مرادا بها كل مشركة, أم مراد بحكمها بعض الـمشركات دون بعض؟ وهل نسخ منها بعد وجوب الـحكم بها شيء أم لا؟ فقال بعضهم: نزلت مرادا بها تـحريـم نكاح كل مشركة علـى كل مسلـم من أنّ أجناس الشرك كانت عابدة وثن أو كانت يهودية أو نصرانـية أو مـجوسية أو من غيرهم من أصناف الشرك, ثم نسخ تـحريـم نكاح أهل الكتاب بقوله: يَسألُونَكَ ماذَا أُحِلّ لَهُمْ قُلْ أُحِلّ لَكُمُ الطّيّبـاتُ إلـى: وَطَعامُ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ حِلّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلّ لَهُمْ وَالـمُـحْصَناتُ مِنَ الُـمؤْمِنات والـمُـحْصَناتُ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ. ذكر من قال ذلك:
3حدثنـي علـيّ بن واقد, قال: ثنـي عبد الله بن صالـح, قال: ثنـي معاوية بن صالـح, عن علـيّ بن أبـي طلـحة, عن ابن عبـاس قوله: وَلا تَنْكِحُوا الـمُشْركاتِ حّتـى يُؤْمِنّ ثم استثنى نساء أهل الكتاب فقال: وَالـمُـحْصَناتُ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ حل لكم إذَا آتَـيْتُـمُوهُنّ أُجُورَهُنّ.
3حدثنا مـحمد بن حميد, قال: حدثنا يحيى بن واضح, عن الـحسين بن واقد, عن يزيد النـحوي, عن عكرمة والـحسن البصري, قالا: وَلا تَنْكِحُوا الـمُشْركاتِ حّتـى يُؤْمِنّ فنسخ من ذلك نساء أهل الكتاب أحلهن للـمسلـمين.
3حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله: وَلا تَنْكِحُوا الـمُشْركاتِ حّتـى يُؤْمِنّ قال: نساء أهل مكة ومن سواهن من الـمشركين, ثم أحل منهن نساء أهل الكتاب.
3618ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد, مثله.
3619ـ حدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع قوله: وَلا تَنْكِحُوا الـمُشْركاتِ إلـى قوله: لَعَلّهُمْ يَتَذَكّرُونَ قال: حرّم الله الـمشركات فـي هذه الآية, ثم أنزل فـي سورة الـمائدة, فـاستثنى نساء أهل الكتاب, فقال: وَالـمُـحْصَناتُ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إذَا آتَـيْتُـمُوهُنّ أُجُوُرَهُنّ.
وقال آخرون: بل أنزلت هذه الآية مرادا بحكمها مشركات العرب لـم ينسخ منها شيء ولـم يستثن, إنـما هي آية عام ظاهرها خاص تأويـلها. ذكر من قال ذلك:
3620ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: وَلا تَنْكِحُوا الـمُشْركاتِ حّتـى يُؤْمِنّ يعنـي مشركات العرب اللاتـي لـيس لهنّ كتاب يقرأنه.
3621ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة قوله: وَلا تَنْكِحُوا الـمُشْركاتِ حّتـى يُؤْمِنّ قال: الـمشركات من لـيس من أهل الكتاب وقد تزوّج حذيفة يهودية أو نصرانـية.
3622ـ حدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن قتادة فـي قوله: وَلا تَنْكِحُوا الـمُشْركاتِ حّتـى يُؤْمِنّ يعنـي مشركات العرب اللاتـي لـيس لهن كتاب يقرأنه.
3623ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا وكيع, عن سفـيان, عن حماد, عن سعيد بن جبـير قوله: وَلا تَنْكِحُوا الـمُشْركاتِ حّتـى يُؤْمِنّ قال: مشركات أهل الأوثان.
وقال آخرون: بل أنزلت هذه الآية مرادا بها كل مشركة من أيّ أصناف الشرك كانت غير مخصوص منها مشركة دون مشركة, وثنـية كانت أو مـجوسية أو كتابـية, ولا نسخ منها شيء. ذكر من قال ذلك:
3624ـ حدثنا عبـيد بن آدم بن أبـي إياس العسقلانـي, قال: حدثنا أبـي, قال: حدثنا عبد الـحميد بن بهرام الفزاري, قال: حدثنا شهر بن حوشب, قال: سمعت عبد الله بن عبـاس, يقول: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصناف النساء إلا ما كان من الـمؤمنات الـمهاجرات, وحرّم كل ذات دين غير الإسلام, وقال الله تعالـى ذكره: وَمَنْ يَكْفُرْ بـاْلإيـمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ. وقد نكح طلـحة بن عبـيد الله يهودية, ونكح حذيفة بن الـيـمان نصرانـية فغضب عمر بن الـخطاب رضي الله عنه غضبـا شديدا حتـى همّ بأن يسطو علـيهما, فقالا: نـحن نطلّق يا أمير الـمؤمنـين ولا تغضب, فقال: لئن حلّ طلاقهن, لقد حلّ نكاحهنّ, ولكن انتزعهنّ منكم صَغَرةً قِمَاءً.
وأولـى هذه الأقوال بتأويـل الآية ما قاله قتادة من أن الله تعالـى ذكره عنى بقوله: وَلا تَنْكِحُوا الـمُشْركاتِ حّتـى يُؤْمِنّ من لـم يكن من أهل الكتاب من الـمشركات, وأن الآية عام ظاهرها خاص بـاطنها لـم ينسخ منها شيء, وأن نساء أهل الكتاب غير داخلات فـيها. وذلك أن الله تعالـى ذكره أحل بقوله: وَالـمُـحْصَناتُ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ للـمؤمنـين من نكاح مـحصناتهن, مثل الذي أبـاح لهم من نساء الـمؤمنات.
وقد بـينا فـي غير هذا الـموضع من كتابنا هذا, وفـي كتابنا «كتاب اللطيف من البـيان» أن كل آيتـين أو خبرين كان أحدهما نافـيا حكم الاَخر فـي فطرة العقل, فغير جائز أن يقضى علـى أحدهما بأنه ناسخ حكم الاَخر إلا بحجة من خبر قاطع للعذر مـجيئه, وذلك غير موجود أن قوله: والـمُـحْصَناتُ مِنَ الّذِينَ أوّتُوا الكِتابَ ناسخ ما كان قد وجب تـحريـمه من النساء بقوله: وَلا تَنْكِحُوا الـمُشْركاتِ حّتـى يُؤْمِنّ. فإن لـم يكن ذلك موجودا كذلك, فقول القائل: «هذه ناسخة هذه» دعوى لا برهان له علـيها, والـمدعِي دعوى لا برهان له علـيها متـحكم, والتـحكم لا يعجز عنه أحد.
وأما القول الذي رُوي عن شهر بن حوشب, عن ابن عبـاس, عن عمر رضي الله عنه من تفريقه بـين طلـحة وحذيفة وامرأتـيهما اللتـين كانتا كتابـيتـين, فقول لا معنى له لـخلافه ما الأمة مـجتـمعة علـى تـحلـيـله بكتاب الله تعالـى ذكره, وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقد رُوي عن عمر بن الـخطاب رضي الله عنه من القول خلاف ذلك بإسناد هو أصحّ منه, وهو ما:
3625ـ حدثنـي به موسى بن عبد الرحمن الـمسروقـي, قال: حدثنا مـحمد بن بشر, قال: حدثنا سفـيان بن سعيد, عن يزيد بن أبـي زياد, عن زيد بن وهب, قال: قال عمر: الـمسلـم يتزوّج النصرانـية, ولا يتزوّج النصرانـي الـمسلـمة.
وإنـما كره عمر لطلـحة وحذيفة رحمة الله علـيهم نكاح الـيهودية والنصرانـية, حذرا من أن يقتدي بهما الناس فـي ذلك فـيزهدوا فـي الـمسلـمات, أو لغير ذلك من الـمعانـي, فأمرهما بتـخـلـيتهما. كما:
3626ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا ابن إدريس, قال: حدثنا الصلت بن بهرام, عن شقـيق, قال: تزوّج حذيفة يهودية, فكتب إلـيه عمر: خَـلّ سبـيـلها, فكتب إلـيه: أتزعم أنها حرام فأخـلـي سبـيـلها؟ فقال: لا أزعم أنها حرام, ولكن أخاف أن تعاطوا الـمؤمسات منهن.
3وقد حدثنا تـميـم بن الـمنتصر, قال: أخبرنا إسحاق الأزرق, عن شريك, عن أشعث بن سوار, عن الـحسن, عن جابر بن عبد الله, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «نَتَزَوّجُ نِساءَ أهْلِ الْكِتابِ وَلا يَتَزَوّجُونَ نِسَاءنَا».
فهذا الـخبر وإن كان فـي إسناده ما فـيه, فـالقول به لإجماع الـجميع علـى صحة القول به أولـى من خبر عبد الـحميد بن بهرام, عن شهر بن حوشب. فمعنى الكلام إذا: ولا تنكحوا أيها الـمؤمنون مشركات غير أهل الكتاب حتـى يؤمنّ, فـيصدّقن بـالله ورسوله, وما أنزل علـيه.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْركَةٍ.
يعنـي تعالـى ذكره بقوله: ولأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ بـالله وبرسوله, وبـما جاء به من عند الله خير عند الله, وأفضل من حرّة مشركة كافرة وإن شرف نسبها وكرم أصلها. يقول: ولا تبتغوا الـمناكح فـي ذوات الشرف من أهل الشرك بـالله, فإن الإماء الـمسلـمات عند الله خير منكحا منهن.
وقد ذكر أن هذه الآية نزلت فـي رجل نكح أمة, فعذل فـي ذلك وعرضت علـيه حرّة مشركة.ذكر من قال ذلك:
3حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: وَلا تَنْكِحُوا الـمُشْركاتِ حّتـى يُؤْمِنّ وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْركَةٍ وَلَوْ أعْجَبَتْكُمْ قال: نزلت فـي عبد الله بن رواحة, وكانت له أمة سوداء, وأنه غضب علـيها فلطمها ثم فزع, فأتـى النبـيّ صلى الله عليه وسلم فأخبره بخبرها, فقال له النبـيّ صلى الله عليه وسلم: «ما هيَ يا عَبْدَ اللّهِ؟» قال: يا رسول الله هي تصوم وتصلـي وتـحسن الوضوء, وتشهد أن لا إله إلا الله, وأنك رسول الله. فقال: «هَذِهِ مُؤْمِنَةٌ» فقال عبد الله: فوالذي بعثك بـالـحق لأعتقنها ولأتزوجنها ففعل, فطعن علـيه ناس من الـمسلـمين, فقالوا: تزوّج أمة. وكانوا يريدون أن ينكحوا إلـى الـمشركين, ويُنكحوهم رغبة فـي أحسابهم. فأنزل الله فـيهم: وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْركَةٍ وعبد مؤمن خير من مشرك.
3حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي الـحجاج, قال: قال ابن جريج فـي قوله: وَلا تَنْكِحُوا الـمُشْركاتِ حّتـى يُؤْمِنّ قال: الـمشركات لشرفهن حتـى يؤمن.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَلَوْ أعْجَبَتْكُمْ.
يعنـي تعالـى ذكره بذلك: وإن أعجبتكم الـمشركة من غير أهل الكتاب فـي الـجمال والـحسب والـمال فلا تنكحوها, فإن الأمة الـمؤمنة خير عند الله منها وإنـما وضعت «لو» موضع «إن» لتقارب مخرجيهما ومعنـيـيهما, ولذلك تـجاب كل واحدة منهما بجواب صاحبتها علـى ما قد بـينا فـيـما مضى قبل.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَلا تَنْكِحُوا الـمُشْرِكِينَ حّتـى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ.
يعنـي تعالـى ذكره بذلك: أن الله قد حرم علـى الـمؤمنات أن ينكحن مشركا, كائنا من كان الـمشرك من أيّ أصناف الشرك كان. فلا تُنكحوهن أيها الـمؤمنون منهم فإن ذلك حرام علـيكم, ولأن تزوّجوهن من عبد مؤمن مصدّق بـالله وبرسوله, وبـما جاء به من عند الله, خير لكم من أن تزوّجوهن من حرّ مشرك ولو شرف نسبه وكرم أصله, وإن أعجبكم حسبه ونسبه.
وكان أبو جعفر مـحمد بن علـيّ يقول: هذا القول من الله تعالـى ذكره, دلالة علـى أن أولـياء الـمرأة أحق بتزويجها من الـمرأة.
3627ـ حدثنا مـحمد بن يزيد أبو هشام الرفـاعي, قال: أخبرنا حفص بن غياث عن شيخ لـم يسمه, قال أبو جعفر: النكاح بولـيّ فـي كتاب الله. ثم قرأ: وَلا تُنْكِحُوا الـمُشْرِكِينَ حّتـى يُؤْمِنُوا برفع التاء.
3628ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة والزهري فـي قوله: وَلا تُنْكِحُوا الـمُشْرِكِينَ قال: لا يحلّ لك أن تُنكح يهوديا أو نصرانـيا, ولا مشركا من غير أهل دينك.
3629ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا حجاج, قال: قال ابن جريج: وَلا تُنْكِحُوا الـمُشْرِكِينَ لشرفهم حَتّـى يُؤْمِنُوا.
3630ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يحيى بن واضح, عن الـحسين بن واقد, عن يزيد النـحوي, عن عكرمة والـحسن البصري: وَلا تُنْكِحُوا الـمُشْرِكِينَ حَتّـى يُؤْمِنُوا قال: حرّم الـمسلـمات علـى رجالهم يعنـي رجال الـمشركين.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: أُولَئِكَ يَدْعُونَ إلـى النّار وَاللّهُ يَدْعُو إلَـى الـجَنةِ وَالـمَغْفِرَةِ بإذْنِهِ ويُبَـيّنُ آياتِهِ للنّاسِ لَعَلّهُمْ يَتَذَكّرُونَ.
يعنـي تعالـى ذكره بقوله: أُولَئِكَ هؤلاء الذين حرمت علـيكم أيها الـمؤمنون مناكحتهم من رجال أهل الشرك ونسائهم يدعونكم إلـى النار, يعنـي يدعونكم إلـى العمل بـما يدخـلكم النار, وذلك هو العمل الذي هم به عاملون من الكفر بـالله ورسوله. يقول: ولا تقبلوا منهم ما يقولون, ولا تستنصحوهم, ولا تنكحوهم, ولا تنكحوا إلـيهم, فإنهم لا يألونكم خبـالاً ولكن اقبلوا من الله ما أمركم به, فـاعملوا به, وانتهوا عما نهاكم عنه, فإنه يدعوكم إلـى الـجنة. يعنـي بذلك: يدعوكم إلـى العمل بـما يدخـلكم الـجنة ويوجب لكم النـجاة إن عملتـم به من النار, وإلـى ما يـمـحو خطاياكم أو ذنوبكم فـيعفو عنها, ويسترها علـيكم.
وأما قوله: بإذْنِهِ فإنه يعنـي أنه يدعوكم إلـى ذلك بإعلامه إياكم سبـيـله وطريقه الذي به الوصول إلـى الـجنة والـمغفرة ثم قال تعالـى ذكره: ويُبَـيّنُ آياتِهِ للنّاسِ لَعَلّهُمْ يَتَذَكّرُونَ يقول: ويوضح حججه وأدلته فـي كتابه الذي أنزله علـى لسان رسوله لعبـاده لـيتذكروا فـيعتبروا, ويـميزوا بـين الأمرين اللذين أحدهما دعاء إلـى النار والـخـلود فـيها والاَخر دعاء إلـى الـجنة وغفران الذنوب, فـيختاروا خيرهما لهم. ولـم يجهل التـميـيز بـين هاتـين إلا غبـيّ الرأي, مدخول العقل.
الآية : 222
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النّسَآءَ فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنّ حَتّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهّرْنَ فَأْتُوهُنّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنّ اللّهَ يُحِبّ التّوّابِينَ وَيُحِبّ الْمُتَطَهّرِينَ }
يعنـي تعالـى ذكره بقوله: وَيَسَألُونَكَ عَنِ الـمَـحِيضِ ويسألك يا مـحمد أصحابك عن الـحيض وقـيـل «الـمـحيض» لأن ما كان من الفعل ماضيه بفتـح عين الفعل وكسرها فـي الاستقبـال, مثل قول القائل: ضرب يضرب, وحبس يحبس, ونزل ينزل, فإن العرب تبنـي مصدره علـى الـمفعَل والاسم علـى الـمفعِل مثل الـمضَرب والـمضرِب من ضربت, ونزلت منزِلاً ومَنْزَلاً. ومسموع فـي ذوات الـياء والألف الـمعيش والـمعاش والـمعيب والـمعاب, كما قال رؤبة فـي الـمعيش:
إلَـيْكَ أشْكُو شِدّةَ الـمَعِيشِوَمَرّ أعْوَامٍ نَتَفْنَ رِيشِي
وإنـما كان القوم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فـيـما ذكر لنا عن الـحيض, لأنهم كانوا قبل بـيان الله لهم ما يتبـينون من أمره, لا يساكنون حائضا فـي بـيت, ولا يؤاكلونهنّ فـي إناء, ولا يشاربونهنّ, فعرّفهم الله بهذه الآية أن الذي علـيهم فـي أيام حيض نسائهم أن يجتنبوا جماعهنّ فقط دون ما عدا ذلك من مضاجعتهن ومآكلتهن ومشاربتهن. كما:
3631ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: وَيَسَألُونَكَ عَنِ الـمَـحِيضِ حتـى بلغ: حّتـى يَطْهُرْنَ فكان أهل الـجاهلـية لا تساكنهم حائض فـي بـيت, ولا تؤاكلهم فـي إناء, فأنزل الله تعالـى ذكره فـي ذلك, فحرم فرجها ما دامت حائضا, وأحلّ ما سوى ذلك: أن تصبغ لك رأسك, وتؤاكلك من طعامك, وأن تضاجعك فـي فراشك إذا كان علـيها إزار مـحتـجزة به دونك.
3632ـ حدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, مثله.
وقد قـيـل: إنهم سألوا عن ذلك, لأنهم كانوا فـي أيام حيضهنّ يجتنبون إتـيانهنّ فـي مخرج الدم ويأتونهن فـي أدبـارهن. فنهاهم الله عن أن يقربوهن فـي أيام حيضهن حتـى يطهرن, ثم أذن لهم إذا تطهرن من حيضهن فـي إتـيانهن من حيث أمرهم بـاعتزالهن, وحرم إتـيانهن فـي أدبـارهن بكل حال. ذكر من قال ذلك:
3633ـ حدثنا مـحمد بن عبد الـملك بن أبـي الشوارب, قال: حدثنا عبد الواحد, قال: حدثنا خصيف, قال: ثنـي مـجاهد, قال: كانوا يجتنبون النساء فـي الـمـحيض, ويأتونهنّ فـي أدبـارهنّ, فسألوا النبـيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك, فأنزل الله: وَيَسَألُونَكَ عَنِ الـمَـحِيضِ إلـى: فإذَا تَطَهّرْنَ فأتُوهُنّ مِنْ حَيْثُ أمَرَكُمُ اللّهُ فـي الفرج ولا تعدوه.
وقـيـل: إن السائل الذي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك كان ثابت بن الدحداح الأنصاري.
3634ـ حدثنـي بذلك موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: قُلْ هُوَ أذًى.
يعنـي تعالـى ذكره بذلك: قل لـمن سألك من أصحابك يا مـحمد عن الـمـحيض هو أذى. والأذى: هو ما يؤذى به من مكروه فـيه, وهو فـي هذا الـموضع يسمى أذى لنتن ريحه وقذره ونـجاسته, وهو جامع لـمعان شتـى من خلال الأذى غير واحدة.
وقد اختلف أهل التأويـل فـي البـيان عن تأويـل ذلك علـى تقارب معانـي بعض ما قالوا فـيه من بعض, فقال بعضهم قوله: قُلْ هُوَ أذًى قل هو قذر. ذكر من قال ذلك:
3حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي قوله: قُلْ هُوَ أذًى قال: أما أذى: فقذر.
3حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله: قُلْ هُوَ أذًى قال: قل هو أذى, قال: قذر.
وقال آخرون: قل هو دم. ذكر من قال ذلك:
3635ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا مؤمل, قال: حدثنا سفـيان, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قوله:وَيَسَألُونَكَ عَنِ الـمَـحِيضِ قُلْ هُوَ أذًى قال: الأذى: الدم.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: فـاعْتَزِلُوا النّساءَ فِـي الـمَـحِيضِ.
يعنـي تعالـى ذكره بقوله: فـاعْتَزِلُوا النّساءَ فِـي الـمَـحِيضِ فـاعتزلوا جماع النساء ونكاحهنّ فـي مـحيضهن. كما:
3636ـ حدثنـي علـيّ بن داود, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس قوله: فـاعْتَزِلُوا النّساءَ فِـي الـمَـحِيضِ يقول: اعتزلوا نكاح فروجهنّ.
واختلف أهل العلـم فـي الذي يجب علـى الرجل اعتزاله من الـحائض, فقال بعضهم: الواجب علـى الرجل اعتزال جميع بدنها أن يبـاشره بشيء من بدنه. ذكر من قال ذلك:
3637ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا حماد بن مسعدة, قال: حدثنا عوف, عن مـحمد, قال: قلت لعبـيدة: ما يحلّ لـي من امرأتـي إذا كانت حائضا؟ قال: اللـحاف واحد, والفراش شتـى.
3638ـ حدثنـي تـميـم بن الـمنتصر, قال: أخبرنا يزيد, قال: حدثنا مـحمد, عن الزهري, عن عروة, عن ندبة, مولاة آل عبـاس قالت: بعثتنـي ميـمونة ابنة الـحرث, أو حفصة ابنة عمر, إلـى امرأة عبد الله بن عبـاس, وكانت بـينهما قرابة من قبل النساء, فوجدت فراشها معتزلاً فراشه, فظننت أن ذلك عن الهجران, فسألتها عن اعتزال فراشه فراشها, فقالت: إنـي طامث, وإذا طمثت أعتزل فراشي. فرجعت فأخبرت بذلك ميـمونة أو حفصة, فردّتنـي إلـى ابن عبـاس, تقول لك أمك: أرغبت عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فوالله لقد كان النبـيّ صلى الله عليه وسلم ينام مع الـمرأة من نسائه, وإنها لـحائض, وما بـينه وبـينها إلا ثوب ما يجاوز الركبتـين.
3639ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم, قال: حدثنا ابن علـية, عن أيوب وابن عون, عن مـحمد, قال: قلت لعبـيدة: ما للرجل من امرأته إذا كانت حائضا؟ قال: الفراش واحد, واللـحاف شتـى, فإن لـم يجد إلا أن يردّ علـيها من ثوبه ردّ علـيها منه.
واعتل قائلو هذه الـمقالة بأن الله تعالـى ذكره أمر بـاعتزال النساء فـي حال حيضهن, ولـم يخصص منهن شيئا دون شيء, وذلك عامّ علـى جميع أجسادهنّ واجب اعتزال كل شيء من أبدانهن فـي حيضهن.
وقال آخرون: بل الذي أمر الله تعالـى ذكره بـاعتزاله منهن موضع الأذى, وذلك موضع مخرج الدم. ذكر من قال ذلك:
3640ـ حدثنا حميد بن مسعدة, قال: حدثنا يزيد بن زريع, قال: حدثنـي عيـينة بن عبد الرحمن بن جوشن, قال: حدثنا مروان الأصغر, عن مسروق بن الأجدع, قال: قلت لعائشة: ما يحلّ للرجل من امرأته إذا كانت حائضا؟ قالت: كل شيء إلا الـجماع.
3641ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, قال: حدثنا سعيد, وحدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الأعلـى, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قال: ذكر لنا عن عائشة أنها قالت: وأين كان ذو الفراشين وذو اللـحافـين؟
3642ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الأعلـى, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, عن سالـم بن أبـي الـجعد, عن مسروق قال: قلت لعائشة: ما يحرم علـى الرجل من امرأته إذا كانت حائضا؟ قالت: فرجها.
3643ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الوهاب, قال: حدثنا أيوب, عن كتاب أبـي قلابة: أن مسروقا ركب إلـى عائشة, فقال: السلام علـى النبـيّ وعلـى أهل بـيته فقالت عائشة: أبو عائشة مرحبـا فأذنوا له, فدخـل فقال: إنـي أريد أن أسألك عن شيء وأنا أستـحيـي فقالت: إنـما أنا أمك وأنت ابنـي. فقال: ما للرجل من امرأته وهي حائض؟ قالت له: كل شيء إلا فرجها.
3644ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا ابن أبـي زائدة, قال: حدثنا حجاج, عن ميـمون بن مهران, عن عائشة قالت له: ما فوق الإزار.
3645ـ حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا ابن علـية, قال: أخبرنا أيوب, عن نافع: أن عائشة قالت فـي مضاجعة الـحائض: لا بأس بذلك إذا كان علـيها إزار.
3646ـ حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا ابن علـية, عن أيوب, عن أبـي معشر قال: سألت عائشة: ما للرجل من امرأته إذا كانت حائضا؟ فقالت: كل شيء إلا الفرج.
3647ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا ابن أبـي زائدة, عن مـحمد بن عمرو, عن مـحمد بن إبراهيـم بن الـحارث قال: قال ابن عبـاس: إذا جعلت الـحائض علـى فرجها ثوبـا أو ما يكفّ الأذى, فلا بأس أن يبـاشر جِلْدُها زَوْجَها.
3648ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا ابن إدريس, قال: حدثنا يزيد, عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس أنه سئل: ما للرجل من امرأته إذا كانت حائضا؟ قال: ما فوق الإزار.
3649ـ حدثنا يعقوب بن إبراهيـم, قال: حدثنا هاشم بن القاسم, قال: حدثنا الـحكم بن فضيـل, عن خالد الـحذاء, عن عكرمة, عن ابن عبـاس, قال: اتق من الدم مثل موضع النعل.
3650ـ حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا ابن علـية, قال: أخبرنا أيوب, عن عكرمة, عن أم سلـمة, قالت فـي مضاجعة الـحائض: لا بأس بذلك إذا كان علـى فرجها خرقة.
3651ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الأعلـى, عن سعيد, عن قتادة, عن الـحسن, قال: للرجل من امرأته كل شيء ما خلا الفرج يعنـي وهي حائض قال: يبـيتان فـي لـحاف واحد, يعنـي الـحائض إذا كان علـى الفرج ثوب.
3652ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا ابن أبـي عديّ عن عوف عن الـحسن. قال: يبـيتان فـي لـحاف واحد يعنـي الـحائض إذا كان علـى الفرج ثوب.
3653ـ حدثنا تـميـم, قال: أخبرنا إسحاق, عن شريك, عن لـيث, قال: تذاكرنا عند مـجاهد الرجل يلاعب امرأته وهي حائض, قال: اطعن بذكرك حيثما شئت فـيـما بـين الفخذين والألـيتـين والسرة, ما لـم يكن فـي الدبر أو الـحيض.
3654ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا ابن أبـي زائدة, عن إسماعيـل بن أبـي خالد, عن عامر, قال: يبـاشر الرجل امرأته وهي حائض؟ قال: إذا كفّت الأذى.
3655ـ حدثنا حميد بن مسعدة, قال: حدثنا يزيد بن زريع, قال: ثنـي عمران بن حدير, قال: سمعت عكرمة يقول: كل شيء من الـحائض لك حلال غير مـجرى الدم.
وعلة قائل هذه الـمقالة, قـيام الـحجة بـالأخبـار الـمتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يبـاشر نساءه وهن حيض, ولو كان الواجب اعتزال جميعهن لـما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم, فلـما صح ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, علـم أن مراد الله تعالـى ذكره بقوله: فـاعْتَزِلُوا النّساءَ فِـي الـمَـحِيضِ هو اعتزال بعض جسدها دون بعض. وإذا كان ذلك كذلك, وجب أن يكون ذلك هو الـجماع الـمـجمع علـى تـحريـمه علـى الزوج فـي قبلها دون ما كان فـيه اختلاف من جماعها فـي سائر بدنها.
وقال آخرون: بل الذي أمر الله تعالـى ذكره بـاعتزاله منهن فـي حال حيضهن ما بـين السرة إلـى الركبة, وما فوق ذلك ودونه منها. ذكر من قال ذلك:
3656ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا ابن أبـي زائدة, عن ابن عون, عن ابن سيرين, عن شريح, قال له: ما فوق السرّة. وذكر الـحائض.
3657ـ حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا: حدثنا ابن إدريس, قال: أخبرنا يزيد, عن سعيد بن جبـير, قال: سئل ابن عبـاس عن الـحائض: ما لزوجها منها؟ فقال: ما فوق الإزار.
3658ـ حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا ابن علـية, عن أيوب وابن عون, عن مـحمد, قال: قال شريح: له ما فوق سرتها.
3659ـ حدثنا ابن الـمثنى, قال: حدثنا ابن أبـي عديّ, عن شعبة, عن واقد بن مـحمد بن زيد بن عبد الله بن عمر, قال: سئل سعيد بن الـمسيب: ما للرجل من الـحائض؟ قال: ما فوق الإزار.
وعلة من قال هذه الـمقالة صحة الـخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بـما:
3660ـ حدثنـي به ابن أبـي الشوارب, قال: حدثنا عبد الواحد بن زياد, قال: حدثنا سلـيـمان الشيبـانـي وحدثنـي أبو السائب, قال: حدثنا حفص, قال: حدثنا الشيبـانـي, قال: حدثنا عبد الله بن شداد بن الهاد, قال: سمعت ميـمونة, تقول: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يبـاشر امرأة من نسائه وهي حائض أمرها فـاتّزرت».
3661ـ حدثنا الـمثنى, قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي, قال: حدثنا سفـيان, عن الشيبـانـي, عن عبد الله بن شداد, عن ميـمونة: «أن النبـيّ صلى الله عليه وسلم كان يبـاشرها وهي حائض فوق الإزار».
3662ـ حدثنـي سفـيان بن وكيع, قال: حدثنا جرير, عن منصور, عن إبراهيـم, عن الأسود, عن عائشة, قالت: كانت إحدانا إذا كانت حائضا أمرها فـاتزرت بإزار ثم يبـاشرها.
3663ـ حدثنا سفـيان بن وكيع, قال: حدثنا الـمـحاربـي, عن الشيبـانـي, عن عبد الرحمن بن الأسود, عن أبـيه, عن عائشة, قالت: كانت إحدانا إذا كانت حائضا أمرها النبـيّ صلى الله عليه وسلم أن تأتزر ثم يبـاشرها.
ونظائر ذلك من الأخبـار التـي يطول بـاستـيعاب ذكر جميعها الكتاب قالوا: فما فعل النبـيّ صلى الله عليه وسلم من ذلك فجائز, وهو مبـاشرة الـحائض ما دون الإزار وفوقه, وذلك دون الركبة وفوق السرّة, وما عدا ذلك من جسد الـحائض فواجب اعتزاله لعموم الآية.
وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب قول من قال: إن للرجل من امرأته الـحائض ما فوق الـمؤتزر ودونه لـما ذكرنا من العلة لهم.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَلا تَقْرَبُوهُنّ حّتـى يَطْهُرْنَ.
اختلف القراء فـي قراءة ذلك, فقرأه بعضهم: حتـى يَطْهُرْنَ بضم الهاء وتـخفـيفها, وقرأه آخرون بتشديد الهاء وفتـحها. وأما الذين قرءوه بتـخفـيف الهاء وضمها فإنهم وجهوا معناه إلـى: ولا تقربوا النساء فـي حال حيضهن حتـى ينقطع عنهن دم الـحيض ويطهرن. وقال بهذا التأويـل جماعة من أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
3664ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا ابن مهدي ومؤمل, قالا: حدثنا سفـيان, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قوله: وَلا تَقْرَبُوهُنّ حّتـى يَطْهُرْنَ قال: انقطاع الدم.
3665ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن سفـيان أو عثمان بن الأسود: وَلا تَقْرَبُوهُنّ حّتـى يَطْهُرْنَ حتـى ينقطع الدم عنهن.
3666ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يحيى بن واضح, قال: حدثنا عبـيد الله العتكي, عن عكرمة فـي قوله: وَلا تَقْرَبُوهُنّ حّتـى يَطْهُرْنَ قال: حتـى ينقطع الدم.
وأما الذين قرءوا ذلك بتشديد الهاء وفتـحها, فإنهم عنوا به: حتـى يغتسلن بـالـماء وشدّدوا الطاء لأنهم قالوا: معنى الكلـمة: حتـى يتطهرن أدغمت التاء فـي الطاء لتقارب مخرجيهما.
وأولـى القراءتـين بـالصواب فـي ذلك قراءة من قرأ: «حّتـى يَطّهّرْنَ» بتشديدها وفتـحها, بـمعنى: حتـى يغتسلن, لإجماع الـجميع علـى أن حراما علـى الرجل أن يقرب امرأته بعد انقطاع دم حيضها حتـى تطهر.
وإنـما اختلف فـي التطهر الذي عناه الله تعالـى ذكره, فأحلّ له جماعها, فقال بعضهم: هو الاغتسال بـالـماء, ولا يحلّ لزوجها أن يقربها حتـى تغسل جميع بدنها. وقال بعضهم: هو الوضوء للصلاة. وقال آخرون: بل هو غسل الفرج, فإذا غسلت فرجها فذلك تطهرها الذي يحلّ به لزوجها غشيانها.
فإذا كان إجماع من الـجميع أنها لا تـحلّ لزوجها بـانقطاع الدم حتـى تطهر, كان بـينا أن أولـى القراءتـين بـالصواب أنفـاهما للبس عن فهم سامعها, وذلك هو الذي اخترنا, إذ كان فـي قراءة قارئها بتـخفـيف الهاء وضمها ما لا يؤمن معه اللبس علـى سامعها من الـخطإ فـي تأويـلها, فـيرى أن للزوج غشيانها بعد انقطاع دم حيضها عنها وقبل اغتسالها وتطهرها.
فتأويـل الآية إذا: ويسألونك عن الـمـحيض, قل هو أذى, فـاعتزلوا جماع نسائكم فـي وقت حيضهن, ولا تقربوهنّ حتـى يغتسلن فـيتطهرن من حيضهن بعد انقطاعه.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: فإذَا تَطَهّرْنَ.
يعنـي تعالـى ذكره بقوله: فإذَا تَطَهّرْنَ فأْتُوهُنّ فإذا اغتسلن فتطهرن بـالـماء فجامعوهن.
فإن قال قائل: أففرض جماعهنّ حينئذ؟ قـيـل: لا. فإن قال: فما معنى قوله إذا: فأْتُوهُنّ؟ قـيـل: ذلك إبـاحة ما كان منع قبل ذلك من جماعهنّ وإطلاق لـما كان حظر فـي حال الـحيض, وذلك كقوله: وَإذَا حَلَلْتُـمْ فـاصْطادُوا وقوله: فإذَا قُضِيَتِ الصّلاةُ فـانْتَشرُوا فِـي الأرْضِ وما أشبه ذلك.
واختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله فإذَا تَطَهّرْنَ فقال بعضهم: معنى ذلك: فإذا اغتسلن. ذكر من قال ذلك:
3667ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: ثنـي معاوية بن صالـح, عن علـيّ بن أبـي طلـحة, عن ابن عبـاس: فإذَا تَطَهّرْنَ يقول: فإذا طهرت من الدم وتطهرت بـالـماء.
3668ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: ثنـي مـحمد بن مهدي ومؤمل, قالا: حدثنا سفـيان, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: فإذَا تَطَهّرْنَ فإذا اغتسلن.
3669ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يحيى بن واضح, قال: حدثنا عبـيد الله العتكي, عن عكرمة فـي قوله: فإذَا تَطَهّرْنَ يقول: اغتسلن.
3670ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن سفـيان أو عثمان بن الأسود: فإذَا تَطَهّرْنَ إذا اغتسلن.
3671ـ حدثنا عمران بن موسى, حدثنا عبد الوارث, حدثنا عامر, عن الـحسن فـي الـحائض ترى الطهر, قال: لا يغشاها زوجها حتـى تغتسل وتـحلّ لها الصلاة.
3672ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم, قال: حدثنا هشيـم, عن مغيرة, عن إبراهيـم أنه كره أن يطأها حتـى تغتسل يعنـي الـمرأة إذا طهرت.
وقال آخرون: معنى ذلك فإذا تطهرن للصلاة. ذكر من قال ذلك:
3673ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم, قال: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا لـيث, عن طاوس ومـجاهد أنهما قالا: إذا طهرت الـمرأة من الدم فشاء زوجها أن يأمرها بـالوضوء قبل أن تغتسل إذا أدركه الشبق فلـيُصِب.
وأولـى التأويـلـين بتأويـل الآية قول من قال: معنى قوله: فإذَا تَطَهّرْنَ فإذا اغتسلن لإجماع الـجميع علـى أنها لا تصير بـالوضوء بـالـماء طاهرا الطهر الذي يحلّ لها به الصلاة, وأن القول لا يخـلو فـي ذلك من أحد أمرين: إما أن يكون معناه: فإذا تطهرن من النـجاسة فأتوهن. وإن كان ذلك معناه, فقد ينبغي أن يكون متـى انقطع عنها الدم فجائز لزوجها جماعها إذا لـم تكن هنالك نـجاسة ظاهرة, هذا إن كان قوله: فإذَا تَطَهّرْنَ جائزا استعماله فـي التطهر من النـجاسة, ولا أعلـمه جائزا إلا علـى استكراه الكلام أو يكون معناه: فإذا تطهرن للصلاة فـي إجماع الـجميع من الـحجة علـى أنه غير جائز لزوجها غشيانها بـانقطاع دم حيضها, إذا لـم يكن هنالك نـجاسة دون التطهر بـالـماء إذا كانت واجدته أدلّ الدلـيـل علـى أن معناه: فإذا تطهرن الطهر الذي يجزيهن به الصلاة. وفـي إجماع الـجميع من الأمة علـى أن الصلاة لا تـحلّ لها إلا بـالاغتسال أوضح الدلالة علـى صحة ما قلنا من أن غشيانها حرام إلا بعد الاغتسال, وأن معنى قوله: فإذَا تَطَهّرْنَ فإذا اغتسلن فصرن طواهر الطهر الذي يجزيهن به الصلاة.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: فأْتُوهُنّ مِنْ حَيْثُ أمَرَكُمُ اللّهُ.
اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله: فأْتُوهُنّ مِنْ حَيْثُ أمَرَكُمُ اللّهُ فقال بعضهم: معنى ذلك: فأتوا نساءكم إذا تطهرن من الوجه الذي نهيتكم عن إتـيانهن منه فـي حال حيضهن, وذلك الفرج الذي أمر الله بترك جماعهنّ فـيه فـي حال الـحيض. ذكر من قال ذلك:
3674ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم, قال: حدثنا ابن علـية, عن مـحمد بن إسحاق, قال: ثنـي أبـان بن صالـح, عن مـجاهد, قال: قال ابن عبـاس فـي قوله: فأْتُوهُنّ مِنْ حَيْثُ أمَرَكُمُ اللّهُ قال: من حيث أمركم أن تعتزلوهن.
3675ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: حدثنا معاوية بن صالـح, عن علـيّ بن أبـي طلـحة, عن ابن عبـاس قوله: فأْتُوهُنّ مِنْ حَيْثُ أمَرَكُمُ اللّهُ يقول: فـي الفرج لا تعدوه إلـى غيره, فمن فعل شيئا من ذلك فقد اعتدى.
3676ـ حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا ابن علـية, قال: حدثنا خالد الـحذاء, عن عكرمة فـي قوله: فأْتُوهُنّ مِنْ حَيْثُ أمَرَكُمُ اللّهُ قال: من حيث أمركم أن تعتزلوا.
3677ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: حدثنا أبو صخر, عن أبـي معاوية البجلـي, عن سعيد بن جبـير أنه قال: بـينا أنا ومـجاهد جالسان عند ابن عبـاس أتاه رجل فوقـف علـى رأسه, فقال: يا أبـا العبـاس أو يا أبـا الفضل ألا تشفـينـي عن آية الـمـحيض؟ قال: بلـى فقرأ: وَيَسألُونَكَ عَنِ الـمَـحِيضِ حتـى بلغ آخر الآية, فقال ابن عبـاس: من حيث جاء الدم, مِنْ ثم أُمرت أن تأتـي.
3678ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا ابن أبـي زائدة, عن عمرة, عن مـجاهد, قال: دبر الـمرأة مثله من الرجل. ثم قرأ: وَيَسألُونَكَ عَنِ الـمَـحِيضِ إلـى: فأْتُوهُنّ مِنْ حَيْثُ أمَرَكُمُ اللّهُ قال: من حيث أمركم أن تعتزلوهن.
3679ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا مؤمل, قال: حدثنا سفـيان, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: فأْتُوهُنّ مِنْ حَيْثُ أمَرَكُمُ اللّهُ قال: أمروا أن يأتوهن من حيث نهوا عنه.
3680ـ حدثنا ابن أبـي الشوارب, قال: حدثنا عبد الواحد, قال: حدثنا خصيف, قال: ثنـي مـجاهد: فأْتُوهُنّ مِنْ حَيْثُ أمَرَكُمُ اللّهُ فـي الفرج, ولا تعدوه.
3681ـ حدثنا مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: فأْتُوهُنّ مِنْ حَيْثُ أمَرَكُمُ اللّهُ يقول: إذا تطهرن فأتوهنّ من حيث نُهي عنه فـي الـمـحيض.
3682ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن سفـيان أو عثمان بن الأسود: فأْتُوهُنّ مِنْ حَيْثُ أمَرَكُمُ اللّهُ بـاعتزالهنّ منه.
3683ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: فأْتُوهُنّ مِنْ حَيْثُ أمَرَكُمُ اللّهُ أي من الوجه الذي يأتـي منه الـمـحيض طاهرا غير حائض, ولا تعدوا ذلك إلـى غيره.
3684ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا عبد الأعلـى, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة فـي قوله: فأْتُوهُنّ مِنْ حَيْثُ أمَرَكُمُ اللّهُ قال: طواهر من غير جماع ومن غير حيض من الوجه الذي يأتـي الـمـحيض ولا يتعدى إلـى غيره. قال سعيد: ولا أعلـمه إلا عن ابن عبـاس.
3685ـ حدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع فـي قوله: فَإِذَا تَطَهّرْنَ فأْتُوهُنّ مِنْ حَيْثُ أمَرَكُمُ اللّهُ من حيث نهيتـم عنه فـي الـمـحيض. وعن أبـيه عن لـيث, عن مـجاهد فـي قوله: فَإِذَا تَطَهّرْنَ فأْتُوهُنّ مِنْ حَيْثُ أمَرَكُمُ اللّهُ من حيث نهيتـم عنه, واتقوا الأدبـار.
3686ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى, قال: حدثنا ابن إدريس, قال: سمعت أبـي, عن يزيد بن الولـيد, عن إبراهيـم فـي قوله: فأْتُوهُنّ مِنْ حَيْثُ أمَرَكُمُ اللّهُ قال: فـي الفرج.
وقال آخرون: معناه: فأتوهن من الوجه الذي أمركم الله فـيه أن تأتوهن منه, وذلك الوجه هو الطهر دون الـحيض. فكان معنى قائل ذلك فـي الآية: فأتُوهنّ من قُبْل طهرهنّ لا من قُبْل حيضهن. ذكر من قال ذلك:
3687ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس: فأْتُوهُنّ مِنْ حَيْثُ أمَرَكُمُ اللّهُ يعنـي أن يأتـيها طاهرا غير حائض.
3688ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا سفـيان, عن منصور, عن أبـي رزين فـي قوله: فأْتُوهُنّ مِنْ حَيْثُ أمَرَكُمُ اللّهُ قال: من قُبْل الطهر.
3689ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا مـحمد بن يحيى, قال: حدثنا سفـيان, عن الأعمش, عن أبـي رزين بـمثله.
3690ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, عن عمرو, عن منصور, عن أبـي رزين: فأْتُوهُنّ مِنْ حَيْثُ أمَرَكُمُ اللّهُ يقول: ائتوهن من عند الطهر.
3691ـ حدثنـي مـحمد بن عبـيد الـمـحاربـي, قال: حدثنا علـيّ بن هاشم, عن الزبرقان, عن أبـي رزين: فأْتُوهُنّ مِنْ حَيْثُ أمَرَكُمُ اللّهُ قال: من قُبْل الطهر, ولا تأتوهن من قبل الـحيض.
3692ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يحيى بن واضح, قال: حدثنا عبـيد الله العتكي, عن عكرمة قوله: فأْتُوهُنّ مِنْ حَيْثُ أمَرَكُمُ اللّهُ يقول: إذا اغتسلن فأتوهنّ من حيث أمركم الله يقول: طواهر غير حُيّض.
3693ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله: فأْتُوهُنّ مِنْ حَيْثُ أمَرَكُمُ اللّهُ قال: يقول طواهر غير حُيّض.
3694ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي قوله: مِنْ حَيْثُ أمَرَكُمُ اللّهُ من الطهر.
3695ـ حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبـي, عن سلـمة بن نبـيط, عن الضحاك: فأتوهن طُهّرا غير حيض.
3696ـ حدثت عن الـحسين بن الفرج, قال: سمعت أبـا معاذ, قال: حدثنا عبـيد بن سلـيـمان, عن الضحاك قوله: فأْتُوهُنّ مِنْ حَيْثُ أمَرَكُمُ اللّهُ قال: ائتوهن طاهرات غير حيض.
3697ـ حدثنا عمرو بن علـيّ, قال: حدثنا وكيع, قال: حدثنا سلـمة بن نبـيط, عن الضحاك: فأْتُوهُنّ مِنْ حَيْثُ أمَرَكُمُ اللّهُ قال: طُهّرا غير حيض فـي القبل.
وقال آخرون: بلـى معنى ذلك: فأتوا النساء من قبل النكاح لا من قبل الفجور. ذكر من قال ذلك:
3698ـ حدثنا عمرو بن علـيّ قال: حدثنا وكيع, قال: حدثنا إسماعيـل الأزرق, عن أبـي عمر الأسدي, عن ابن الـحنفـية: فأْتُوهُنّ مِنْ حَيْثُ أمَرَكُمُ اللّهُ قال: من قبل الـحلال من قبل التزويج.
وأولـى الأقوال بـالصواب فـي تأويـل ذلك عندي قول من قال: معنى ذلك: فأتوهن من قُبْل طهرهن وذلك أن كل أمر بـمعنى فنهي عن خلافه وضده, وكذلك النهي عن الشيء أمر بضده وخلافه. فلو كان معنى قوله: فأْتُوهُنّ مِنْ حَيْثُ أمَرَكُمُ اللّهُ فأتوهنّ من قبل مخرج الدم الذي نهيتكم أن تأتوهن من قبله فـي حال حيضهن, لوجب أن يكون قوله: وَلا تَقْرَبُوهُنّ حَتـى يَطْهُرْنَ تأويـله: ولا تقربوهنّ فـي مخرج الدم دون ما عدا ذلك من أماكن جسدها, فـيكون مطلقا فـي حال حيضها إتـيانهن فـي أدبـارهنّ. وفـي إجماع الـجميع علـى أن الله تعالـى ذكره لـم يطلق فـي حال الـحيض من إتـيانهنّ فـي أدبـارهن شيئا حرّمه فـي حال الطهر ولا حرم من ذلك فـي حال الطهر شيئا أحله فـي حال الـحيض, ما يعلـم به فساد هذا القول.
وبعد: فلو كان معنى ذلك علـى ما تأوّله قائلو هذه الـمقالة لوجب أن يكون الكلام: فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله, حتـى يكون معنى الكلام حينئذ علـى التأويـل الذي تأوّله, ويكون ذلك أمرا بإتـيانهن فـي فروجهن, لأن الكلام الـمعروف إذا أريد ذلك أن يقال: أتـى فلان زوجته من قبل فرجها, ولا يقال: أتاها من فرجها إلا أن يكون أتاها من قبل فرجها فـي مكان غير الفرج.
فإن قال لنا قائل: فإن ذلك وإن كان كذلك, فلـيس معنى الكلام: فأتوهن فـي فروجهن, وإنـما معناه, فأتوهن من قبل قبلهن فـي فروجهن, كما يقال: أتـيت هذا الأمر من مأتاه. قـيـل له: إن كان ذلك كذلك, فلا شك أن مأتـى الأمر ووجهه غيره, وأن ذلك مطلبه. فإن كان ذلك علـى ما زعمتـم, فقد يجب أن يكون معنى قوله: فأْتُوهُنّ مِنْ حَيْثُ أمَرَكُمُ اللّهُ غير الذي زعمتـم أنه معناه بقولكم: ائتوهن من قبل مخرج الدم ومن حيث أمرتـم بـاعتزالهن, ولكن الواجب أن يكون تأويـله علـى ذلك: فأتوهنّ من قبل وجوههنّ فـي أقبـالهن, كما كان قول القائل ائت الأمر من مأتاه إنـما معناه: اطلبه من مطلبه, ومطلب الأمر غير الأمر الـمطلوب, فكذلك يجب أن مأتـى الفرج الذي أمر الله فـي قولهم بإتـيانه غير الفرج. وإذا كان كذلك وكان معنى الكلام عندهم: فأتوهن من قبل وجوههنّ فـي فروجهنّ, وجب أن يكون علـى قولهم مـحرّما إتـيانهنّ فـي فروجهن من قبل أدبـارهن, وذلك إن قالوه خرج من قاله من قـيـل أهل الإسلام, وخالف نصّ كتاب الله تعالـى ذكره وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذلك أن الله يقول: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُـمْ وأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فـي إتـيانهن فـي فروجهن من قبل أدبـارهن.
فقد تبـين إذا إذ كان الأمر علـى ما وصفنا فساد تأويـل من قال ذلك: فأتوهنّ فـي فروجهنّ حيث نهيتكم عن إتـيانهن فـي حال حيضهن, وصحة القول الذي قلناه, وهو أن معناه: فأتوهن فـي فروجهن من الوجه الذي أذن الله لكم بإتـيانهن, وذلك حال طهرهن وتطهرهن دون حال حيضهن.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: إنّ اللّهَ يُحِبّ التّوابِـينَ ويُحِبّ الـمُتَطَهّرِينَ.
يعنـي تعالـى ذكره بقوله: إنّ اللّهَ يُحِبّ التّوابِـينَ الـمنـيبـين من الإدبـار عن الله وعن طاعته إلـيه وإلـى طاعته وقد بـينا معنى التوبة قبل.
واختلف فـي معنى قوله: ويُحِبّ الـمُتَطَهّرِينَ فقال بعضهم: هم الـمتطهرون بـالـماء. ذكر من قال ذلك:
3699ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يحيى بن واضح, قال: حدثنا طلـحة, عن عطاء قوله: إنّ اللّهَ يُحِبّ التّوابِـينَ قال: التوابـين من الذنوب, ويُحِبّ الـمُتَطَهّرِينَ قال: الـمتطهرين بـالـماء للصلاة.
3700ـ حدثنـي أحمد بن حازم, قال: حدثنا أبو نعيـم, قال: حدثنا طلـحة, عن عطاء, مثله.
3701ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا وكيع, عن طلـحة بن عمرو, عن عطاء: إنّ اللّهَ يُحِبّ التّوابِـينَ من الذنوب لـم يصيبوها ويُحِبّ الـمُتَطَهّرِينَ بـالـماء للصلاة.
وقال آخرون: معنى ذلك إن الله يحب التوابـين من الذنوب, ويحب الـمتطهرين من أدبـار النساء أن يأتوها. ذكر من قال ذلك:
3702ـ حدثنا أحمد بن حازم, قال: حدثنا أبو نعيـم, قال: حدثنا إبراهيـم بن نافع, قال: سمعت سلـيـمان مولـى أم علـي, قال: سمعت مـجاهدا يقول: من أتـى امرأته فـي دبرها فلـيس من الـمتطهرين.
وقال آخرون: معنى ذلك: «ويحب الـمتطهرين» من الذنوب أن يعودوا فـيها بعد التوبة بها. ذكر من قال ذلك:
3703ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد: يُحِبّ التّوابِـينَ من الذنوب لـم يصيبوها, ويُحِبّ الـمُتَطَهّرِينَ من الذنوب: لا يعودون فـيها.
وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب قول من قال: إن الله يحبّ التوّابـين من الذنوب, ويحبّ الـمتطهرين بـالـماء للصلاة لأن ذلك هو الأغلب من ظاهر معانـيه. وذلك أن الله تعالـى ذكره ذكر أمر الـمـحيض, فنهاهم عن أمور كانوا يفعلونها فـي جاهلـيتهم, من تركهم مساكنة الـحائض ومؤاكلتها ومشاربتها, وأشياء غير ذلك مـما كان تعالـى ذكره يكرهها من عبـاده. فلـما استفتـى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك أوحى الله تعالـى إلـيه فـي ذلك, فبـين لهم ما يكرهه مـما يرضاه ويحبه, وأخبرهم أنه يحبّ من خـلقه من أناب إلـى رضاه ومـحبته, تائبـا مـما يكرهه. وكان مـما بـين لهم من ذلك أنه قد حرم علـيهم إتـيان نسائهم وإن طهرن من حيضهن حتـى يغتسلن, ثم قال: وَلا تَقْرَبُوهُنّ حّتـى يَطْهُرْنَ فَإذَا تَطَهّرْنَ فأْتُوهُنّ فإن الله يحبّ الـمتطهرين, يعنـي بذلك الـمتطهرين من الـجنابة والأحداث للصلاة, والـمتطهرات بـالـماء من الـحيض والنفـاس والـجنابة والأحداث من النساء. وإنـما قال: ويحبّ الـمتطهرين, ولـم يقل الـمتطهرات, وإنـما جرى قبل ذلك ذكر التطهر للنساء لأن ذلك بذكر الـمتطهرين يجمع الرجال والنساء, ولو ذكر ذلك بذكر الـمتطهرات لـم يكن للرجال فـي ذلك حظ, وكان للنساء خاصة, فذكر الله تعالـى ذكره بـالذكر العام جميع عبـاده الـمكلفـين, إذ كان قد تعبد جميعهم بـالتطهر بـالـماء, وإن اختلفت الأسبـاب التـي توجب التطهر علـيهم بـالـماء فـي بعض الـمعانـي واتفقت فـي بعض.
الآية : 223
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنّىَ شِئْتُمْ وَقَدّمُواْ لأنْفُسِكُمْ وَاتّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُوَاْ أَنّكُمْ مّلاَقُوهُ وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ }
يعنـي تعالـى ذكره بذلك: نساؤكم مزدرع أولادكم, فأتوا مزدرعكم كيف شئتـم, وأين شئتـم. وإنـما عنى بـالـحرث الـمزدَرَع, والـحرث هو الزرع, ولكنهن لـما كنّ من أسبـاب الـحرث جعلن حرثا, إذ كان مفهوما معنى الكلام. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
3704ـ حدثنا مـحمد بن عبـيد الـمـحاربـي, قال: حدثنا ابن الـمبـارك, عن يونس, عن عكرمة, عن ابن عبـاس: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ قال: منبت الولد.
3705ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ أما الـحرث فهي مزرعة يحرث فـيها.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: قفَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُـمْ.
يعنـي تعالـى ذكره بذلك: فـانكحوا مزدرع أولادكم من حيث شئتـم من وجوه الـمأتـى. والإتـيان فـي هذا الـموضع كناية عن اسم الـجماع.
واختلف أهل التأويـل فـي معنى قوله: أنّى شِئْتُـمْ فقال بعضهم: معنى أنّى: كيف. ذكر من قال ذلك:
3706ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا ابن عطية, قال: حدثنا شريك, عن عطاء, عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُـمْ قال: يأتـيها كيف شاء ما لـم يكن يأتـيها فـي دبرها أو فـي الـحيض.
3707ـ حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا شريك, عن عطاء, عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس قوله: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُـمْ قال: ائتها أنى شئت مقبلة ومدبرة, ما لـم تأتها فـي الدبر والـمـحيض.
3708ـ حدثنا علـيّ بن داود قال: حدثنا أبو صالـح. قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس قوله: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُـمْ يعنـي بـالـحرث: الفرج, يقول: تأتـيه كيف شئت مستقبلة ومستدبرة وعلـى أيّ ذلك أردت بعد أن لا تـجاوز الفرج إلـى غيره, وهو قوله: فأْتُوهُنّ مِنْ حَيْثُ أمَرَكُمُ اللّهُ.
3حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا شريك, عن عبد الكريـم, عن عكرمة: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُـمْ قال: يأتـيها كيف شاء ما لـم يعمل عمل قوم لوط.
3709ـ حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا الـحسن بن صالـح, عن لـيث, عن مـجاهد: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُـمْ قال: يأتـيها كيف شاء, واتّق الدبر والـحيض.
3710ـ حدثنـي عبـيد الله بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, قال: ثنـي يزيد أن ابن كعب كان يقول: إنـما قوله: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُـمْ يقول: ائتها مضطجعة وقائمة ومنـحرفة ومقبلة ومدبرة كيف شئت إذا كان فـي قُبُلها.
3711ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم, قال: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا حصين, عن مرة الهمدانـي, قال: سمعته يحدّث أن رجلاً من الـيهود لقـي رجلاً من الـمسلـمين, فقال له: أيأتـي أحدكم أهله بـاركا؟ قال: نعم. قال: فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: فنزلت هذه الآية: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُـمْ يقول: كيف شاء بعد أن يكون فـي الفرج.
3712ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُـمْ إن شئت قائما أو قاعدا أو علـى جنب إذا كان يأتـيها من الوجه الذي يأتـي منه الـمـحيض, ولا يتعدّى ذلك إلـى غيره.
3713ـ حدثنا موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُـمْ ائت حرثك كيف شئت من قبلها, ولا تأتـيها فـي دبرها. أنّى شِئْتُـمْ قال: كيف شئتـم.
3حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرنا عمرو بن الـحرث, عن سعيد بن أبـي هلال أن عبد الله بن علـيّ حدثه: أنه بلغه أن ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جلسوا يوما ورجل من الـيهود قريب منهم, فجعل بعضهم يقول: إنـي لاَتـي امرأتـي وهي مضطجعة, ويقول الاَخر: إنـي لاَتـيها وهي قائمة, ويقول الاَخر: إنـي لاَتـيها علـى جنبها وبـاركة فقال الـيهودي: ما أنتـم إلا أمثال البهائم, ولكنا إنـما نأتـيها علـى هيئة واحدة. فأنزل الله تعالـى ذكره: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فهو القبل.
وقال آخرون: معنى: أنّى شِئْتُـمْ من حيث شئتـم, وأيّ وجه أحببتـم. ذكر من قال ذلك:
3حدثنا سهل بن موسى الرازي, قال: حدثنا ابن أبـي فديك, عن إبراهيـم بن إسماعيـل بن أبـي حبـيبة الأشهل, عن داود بن الـحصين, عن عكرمة, عن ابن عبـاس: أنه كان يكره أن تؤتـى الـمرأة فـي دبرها ويقول: إنـما الـحرث من القبل الذي يكون منه النسل والـحيض. وينهى عن إتـيان الـمرأة فـي دبرها ويقول: إنـما نزلت هذه الآية: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُـمْ يقول: من أيّ وجه شئتـم.
3حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا ابن واضح, قال: حدثنا العتكي, عن عكرمة: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُـمْ قال: ظهرها لبطنها غير معاجَزَة, يعنـي الدبر.
3حدثنا عبـيد الله بن سعد, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن يزيد, عن الـحرث بن كعب, عن مـحمد بن كعب, قال: إن ابن عبـاس كان يقول: اسق نبـاتك من حيث نبـاته.
3حدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع قوله: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُـمْ يقول: من أين شئتـم. ذكر لنا والله أعلـم أن الـيهود قالوا: إن العرب يأتون النساء من قبل أعجازهنّ, فإذا فعلوا ذلك جاء الولد أحول فأكذب الله أحدوثتهم, فقال: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُـمْ.
3714ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد قال: يقول: ائتوا النساء فـي (غير) أدبـارهن علـى كل نـحو. قال ابن جريج: سمعت عطاء بن أبـي ربـاح قال: تذاكرنا هذا عند ابن عبـاس, فقال ابن عبـاس: ائتوهن من حيث شئتـم مقبلة ومدبرة فقال رجل: كأن هذا حلال. فأنكر عطاء أن يكون هذا هكذا, وأنكره, كأنه إنـما يريد الفرج مقبلة ومدبرة فـي الفرج.
وقال آخرون: معنى قوله: أنّى شِئْتُـمْ متـى شئتـم. ذكر من قال ذلك:
3715ـ حدثت عن حسين بن الفرج, قال: سمعت أبـا معاذ الفضل بن خالد, قال: أخبرنا عبـيد بن سلـيـمان, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُـمْ يقول: متـى شئتـم.
3716ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: حدثنا أبو صخر, عن أبـي معاوية البجلـي, وهو عمار الدهنـي, عن سعيد بن جبـير أنه قال: بـينا أنا ومـجاهد جالسان عند ابن عبـاس, أتاه رجل فوقـف علـى رأسه, فقال: يا أبـا العبـاس أو يا أبـا الفضل ألا تشفـينـي عن آية الـمـحيض؟ فقال: بلـى فقرأ: وَيَسألُونَكَ عَنِ الـمَـحِيض حتـى بلغ آخر الآية, فقال ابن عبـاس: من حيث جاء الدم من ثَمّ أمرت أن تأتـي, فقال له الرجل: يا أبـا الفضل كيف بـالآية التـي تتبعها: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُـمْ؟ فقال: إي ويحك وفـي الدبر من حرث؟ لو كان ما تقول حقا لكان الـمـحيض منسوخا إذا اشتغل من ههنا جئت من ههنا ولكن أنى شئتـم من اللـيـل والنهار.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أين شئتـم, وحيث شئتـم. ذكر من قال ذلك:
3717ـ حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا ابن عون, عن نافع, قال: كان ابن عمر إذا قرىء القرآن لـم يتكلـم. قال: فقرأت ذات يوم هذه الآية: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُـمْ فقال: أتدري فـيـمن نزلت هذه الآية؟ قلت: لا. قال: نزلت فـي إتـيان النساء فـي أدبـارهن.
3718ـ حدثنـي إبراهيـم بن عبد الله بن مسلـم أبو مسلـم, قال: حدثنا أبو عمر الضرير, قال: حدثنا إسماعيـل بن إبراهيـم, صاحب الكرابـيسي, عن ابن عون, عن نافع, قال: كنت أمسك علـى ابن عمر الـمصحف, إذ تلا هذه الآية: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُـمْ فقال: أن يأتـيها فـي دبرها.
3465حدثنـي عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الـحكم, قال: حدثنا عبد الـملك بن مسلـمة, قال: حدثنا الدراورديّ, قال: قـيـل لزيد بن أسلـم: إن مـحمد بن الـمنكدر ينهى عن إتـيان النساء فـي أدبـارهن فقال زيد: أشهد علـى مـحمد لأخبرنـي أنه يفعله.
3719ـ حدثنـي عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الـحكم, قال: حدثنا أبو زيد عبد الرحمن بن أحمد بن أبـي الغمر, قال: ثنـي عبد الرحمن بن القاسم, عن مالك بن أنس, أنه قـيـل له: يا أبـا عبد الله إن الناس يروون عن سالـم: «كذب العبد أو العلـج علـى أبـي», فقال مالك: أشهد علـى يزيد بن رومان أنه أخبرنـي, عن سالـم بن عبد الله, عن ابن عمر مثل ما قال نافع. فقـيـل له: إن الـحارث بن يعقوب يروي عن أبـي الـحبـاب سعيد بن يسار أنه سأل ابن عمر, فقال له: يا أبـا عبد الرحمن إنا نشتري الـجواري, فنـحمّض لهن؟ فقال: وما التـحميض؟ قال: الدبر فقال ابن عمر: أف أف, يفعل ذلك مؤمن؟ أو قال مسلـم. فقال مالك: أشهد علـى ربـيعة لأخبرنـي عن أبـي الـحبـاب عن ابن عمر مثل ما قال نافع.
3حدثنـي مـحمد بن إسحاق, قال: أخبرنا عمرو بن طارق, قال: أخبرنا يحيى بن أيوب, عن موسى بن أيوب الغافقـي, قال: قلت لأبـي ماجد الزيادي: إن نافعا يحدّث عن ابن عمر: فـي دبر الـمرأة فقال: كذب نافع, صحبت ابن عمر ونافع مـملوك, فسمعته يقول: ما نظرت إلـى فرج امرأتـي منذ كذا وكذا.
3حدثنـي أبو قلابة قال: حدثنا عبد الصمد, قال: ثنـي أبـي, عن أيوب, عن نافع, عن ابن عمر: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُـمْ قال: فـي الدبر.
3حدثنـي أبو مسلـم, قال: حدثنا أبو عمر الضرير, قال: حدثنا يزيد بن زريع, قال حدثنا روح بن القاسم, عن قتادة قال: سئل أبو الدرداء عن إتـيان النساء فـي أدبـارهنّ, فقال: هل يفعل ذلك إلا كافر قال: روح: فشهدت ابن أبـي ملـيكة يسئل عن ذلك, فقال: قد أردته من جارية لـي البـارحة فـاعتاص علـيّ, فـاستعنت بدهن أو بشحم. قال: فقلت له: سبحان الله أخبرنا قتادة أن أبـا الدرداء قال: هل يفعل ذلك إلا كافر فقال: لعنك الله ولعن قتادة فقلت: لا أحدّث عنك شيئا أبدا, ثم ندمت بعد ذلك.
واعتلّ قائلو هذه الـمقالة لقولهم بـما:
3حدثنـي به مـحمد بن عبد الله بن عبد الـحكم, قال: أخبرنا أبو بكر بن أبـي أويس الأعشى, عن سلـيـمان بن بلال, عن زيد بن أسلـم, عن ابن عمر: أن رجلاً أتـى امرأته فـي دبرها, فوجد فـي نفسه من ذلك, فأنزل الله: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُـمْ.
3720ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنـي ابن نافع, عن هشام بن سعد, عن زيد بن أسلـم, عن عطاء بن يسار: أن رجلاً أصاب امرأته فـي دبرها علـى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأنكر الناس ذلك وقالوا: أثفرها فأنزل الله تعالـى ذكره: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُـمْ.
وقال آخرون: معنى ذلك: ائتوا حرثكم كيف شئتـم, إن شئتـم فـاعزلوا وإن شئتـم فلا تعزلوا. ذكر من قال ذلك:
3721ـ حدثنـي أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا الـحسن بن صالـح, عن لـيث, عن عيسى بن سنان, عن سعيد بن الـمسيب: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُـمْ إن شئتـم فـاعزلوا, وإن شئتـم فلا تعزلوا.
3722ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا وكيع, عن يونس, عن أبـي إسحاق, عن زائدة بن عمير, عن ابن عبـاس قال: إن شئت فـاعزل, وإن شئت فلا تعزل.
وأما الذين قالوا: معنى قوله: أنّى شِئْتُـمْ كيف شئتـم مقبلة ومدبرة فـي الفرج والقبل, فإنهم قالوا: إن الآية إنـما نزلت فـي استنكار قوم من الـيهود استنكروا إتـيان النساء فـي أقبـالهن من قبل أدبـارهن. قالوا: وفـي ذلك دلـيـل علـى صحة ما قلنا من أن معنى ذلك علـى ما قلنا.
واعتلوا لقـيـلهم ذلك بـما:
3723ـ حدثنـي به أبو كريب, قال: حدثنا الـمـحاربـي, قال: حدثنا مـحمد بن إسحاق, عن أبـان بن صالـح, عن مـجاهد, قال: عرضت الـمصحف علـى ابن عبـاس ثلاث عرضات من فـاتـحته إلـى خاتـمته أوقـفه عند كل آية وأسأله عنها, حتـى انتهى إلـى هذه الآية: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُـمْ فقال ابن عبـاس: إن هذا الـحيّ من قريش, كانوا يشرحون النساء بـمكة, ويتلذّذون بهنّ مقبلات ومدبرات. فلـما قدموا الـمدينة تزوّجوا فـي الأنصار, فذهبوا لـيفعلوا بهنّ كما كانوا يفعلون بـالنساء بـمكة, فأنكرن ذلك وقلن: هذا شيء لـم نكن نؤتـى علـيه فـانتشر الـحديث حتـى انتهى إلـى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأنزل الله تعالـى ذكره فـي ذلك: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُـمْ إن شئت فمقبلة وإن شئت فمدبرة وإن شئت فبـاركة وإنـما يعنـي بذلك موضع الولد للـحرث, يقول: ائت الـحرث من حيث شئت.
3724ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا يونس بن بكير, عن مـحمد بن إسحاق بإسناده نـحوه.
3725ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا ابن مهدي, قال: حدثنا سفـيان, عن مـحمد بن الـمنكدر, قال: سمعت جابرا يقول: إن الـيهود كانوا يقولون: إذا جامع الرجل أهله فـي فرجها من ورائها كان ولده أحول, فأنزل الله تعالـى ذكره: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأتُوا حَرْثَكَمْ أنّى شِئْتُـمْ.
3726ـ حدثنا مـجاهد بن موسى, قال: حدثنا يزيد بن هارون, قال: أخبرنا الثوري, عن مـحمد بن الـمنكدر, عن جابر بن عبد الله قال: قالت الـيهود: إذا أتـى الرجل امرأته فـي قبلها من دبرها وكان بـينهما ولد كان أحول, فأنزل الله تعالـى ذكره: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأتْوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُـمْ.
3727ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا عبد الرحيـم بن سلـيـمان, عن عبد الله بن عثمان بن خثـيـم, عن عبد الرحمن بن سابط, عن حفصة بنت عبد الرحمن بن أبـي بكر, عن أمّ سلـمة زوج النبـيّ صلى الله عليه وسلم, قالت: تزوج رجل امرأة, فأراد أن يُجَبـيها, فأبت علـيه وقالت: حتـى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت أم سلـمة: فذكرت ذلك لـي. فذكرت أم سلـمة ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: «أرْسِلـي إلَـيْها» فلـما جاءت قرأ علـيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: نِسَاؤكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُـمْ «صِماما واحدا, صماما واحدا».
3728ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا معاوية بن هشام, عن سفـيان بن عبد الله بن عثمان, عن ابن سابط, عن حفصة ابنة عبد الرحمن بن أبـي بكر, عن أمّ سلـمة, قالت: قدم الـمهاجرون فتزوّجوا فـي الأنصار, وكانوا يجبّون, وكانت الأنصار لا تفعل ذلك, فقالت امرأة لزوجها: حتـى آتـي النبـيّ صلى الله عليه وسلم فأسأله عن ذلك. فأتت النبـي صلى الله عليه وسلم, فـاستـحيت أن تسأله, فسألتُ أنا. فدعاها رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقرأ علـيها: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأتُوا حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُتـمْ «صِماما واحدا صماما واحدا».
3729ـ حدثنـي أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا سفـيان, عن عبد الله بن عثمان, عن عبد الرحمن بن سابط, عن حفصة بنت عبد الرحمن, عن أم سلـمة, عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم بنـحوه.
3730ـ حدثنا ابن بشار وابن الـمثنى, قالا: حدثنا ابن مهدي, قال: حدثنا سفـيان الثوري, عن عبد لله بن عثمان بن خثـيـم, عن عبد الرحمن بن سابط, عن حفصة ابنة عبد الرحمن, عن أمّ سلـمة, عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُـمْ قال: «صِماما واحدا, صِماما واحِدا».
3731ـ حدثنـي مـحمد بن معمر البحرانـي, قال: حدثنا يعقوب بن إسحاق الـحضرمي, قال: ثنـي وهيب, قال: ثنـي عبد الله بن عثمان, عن عبد الرحمن بن سابط قال: قلت لـحفصة: إنـي أريد أن أسألك عن شيء وأنا أستـحيـي منك أن أسألك. قالت: سل يا بنـيّ عما بدا لك قلت: أسألك عن غشيان النساء فـي أدبـارهن؟ قالت: حدثتنـي أم سلـمة, قالت: كانت الأنصار لا تـجبّـي, وكان الـمهاجرون يُجبّون, فتزوّج رجل من الـمهاجرين امرأة من الأنصار. ثم ذكر نـحو حديث أبـي كريب, عن معاوية بن هشام.
3732ـ حدثنا ابن الـمثنى, قال: ثنـي وهب بن جرير, قال: حدثنا شعبة, عن ابن الـمنكدر: قال: سمعت جابر بن عبد الله, يقول: إن الـيهود كانوا يقولون: إذا أتـى الرجل امرأته بـاركة جاء الولد أحول, فنزلت نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُـمْ.
3733ـ حدثنـي مـحمد بن أحمد بن عبد الله الطوسي, قال: حدثنا الـحسن بن موسى, قال: حدثنا يعقوب القمي, عن جعفر, عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس, قال: جاء عمر إلـى النبـيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله هلكت قال: «وَما الّذِي أهْلَكَكَ؟» قال: حوّلت رحلـي اللـيـلة. قال: فلـم يردّ علـيه شيئا, قال: فأوحى الله إلـى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُـمْ «أقْبِلْ وأَدْبِرَ, واتّقِ الدّبُرَ والـحَيْضَةَ».
3حدثنا زكريا بن يحيى الـمصري, قال: حدثنا أبو صالـح الـحرانـي, قال: حدثنا ابن لهيعة, عن يزيد بن أبـي حبـيب أن عامر بن يحيى أخبره عن حنش الصنعانـي, عن ابن عبـاس: أن ناسا من حمير أتوا إلـى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه عن أشياء, فقال رجل منهم: يا رسول الله إنـي رجل أحبّ النساء, فكيف ترى فـي ذلك؟ فأنزل الله تعالـى ذكره فـي سورة البقرة بـيان ما سألوا عنه, وأنزل فـيـما سأل عنه الرجل: نِساوكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُـمْ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ائْتِها مُقْبِلَةً وَمُدْبِرَةً إذَا كانَ ذَلِكَ فِـي الفَرْجِ».
والصواب من القول فـي ذلك عندنا قول من قال: معنى قوله أنّى شِئْتُـمْ من أيّ وجه شئتـم, وذلك أنّ أنّى فـي كلام العرب كلـمة تدل إذا ابتدىء بها فـي الكلام علـى الـمسألة عن الوجوه والـمذاهب, فكأن القائل إذا قال لرجل: أنى لك هذا الـمال؟ يريد من أيّ الوجوه لك, ولذلك يجيب الـمـجيب فـيه بأن يقول: من كذا وكذا, كما قال تعالـى ذكره مخبرا عن زكريا فـي مسألته مريـم: أنّى لَكِ هَذَا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدَ اللّهِ وهي مقاربة أين وكيف فـي الـمعنى, ولذلك تداخـلت معانـيها, فأشكلت «أنى» علـى سامعها ومتأوّلها حتـى تأوّلها بعضهم بـمعنى أين, وبعضهم بـمعنى كيف, وآخرون بـمعنى متـى, وهي مخالفة جميع ذلك فـي معناها وهن لها مخالفـات. وذلك أن «أين» إنـما هي حرف استفهام عن الأماكن والـمـحال, وإنـما يستدلّ علـى افتراق معانـي هذه الـحروف بـافتراق الأجوبة عنها. ألا ترى أن سائلاً لو سأل آخر فقال: أين مالك؟ لقال بـمكان كذا, ولو قال له: أين أخوك؟ لكان الـجواب أن يقول: ببلدة كذا, أو بـموضع كذا, فـيجيبه بـالـخبر عن مـحل ما سأله عن مـحله, فـيعلـم أن أين مسألة عن الـمـحل. ولو قال قائل لاَخر: كيف أنت؟ لقال: صالـح أو بخير أو فـي عافـية, وأخبره عن حاله التـي هوفـيها, فـيعلـم حينئذٍ أن كيف مسألة عن حال الـمسؤول عن حاله. ولو قال له: أنى يحيـي الله هذا الـميت؟ لكان الـجواب أن يقال: من وجه كذا ووجه كذا, فـيصف قولاً نظير ما وصف الله تعالـى ذكره للذي قال: أنّى يُحْيى هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها فعلاً حين بعثه من بعد مـماته. وقد فرّقت الشعراء بـين ذلك فـي أشعارها, فقال الكميت بن زيد:
تَذَكّرَ مِنْ أنّى ومِنْ أينَ شُرْبُهُيُوءَامِرُ نَفْسَيْهِ كذي الهجمةِ الأبِلْ
وقال أيضا:
أنّى ومِنْ أيْنَ نابَكَ الطّرَبُمِنْ حَيْثُ لا صَبْوَةٌ وَلا رِيَبُ
فـيجاء ب «أنّى» للـمسألة عن الوجه وب«أين» للـمسألة عن الـمكان, فكأنه قال: من أي وجه ومن أي موضع رجعك الطرب.
والذي يدل علـى فساد قول من تأول قول الله تعالـى ذكره: فَأتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُـمْ كيف شئتـم, أو تأوله بـمعنى حيث شئتـم, أو بـمعنى متـى شئتـم, أو بـمعنى أين شئتـم أن قائلاً لو قال لاَخر: أنى تأتـي أهلك؟ لكان الـجواب أن يقول: من قبلها أو من دبرها, كما أخبر الله تعالـى ذكره عن مريـم إذ سئلت: أنّى لَكِ هَذَا أنها قالت: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللّهِ. وإذ كان ذلك هو الـجواب, فمعلوم أن معنى قول الله تعالـى ذكره: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُـمْ إنـما هو: فأتوا حرثكم من حيث شئتـم من وجوه الـمأتـي, وأن ما عدا ذلك من التأويلات فلـيس للاَية بتأويـل. وإذ كان ذلك هو الصحيح, فبـين خطأ قول من زعم أن قوله: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُـمْ دلـيـل علـى إبـاحة إتـيان النساء فـي الأدبـار, لأن الدبر لا يحترث فـيه, وإنـما قال تعالـى ذكره: حَرْث لَكُمْ فأتوا الـحرث من أي وجوهه شئتـم, وأيّ مـحترث فـي الدبر فـيقال ائته من وجهه. وتبـين بـما بـينا صحة معنى ما روي عن جابر وابن عبـاس من أن هذه الآية نزلت فـيـما كانت الـيهود تقوله للـمسلـمين إذا أتـى الرجل الـمرأة من دبرها فـي قبلها جاء الولد أحول.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَقَدّمُوا لأنْفُسِكُمْ.
اختلف أهل التأويـل فـي معنى ذلك, فقال بعضهم: معنى ذلك: قدموا لأنفسكم الـخير. ذكر من قال ذلك:
3حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي, أما قوله: وَقَدّمُوا لأنْفُسِكُمْ فـالـخير.
وقال آخرون: بل معنى ذلك وَقَدّمُوا لأنْفُسِكُمْ ذكْرَ الله عند الـجماع وإتـيان الـحرث قبل إتـيانه ذكر من قال ذلك:
3حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي مـحمد بن كثـير, عن عبد الله بن واقد, عن عطاء, قال: أراه عن ابن عبـاس: وَقَدّمُوا لأنْفُسِكُمْ قال: التسمية عند الـجماع يقول بسم الله.
والذي هو أولـى بتأويـل الآية, ما روينا عن السدي, وهو أن قوله: وَقَدّمُوا لأنْفُسِكُمْ أمر من الله تعالـى ذكره عبـاده بتقديـم الـخير, والصالـح من الأعمال لـيوم معادهم إلـى ربهم, عدة منهم ذلك لأنفسهم عند لقائه فـي موقـف الـحساب, فإنه قال تعالـى ذكره: وَما تُقَدّمُوا لأنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَـجِدُوهُ عِنْدَ اللّهِ وإنـما قلنا ذلك أولـى بتأويـل الآية, لأن الله تعالـى ذكره عقب قوله: وَقَدّمُوا لأنْفُسِكُمْ بـالأمر بـاتقائه فـي ركوب معاصيه, فكان الذي هو أولـى بأن يكون الذي قبل التهديد علـى الـمعصية عاما الأمر بـالطاعة عاما.
فإن قال لنا قائل: وما وجه الأمر بـالطاعة بقوله: وَقَدّمُوا لأنْفُسِكُمْ من قوله: نِساوكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُـمْ؟ قـيـل: إن ذلك لـم يقصد به ما توهمته, وإنـما عنى به وقدّموا لأنفسكم من الـخيرات التـي ندبناكم إلـيها بقولنا: يَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أنْفَقْقتُـمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِـينَ وما بعده من سائر ما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأجيبوا عنه مـما ذكره الله تعالـى ذكره فـي هذه الاَيات, ثم قال تعالـى ذكره: قد بـينا لكم ما فـيه رشدكم وهدايتكم إلـى ما يرضي ربكم عنكم, فقدموا لأنفسكم الـخير الذي أمركم به, واتـخذوا عنده به عهدا لتـجدوه لديه إذا لقـيتـموه فـي معادكم, واتقوه فـي معاصيه أن تقربوها وفـي حدوده أن تضيعوها, واعلـموا أنكم لا مـحالة ملاقوه فـي معادكم, فمـجازٍ الـمـحسن منكم بإحسانه والـمسيء بإساءته.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَاتّقُوا اللّهَ واعْلَـمُوا أنّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشّر الـمُؤْمِنِـينَ.
وهذا تـحذير من الله تعالـى ذكره عبـاده أن يأتوا شيئا مـما نهاهم عنه من معاصيه, وتـخويف لهم عقابه عند لقائه, كما قد بـينا قبل, وأمرٌ لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم أن يبشر من عبـاده بـالفوز يوم القـيامة, وبكرامة الاَخرة, وبـالـخـلود فـي الـجنة من كان منهم مـحسنا مؤمنا بكتبه ورسله وبلقائه, مصدقا إيـمانه قولاً بعمله ما أمره به ربه, وافترض علـيه من فرائضه فـيـما ألزمه من حقوقه, وبتـجنبه ما أمره بتـجنبه من معاصيه.
الآية : 224
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لأيْمَانِكُمْ أَن تَبَرّواْ وَتَتّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النّاسِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }
اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله: وَلا تَـجْعَلُوا اللّهَ عُرْضَةً لأيـمَانِكُمْ فقال بعضهم: معناه: ولا تـجعلوه علة لأيـمانكم, وذلك إذا سئل أحدكم الشيء من الـخير والإصلاح بـين الناس, قال: علـيّ يـمين بـالله ألا فعل ذلك, أو قد حلفت بـالله أن لا أفعله. فـيعتلّ فـي تركه فعل الـخير والإصلاح بـين الناس بـالـحلف بـالله. ذكر من قال ذلك:
3734ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن ابن طاوس, عن أبـيه: وَلا تَـجْعَلُوا اللّهَ عُرْضَةً لأِيـمَانِكُمْ قال: هو الرجل يحلف علـى الأمر الذي لا يصلـح, ثم يعتلّ بـيـمينه يقول الله: أنْ تَبَرّوا وَتَتّقُوا هو خير له من أن يـمضي علـى ما لا يصلـح, وإن حلفت كفّرت عن يـمينك وفعلت الذي هو خير لك.
3735ـ حدثنا الـمثنى, قال: حدثنا سويد بن نصر, قال: أخبرنا ابن الـمبـارك, عن معمر عن ابن طاوس, عن أبـيه مثله, إلا أنه قال: وإن حلفت فكفر عن يـمينك, وافعل الذي هو خير.
3736ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا عبـيد الله عن إسرائيـل, عن السدي, عمن حدثه, عن ابن عبـاس فـي قوله: وَلا تَـجْعَلُوا اللّهَ عُرْضَةً لأيـمَانِكُمْ أنْ تَبَرّوا وَتَتّقُوا وَتُصْلِـحُوا بَـيْنَ النّاسِ قال: هو أن يحلف الرجل أن لا يكلـم قرابته ولا يتصدّق, أو يكون بـينه وبـين إنسان مغاضبة, فـيحلف لا يصلـح بـينهما ويقول: قد حلفت, قال: يكفر عن يـمينه, وَلا تَـجْعَلُوا اللّهَ عُرْضَةً لأيـمَانِكُمْ.
3737ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: وَلا تَـجْعَلُوا اللّهَ عُرْضَةً لأيـمَانِكُمْ أنْ تَبَرّوا وَتَتّقُوا يقول: لا تعتلوا بـالله أن يقول أحدكم: إنه تألّـى أن لا يصل رحما, ولا يسعى فـي صلاح, ولا يتصدّق من ماله, مهلاً مهلاً بـارك الله فـيكم فإن هذا القرآن إنـما جاء بترك أمر الشيطان, فلا تطيعوه, ولا تنفذوا له أمرا فـي شيء من نذوركم ولا أيـمانكم.
3738ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا ابن مهدي, قال: حدثنا سفـيان, عن أبـي حصين, عن سعيد بن جبـير: وَلا تَـجْعَلُوا اللّهَ عُرْضَةً لأيـمَانِكُمْ قال: هو الرجل يحلف لا يصلـح بـين الناس ولا يبرّ, فإذا قـيـل له قال: قد حلفت.
3739ـ حدثنـي القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: سألت عطاء عن قوله: وَلا تَـجْعَلُوا اللّهَ عُرْضَةً لأيـمَانِكُمْ أنْ تَبَرّوا وَتَتّقُوا وَتُصْلِـحُوا بَـيْنَ النّاسِ قال: الإنسان يحلف أن لا يصنع الـخير الأمر الـحسن يقول حلفت, قال الله: افعل الذي هو خير, وكفر عن يـمينك, ولا تـجعل الله عرضة.
3740ـ حدثت عن عمار بن الـحسن, قال: سمعت أبـا معاذ قال: أخبرنا عبـيد بن سلـيـمان, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: وَلا تَـجْعَلُوا اللّهَ عُرْضَةً لأيـمَانِكُمْ... الآية, هو الرجل يحرّم ما أحلّ الله له علـى نفسه, فـيقول: قد حلفت فلا يصلـح إلا أن أَبرّ يـمينـي. فأمرهم الله أن يكفروا أيـمانهم, ويأتوا الـحلال.
3741ـ حدثنا موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: وَلا تَـجْعَلُوا اللّهَ عُرْضَةً لأيـمَانِكُمْ أنْ تَبَرّوا وَتَتّقُوا وَتُصْلِـحُوا بَـيْنَ النّاسِ أما عُرْضَة: فـيعرض بـينك وبـين الرجل الأمر, فتـحلف بـالله لا تكلـمه ولا تصله, وأما تبّروا: فـالرجل يحلف لا يبرّ ذا رحمه, فـيقول: قد حلفت. فأمر الله أن لا يعرّض بـيـمينه بـينه وبـين ذي رحمه, ولـيبرّه ولا يبـالـي بـيـمينه, وأما تصلـحوا: فـالرجل يصلـح بـين الاثنـين فـيعصيانه, فـيحلف أن لا يُصلـح بـينهما, فـينبغي له أن يصلـح ولا يبـالـي بـيـمينه, وهذا قبل أن تنزل الكفـارات.
3742ـ حدثنا الـمثنى, قال: حدثنا سويد, قال: أخبرنا ابن الـمبـارك, عن هشيـم, عن مغيرة, عن إبراهيـم فـي قوله: وَلا تَـجْعَلُوا اللّهَ عُرْضَةً لأيـمَانِكُمْ قال: يحلف أن لا يتقـي الله ولا يصل رحمه ولا يصلـح بـين اثنـين, فلا يـمنعه يـمينه.
وقال آخرون: معنى ذلك: ولا تعترضوا بـالـحلف بـالله فـي كلامكم فـيـما بـينكم, فتـجعلوا ذلك حجة لأنفسكم فـي ترك فعل الـخير. ذكر من قال ذلك:
3حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ بن أبـي طلـحة, عن ابن عبـاس قوله: وَلا تَـجْعَلُوا اللّهَ عُرْضَةً لأيـمَانِكُمْ يقول: لا تـجعلنـي عرضة لـيـمينك أن لا تصنع الـخير, ولكن كفر عن يـمينك واصنع الـخير.
3حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس قوله: وَلا تَـجْعَلُوا اللّهَ عُرْضَةً لأيـمَانِكُمْ أنْ تَبَرّوا وَتَتّقُوا وَتُصْلِـحُوا بَـيْنَ النّاسِ كان الرجل يحلف علـى الشيء من البرّ والتقوى ولا يفعله. فنهى الله عز وجل عن ذلك, فقال: وَلا تَـجْعَلُوا اللّهَ عُرْضَةً لأيـمَانِكُمْ أنْ تَبَرّوا.
3743ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم, قال: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا مغيرة عن إبراهيـم فـي قوله: وَلا تَـجْعَلُوا اللّهَ عُرْضَةً لأيـمَانِكُمْقال: هو الرجل يحلف أن لا يبرّ قرابته ولا يصل رحمه ولا يصلـح بـين اثنـين. يقول: فلـيفعل ولـيكفر عن يـمينه.
3744ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن مغيرة, عن مـحمد بن عبد الرحمن بن يزيد, عن إبراهيـم النـخعي فـي قوله: وَلا تَـجْعَلُوا اللّهَ عُرْضَةً لأيـمَانِكُمْ أنْ تَبَرّوا وَتَتّقُوا وَتُصْلِـحُوا بَـيْنَ النّاسِ قال: لا تـحلف أن لا تتقـي الله, ولا تـحلف أن لا تبرّ ولا تعمل خيرا, ولا تـحلف أن لا تصل, ولا تـحلف أن لا تصلـح بـين الناس, ولا تـحلف أن تقتل وتقطع.
3745ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عمرو بن عون, قال: أخبرنا هشيـم, عن داود, عن سعيد بن جبـير ومغيرة عن إبراهيـم فـي قوله: وَلا تَـجْعَلُوا اللّهَ عُرْضَةً الآية, قالا: هو الرجل يحلف أن يبرّ ولا يتقـي ولا يصلـح بـين الناس, وأمر أن يتقـي الله, ويصلـح بـين الناس, ويكفر عن يـمينه.
3746ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, وحدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قوله: وَلا تَـجْعَلُوا اللّهَ عُرْضَةً لأيـمَانِكُمْ فأمروا بـالصلة والـمعروف والإصلاح بـين الناس, فإن حلف حالف أن لا يفعل ذلك فلـيفعله ولـيدع يـمينه.
3747ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع فـي قوله: وَلا تَـجْعَلُوا اللّهَ عُرْضَةً لأيـمَانِكُمْ الآية, قال ذلك فـي الرجل يحلف أن لا يبرّ ولا يصل رحمه ولا يصلـح بـين الناس, فأمره الله أن يدع يـمينه ويصل رحمه ويأمر بـالـمعروف ويصلـح بـين الناس.
3748ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا مـحمد بن حرب, قال: حدثنا ابن لهيعة, عن أبـي الأسود, عن عروة, عن عائشة فـي قوله: وَلا تَـجْعَلُوا اللّهَ عُرْضَةً لأيـمَانِكُمْ أنْ تَبَرّوا وَتَتّقُوا وَتُصْلِـحُوا بَـيْنَ النّاسِ قالت: لا تـحلفوا بـالله وإن بررتـم.
3749ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: حدثت أن قوله: وَلا تَـجْعَلُوا اللّهَ عُرْضَةً لأيـمَانِكُمْ الآية, نزلت فـي أبـي بكر فـي شأن مِسْطح.
3750ـ حدثنا هناد, قال: حدثنا ابن فضيـل, عن مغيرة, عن إبراهيـم قوله: وَلا تَـجْعَلُوا اللّهَ عُرْضَةً لأيـمَانِكُمْ الآية, قال: يحلف الرجل أن لا يأمر بـالـمعروف, ولا ينهى عن الـمنكر, ولا يصل رحمه.
3751ـ حدثنـي الـمثنى, حدثنا سويد, أخبرنا ابن الـمبـارك, عن هشيـم, عن الـمغيرة, عن إبراهيـم فـي قوله: وَلا تَـجْعَلُوا اللّهَ عُرْضَةً لأيـمَانِكُمْ قال: يحلف أن لا يتقـي الله, ولا يصل رحمه, ولا يصلـح بـين اثنـين, فلا يـمنعه يـمينه:
3752ـ حدثنـي ابن عبد الرحيـم البرقـي, قال: حدثنا عمرو بن أبـي سلـمة, عن سعيد, عن مكحول أنه قال فـي قول الله تعالـى ذكره: وَلا تَـجْعَلُوا اللّهَ عُرْضَةً لاِءَيْـمَانِكُمْ قال: هو أن يحلف الرجل أن لا يصنع خيرا ولا يصل رحمه ولا يصلـح بـين الناس, نهاهم الله عن ذلك.
وأولـى التأويـلـين بـالآية تأويـل من قال: معنى ذلك لا تـجعلوا الـحلف بـالله حجة لكم فـي ترك فعل الـخير فـيـما بـينكم وبـين الله وبـين الناس. وذلك أن العرضة فـي كلام العرب: القوّة والشدة, يقال منه: هذا الأمر عرضة له, يعنـي بذلك: قوّة لك علـى أسبـابك, ويقال: فلانة عرضة للنكاح: أي قوّة, ومنه قول كعب بن زهير فـي صفة نوق:
مِنْ كُلّ نَضّاخَةِ الذّفْرى إذَا عَرقتْعُرْضَتُها طامِسُ الأعْلامِ مَـجْهُولُ
يعنـي ب«عرضتها»: قوتها وشدتها.
فمعنى قوله تعالـى ذكره: وَلا تَـجْعَلُوا اللّهَ عُرْضَةً لأيـمَانِكُمْ إذا: لا تـجعلوا الله قوة لأيـمانكم فـي أن لا تبرّوا, ولا تتقوا, ولا تصلـحوا بـين الناس, ولكن إذا حلف أحدكم فرأى الذي هو خير مـما حلف علـيه من ترك البرّ والإصلاح بـين الناس فلـيحنث فـي يـمينه, ولـيبرّ, ولـيتق الله, ولـيصلـح بـين الناس, ولـيكفر عن يـمينه. وترك ذكر «لا» من الكلام لدلالة الكلام علـيها واكتفـاء بـما ذكر عما ترك, كما قال امرؤ القـيس:
فَقُلْتُ يَـمِينُ اللّهِ أبْرَحُ قاعِداولَوْ قَطّعُوا رأسي لَدَيْكِ وأوْصَالـي
بـمعنى: فقلت: يـمين الله لا أبرح. فحذف «لا» اكتفـاء بدلالة الكلام علـيها.
وأما قوله: أنْ تَبَرّوا فإنه اختلف فـي تأويـل البرّ الذي عناه الله تعالـى ذكره, فقال بعضهم: هو فعل الـخير كله. وقال آخرون: هو البرّ بذي رحمه, وقد ذكرت قائلـي ذلك فـيـما مضى.
وأولـى ذلك بـالصواب قول من قال: عنى به فعل الـخير كله, وذلك أن أفعال الـخير كلها من البرّ. ولـم يخصص الله فـي قوله أنْ تَبَرّوا معنى دون معنى من معانـي البرّ, فهو علـى عمومه, والبرّ بذوي القرابة أحد معانـي البرّ.
وأما قوله: وَتَتّقُوا فإن معناه: أن تتقوا ربكم فتـحذروه وتـحذروا عقابه فـي فرائضه وحدوده أن تضيعوها أو تتعدوها, وقد ذكرنا تأويـل من تأول ذلك أنه بـمعنى التقوى قبل.
وقال آخرون فـي تأويـله بـما:
3753ـ حدثنـي به مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس فـي قوله: أنْ تَبَرّوا وَتَتّقُوا قال: كان الرجل يحلف علـى الشيء من البرّ والتقوى لا يفعله, فنهى الله عزّ وجلّ عن ذلك, فقال: وَلا تَـجْعَلُوا اللّهَ عُرْضَةً لأيـمَانِكُمْ أنْ تَبَرّوا وَتَتّقُوا وَتُصْلِـحُوا بَـيْنَ النّاسِ الآية, قال: ويقال: لا يتق بعضكم بعضا بـي, تـحلفون بـي وأنتـم كاذبون لـيصدقكم الناس وتصلـحون بـينهم, فذلك قوله: أنْ تَبَرّوا وَتَتّقُوا... الآية.
وأما قوله: وَتُصْلِـحُوا بَـيْنَ النّاسِ فهو الإصلاح بـينهم بـالـمعروف فـيـما لا مأثم فـيه, وفـيـما يحبه الله دون ما يكرهه.
وأما الذي ذكرنا عن السدي من أن هذه الآية نزلت قبل نزول كفـارات الأيـمان, فقول لا دلالة علـيه من كتاب ولا سنة, والـخبر عما كان لا تدرك صحته إلا بخبر صادق, وإلا كان دعوى لا يتعذر مثلها وخلافها علـى أحد. وغير مـحال أن تكون هذه الآية نزلت بعد بـيان كفـارات الأيـمان فـي سورة الـمائدة, واكتفـي بذكرها هناك عن إعاتها ههنا, إذ كان الـمخاطبون بهذه الآية قد علـموا الواجب من الكفـارات فـي الأيـمان التـي يحنث فـيها الـحالف.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِـيـمٌ.
يعنـي تعالـى ذكره بذلك: والله سميع لـما يقوله الـحالف منكم بـالله إذا حلف, فقال: والله لا أبرّ, ولا أتقـي, ولا أصلـح بـين الناس, ولغير ذلك من قـيـلكم وأيـمانكم, علـيـم بـما تقصدون وتبتغون بحلفكم ذلك, الـخير تريدون أم غيره, لأنـي علام الغيوب وما تضمره الصدور, لا تـخفـى علـيّ خافـية, ولا ينكتـم عنـي أمر عُلن, فظهر أو خفـي فبطن, وهذا من الله تعالـى ذكره تهدد ووعيد. يقول تعالـى ذكره: واتقون أيها الناس أن تظهروا بألسنتكم من القول, أو بأبدانكم من الفعل, ما نهيتكم عنه, أو تضمروا فـي أنفسكم, وتعزموا بقلوبكم من الإرادات والنـيات فعل ما زجرتكم عنه, فتستـحقوا بذلك منـي العقوبة التـي قد عرفتكموها, فإنـي مطلع علـى جميع ما تعلنونه أو تسرّونه