تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 34 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 34

033

وقوله: 216- "كتب" أي فرض، وقد تقدم بيان معناه. بين سبحانه أن هذا: أي فرض القتال عليهم من جملة ما امتحنوا به. والمراد بالقتال قتال الكفار. والكره بالضم: المشقة، وبالفتح: ما أكرهت عليه، ويجوز الضم في معنى الفتح فيكونان لغتين، يقال: كرهت الشيء كرهاً وكرهاً وكراهة وكراهية وأكرهته عليه إكراهاً، وإنما كان الجهاد كرهاً لأن فيه إخراج المال، ومفارقة الأهل والوطن، والتعرض لذهاب النفس، وفي التعبير بالمصدر وهو قوله: "كره" مبالغة، ويحتمل أن يكون بمعنى المكروه كما في قولهم: الدرهم ضرب الأمير. وقوله: "وعسى أن تكرهوا شيئاً" قيل: عسى هنا بمعنى قد، وروي ذلك عن الأصم. وقال أبو عبيدة: عسى من الله إيجاب، والمعنى: عسى أن تكرهوا الجهاد لما فيه من المشقة وهو خير لكم، فربما بغلبون وتظفرون وتغنمون وتؤجرون، ومن مات مات شهيداً، وعسى أن تحبوا الدعة وترك القتال وهو شر لكم، فربما يتقوى عليكم العدو فيغلبكم، ويقصدكم إلى عقر دياركم فيحل بكم أشد مما تخافونه من الجهاد الذي كرهتم مع ما يفوتكم في ذلك من الفوائد العاجلة والآجلة: "والله يعلم" ما فيه صلاحكم وفلاحكم: "وأنتم لا تعلمون". وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي في قوله: "يسألونك ماذا ينفقون" قال: يوم نزلت هذه الآية لم تكن زكاة، وهي النفقة ينفقها الرجل على أهله، والصدقة يتصدق بها فنسختها الزكاة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريج قال: سأل المؤمنون رسول الله صلى الله عليه وسلم أين يضعون أموالهم؟ فنزلت "يسألونك ماذا ينفقون" الآية، فذلك النفقة في التطوع والزكاة سواء ذلك كله. وأخرج ابن المنذر أن عمرو بن الجموح سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ماذا تنفق من أموالنا وأين نضعها؟ فنزلت. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: "كتب عليكم القتال" قال: إن الله أمر النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بمكة بالتوحيد وإقام الصلاة وإيتاء الزكة وأن يكفوا أيديهم عن القتال، فلما هاجر إلى المدينة نزلت سائر الفرائض وأذن لهم في القتال، فنزلت: "كتب عليكم القتال" قال: إن الله أمر النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بمكة بالتوحيد وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وأن يكفوا أيديهم عن القتال، فلما هاجر إلى المدينة نزلت سائر الفرائض وأذن لهم في القتال، فنزلت: "كتب عليكم القتال" يعني فرض عليكم وأذن لهم بعد ما نهاهم عنه "وهو كره لكم" يعني القتال وهو مشقة عليكم "وعسى أن تكرهوا شيئاً" يعني الجهاد قتال المشركين "وهو خير لكم"، ويجعل الله عاقبته فتحاً وغنيمة وشهادة "وعسى أن تحبوا شيئاً" يعني القعود عن الجهاد "وهو شر لكم" فيجعل الله عاقبته شراً، فلا تصيبوا ظفراً ولا غنيمة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن جريج قال: قلت لعطاء ما يقول في قوله: "كتب عليكم القتال" أوجب الغزو على الناس من أجلها؟ قال: لا، كتب على أولئك حينئذ. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن شهاب في الآية قال: الجهاد مكتوب على كل أحد غزا أو قعد، فالقاعد إن استعين به أعان، وإن استغيث به أغاث، وإن استنفر نفر، وإن استغني عنه قعد، وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله: "وهو كره لكم" قال: نسختها هذه الآية: "وقالوا: سمعنا وأطعنا". وأخرجه ابن جرير موصولاً عن عكرمة عن ابن عباس. وأخرج ابن المنذر والبيهقي في سننه من طريق علي قال: عسى من الله واجب. وأخرج ابن المنذر عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي نحوه أيضاً. وقد ورد في فضل الجهاد ووجوبه أحاديث كثيرة لا يتسع المقام لبسطها.
قوله: 217- "قتال فيه" هو بدل اشتمال، قاله سيبويه. ووجهه أن السؤال عن الشهر لم يكن إلا باعتبار ما وقع فيه من القتال. قال الزجاج: المعنى يسألونك عن القتال في الشهر الحرام، وأنشد سيبويه قول الشاعر: فما كان قيس هلكه هلك واحد ولكنه بنيان قوم تهدما فقوله هلكه اشتمال من قيس، وقال الفراء: هو مخفوض يعني قوله: "قتال فيه" على نية عن وقال أبو عبيدة: هو مخفوض على الجوار. قال النحاس: لا يجوز أن يعرب الشيء على الجوار في كتاب الله ولا في شيء من الكلام، وإنما وقع في شيء شاذ، وهو قولهم: هذا جحر ضب خرب. وتابع النحاس ابن عطية في تخطئة أبي عبيدة. قال النحاس: ولا يجوز إضمار عن، والقول فيه أند بدل. وقرأ ابن مسعود وعكرمة: " يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه ". وقرأ الأعرج قتال فيه بالرفع. قال النحاس وهو غامض في العربية، والمعنى: يسألونك عن الشهر الحرام جاشز قتال فيه. وقوله: "قل قتال فيه كبير" مبتدأ وخبر: أي القتال فيه أمر كبير مستنكر، والشهر الحرام: المراد به الجنس. وقد كانت العرب لا تسفك دماً ولا تغير على عدو، والأشهر الحرم هي: ذو القعدة، وذو الحجة ومحرم، ورجب، ثلاثة سرد وواحد فرد. وقوله: "وصد عن سبيل الله" مبتدأ. وقوله: "وكفر به" معطوف على صد. وقوله: "والمسجد الحرام" عطف على سبيل الله. وقوله: "وإخراج أهله منه" معطوف أيضاً على صد.. وقوله: "أكبر عند الله" خبر صد وما عطف عليه: أي الصد عن سبيل الله، والكفر به والصد عن المسجد الحرام، وإخراج أهل الحرم منه "أكبر عند الله" أي أعظم إثماً وأشد ذنباً من القتال في الشهر الحرام كذا قال المبرد وغيره، والضمير في قوله: "وكفر به" يعود إلى الله- وقيل: يعود إلى الحج. وقال الفراء: إن قوله: "وصد" عطف على كبير، والمسجد عطف على الضمير في قوله: "وكفر به" فيكون الكلام منتسقاً متصلاً غير منفصل. قال ابن عطية: وذلك خطأ لأن المعنى يسوق إلى أن قوله: "وكفر به" أي بالله عطف أيضاً على كبير، ويجيء من ذلك أن إخراج أهل المسجد منه أكبر من الكفر بالله، وهذا بين فساده. ومعنى الآية على القول الأول الذي ذهب إليه الجمهور: أنكم يا كفار قريش تستعظمون علينا القتال في الشهر الحرام، وما تفعلون أنتم من الصد عن سبيل الله لمن أراد الإسلام ومن الكفر بالله، ومن الصد عن المسجد الحرام، ومن إخراج أهل الحرم منه أكبر جرماً عند الله. والسبب يشهد لهذا المعنى، ويفيد أنه المراد كما سيأتي بيانه، فإن السؤال منهم المذكور في هذه الآية هو سؤال إنكار لما وقع من السرية التي بعثها النبي صلى الله عليه وسلم. والمراد بالفتنة هنا الكفر: أي كفركم أكبر من القتل الواقع من السرية التي بعثها النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: المراد بالفتنة: الإخراج لأهل الحرم منه، وقيل: المراد بالفتنة التي الكفار عليها. وهذا أرجح من الوجهين الأولين، لأن الكفر والإخراج قد سبق ذكرهما وأنهما مع الصد أكبر عند الله من القتال في الشهر الحرام. وقوله: "ولا يزالون" ابتداء كلام يتضمن الإخبار من الله عز وجل للمؤمنين بأن هؤلاء الكفار لا يزالون مستمرين على قتالكم وعداوتكم حتى يردوكم عن الإسلام إلى الكفر إن استطاعوا ذلك وتهيأ لهم منكم، والتقيد بهذا الشرط مشعر باستبعاد تمكنهم من ذلك وقدرتهم عليه، ثم حذر الله سبحانه المؤمنين من الاغترار بالكفار والدخول فيما يريدونه من ردهم عن دينهم الذي هو الغاية لما يريدونه من المقاتلة للمؤمنين فقال: " ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم " إلى آخر الآية والردة: الرجوع عن الإسلام إلى الكفر، والتقييد بقوله: "فيمت وهو كافر" يفيد أن عمل من ارتد إنما يبطل إذا مات على الكفر. وحبط: معناه بطل وفسد، ومنه الحبط وهو فساد يلحق المواشي في بطونها من كثرة أكلها للكلأ فتنتفخ أجوافها، وربما تموت من ذلك، وفي هذه الآية تهديد للمسلمين ليثبتوا على دين الإسلام. ومعنى قوله: "في الدنيا والآخرة" أنه لا يبقى له حكم المسلمين في الدنيا، فلا يأخذ شيئاً مما سيتحقه المسلمون، ولا يظفر بحظ من حظوظ الإسلام، ولا ينال شيئاً من ثواب الآخرة الذي يوجبه الإسلام ويستحقه أهله. وقد اختلف أهل العلم في الردة هل تحبط العمل بمجردها أم لا تحبط إلا بالموت على الكفر، والواجب حمل ما أطلقته الآيات في غير هذا الموضع على ما في هذه الآية من التقييد. وقد تقدم الكلام في معنى الخلود.
قوله: 218- "وهاجروا" الهجرة معناها الانتقال من موضع إلى موضع، وترك الأول لإيثار الثاني، والهجر ضد الوصل، والتهاجر: التقاطع والمراد بها هنا الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام. والمجاهدة: إستخراج الجهد، جهد مجاهدة وجهاداً، والجهاد والتجاهد: بذل الوسع. وقوله: "يرجون" معناه يطمعون، وإنما قال: يرجون بعد تلك الأوصاف المادحة التي وصفهم بها، لأنه لا يعلم أحد في هذه الدنيا أنه صائر إلى الجنة، ولو بلغ في طاعة الله كل مبلغ. والرجاء الأمل، يقال: رجوت فلاناً أرجوه رجاءً ورجاوة. وقد يكون الرجاء بمعنى الخوف كما في قوله تعالى: "ما لكم لا ترجون لله وقاراً" أي لا تخافون عظمة الله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والبيهقي في سننه بسند صحيح عن جندب بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه بعث رهطاً وبعث عليهم أبا عبيدة بن الجراح أو عبيدة بن الحارث، فلما ذهب لينطلق بكى شوقاً وصبابةً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فجلس فبعث مكانه عبد الله بن جحش وكتب له كتاباً وأمره أن لا يقرأ الكتاب حتى يبلغ مكان كذا وكذا وقال: لا تكرهن أحداً من أصحابك على المسير معك، فلما قرأ الكتاب استرجع وقال: سمعاً وطاعةً لله ولرسوله، فخبرهم الخبر، وقرأ عليهم الكتاب فرجع رجلان ومضى بقيتهم فلقوا ابن الحضرمي فقتلوه، ولم يدروا أن ذلك اليوم من رجب أو جمادى، فقال: المشركون للمسلمين: قتلتم في الشهر الحرام، فأنزل الله: "يسألونك عن الشهر الحرام" الآية، فقال بعضهم: إن لم يكونوا أصابوا وزراً فليس لهم أجر، فأنزل الله "إن الذين آمنوا والذين هاجروا" إلى آخر الآية". وأخرج البزار عن ابن عباس أن سبب نزول الآية هو ذلك. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه قال: إن المشركين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وردوه عن المسجد الحرام في شهر حرام، ففتح الله على نبيه في شهر حرام من العام المقبل، فعاب المشركون على رسول الله صلى الله عليه وسلم القتال في شهر حرام. فقال الله: "قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله" من القتال فيه، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم بعث سرية، فلقوا عمرو بن الحضرمي وهو مقبل من الطائف في آخر ليلة من جمادى وأول ليلة من رجب، وإن أصحاب محمد كانوا يظنون أن تلك الليلة من جمادى، وكانت أول رجب ولم يشعروا فقتله رجل منهم وأخذوا ما كان معه، وأن المشركين أرسلوا يعيرونه بذلك، فنزلت الآية. وأخرج ابن إسحاق عنه: أن سبب نزول الآية مصاب عمرو بن الحضرمي. وقد ورد من طرق كثيرة في تعيين السبب مثل ما تقدم وأخرج ابن أبي داود عن عطاء بن ميسرة قال: أحل القتال في الشهر الحرام في براءة في قوله: "فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كافة". وأخرج ابن أبي حاتم عن سفيان الثوري أنه سئل عن هذه الآية فقال: هذا شيء منسوخ، ولا بأس بالقتال في الشهر الحرام. وأخرج النحاس في ناسخه عن ابن عباس أن هذه الآية منسوخة بآية السيف في براءة "فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم". وأخرج ابن المنذر عن ابن عمر "والفتنة أكبر من القتل" قال: الشرك. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد " ولا يزالون يقاتلونكم " قال: كفار قريش. وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس في قوله: "أولئك يرجون رحمة الله" قال: هؤلاء خيار هذه الأمة جعلهم الله أهل رجاء، إنه من رجا طلب، ومن خاف هرب. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة نحوه.
السائلون في قوله: 219- "يسألونك عن الخمر" هم المؤمنون كما سيأتي بيانه عند ذكر سبب نزول الآية، والخمر مأخوذة من خمر إذا ستر، ومنه خمار المرأة، وكل شيء غطى شيئاً فقد خمرة، ومنه خمروا آنيتكم وسمي خمراً لأنه يخمر العقل: أي يغطيه ويستره، ومن ذلك الشجر الملتف يقال له: الخمر بفتح الميم، لأنه يغطي ما تحته ويستره، يقال منه أخمرت الأرض: كثر خمرها. قال الشاعر: ألا يا زيد والضحاك سيرا فقد جاوزتما خمر الطريق أي جاوزتما الوهد، وقيل: إنما سميت الخمر خمراً لأنها تركت حتى أدركت، كما يقال قد اختمر العجين: أي بلغ إدراكه، وخمر الرأي: أي ترك حتى تبين فيه الوجه، وقيل: إنما سميت الخمر خمراً لأنها تخالط العقل من المخامرة وهي المخالطة. وهذه المعاني الثلاثة متقاربة موجودة في الخمر لأنها تركت حتى أدركت ثم خالطت العقل فخمرته: أي سترته، والخمر: ماء العنب الذي غلا واشتد وقذف بالزبد، وما خامر العقل من غيره فهو في حكمه كما ذهب إليه الجمهور. وقال أبو حنيفة والثوري وابن أبي ليلى وابن عكرمة وجماعة من فقهاء الكوفة: ما أسكر كثيره من غير خمر العنب فهو حلال: أي ما دون المسكر فيه. وذهب أبو حنيفة إلى حل ما ذهب ثلثاه بالطبخ، والخلاف في ذلك مشهور. وقد أطلت الكلام على الخمر في شرحي للمنتقى فليرجع إليه. والميسر مأخوذ من اليسر، وهو وجوب الشيء لصاحبه، يقال يسر لي كذا: إذا وجب فهو ييسر يسراً وميسراً، والياسر اللاعب بالقداح. وقد يسر ييسر. قال الشاعر: فأعنهم وأيسر كما يسروا به وإذا هم نزلوا بضنك فانزل وقال الأزهري: الميسر: الجزور التي كانوا يتقامرون عليه، سمي ميسراً، لأنه يجزأ أجزاء، فكأنه موضع التجزئة، وكل شيء جزأته فقد يسرته، والياسر: الجازر. قال: وهذا الأصل في الياسر، ثم يقال للضاربين بالقداح والمتقامرين على الجزور: ياسرون، لأنهم جازرون، إذ كانوا سبباً لذلك. وقال في الصحاح: ويسر القوم الجزور: إذا اجتزروها واقتسموا أعضاءها، ثم قال: ويقال يسر القوم: إذا قامروا، ورجل ميسر وياسر بمعنى، والجمع أيسار. قال النابغة: إني أتمم أيساري وأمنحهم مشي الأيادي وأكسوا الحفنة الأدما والمراد بالميسر في الآية قمار العرب بالأزلام. قال جماعة من السلف من الصحابة والتابعين ومن بعضهم كل شيء فيه قمار من نرد أو شطرنج أو غيرهما فهو الميسر، حتى لعب الصبيان بالجوز والكعاب إلا ما أبيح من الرهان في الخيل والقرعة في إفراز الحقوق. وقال مالك: الميسر ميسران: ميسر اللهو، وميسر القمار، فمن ميسر اللهو: النرد والشطرنج والملاهي كلها، وميسر القمار: ما يتخاطر الناس عليه، وكل ما قومر به فهو ميسر، وسيأتي البحث مطولاً في هذا في سورة المائدة عند قوله: "إنما الخمر والميسر". قوله: "قل فيهما إثم كبير" يعني الخمر والميسر، فإثم الخمر: أي إثم تعاطيها، ينشأ من فساد عقل مستعملها فيصدر عنه ما يصدر عن فاسد العقل من المخاصمة والمشاتمة، وقول الفحش والزور، وتعطيل الصلوات، وسائر ما يجب عليه. وأما إثم الميسر: أي إثم تعاطيه، فما ينشأ عن ذلك من فقر وذهاب المال في غير طائل، والعداوة وإيجاش الصدور. وأما منافع الخمر فربح التجارة فيها، وقيل: ما يصدر عنها من الطرب والنشاط وقوة القلب وثبات الجنان وإصلاح المعدة وقوة الباءة وقد أشار شعراء العرب إلى شيء من ذلك قال: وإذا شــربت فإنني رب الخورنق والسدير وإذا صحوت فإنني رب الشـويهـة والبعير وقال آخر: ونشربها فتتركنا ملوكاً وأسداً ما ينهنهنا اللقاء وقال من أشار إلى ما فيها من المفاسد والمصالح: رأيت الخمر صالحة وفيها خصال تفسد الرجل الحليما فلا والله أشربها صحيحاً ولا أشـفي بهـا أبداً ســقيما ولا أعطي بها ثمناً حيـاتي ولا أدعــو لهـا أبــداً نــديمـا ومنافع الميسر: مصير الشيء إلى الإنسان بغير تعب ولا كد، وما يحصل من السرور والأربحية عند أن يصير له منها سهم صالح. وسهام الميسر أحد عشر، منها سبعة لها فروض على عدد ما فيها من الحظوظ. الأول الفذ بفتح الفاء بعدها معجمة، وفيه علامة واحدة وله نصيب وعليه نصيب. الثاني التوأم بفتح المثناة الفوقية وسكون الواو وفتح الهمزة، وفيه علامتان، وله وعليه نصيبان. الثالث الرقيب، وفيه ثلاث علامات، وله وعليه ثلاثة أنصباء. الرابع الحلس بمهملتين، الأولى مكسورة واللام ساكنة، وفيه أربع علامات، وله وعليه أربعة أنصباء. الخامس النافر بالنون والفاء والمهملة، ويقال: النافس بالسين المهملة مكان الراء، وفيه خمس علامات، وله وعليه خمسة أنصباء. السادس المسبل بضم الميم وسكون المهملة وفتح الباء الموحدة وفيه ست علامات، وله وعليه ستة أنصباء. السابع المعلى بضم الميم وفتح المهملة وتشديد اللام المفتوحة وفيه سبع علامات، وله وعليه سبعة أنصباء وهو أكثر السهام حظاً، وأعلاها قدراً، فجملة ذلك ثمانية وعشرون فرداً. والجزور تجعل ثمانية وعشرين جزءاً، هكذا قال الأصمعي، وبقي من السهام أربعة أغفالاً لا فروض لها، وهي: المنيح بفتح الميم وكسر النون وسكون الياء التحتية وبعدها مهملة، والسفيح بفتح المهملة وكسر الفاء وسكون الياء التحتية بعدها مهملة، والوفد بفتح الواو وسكون المعجمة بعدها مهملة والضعف بالمعجمة بعدها مهملة ثم فاء، وإنما أدخلوا هذه الأربعة التي لا فروض لها بين ذوات الفروض لتكثر السهام على الذي يجيلها ويضرب بها فلا يجد إلى الميل مع أحد سبيلاً. وقد كان المجيل للسهام يلتحف بثوب ويحثو على ركبتيه ويخرج رأسه من الثوب، ثم يدخل يده في الربابة بكسر المهملة وبعدها باء موحدة وبعد الألف باء موحدة أيضاً، وهي الخريطة التي يجعل فيها السهام، فيخرج منها باسم كل رجل سهماً، فمن خرج له سهم له فرض أخذ فرضه، ومن خرج له سهم لا فرض له لم يأخذ شيئاً وغرم قيمة الجزور، وكانوا يدفعون تلك الأنصباء إلى الفقراء. وقد قال ابن عطية: إن الأصمعي أخطأ في قوله: إن الجزور تقسم على ثمانية وعشرين جزءاً، وقال: إنما تقسم على عشرة أجزاء. قوله تعالى: "وإثمهما أكبر من نفعهما" أخبر سبحانه بأن الخمر والميسر وإن كان فيهما نفع فالإثم الذي يلحق متعاطيهما أكثر من هذا النفع، لأنه لا خير يساوي فساد العقل الحاصل بالخمر، فإنه ينشأ عنه من الشرور ما لا يأتي عليه الحصر، وكذلك لا خير في الميسر يساوي ما فيها من المخاطرة بالمال والتعرض للفقر، واستجلاب العداوات المفضية إلى سفك الدماء وهتك الحرم. وقرأ حمزة والكسائي كثير بالمثلثة. وقرأ الباقون بالباء الموحدة. وقرأ أبي: وإثمهما أقرب من نفعهما. قوله: "قل العفو" قرأه الجمهور بالنصب. وقرأ أبو عمرو وحده بالرفع. واختلف فيه عن ابن كثير، وبالرفع قرأه الحسن وقتادة. قال النحاس: إن جعلت ذا بمعنى الذي كان الاختيار الرفع على معنى الذي ينفقون هو العفو، وإن جعلت ما وذا شيئاً واحداً كان الاختيار النصب على معنى: قل ينفقون العفو، والعفو: ما سهل وتيسر ولم يشق على القلب، والمعنى: أنفقوا ما فضل عن حوائجكم ولم تجهدوا أنفسكم، وقيل: هو ما فضل عن نفقة العيال. وقال جمهور العلماء: هو نفقات التطوع، وقيل: إن هذه الآية منسوخة بآية الزكاة المفروضة، وقيل: هي محكمة، وفي المال حق سوى الزكاة. قوله: "كذلك يبين الله لكم الآيات" أي في أمر النفقة.