تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 362 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 362

361

21-"وقال الذين لا يرجون لقاءنا" هذه المقالة من جملة شبههم التي قدحوا بها في النبوة، والجملة معطوفة على " وقالوا مال هذا " أي وقال المشركون الذين لا يبالون بلقاء الله كما في قول الشاعر: لعمرك ما أرجوا إذا كنت مسلما على أي جنب كان في الله مصرعي أي لا أبالي، وقيل المعنى لا يخافون لقاء ربهم كقول الشاعر: إذا لسعته النحل لم يرجو لسعها وخالفها في بيت نوب عوامل أي لم يخف، وهي لغة تهامة. قال الفراء وضع الرجاء موضع الخوف، وقيل لا يأملون، ومنه قول الشاعر: أترجو أمة قتلت حسيناً شفاعة جده يوم الحساب الحمل على المعنى الحقيقي أولى، فالمعنى: لا يأملون لقاء ما وعدنا على الطاعة من الثواب، ومعلوم أن من لا يرجوا الثواب لا يخاف العقاب "لولا أنزل علينا الملائكة" أي هلا أنزلوا علينا فيخبرونا أن محمداً صادق، أو هلا أنزلوا علينا رسلاً يرسلهم الله "أو نرى ربنا" عياناً فيخبرنا بأن محمداً رسول. ثم أجاب سبحانه عن شبهتهم هذه فقال: " لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا " أي أضمروا الاستكبار عن الحق والعناد في قلوبهم كما في قوله: "إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه"، والعتو مجاوزة الحد في الطغيان والبلوغ إلى أقصى غاياته، ووصفة بالكبر لكون التكلم بما تكلموا به من هذه المقالة الشنيعة في غاية الكبر والعظم فإنهم لم يكتفوا بإرسال البشر حتى طلبوا إرسال الملائكة إليهم،بل جاوزوا ذلك إلى التخيير بينه وبين مخاطبة الله سبحانه ورؤيته في الدنيا من دون أن يكون بينهم وبينه ترجمان، ولقد بلغ هؤلاء الرذالة بأنفسهم مبلغاً هي أحقر وأقل وأرذل من أن تكون من أهله، أو تعد من المستعدين له، وهكذا من جهل قدر نفسه، ولم يقف عند حده، ومن جهلت نفسه قدره رأى غيره منه ما لم يرى.
وانتصاب 22- "يوم يرون الملائكة" بفعل محذوف: أي واذكر يوم يرون الملائكة رؤية ليست على الوجه الذي طلبوه والصورة التي اقترحوها، بل على وجه آخر، وهو يوم ظهورهم لهم عند الموت أو عند الحشر، ويجوز أن يكون انتصاب هذا الظرف بما يدل عليه قوله: "لا بشرى يومئذ للمجرمين" أي يمنعون البشرى يوم يرون، أو لا توجد لهم بشرى فيه، فأعلم سبحانه بأن الوقت الذي يرون فيه الملائكة، وهو وقت الموت، أو يوم القيامة قد حرمهم الله البشرى. قال الزجاج: المجرمون في هذا الموضع الذين اجترموا الكفر بالله " ويقولون حجرا محجورا " أي ويقول الكفار عند مشاهدتهم للملائكة حجرا محجورا ، وهذه كلمة كانوا يتكلمون بها عند لقاء عدو وهجوم نازلة يضعونها موضع الاستعاذة، يقال للرجل أتفعل كذا؟ فيقول حجراً محجوراً: أي حراماً عليك التعرض لي. وقيل إن هذا من قول الملائكة: أي يقولون للكفار حراماً محرماً أن يدخل أحدكم الجنة، ومن ذلك قول الشاعر: ألا أصبحت أسماء حجراً محرماً وأصبحت من أدنى حمومتها حماء أي أصبحت أسماء محرماً، وقال آخر: حنت إلى النخلة القصوى فقلت لها حجر حرام إلا تلك الدهاريس وقد ذكر سيبويه في باب المصادر المنصوبة بأفعال متروك إظهارها هذه الكلمة وجعلها من جملتها.
23- "وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً" هذا وعيد آخر، وذلك أنهم كانوا يعلمون أعملالاً لها صورة الخير: من صلة الرحم، وإغاثة الملهوف وإطعام الطعام وأمثالها، ولم يمنع من الإثابة عليها إلا الكفر الذي هم عليه، فمثلت حالهم وأعمالهم بحال قوم خالفوا سلطانهم واستعصوا عليه فقدم إلى ما معهم من المتاع فأفسده ولم يترك منها شيئاً، وإلا فلا قدوم ها هنا. قال الواحدي: معنى قدمنا عمدنا وقصدنا، يقال: قدم فلان إلى أمر كذا إذا قصده أو عمده، ومنه قول الشاعر: وقدم الخوارج الضلال إلى عباد ربهم فقالوا إن دماءكم لنا حلال وقيل هو قدوم الملائكة أخبر به عن نفسه تعالى، والهباء واحده هباءة، والجمع أهباء. قال النضر بن شميل: الهباء التراب الذي تطيره الريح كأنه دخان. وقال الزجاج: هو ما يدخل في الكوة مع ضوء الشمس يشبه الغبار، وكذا قال الأزهري: والمنثور المفرق، والمعنى: أن الله سبحانه أحبط أعمالهم حتى صارت بمنزلة الهباء المنثور، لم يكتف سبحانه بتشبيه عملهم بالهباء حتى وصفه بأنه متفرق متبدد، وقيل إن الهباء ما أذرته الرياح من يابس أوراق الشجر، وقيل هو الماء المهراق، وقيل الرماد. والأول هو الذي ثبت في لغة العرب ونقله العارفون بها. ثم مير سبحانه حال الأبرار من حال الفجار.
فقال: 24- "أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً" أي أفضل منزلاً في الجنة "وأحسن مقيلاً" أ] موضع قائلة، وانتصاب مستقراً على التمييز. قال الأزهري: القيلولة عند العرب الاستراحة نصف النهار إذا اشتد الحر وإن لم يكن مع ذلك يوم. قال النحاس: والكوفيون يجيزون: العسل أحلى من الخل. وقد أخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "يوم نحشرهم" الآية قال: عيسى وعزير والملائكة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس "قوماً بوراً" قال: هلكى. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن الحسن في قوله: "ومن يظلم منكم" قال: هو الشرك. وأخرج ابن جرير عن ابن جريج قال: يشرك. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة " وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق " يقول: إن الرسل قبل محمد صلى الله عليه وسلم كانوا بهذه المنزلة يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق "وجعلنا بعضكم لبعض فتنة" قال: بلاءً. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن الحسن "وجعلنا بعضكم لبعض فتنة" قال: يقول الفقير لو شاء الله لجعلني غنياً مثل فلان، ويقول السقيم لو شاء الله لجعلني صحيحاً مثل فلان، ويقول الأعمى لو شاء الله لجعلني بصيراً مثل فلان. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "وعتوا عتواً كبيراً" قال: شدة الكفر. وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "يوم يرون الملائكة" قال: يوم القيامة. وأخرج ابن أبي حاتم عن عطية العوفي نحوه. وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد "ويقولون حجراً محجوراً" قال: عوذاً معاذاً، الملائكة تقوله. وفي لفظ قال: حراماً محرماً أن تكون البشرى في اليوم إلا للمؤمنين. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري في قوله: "ويقولون حجراً محجوراً" قال: حراماً محرماً أن نبشركم بما نبشر به المتقين. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن وقتادة "ويقولون حجراً محجوراً" قالا: هي كلمة كانت العرب تقولها، كان الرجل إذا نزلت به شدة قال: حجراً محجوراً حراماً محرماً. وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد "وقدمنا إلى ما عملوا من عمل" قال: عمدنا إلى ما عملوا من خير ممن لا يتقبل منه في الدنيا. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب في قوله: "هباءً منثوراً" قال: الهباء شعاع الشمس الذي يخرج من الكوة. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: الهباء الذي يطير من النار إذا اضطرمت يطير منها الشرر، فإذا وقع لم يكن شيئاً. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه قال: هو ما تسفي الريح وتبثه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضاً قال: هو الماء المهراق. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضاً "خير مستقراً وأحسن مقيلاً" قال: في الغرف من الجنة. وأخرج ابن المبارك في الزهد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال: لا ينصرف النهار من يوم القيامة حتى يقيل هؤلاء وهؤلاء، ثم قرأ "أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً وأحسن مقيلاً".
قوله: 25- "ويوم تشقق السماء بالغمام" وصف سبحانه ها هنا بعض حوادث يوم القيامة، والتشقق التفتح، قرأ عاصم والأعمش ويحيى بن وثاب وحمزة والكسائي وأبو عمرو "تشقق" بتخفيف الشين، وأصله تتشقق، وقرأ الباقون بتشديد الشين على الإدغام واختار القراءة الأولى أبو عبيد، واختار الثانية أبو حاتم، ومعنى تشققها بالغمام: أنها تتشقق عن الغمام. قال أبو علي الفارسي: تشقق السماء وعليها غمام كما تقول: ركب الأمير بسلاحه: أي وعليه سلاحه وخرج بثيابه: أي وعليه ثيابه. ووجه ما قاله أن الباء وعن يتعاقبان كما تقول: رميت بالقوس. وعن القوس وروي أن السماء تتشقق عن سحاب رقيق أبيض، وقيل إن السماء تتشقق بالغمام الذي بينها وبين الناس. والمعنى: أنه يتشقق السحاب بتشقق السماء، وقيل إنها تشقق لنزول الملائكة كما قال سبحانه بعد هذا "ونزل الملائكة تنزيلاً" وقيل إن الباء في بالغمام سببية: أي بسبب الغمام، يعني بسبب طلوعه منها كأنه الذي تتشقق به السماء، وقيل إن الباء متعلقة بمحذوف: أي متلبسة بالغمام. قرأ ابن كثير "ننزل الملائكة" مخففاً، من الإنزال بنون بعدها نون ساكنة وزاي مخففة بكسرة مضارع أنزل، والملائكة منصوبة على المفعولية. وقرأ الباقون من السبعة "ونزل" بضم النون وكسر الزاي المشددة ماضياً مبنياً للمفعول، وقرأ ابن مسعود وأبو رجاء نزل بالتشديد ماضياً مبنياً للفاعل وفاعله الله سبحانه، وقرأ أبي بن كعب أنزل الملائكة وروي عنه أنه قرأ تنزلت الملائكة وقد قرئ في الشواذ بغير هذه، وتأكيد هذا الفعل بقوله تنزيلاً يدل على أن هذا التنزيل على نوع غريب ونمط عجيب. قال أهل العلم: إن هذا تنزيل رضاً ورحمة لا تنزيل سخط وعذاب.
26- "الملك يومئذ الحق للرحمن" الملك مبتدأ، والحق صفة له وللرحمن الخبر كذا قال الزجاج: أي الملك الثابت الذي لا يزول للرحمن يومئذ، لأن الملك الذي يزول وينقطع ليس بملك في الحقيقة، وفائدة التقييد بالظرف أن ثبوت الملك المذكور له سبحانه خاصة في هذا اليوم، وأما فيما عداه من أيام الدنيا فلغيره ملك في الصورة وإن لم يكن حقيقياً. وقيل إن خبر المبتدأ هو الظرف، والحق نعت للملك. والمعنى: الملك الثابت للرحمن خاص في هذا اليوم "وكان يوماً على الكافرين عسيراً" أي وكان هذا اليوم مع كون الملك فيه لله وحده شديداً على الكفار لما يصابون به فيه، وينالهم من العقاب بعد تحقيق الحساب، وأما على المؤمنين فهو يسير غير عسير، لما ينالهم فيه من الكرامة والبشرى العظيمة.
26- "ويوم يعض الظالم على يديه" الظرف منصوب بمحذوف: أي واذكر كما انتصب بهذا المحذوف الظرف الأول، أعني يوم تشقق، ويوم يعض الظالم على يديه الظاهر أن العض هنا حقيقة، ولا مانع من ذلك ولا موجب لتأويله. وقيل هو كناية عن الغيظ والحسرة، والمراد بالظالم كل ظالم يرد ذلك المكان وينزل ذلك المنزل، ولا ينافيه ورود الآية على سبب خاص، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب "يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً" يقول في محل نصب على الحال ومقول القول هو: يا ليتني إلخ، والمنادى محذوف: أي يا قوم ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً طريقاً وهو طريق الحق ومشيت فيه حتى أخلص من هذه الأمور المضلة، والمراد اتباع النبي صلى الله عليه وسلم فيما جاء به.
28- " يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا " دعاء على نفسه بالويل والثبور على مخاللة الكافر الذي أضله في الدنيا، وفلان كناية عن الأعلام. قال النيسابوري: زعم بعض أئمة اللغة أنه لم يثبت استعمال فلان في الفصيح إلا حكاية، لا يقال جاءني فلان، ولكن يقال: قال زيد جاءني فلان، لأنه اسم اللفظ الذي هو علم الاسم، وكذلك جاء في كلام الله. وقيل فلان كناية عن علم ذكور من يعقل، وفلانة عن علم إناثهم. وقيل كناية عن نكرة من يعقل من الذكور، وفلانة عمن يعقل من الإناث، وأما الفلان والفلانة فكناية عن غير العقلاء، وفل يختص بالنداء إلا في ضرورة كقول الشاعر: في لجة أمسك فلانا عن فل وقوله: حدثاني عن فلان وفل وليس فل مرخماً من فلان خلافاً للفراء. وزعم أبو حيان أن ابن عصفور وابن مالك وهما في جعل فلان كناية علم من يعقل. وقرأ الحسن يا ويلتي بالياء الصريحة، وقرأ الدوري بالإمالة. قال أبو علي: وترك الإمالة أحسن، لأن أصل هذه اللفظة الياء فأبدلت الكسرة فتحة، والياء تاءً فراراً من الياء، فمن أمال رجع إلى الذي فر منه.
29- "لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني" أي والله لقد أضلني هذا الذي اتخذته خليلاً عن القرآن أو عن الموعظة أو كلمة الشهادة أو مجموع ذلك، بعد إذ جاءني وتمكنت منه وقدرت عليه "وكان الشيطان للإنسان خذولاً" الخذل ترك الإغاثة، ومنه خذلان إبليس للمشركين حيث يوالونه، ثم يتركهم عند استغاثتهم به، وهذه الجملة مقررة لمضمون ما قبلها، ويحتمل أن تكون من كلام الله تعالى، أو من تمام كلام الظالم، وأنه سمى خليله شيطاناً بعد أن جعله مضلاً، أو أراد بالشيطان إبليس لكونه الذي حلمه على مخاللة المضلين.
30- "وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً" معطوف على "وقال الذين لا يرجون لقاءنا" والمعنى إن قومي اتخذوا هذا القرآن الذي جئت به إليهم وأمرتني بإبلاغه وأرسلتني به مهجوراً متروكاً لم يؤمنوا به، ولا قبلوه بوجه من الوجوه، وقيل هو من هجر إذا هدي. والمعنى: أنهم اتخذوه هجراً وهذياناً. وقيل معنى مهجوراً مهجوراً فيه، ثم حذف الجار، وهجرهم فيه قولهم: إنه سحر وشعر وأساطير الأولين، وهذا القول يقوله الرسول صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، وقيل إنه حكاية لقوله صلى الله عليه وسلم في الدنيا.
31- "وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين" هذا تسلية من الله سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم، والمعنى: أن الله سبحانه جعل لكل نبي من الأنبياء الداعين إلى الله عدواً يعاديه من مجرمي قومه، فلا تجزع يا محمد، فإن هذا دأب الأنبياء قبلك واصبر كما صبروا "وكفى بربك هادياً ونصيراً" قال المفسرون: الباء زائدة: أي كفى ربك، وانتصاب نصيراً وهادياً على الحال، أو التمييز: أي يهدي عباده إلى مصالح الدين والدنيا وينصرهم على الأعداء.
32- "وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة" هذا من جملة اقتراحاتهم وتعنتاتهم: أي هلا نزل الله علينا هذا القرآن دفعة واحدة غير منجم. واختلف في قائل هذه المقالة، فقيل كفار قريش، وقيل اليهود، قالوا: هلا أتيتنا بالقرآن جملة واحدة كما أنزلت التوراة والإنجيل والزبور؟ وهذا زعم باطل ودعوى داحضة، فإن هذه الكتب نزلت مفرقة كما نزل القرآن ولكنهم معاندون، أو جاهلون لا يدرون بكيفية نزول كتب الله سبحانه على أنبيائه، ثم رد الله سبحانه عليهم فقال: "كذلك لنثبت به فؤادك" أي نزلنا القرآن كذلك مفرقاً، والكاف في محل نصب على أنها نعت مصدر محذوف، وذلك إشارة إلى ما يفهم من كلامهم: أي مثل ذلك التنزيل المفرق الذي قدحوا فيه، واقترحوا خلافه نزلناه لنقوي بهذا التنزيل على هذه الصفة فؤادك، فإن إنزاله مفرقا منجماً على حسب الحوادث أقرب إلى حفظك له وفهمك لمعانيه، وذلك من أعظم أسباب التثبيت، واللام متعلقة بالفعل المحذوف الذي قدرناه. وقال أبو حاتم: إن الأخفش قال: إنها جواب قسم محذوف. قال: وهذا قول مرجوح وقرأ عبد الله ليثبت بالتحتية: أي الله سبحانه، وقيل إن هذه الكلمة: أعني كذلك، ثم يبتدأ بقوله: "لنثبت به فؤادك" على معنى أنزلناه عليك متفرقاً لهذا الغرض. قال ابن الأنباري: وهذا أجود وأحسن. قال النحاس: وكان ذلك: أي إنزال القرآن منجماً من أعلام النبوة لأنهم لا يسألونه عن شيء إلا أجيبوا عنه، وهذا لا يكون إلا من نبي، فكان ذلك تثبيتاً لفؤاده، وأفئدتهم "ورتلناه ترتيلاً" هذا معطوف على الفعل المقدر: أي كذلك نزلناه ورتلناه ترتيلاً، ومعنى الترتيل: أن يكون آية بعد آية، قال النخعي والحسن وقتادة. وقيل: إن المعنى بيناه تبييناً، حكي هذا عن ابن عباس. وقال مجاهد: بعضه في إثر بعض. وقال السدي: فصلناه تفصيلاً. قال ابن الأعرابي: ما أعلم الترتيل إلا التحقيق والتبيين. ثم ذكر سبحانه أنهم محجوجون في كل أوان مدفوع قولهم بكل وجه وعلى كل حالة.