تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 364 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 364

363

فقال معجباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم 43- "أرأيت من اتخذ إلهه هواه" قدم المفعول الثاني للعناية كما تقول علمت منطلقاً زيداً: أي أطاع هواه طاعة كطاعة الإله: أي انظر إليه يا محمد وتعجب منه. قال الحسن: معنى الآية لا يهوى شيئاً إلا اتبعه "أفأنت تكون عليه وكيلاً" الاستفهام للإنكار والاستبعاد: أي أفأنت تكون عليه حفيظاً وكفيلاً حتى ترده إلى الإيمان وتخرجه من الكفر، ولست تقدر على ذلك ولا تطيقه، فليست الهداية والضلالة موكولتين إلى مشيئتك، وإنما عليك البلاغ. وقد قيل إن هذه الآية منسوخة بآية القتال. ثم انتقل سبحانه من الإنكار الأول إلى إنكار آخر.
فقال: "أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون" أي أتحسب أن أكثرهم يسمعون ما تتلو عليهم من آيات القرآن ومن المواعظ، أو يعقلون معاني ذلك ويفهمونه حتى تعتني بشأنهم وتطمع في إيمانهم، وليسوا كذلك، بل هم بمنزلة من لا يسمع ولا يعقل. ثم بين سبحانه حالهم وقطع مادة الطمع فيهم فقال: "إن هم إلا كالأنعام" أي ما هم في الانتفاع بما يسمعونه إلا كالبهائم التي هي مسلوبة الفهم والعقل فلا تطمع فيهم، فإن فائدة السمع والعقل مفقودة، وإن كانوا يسمعون ما يقال لهم ويعقلون ما يتلى عليهم، ولكنهم لما لم ينتفعوا بذلك كانوا كالفاقد له. ثم أضرب سبحانه عن الحكم عليهم بأنهم كالأنعام إلى ما هو فوق ذلك فقال: "بل هم أضل سبيلاً" أي أضل من الأنعام طريقاً. قال ربهم الذي خلقهم ورزقهم. وقيل إنما كانوا أضل من الأنعام، لأنه لا حساب عليها ولا عقاب لها، وقيل إنما كانوا أضل لأن البهائم إذا لم تعقل صحة التوحيد والنبوة لم تعتقد بطلان ذلك، بخلاف هؤلاء فإنهم اعتقدوا البطلان عناداً ومكابرةً وتعصباً وغمطاً للحق. وقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "وجعلنا معه أخاه هارون وزيراً" قال: عوناً وعضداً. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "فدمرناهم تدميراً" قال: أهلكناهم بالعذاب. وأخرج ابن جرير عنه قال: الرس قوية من ثمود. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً قال: الرس بئر بأذربيجان، وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن ابن عباس أنه سأل كعباً عن أصحاب الرس قال: صاحب يس الذي "قال يا قوم اتبعوا المرسلين" فرسه قومه في بئر بالأحجار. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير عن محمد بن كعب القرظي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أول الناس يدخل الجنة يوم القيامة العبد الأسود، وذلك أن الله بعث نبياً إلى أهل قرية فلم يؤمن به من أهلها أحد إلا ذلك الأسود، ثم إن أهل القرية غدوا على النبي فحفروا له بئراً فألقوه فيها، ثم أطبقوا عليه بحجر ضخم، فكان ذلك العبد يذهب فيحتطب على ظهره، ثم يأتي بحطبه فيبيعه فيشتري به طعاماً وشراباً، ثم يأتي به إلى تلك البئر، فيرفع تلك الصخرة فيعينه الله عليها، فيدلي طعامه وشرابه ثم يردها كما كانت، فكان كذلك ما شاء الله أن يكون، ثم إنه ذهب يوماً يحتطب كما كان يصنع فجمع حطبه وحزم حزمته وفرغ منها، فلما أراد أن يحملها وجد سنة فاضطجع فنام فضرب على أذنه سنين نائماً، ثم إنه ذهب فتمطى فتحول لشقه الآخر فاضطجع فضرب الله على أذنه سبع سنين أخرى، ثم إنه ذهب فاحتمل حزمته ولا يحسب إلا أنه نام ساعة من نهار، فجاء إلى القرية فباع حزمته، ثم اشترى طعاماً وشراباً كما كان يصنع، ثم ذهب إلى الحفرة في موضعها الذي كانت فيه فالتمسه فلم يجده، وقد كان بدا لقومه فيه بد فاستخرجوه فآمنوا به وصدقوه، وكان النبي يسألهم عن ذلك الأسود ما فعل؟ فيقولون ما ندري حتى قبض ذلك النبي، فأهب الله الأسود من نومته بعد ذلك، إن ذلك الأسود لأول من يدخل الجنة". قال ابن كثير في تفسيره بعد إخراجه: وفيه غرابة ونكارة، ولعل فيه إدراجاً انتهى. الحديث أيضاً مرسل. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن زرارة بن أوفى قال: القرن مائة وعشرون عاماً. وأخرج هؤلاء عن قتادة قال: القرن سبعون سنة. وأخرج ابن مردويه عن أبي سلمة قال: القرن مائة سنة. وقد روي مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "القرن مائة سنة، وقال خمسون سنة، وقال القرن أربعون سنة". وما أظنه يصح شيء من ذلك وقد سمى الجماعة من الناس قرناً كما في الحديث الصحيح "خير القرون قرني". وأخرج الحاكم في الكنى عن ابن عباس قال:" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا انتهى إلى معد بن عدنان أمسك، ثم يقول: كذب النسابون. قال الله: "وقروناً بين ذلك كثيراً" ". وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس "ولقد أتوا على القرية" قال: هي سدوم قرية لوط "التي أمطرت مطر السوء" قال: الحجارة. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "أرأيت من اتخذ إلهه هواه" قال: كان الرجل يعبد الحجر الأبيض زماناً من الدهر في الجاهلية، فإذا وجد حجراً أحسن منه رمى به وعبد الآخر، فأنزل الله الآية. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم في الآية قال: ذلك الكافر لا يهوى شيئاً إلا اتبعه.
لما فرغ سبحانه من ذكر جهالة الجاهلين وضلالتهم أتبعه بذكر طرف من دلائل التوحيد مع ما فيها من عظيم الإنعام، فأولها الاستدلال بأحوا الظل فقال: 45- "ألم تر إلى ربك كيف مد الظل" هذه الرؤية إما بصرية، والمراد بها ألم تبصر إلى صنع ربك، أو ألم تبصر إلى الظل كيف مده ربك، وإما قلبية بمعنى العلم، فإن الظل متغير، وكل متغير حادث، ولكل حادث موجد. قال الزجاج "ألم تر" ألم تعلم، وهذا من رؤية القلب. قال: وهذا الكلام على القلب، والتقدير: ألم تر إلى الظل كيف مده ربك: يعني الظل من وقت الإسفار إلى طلوع الشمس وهو ظل لا شمس معه، وبه قال الحسن وقتادة. وقيل هو من غيبوبة الشمس إلى طلوعها. قال أبو عبيدة: الظل بالغداة الفيء بالعشي، لأنه يرجع بعد زوال الشمس، سمي فيئاً لأنه فاء من المشرق إلى جانب المغرب. قال حميد بن ثور يصف سرحة وكنى بها عن امرأة: فلا الظل من برد الضحى تستطيعه ولا الفيء من برد العشي تذوق وقال ابن السكيت: الظل ما نسخته الشمس، والفيء ما نسخ الشمس. وحكى أبو عبيدة عن رؤية قال: كل ما كانت عليه الشمس فزالت عنه فهو فيء وظل، وما لم تكن عليه الشمس فهو ظل انتهى. وحقيقة الظل أنه أمر متوسط بين الضوء الخالص والظلمة الخالصة، وهذا المتوسط هو أعدل من الطرفين، لأن الظلمة الخالصة يكرهها الطبع وينفر عنها الحس، والضوء الكامل لقوته يبهر الحس البصري ويؤذي بالتسخين، ولذلك وصفت الجنة به بقوله "وظل ممدود" وجملة "ولو شاء لجعله ساكناً" معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه: أي شاء لمنع الشمس الطلوع، والأول أولى. والتعبير بالسكون عن الإقامة والاستقرار سائغ، ومنه قولهم: سكن فلان بلد كذا: إذا أقام به واستقر فيه. وقوله: "ثم جعلنا الشمس عليه دليلاً" معطوف على قوله: مد الظل داخل في حكمه: أي جعلناها علامة يستدل بها بأحوالها ويمتد ويتقلص.
وقوله: "ثم قبضناه" معطوف أيضاً على مد داخل في حكمه. والمعنى: ثم قبضنا ذلك الظل الممدود ومحوناه عند إيقاع شعاع الشمس موقعه بالتدريج حتى انتهى ذلك الإظلال إلى العدم والاضمحلال. وقيل المراد في الآية قبضه عند قيام الساعة بقبض أسبابه. وهي الأجرام النيرة، والأول أولى. والمعنى: أن الظل يبقى في هذا الجو من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، فإذا طلعت الشمس صار الظل مقبوضاً وخلفه في هذا الجو شعاع الشمس، فأشرقت على الأرض وعلى الأشياء إلى وقت غروبها، فإذا غربت فليس هناك ظل، إنما فيه بقية نور النهار، وقال قوم: قبضه بغروب الشمس، لأنها إذا لم تغرب فالظل فيه بقية، وإنما يتم زواله بمجيء الليل ودخول الظلمة عليه. وقيل المعنى: ثم قبضنا ضياء الشمس بالفيء "قبضاً يسيراً" ومعنى إلينا: أن مرجعه إليه سبحانه كما أن حدوثه منه قبضاً يسيراً: أي على تدريج قليلاً قليلاً بقدر ارتفاع الشمس، وقيل يسيراً سريعاً، وقيل المعنى يسيراً علينا: أي يسيراً قبضه علينا ليس بعسير.
47- "وهو الذي جعل لكم الليل لباساً" شبه سبحانه ما يستر من ظلام الليل باللباس الساتر. قال ابن جرير: وصف الليل باللباس تشبيهاً من حيث أنه يستر الأشياء ويغشاها، واللام متعلقة بجعل "والنوم سباتاً" أي وجعل النوم سباتاً: أي راحة لكم لأنكم تنقطعون عن الاشتغال، وأصل السبات التمدد: يقال سبتت المرأة شعرها: أي نقضته وأرسلته، ورجل مسبوت: أي ممدود الخلقة. وقيل للنوم ثبات، لأنه بالتمدد يكون، وفي التمدد معنى الراحة. وقيل السبت القطع، فالنوم انقطاع عن الاشتغال، ومنه سبت اليهود لانقطاعهم عن الاشتغال. قال الزجاج: السبات النوم، وهو أن ينقطع عن الحركة والروح في بدنه: أي جعلنا نومكم راحة لكم. وقال الخليل: السبات نوم ثقيل: أي جعلنا نومكم ثقيلاً ليكمل الإجمام والراحة "وجعل النهار نشوراً" أي زمان بعث من ذلك السبات، شبه اليقظة بالحياة كما شبه النوم بالسبات الشبيه بالممات. وقال في الكشاف: إن السبات الموت، واستدل على ذلك بكون النشور في مقابلته.
48- " وهو الذي أرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته " قرئ "الريح" وقرئ "بشراً" بالباء الموحدة وبالنون، وقدم تقدم تفسير هذه الآية مستوفى في الأعراف "وأنزلنا من السماء ماءً طهوراً" أي يتطهر به كما يقال وضوء للماء الذي يتوضأ به. قال الأزهري: الطهور في اللغة الطاهر المطهر، والطهور ما يتطهر به. قال ابن الأنباري: الطهور بفتح الطاء الاسم، وكذلك الوضوء والوقود، وبالضم المصدر، هذا هو المعروف في اللغة، وقد ذهب الجمهور إلى أن الطهور هو الطاهر المطهر، ويؤيد ذلك كونه بناء مبالغة. وروي عن أبي حنيفة أنه قال: الطهور هو الطاهر، واستدل لذلك بقوله تعالى: "وسقاهم ربهم شراباً طهوراً" يعني طاهراً، ومنه قول الشاعر: خليلي هل في نظرة بعد توبة أداوي بها قلبي علي فجور‌ إلى رجح الأكفال غيد من الظبى عذاب الثنايا ريقهن طهور فوصف الريق بأنه طهور وليس بمطهر، ورجح القول الأول ثعلب. وهو راجح لما تقدم من حكاية الأزهري لذلك عن أهل اللغة. وأما وصف الشاعر للريق بأنه طهور، فهو على طريق المبالغة، وعلى كل حال فقد ورد الشرع بأن الماء طاهر في نفسه مطهر لغيره، قال الله تعالى: "وينزل عليكم من السماء ماءً ليطهركم به". وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "خلق الماء طهوراً"أولثم ذكر سبحانه علة الإنزال.
فقال: 49- "لنحيي به" أي بالماء المنزل من السماء "بلدة ميتاً" وصف البلدة بميتاً، وهي صفة للمذكر لأنه بمعنى البلد. وقال الزجاج: أراد بالبلد المكان، والمراد بالأحياء هنا إخراج النبات من المكان الذي لا نبات فيه "ونسقيه مما خلقنا أنعاماً وأناسي كثيراً" أي نسقي ذلك الماء، قرأ أبو عمرو وعاصم في رواية عنهما وأبو حيان وابن أبي عبلة بفتح النونو من نسقيه وقرأ الباقون بضمها، و من في مما خلقنا للابتداء، وهي متعلقة بنسقيه، ويجوز أن تتعلق بمحذوف على أنه حال، والأنعام قد تقدم الكلام عليها، والأناسي جمع إنسان على ما ذهب إليه سيبويه. وقال الفراء والمبرد والزجاج: إنه جمع إنسي، وللفراء قول آخر: إنه جمع إنسان، والأصل أناسين مثل سرحان وسراحين وبستان وبساتين، فجعلوا الباء عوضاً من النون.
50- "ولقد صرفناه بينهم ليذكروا" ضمير صرفناه ذهب الجمهور إلى أنه راجع إلى ما ذكر من الدلائل: أي كررنا أحوال الإظلال، وذكر إنشاء السحاب وإنزال المطر في القرآن وفي سائر الكتب السماوية ليتفكروا ويعتبروا "فأبى أكثر الناس" هم إلا كفران النعمة وجحدها. وقال آخرون: إنه يرجع إلى أقرب المذكورات وهو المطر: أي صرفنا المطر بينهم في البلدان المختلفة، فنزيد في بعض البلدان وننقص في بعض آخر منها، وقيل الضمير راجع إلى القرآن، وقد جرى ذكره في أول السورة حيث قال: "تبارك الذي نزل الفرقان على عبده". وقوله: "لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني" وقوله " اتخذوا هذا القرآن مهجورا " والمعنى : ولقد كررنا هذا القرآن بإنزال آياته بين الناس ليذكروا به ويعتبروا بما فيه، فأبى أكثرهم "إلا كفوراً" به، وقيل هو راجع إلى الريح، وعلى رجوع الضمير إلى المطر، فقد اختلف في معناه، فقيل ما ذكرناه. وقيل صرفناه بينهم وابلاً وطشاً وطلاً ورذاذاً، وقيل تصريفه تنويع الانتفاع به في الشرب والسقي والزراعات به والطهارات. قال عكرمة: إن المراد بقوله: " فأبى أكثر الناس إلا كفورا " هو قولهم: في الأنواء مطرنا بنوء كذا. وقرأ عكرمة صرفناه مخففاً، وقرأ الباقون بالتثقيل. وقرأ حمزة والكسائي "ليذكروا" مخففة الذال من الذكر، وقرأ الباقون بالتثقيل من التذكر.
51- "ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيراً" أي رسولاً ينذرهم كما قسمنا المطر بينهم، ولكنا لم نفعل ذلك بل جعلنا نذيراً واحداً، وهو أنت يا محمد، فقابل ذلك بشكر النعمة.
52- "فلا تطع الكافرين" فيما يدعونك إليه من اتباع آلهتهم، بل اجتهد في الدعوة واثبت فيها والضمير في قوله: "وجاهدهم به جهاداً كبيراً" راجع إلى القرآن: أي جاهدهم بالقرآن واتل عليهم ما فيه من القوارع والزواجر والأوامر والنواهي. وقيل الضمير يرجع إلى الإسلام، وقيل بالسيف، والأول أولى. وهذه السورة مكية، والأمر بالقتال إنما كان بعد الهجرة. وقيل الضمير راجع إلى ترك الطاعة المفهوم من قوله: "فلا تطع الكافرين" وقيل الضمير يرجع إلى ما دل عليه قوله: "ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيراً" لأنه سبحانه لو بعث في كل قرية نذيراً لم يكن على كل نذير إلا مجاهدة القرية التي أرسل إليها، وحين اقتصر على نذير واحد لكل القرى وهو محمد صلى الله عليه وسلم فلا جرم اجتمع عليه كل المجاهدات، فكبر جهاده، وعظم وصار جامعاً لكل مجاهدة، ولا يخفى ما في هذين الوجهين من البعد. ثم ذكر سبحانه دليلاً رابعاً على التوحيد.
فقال: 53- "وهو الذي مرج البحرين" مرج خلى وخلط وأرسل، يقال مرجت الدابة وأمرجتها: إذا أرسلتها في المرعى وخليتها تذهب حيث تشاء قال مجاهد: أرسلهما وأفاض أحدهما إلى الآخر. وقال ابن عرفة: خلطهما فهما يلتقيان، يقال مرجته: إذا خلطته، ومرج الدين والأمر: اختلط واضطرب، ومنه قوله: "في أمر مريج" وقال الأزهري "مرج البحرين" خل بينهما، يقال مرجت الدابة: إذا خليتها ترعى. وقال ثعلب: المرج الإجراء، فقوله: "مرج البحرين" أي أجراهما. قال الأخفش: ويقول قوم أمرج البحرين مثل مرج، فعل وأفعل بمعنى "هذا عذب فرات" الفرات البليغ العذوبة، وهذه الجملة مستأنفة جواب سؤال مقدر كأنه قيل كيف مرجهما؟ فقيل هذا عذب وهذا ملح، ويجوز أن يكون في محل نصب على الحال. قيل سمي الماء الحلو فراتاً لأنه يفرت العطش: أي يقطعه ويكسره "وهذا ملح أجاج" أي بليغ الملوحة هذا معنى الأجاج، وقيل الأجاج البليغ في الحرارة وقيل البليغ في المرارة، وقرأ طلحة ملح بفتح الميم وكسر اللام "وجعل بينهما برزخاً وحجراً محجوراً" البرزخ الحاجز والحائل الذي جعله الله بينهما من قدرته يفصل بينهما ويمنعهما التمارج، ومعنى "حجراً محجوراً" ستراً مستوراً يمنع أحدهما من الاختلاط بالآخر، فالبرزخ الحاجز، والحجز المانع. وقيل معنى "حجراً محجوراً" هو ما تقدم من أنها كلمة يقولها المتعوذ كأن كل واحد من البحرين يتعوذ من صاحبه، ويقول له هذا القول، وقيل حداً محدوداً. وقيل المراد من البحر العذب الأنهار العظام كالنيل والفرات وجيحون، ومن البحر الأجاج البحار المشهورة، والبرزخ بينهما الحائل من الأرض. وقيل معنى "حجراً محجوراً" حراماً محرماً أن يعذب هذا المالح بالعذب، أو يملح هذا العذب بالمالح، ومثل هذه الآية قوله سبحانه في سورة الرحمن " مرج البحرين يلتقيان * بينهما برزخ لا يبغيان " ثم ذكر سبحانه حالة من أحوال خلق الإنسان والماء.
فقال: 54- "وهو الذي خلق من الماء بشراً فجعله نسباً وصهراً" والمراد بالماء هنا ماء النطفة: أي خلق من ماء النطفة إنساناً فجعله نسباً وصهراً وقيل المراد بالماء الماء المطلق الذي يراد في قوله: "وجعلنا من الماء كل شيء حي" والمراد بالنسب هو الذي لا يحل نكاحه. قال الفراء والزجاج: واشتقاق الصهر من صهرت الشيء: إذا خلطته، وسميت المناكح صهراً لاختلاط الناس بها. وقيل الصهر قرابة النكاح، فقرابة الزوجة هم الأختان، وقرابة الزوج هم الأحماء، والأصهار تعمهما، قاله الأصمعي. قال الواحدي. قال المفسرون: النسب سبعة أصناف من القرابة يجمعها قوله: "حرمت عليكم أمهاتكم" إلى قوله: "وأمهات نسائكم" ومن هنا إلى قوله: "وأن تجمعوا بين الأختين" تحريم بالصهر، وهو الخلطة التي تشبه القرابة، حرم الله سبعة أصناف من النسب، سبعة من جهة الصهر، قد اشتملت الآية المذكورة على ستة منها، والسابعة قوله: "ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء" وقد جعل ابن عطية والزجاج وغيرهما الرضاع من جملة النسب، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" "وكان ربك قديراً" أي بليغ القدرة عظيمها، ومن جملة قدرته الباهرة خلق الإنسان وتقسيمه إلى القسمين المذكورين. وقد أخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ألم تر إلى ربك كيف مد الظل" قال: بعد الفجر قبل أن تطلع الشمس. وأخرج ابن أبي حاتم عنه بلفظ: ألم تر أنك إذا صليت الفجر كان بين مطلع الشمس إلى مغربها ظلا ثم بعث الله عليه الشمس دليلاً فقبض الظل. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً في الآية قال: مد الظل ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس " ولو شاء لجعله ساكنا "قال : دائما " ثم جعلنا الشمس عليه دليلا " يقول : طلوع الشمس "ثم قبضناه إلينا قبضاً يسيراً" قال: سريعاً. وأخرج أهل السنن وأحمد وغيرهم من حديث أبي سعيد قال: "قيل يا رسول الله أنتوضأ من بئر بضاعة؟ وهي بئر يلقى فيها الحيض ولحوم الكلاب والنتن، فقال: إن الماء طهور لا ينجسه شيء". وفي إسناد هذا الحديث كلام طويل قد استوفيناه في شرحنا على المنتقى. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: ما من عام بأقل مطراً من عام، ولكن الله يصرفه حيث يشاء، ثم قرأ هذه الآية "ولقد صرفناه بينهم ليذكروا" الآية. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "وجاهدهم به" قال: بالقرآن. وأخرج ابن جرير عنه "هو الذي مرج البحرين" يعني خلط أحدهما على الآخر فليس يفسد العذب المالح وليس يفسد المالح العذب. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: "وحجراً محجوراً" يقول: حجر أحدهما عن الآخر بأمره وقضائه. وأخرج عبد بن حميد عن عبد الله بن المغيرة قال: سئل عمر بن الخطاب عن نسباً وصهراً فقال: ما أراكم إلا وقد عرفتم النسب، وأما الصهر: فالأختان والصحابة.
لما ذكر سبحانه دلائل التوحيد عاد إلى ذكر قبائح الكفار وفضائح سيرتهم فقال 55- " ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم " إن عبدوه "ولا يضرهم" إن تركوه "وكان الكافر على ربه ظهيراً" الظهر المظاهر: أي المعاون على ربه بالشرك والعداوة، والمظاهرة على الرب هي المظاهرة على رسوله أو على دينه. قال الزجاج: لأنه يتابع الشيطان ويعاونه على معصية الله، لأن عبادتهم للأصنام معاونة للشيطان. وقال أبو عبيدة: المعنى وكان الكافر على ربه هيناً ذليلاً، من قول العرب ظهرت به: أي جعلته خلف ظهرك لم تلتفت إليه، ومنه قوله: "واتخذتموه وراءكم ظهرياً" أي هيناً، ومنه أيضاً قول الفرزدق: تميم بن بدر لا تكونن حاجتي بظهر فلا يعيا علي جوابها وقيل إن المعنى: وكان الكافر على ربه الذي يعبده وهو الصنم قوياً غالباً يعمل به ما يشاء، لأن الجماد لا قدرة له على دفع ونفع، ويجوز أن يكون الظهير جمعاً كقوله: "والملائكة بعد ذلك ظهير" والمعنى: أن بعض الكفرة مظاهر لبعض على رسول الله أو على دين، والمراد بالكافر هنا الجنس، ولا ينافيه كون سبب النزول هو كافر معين كما قيل إنه أبو جهل.