تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 371 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 371

370

84- "واجعل لي لسان صدق في الآخرين" أي اجعل لي ثناءً حسناً في الآخرين الذين يأتون بعدي إلى يوم القيامة. قال القتيبي: وضع اللسان موضع القول على الاستعارة. لأن القول يكون به. وقد تكني العرب بها عن الكلمة، ومنه قول الأعشى: إني أتتني لسان لا أسر بها وقد أعطى الله سبحانه إبراهيم ذلك بقوله: "تركنا عليه في الآخرين" فإن كل أمة تتمسك به وتعظمه. وقال مكي: قيل معنى سؤاله أن يكون من ذريته في آخر الزمان من يقوم بالحق، فأجيبت دعوته في محمد صلى الله عليه وسلم، ولا وجه لهذا التخصيص. وقال القشيري: اراد الدعاء الحسن إلى قيام الساعة، ولا وجه لهذا أيضاً، فإن لسان الصدق أعم من ذلك.
85- "واجعلني من ورثة جنة النعيم" من ورثة يحتمل أن يكون مفعولاً ثانياً، وأن يكون صفة لمحذوف هو المفعول الثاني: أي وارثاً من ورثة جنة النعيم، لما طلب عليه السلام بالدعوة الأولى سعادة الدنيا طلب بهذه الدعوة سعادة الآخرة، وهي جنة النعيم، وجعلها مما يورث تشبيهاً لغنيمة الآخرة بغنيمة الدنيا، وقد تقدم معنى الوراثة في سورة مريم.
86- "واغفر لأبي إنه كان من الضالين" كان أبوه قد وعده أنه يؤمن به، فاستغفر له فلما تبين له أنه عدو الله تبرأ منه، وقد تقدم تفسير هذا مستوفى في سورة التوبة وسورة مريم، ومعنى من الضالين من المشركين الضالين عن طريق الهداية، وكان زائدة على مذهب سيبويه كما تقدم في غير موضع.
87- "ولا تخزني يوم يبعثون" أي لا فتضحني على رؤوس الأشهاد بمعاتبتي، أو لا تعذبني يوم القيامة، أو لا تخزني بتعذيب أبي أو ببعثه في جملة الضالين، والإخزاء يطلق على الخزي وهو الهوان، وعلى الخزاية وهي الحياء.
و 88- "يوم لا ينفع مال ولا بنون" بدل من يوم يبعثون: أي يوم لا ينفع فيه المال والبنون أحداً من الناس، والابن هو أخص القرابة وأولاهم بالحماية والدفع والنفع، فإذا لم ينفع فغيره من القرابة والأعوان بالأولى. وقال ابن عطية: إن هذا وما بعده من كلام الله، وهو ضعيف.
والاستثناء بقوله: "إلا من أتى الله بقلب سليم" قيل هو منقطع: أي لكن من أتى الله بقلب سليم. قال في الكشاف: إلا حال من أتى الله بقلب سليم، فقدر مضافاً محذوفاً. قال أبو حيان: ولا ضرورة تدعو إلى ذلك. وقيل إن هذا الاستثناء بدل من المفعول المحذوف، أو مستثنى منه، إذ التقدير لا ينفع مال ولا بنون أحداً من الناس إلا من كانت هذه صفته، ويحتمل أن يكون بدلاً من فاعل ينفع، فيكون مرفوعاً. قال أبو البقاء: فيكون التقدير: إلا مال من أو بنو من فإنه ينفع. واختلف في معنى القلب السليم، فقيل السلم من الشرك، فأما الذنوب فليس يسلم منها أحد، قال أكثر المفسرين. وقال سعيد بن المسيب: القلب السليم الصحيح، وهو قلب المؤمن، لأن قلب الكافر والمنافق مريض، وقيل هو القلب الخالي عن البدعة المطمئن إلى السنة، وقيل السالم من آفة المال والبنين. وقال الضحاك: السليم الخالص. وقال الجنيد السليم في اللغة اللديغ، فمعناه: أنه قلب كاللديغ من خوف الله تعالى، وهذا تحريف وتعكيد لمعنى القرآن. قال الرازي: أصح الأقوال أن المراد منه سلامة النفس عن الجهل والأخلاق الرذيلة.
90- "وأزلفت الجنة للمتقين" أي قربت وأدنيت لهم يلدخلوها. وقال الزجاج: قرب دخولهم إياها ونظرهم إليها.
91- "وبرزت الجحيم للغاوين" أي جعلت بارزة لهم، والمراد بالغاوين الكافرون، والمعنى: أنها أظهرت قبل أن يدخلها المؤمنون ليشتد حزن الكافرين ويكثر سرور المؤمنين.
92- "وقيل لهم أين ما كنتم تعبدون".
93- "من دون الله" من الأصنام والأنداد "هل ينصرونكم" فيدفعون عنكم العذاب "أو ينتصرون" بدفعه عن أنفسهم. وهذا كله توبيخ وتقريع لهم، وقرأ مالك بن دينار وبرزت بفتجح الباء والراء مبيناً للفاعل.
94- "فكبكبوا فيها هم والغاوون" أي ألقوا في جهنم هم: يعني المعبودين، والغاوون: يعني العابدين لهم. وقيل معنى كبكبوا: قلبوا على رؤوسهم، وقيل ألقي بعضهم على بعض، وقيل جمعوا، مأخوذ من الكبكبة وهي الجماعة قال الهروي. وقال النحاس: هو مشتق من كوكب الشيء: أي معظمه، والجماعة من الخيل كوكب وكبكبة، وقيل دهدهوا، وهذه المعاني متقاربة، وأصله كببوا بباءين الأولى مشددة من حرفين، فأبدل من الباء الوسطى الكاف. وقد رجح الزجاج أن المعنى: طرح بعضهم على بعض. ورجح ابن قتيبة أن المعنى: ألقوا على رؤوسهم. وقيل الضمير في كبكبوا لقريش، والغاوون الآلهة، والمراد بجنود إبليس شياطينه الذي يغوون العباد، وقيل ذريته وقيل كل من يدعو إلى عبادة الأصنام.
و 95- "أجمعون" تأكيد للضمير في كبكبوا وما عطف عليه.
وجملة 96- "قالوا وهم فيها يختصمون" مستأنفة جواب سؤال مقدر، كأنه قيل ماذا قالوا حين فعل بهم ما فعل.
ومقول القول 97- "تالله إن كنا لفي ضلال مبين" وجملة: وهم فيها يختصمون في محل نصب على الحال: أي قالوا هذه المقالة حال كونهم في جهنم مختصمين، و إن في إن كنا هي المخففة من الثقيلة واللام فارقة بينها وبين النافية: أي قالوا تالله إن الشأن كوننا في ضلال واضح ظاهر، والمراد بالضلال هنا الخسار والتبار والحيرة عن الحق، والعامل في الظرف.
أعني 98- "إذ نسويكم برب العالمين" هو كونهم في الضلال المبين. وقيل العامل هو الضلال، وقيل ما يدل عليه الكلام، كأنه قيل ضللنا وقت تسويتنا لكم برب العالمين. وقال الكوفيون: إن إن في إن كنا نافية واللام بمعنى إلا: أي ما كنا إلا في ضلال مبين. والأول أولى، وهو مذهب البصريين.
99- "وما أضلنا إلا المجرمون".
100- "فما لنا من شافعين" يشفعون لنا من العذاب كما للمؤمنين.
101- " ولا صديق حميم " أي ذي قرابة، والحميم القريب الذي توده ويودك، ووحد الصديق لما تقدم غير مرة أنه يطلق على الواحد والاثنين والجماعة والمذكر والمؤنث، والحميم مأخوذ من حامة الرجل، أي أقربائه، ويقال حم الشيء وأحم إذا قرب منه، ومنه الحمى لأنه يقرب من الأجل. وقال علي بن عيسى: إنما سمي القريب حميماً لأنه يحمي لغضب صاحبه، فجعله مأخوذاً من الحمية.
102- "فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين" هذا منهم على طريق التمني الدال على كمال التحسر كأنهم قالوا: فليت لنا كرة: أي رجعة إلى الدنيا، وجواب التمني فنكون من المؤمنين: أي نصير من جملتهم.
والإشارة بقوله: 103- "إن في ذلك لآية" إلى ما تقدم ذكره من نبأ إبراهيم، والآية العبرة والعلامة، والتنوين يدل على التعظيم والتفخيم "وما كان أكثرهم مؤمنين" أي أكثر هؤلاء الذين يتلو عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم نبأ إبراهيم، وهم قريش ومن دان بدينهم. وقيل وما كان أكثر قوم إبراهيم بمؤمنين، وهو ضعيف لأنهم كلهم غير مؤمنين.
104- "وإن ربك لهو العزيز الرحيم" أي هو القاهر لأعدائه الرحيم بأوليائه، أو الرحيم للأعداء بتأخير عقوبتهم وترك معاجلتهم. وقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "وألحقني بالصالحين" يعني بأهل الجنة. وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله: "واجعل لي لسان صدق في الآخرين" قال: اجتماع أهل الملل على إبراهيم. وأخرج عنه أيضاً "واغفر لأبي" قال: أمنن عليه بتوبة يستحق بها مغفرتك. وأخرج البخاري وغيره من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة وغبرة، فيقول له إبراهيم: ألم أقل لك لا تعصني، فيقول أبوه: فاليوم لا أعصينك، فيقول إبراهيم: رب إنك وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون، فأي خزي أخزى من أبي الأبعد؟ فيقول الله: إني حرمت الجنة على الكافرين، والذيخ هو الذكر من الضباع، فكأنه حول آزر إلى صورة ذيخ. وقد أخرجه النسائي بأطول من هذا. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "إلا من أتى الله بقلب سليم" قال: شهادة أن لا إله إلا الله. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه "فكبكبوا فيها" قال: جمعوا فيها "هم والغاوون" قال: مشركو العرب والآلهة. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً "فلو أن لنا كرة" قال رجعة إلى الدنيا "فنكون من المؤمنين" حتى تحل لنا الشفاعة كما حلت لهؤلاء.
قوله: 105- "كذبت قوم نوح المرسلين" أنث الفعل لكونه مسنداً إلى قوم، وهو في معنى الجماعة أو الأمة أو القبيلة، وأوقع التكذيب على المرسلين، وهم لم يكذبوا إلا الرسول المرسل إليهم، لأن من كذب رسولاً فقد كذب الرسل، لأن كل رسول يأمر بتصديق غيره من الرسل. وقيل كذبوا نوحاً في الرسالة وكذبوه فيما أخبرهم به من مجيء المرسلين بعده.
106- "إذ قال لهم أخوهم نوح" أي أخوهم من أبيهم، لا أخوهم في الدين. وقيل هي أخوة المجانسة، وقيل هو من قول العرب: يا أخا بني تميم، يريدون واحداً منهم "ألا تتقون" أي ألا تتقون الله بترك عبادة الأصنام وتجيبون رسوله الذي أرسله إليكم.
107- "إني لكم رسول أمين" أي إني لكم رسول من الله أمين فيما أبلغكم عنه، وقيل أمين فيما بينكم، فإنهم كانوا قد عرفوا أمانته وصدقه.
108- "فاتقوا الله وأطيعون" أي اجعلوا طاعة الله وقاية لكم من عذابه وأطيعون فيما آمركم به عن الله من الإيمان به وترك الشرك والقيام بفرائض الدين.
109- "وما أسألكم عليه من أجر" أي ما أطلب منكم أجراً على تبليغ الرسالة ولا أطمع في ذلك منكم "إن أجري" الذي أطلبه وأريده "إلا على رب العالمين" أي على ما أجري إلا عليه.
وكرر قوله: 110- "فاتقوا الله وأطيعون" للتأكيد والتقرير في النفوس مع كونه علق كل واحد منهم بسبب، وهو الأمانة في الأول، وقطع الطمع في الثاني، ونظيره قولك: ألا تتقي الله في عقوقي وقد ربيتك صغيراً، ألا تتقي الله في عقوقي وقد علمتك كبيراً، وقد تقدم الآمر بتقوى الله على الأمر بطاعته، لأن تقوى الله علة لطاعته.
111- "قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون" وهم جمع أرذل، وجمع التكسير أرذال، والأنثى رذلى، وهم الأقلون جاهاً ومالاً والرذاله الخسة والذلة، استرذلوهم لقلة أموالهم وجاههم، أو لا تضاع أنسابهم. وقيل كانوا من أهل الصناعات الخسيسة، وقد تقدم تفسير هذه الآيات في هود. وقرأ ابن مسعود والضحاك ويعقوب الحضرمي " واتبعك الأرذلون " قال النحاس: وهي قراءة حسنة، لأن هذه الواو تتبعها الأسماء كثيراً، وأتباع جمع تابع، فأجابهم نوح بقوله: "وما علمي بما كانوا يعملون" كان زائدة، والمعنى: وما علمين بعلمهم: أي لم أكلف العلم بأعمالهم، إنما كلفت أن أدعوعم إلى الإيمان والاعتبار به، لا بالحرف والصنائع والفقر والغنى، وكأنهم أشاروا بقولهم: "واتبعك الأرذلون" إلى أن إيمانهم لم يكن عن نظر صحيح فأجابهم بهذا وقيل المعنى: إني لم أعلم أن الله سيهديهم ويضلكم.