تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 379 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 379

378

24- "وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله" أي يعبدونها متجاوزين عبادة الله سبحانه، قيل كانوا مجوساً، وقيل زنادقة "وزين لهم الشيطان أعمالهم" التي يعملونها، وهي عبادة الشمس وسائر أعمال الكفر "فصدهم عن السبيل" أي صدهم الشيطان بسبب ذلك التزيين عن الطريق الواضح، وهو الإيمان بالله وتوحيده "فهم لا يهتدون" إلى ذلك.
25- " أن لا يسجدوا " قرأ الجمهور بتشديد "ألا". قال ابن الأنباري: الوقف على فهم لا يهتدون غير تام عند من شدد ألا، لأن المعنى: وزين لهم الشيطان الا يسجدوا. قال النحاس: هي أن دخلت عليها لا، وهي في موضع نصب. قال الأخفش: أي زين لهم أن لا يسجدوا لله بمعنى لئلا يسجدوا لله. وقال الكسائي: هي في موضع نصب بصدهم: أي فصدهم ألا يسجدوا بمعنى لئلا يسجدوا، فهو على الوجهين مفعول له. وقال اليزيدي: إنه بدل من أعمالهم في موضع نصب. وقال أبو عمرو: في موضع خفض على البدل من السبيل. وقيل العامل فيها لا يهتدون: أي فهم لا يهتدون أن يسجدوا لله، وتكون لا على هذا زائدة كقوله: " ما منعك أن لا تسجد " وعلى قراءة الجمهور ليس هذه الآية موضع سجدة، لأن ذلك إخبار عنهم بترك السجود: إما بالتزيين أو بالصد، أو بمنع الاهتداء، وقد رجح كونه علة للصد الزجاج، ورجح الفراء كونه علة لزين، قال: زين لهم أعمالهم لئلا يسجدوا، ثم حذفت اللام. وقرأ الزهري والكسائي بتخفيف "ألا". قال الكسائي: ما كنت أسمع الأشياخ يقرأونها إلا بالتخفيف على نية الأمر، فتكون "ألا" على هذه القراءة حرف تنبيه واستفتاح وما بعدها حرف نداء، واسجدوا فعل أمر، وكان حق الخط على هذه القراءة أن يكون هكذا ألا يا اسجدوا، ولكن الصحابة رضي الله عنهم أسقطوا الألف من يا وهمزة الوصل من اسجدوا خطأ ووصلوا الياء بسين اسجدوا، فصارت صورة الخط ألا يسجدوا، والمنادى محذوف، وتقديره: ألا يا هؤلاء اسجدوا، وقد حذفت العرب المنادى كثيراً في كلامها، ومنه قول الشاعر: ألا يا اسلمي يا دارمي على البلى ولا زال منهلا بجرعائك القطر وقول الآخر: ألا يا اسلمي ثم اسلمي ثمت اسلمي ثلاث. تحيات وإن لم تكلم وقول الآخر أيضاً: ألا يا اسلمي يا هند هند بني بكر وهو كثير في أشعارهم. قال الزجاج: وقراءة التخفيف تقتضي وجوب السجود دون قراءة التشديد، واختار أبو حاتم وأبو عبيد قراءة التشديد. قال الزجاج: ولقراءة التخفيف وجه حسن إلا أن فيها انقطاع الخبر عن أمر سبأ ثم الرجوع بعد ذلك إلى ذكرهم. والقراءة بالتشديد خبر يتبع بعضه بعضاً لا انقطاع في وسطه، وكذا قال النحاس: وعلى هذه القراءة تكون جملة ألا يسجدوا معترضة من كلام الهدهد، أو من كلام سليمان، أو من كلام الله سبحانه. وفي هذه قراءة عبد الله بن مسعود هل لا تسجدوا بالفوقية، وفي قراءة أبي " لا تسجدوا " بالفوقية أيضاً "الذي يخرج الخبء في السموات والأرض" أي يظهر ما هو مخبوء ومخفي فيهما، يقال: خبأت الشيء أخبؤه خبأً، والخبء ما خبأته. قال الزجاج: جاء في التفسي أن الخبء ها هنا بمعنى القطر من السماء والنبات من الأرض. وقيل خبء الأرض كنوزها ونباتها. وقال قتادة: الخبء السر. قال النحاس، أي ما غاب في السموات والأرض. وقرأ أبي وعيسى بن عمر الخب بفتح الباء من غير همز تخفيفاً، وقرأ عبد الله وعكرمة ومالك بن دينار الخبا بالألف قال أبو حاتم: وهذا لا يجوز في العربية. ورد عليه بأن سيبويه حكى عن العرب أن الألف تبدل من الهمزة إذا كان قبلها ساكن. وفي قراءة عبد الله يخرج الخب من السموات والأرض. قال الفراء: ومن وفي يتعاقبان، والموصول يجوز أن يكون في محل جر نعتاً لله سبحانه، أو بدلاً منه، أو بياناً له. ويجوز أن تكون في محل نصب على المدح، ويجوز أن يكون في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، وجملة "ويعلم ما تخفون وما تعلنون" معطوفة على يخرج، قرأ الجمهور بالتحتية في الفعلين، وقرأ الجحدري وعيسى بن عمر وحفص والكسائي بالفوقية للخطاب، أما القراءة الأولى فلكون الضمائر المتقدمة ضمائر غيبة، وأما القراءة الثانية فلكون قراءة الزهري والكسائي فيها الأمر بالسجود والخطاب لهم بذلك، فهذا عندهم من تمام ذلك الخطاب. والمعنى: أن الله سبحانه يخرج ما في هذا العالم الإنساني من الخفاء بعلمه له كما يخرج ما خفي في السموات والأرض، ثم بعد ما وصف الرب سبحانه بما تقدم مما يدل على عظيم قدرته وجليل سلطانه ووجوب توحيده وتخصيصه بالعبادة.
قال: 26- "الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم" قرأ الجمهور العظيم بالجر نعتاً للعرش، وقرأ ابن محيصن بالرفع نعتاً للرب، وخص العرش بالذكر لأنه أعظم المخلوقات كما ثبت ذلك في المرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب: إن الله لم ينعم على عبد نعمة فحمد الله عليها إلا كان حمده أفضل من نعمته لو كنت لا تعرف ذلك إلا في كتاب الله المنزل. قال الله عز وجل: "ولقد آتينا داود وسليمان علماً وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين" وأي نعمة أفضل مما أعطي داود وسليمان. أقول: ليس في الآية ما يدل على ما فهمه رحمه الله، والذي تدل عليه أنهما حمدا الله سبحانه على ما فضلهما به من النعم، فمن أين تدل على أن حمده أفضل من نعمته. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "وورث سليمان داود" قال: ورثه نبوته وملكه وعلمه. وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد في الزهد وابن أبي حاتم عن أبي الصديق الناجي قال: خرج سليمان بن داود يستسقي بالناس، فمر على نملة مستلقية على قفاها رافعة قوائمها إلى السماء وهي تقول: اللهم إنا خلق من خلقك ليس بنا غنى عن رزقك، فإما أن تسقينا وإما أن تهلكنا، فقال سليمان للناس: ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم. وأخرج الحاكم في المستدرك عن جعفر بن محمد قال: أعطي سليمان ملك مشارق الأرض ومغاربها، فملك سليمان سبعمائة سنة وستة أشهر، ملك أهل الدنيا كلهم من الجن والإنس والدواب والطير والسباع، وأعطي كل شيء، ومنطق كل شيء، وفي زمانه صنعت الصنائع المعجبة، حتى إذا أراد الله أن يقبضه إليه أوحي إليه أن يستودع علم الله وحكمته أخاه، وولد داود كانوا أربعمائة وثمانين رجلاً أنبياء بلا رسالة. قال الذهبي: هذا باطل، وقد رويت قصص في عظم ملك سليمان لا تطيب النفس بذكر شيء منها، فالإمساك عن ذكرها أولى. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "فهم يوزعون" قال يدفعون. وأخرج ابن جرير عنه في قوله: "فهم يوزعون" قال: جعل لكل صنف وزعة ترد أولاها على أخراها لئلا تتقدمه في السير كما تصنع الملوك. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "أوزعني" قال: ألهمني. وأخرج عبد بن حميد عن الحسن مثله. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه من طرق عن ابن عباس أنه سئل كيف تفقد سليمان الهدهد من بين الطير؟ قال: إن سليمان نزل منزلاً فلم يدر ما بعد الماء، وكان الهدهد يدل سليمان على الماء، فأراد أن يسأله عنه ففقده، قيل كيف ذاك والهدهد ينصب له الفخ يلقى عليه التراب ويضع له الصبي الحبالة فيغيبها فيصيده؟ فقال: إذا جاء القضاء ذهب البصر. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله: "لأعذبنه عذاباً شديداً" قال: أنتف ريشه كله، وروي نحو هذا عن جماعة من التابعين، وروى ابن أبي حاتم عن الحسن قال: كان اسم هدهد سليمان غبر. وأقول: من أين جاء علم هذا للحسن رحمه الله، وهكذا ما رواه عنه ابن عساكر أن اسم النملة حرس، وأنها من قبيلة يقال لها بنو الشيطان، وأنها كانت عرجاء، وكانت بقدر الذئب، وهو رحمه الله أورع الناس عن نقل الكذب، ونحن نعلم أنه لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء، ونعلم أنه ليس للحسن إسناد متصل بسليمان أو بأحد من أصحابه، فهذا العلم مأخوذ من أهل الكتاب، وقد أمرنا أن لا نصدقهم ولا نكذبهم، فإن ترخص مترخص بالرواية عنهم لمثل ما روى حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج فليس ذلك فيما يتعلق بتفسير كتاب الله سبحانه بلا شك، بل فيما عنهم من القصص الواقعة لهم. وقد كررنا التنبيه على مثل هذا عند عروض ذكر التفاسير الغريبة. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "أو ليأتيني بسلطان مبين" قال: خبر الحق الصدق المبين. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن عكرمة قال: قال ابن عباس كل سلطان في القرآن حجة وذكر هذه الآية، ثم قال: وأي سلطان كان للهدهد؟ يعني أن المراد بالسلطان الحجة لا السلطان الذي هو الملك. وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله: "أحطت بما لم تحط به" قال: اطلعت على ما لم تطلع عليه. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً " وجئتك من سبإ " قال: سبأ بأرض اليمن، يقال لها مأرب بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث ليال " بنبإ يقين " قال: بخبر حق. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عنه أيضاً "إني وجدت امرأة تملكهم" قال: كان اسمها بلقيس بنت شراحيل، وكان صلباء شعراء. وروي عن الحسن وقتادة وزهير بن محمد أنها بلقيس بنت شراحيل، وعن ابن جريج بنت ذي شرح. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ في العظمة وابن مردويه وابن عساكر عن ابي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إحدى أبوي بلقيس كان جنياً. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "ولها عرش عظيم" قال: سرير كريم من ذهب وقوائمه من جوهر ولؤلؤ حسن الصنعة غالي الثمن. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله: "يخرج الخبء" قال: يعلم كل خبيئة في السماء والأرض.
جملة 27- "قال سننظر" مستأنفة جواب سؤال مقدر: أي قال سليمان للهدهد: سننظر فيما أخبرتنا به من هذه القصة "أصدقت" فيما قلت "أم كنت من الكاذبين" هذه الجملة الاستفهامية في محل نصب على أنها مفعول سننظر، وأم هي المتصلة، وقوله: "أم كنت من الكاذبين" أبلغ من قوله أم كذبت، لأن المعنى: من الذين اتصفوا بالكذب وصار خلقاً لهم. والنظر هو التأمل والتصفح، وفيه إرشاد إلى البحث عن الأخبار والكشف عن الحقائق، وعدم قبول خبر المخبرين تقليداً لهم واعتماداً عليهم إذا تمكن من ذلك بوجه من الوجوه. ثم بين سليمان هذا النظر الذي وعد به.
فقال: 28- "اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم" أي إلى أهل سبأ. قال الزجاج: في ألقه خمسة أوجه: إثبات الياء في اللفظ وحذفها، وإثبات الكسرة للدلالة عليها، وبضم الهاء وإثبات الواو، وبحذف الواو وإثبات الضمة للدلالة عليها، وبإسكان الهاء. وقرأ بهذه اللغة الخامسة أبو عمرو وحمزة وأبو بكر. وقرأ قالون بكسر الهاء فقط من غير ياء. وروي عن هشام وجهان: إثبات الياء لفظاً وحذفها مع كسرة الهاء. وقرأ الباقون بإثبات الياء في اللفظ، وقوله "بكتابي هذا" يحتمل أن يكون اسم الإشارة صفة للكتاب، وأن يكون بدلاً منه، وأن يكون بياناً له، وخص الهدهد بإرساله بالكتاب لأنه المخبر بالقصة ولكونه رأى منه من مخايل الفهم والعلم ما يقتضي كونه أهلاً للرسالة "ثم تول عنهم" أي تنح عنهم، أمره بذلك لكون التنحي بعد دفع الكتاب من أحسن الآداب التي يتأدب بها رسل الملوك، والمراد التنحي إلى مكان يسمع فيه حديثهم حتى يخبر سليمان بما سمع، وقيل معنى التولي: الرجوع إليه، والأول أولى لقوله: "فانظر ماذا يرجعون" أي تأمر وتفكر فيما يرجع بعضهم إلى بعض من القول وما يتراجعونه بينهم من الكلام.
29- "قالت" أي بلقيس " يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم " في الكلام حذف، والتقدير: فذهب الهدهد فألقاه إليهم، فسمعها تقول: يا أيها المأ إلخ، ووصفت الكتاب بالكريم لكونه من عند عظيم في نفسها إجلالاً لسليمان، وقيل وصفته بذلك لاشتماله على كلام حسن، وقيل وصفته بذلك لكونه وصل إليها مختوماً بخاتم سليمان، وكرامة الكتاب ختمه كما روي ذلك مرفوعاً، ثم بينت ما تضمنه هذا الكتاب.
فقالت: 30- "إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم" أي وإن ما اشتمل عليه من الكلام وتضمنه من القول مفتتح بالتسمية وبعد التسمية.
31- " أن لا تعلوا علي " أي لا تتكبروا كما يفعله جبابرة الملوك، وأن هي المفسرة، وقيل مصدرية، ولا ناهية، وقيل نافية، ومحل الجملة الرفع على أنها بدل من كتاب أو خبر مبتدأ محذوف: أي هو أن لا تعلوا. قرأ الجمهور "إنه من سليمان وإنه" بكسرهما على الاستئناف، وقرأ عكرمة وابن أبي عبلة بفتحها على إسقاط حرف الجر، وقرأ أبي إن من سليمان وإن بسم الله بحذف الضميرين وإسكان النونين على أنها مفسرتان، وقرأ عبد الله بن مسعود إنه لا تغلوا بالغين المعجمة من الغلو، وهو تجاوز الحد في الكبر "وأتوني مسلمين" أي مناقدين للدين مؤمنين بما جئت به.
32- "قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري" الملأ أشراف القوم، والمعنى يا أيها الاشراف أشيروا علي وبينوا لي الصواب في هذا الأمر وأجيبوني بما يقتضيه الحزم، وعبرت عن المشورة بالفتوى لكون في ذلك حل لما أشكل من الأمر عليها، وفي الكلام حذف، والتقدير: فلما قرأت بلقيس الكتاب جمعت أشراف قومها وقالت لهم: يا أيها الملأ إني ألقي إلي، يا أيها الملأ أفتوني، وكرر قالت لمزيد العناية بما قالته لهم، ثم زادت في التأدب واستجلاب خواطرهم ليمحضوها النصح ويشيروا عليها بالصواب فقالت: "ما كنت قاطعة أمراً حتى تشهدون" أي ما كنت مبرمة أمراً من الأمور حتى تحضروا عندي وتشيروا علي.
فـ 33- "قالوا" مجيبين لها " نحن أولو قوة " في العدد والعدة "وأولو بأس شديد" عند الحرب واللقاء، لنا من الشجاعة والنجدة ما نمنع به أنفسنا وبلدنا ومملكتنا، ثم فوضوا الأمر إليها لعلمهم بصحة رأيها وقوة عقلها فقالوا: "والأمر إليك" أي موكول إلى رأيك ونظرك "فانظري ماذا تأمرين" أي تأملي ماذا تأميرنا به فنحن سامعون لأمرك مطيعون له.أس
فلما سمعت تفويضهم الأمر إليها 34- "قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها" أي إذا دخلوا قرية من القرى خربوا مبانيها، وغيروا مغانيها، وأتلفوا أموالها، وفرقوا شمل أهلها "وجعلوا أعزة أهلها أذلة" أي أهانوا أشرافها وحطوا مراتبهم، فصاروا عند ذلك أذلة وإنما يفعلون ذلك لأجل أن يتم لهم الملك وتستحكم لهم الوطأة وتقرر لهم في قلوبهم المهابة. قال الزجاج: أي إذا دخلوها عنوة عن قتال وغلبة، والمقصود من قولها هذا تحذير قومها من مسير سليمان إليهم ودخوله بلادهم، وقد صدقها الله سبحانه فيما قالت فقال سبحانه: "وكذلك يفعلون" أي مثل ذلك الفعل يفعلون. قال ابن الأنباري: الوقف على قوله: "وجعلوا أعزة أهلها أذلة" وقف تام، فقال الله عز وجل تحقيقاً لقولها: "وكذلك يفعلون" وقيل هذه الجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب. ثم لما قدمت لهم هذه المقدمة، وبينت لهم ما في دخول الملوك إلى أرضهم من المفسدة، أوضحت لهم وجه الرأي عندها وصرحت لهم بصوابه.
فقالت: 35- "وإني مرسلة إليهم بهدية" أي إني أجرب هذا الرجل بإرسال رسلي إليه بهدية مشتملة على نفائس الأموال، فإن كان ملكاً أرضيناه بذلك وكفينا أمره، وإن كان نبياً لم يرضه ذلك، لأن غاية مطلبه ومنتهى أربه هو الدعاء إلى الدين فلا ينجينا منه إلا إجابته ومتابعته والتدين بدينه وسلوك طريقته، ولهذا قالت: "فناظرة بم يرجع المرسلون" الفاء للعطف على مرسلة، وبم متعلق بيرجع، والمعنى: إني ناظرة فيما يرجع به رسلي المرسلون بالهدية من قبول أو رد فعاملة بما يقتضيه ذلك، وقد طول المفسرون في ذكر هذه الهدية، وسيأتي في آخر البحث بيان ما هو أقرب ما قيل إلى الصواب والصحة.