تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 382 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 382

381

56- " فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون " قرأ الجمهور بنصب جواب على أنه خبر كان، واسمها إلا أن قالوا: أي إلا قولهم. وقرأ ابن أبي إسحاق برفع جواب على أنه اسم كان وخبرها ما بعده، ثم عللوا ما أمروا به بعضهم بعضاً من الإخراج بقولهم: إنهم أناس يتطهرون: أي يتنزهون عن أدبار الرجال: قالوا ذلك استهزاءً منهم بهم.
"فأنجيناه وأهله" من العذاب "إلا امرأته قدرناها من الغابرين" أي قدرنا أنها من الباقين في العذاب، ومعنى قدرنا قضينا قرأ الجمهور "قدرنا" بالتشديد، وقرأ عاصم بالتخفيف. والمعنى واحد مع دلالة زيادة البناء على زيادة المعنى.
58- "وأمطرنا عليهم مطراً" هذا التأكيد يدل على شدة المطر وأنه غير معهود "فساء مطر المنذرين" المخصوص بالذم محذوف: أي ساء مطر المنذرين مطرهم، والمراد بالمنذرين الذين أنذروا فلم يقبلوا، وقد مضى بيان هذا كله في الأعراف والشعراء.
59- "قل الحمد لله وسلام على عباده" قال الفراء: قال أهل المعاني: قيل للوط قل الحمد لله على هلاكهم، وخالفه جماعة فقالوا: إن هذا خطاب نبينا صلى الله عليه وسلم: أي قيل الحمد لله على هلاك كفار الأمم الخالية، وسلام على عباده "الذين اصطفى" قال النحاس: وهذا أولى لأن القرآن منزل على النبي صلى الله عليه وسلم وكل ما فيه فهو مخاطب به إلا ما لم يصح معناه إلا لغيره. قيل والمراد بعباده الذين اصطفى: أمة محمد صلى الله عليه وسلم، والأولى حمله على العموم، فيدخل في ذلك الأنبياء وأتباعهم " آلله خير أما يشركون " أي الله الذي ذكرت أفعاله وصفاته الدالة على عظيم قدرته خير أما يشركون به من الأصنام، وهذه الخيرية ليست بمعناها الأصلي، بل هي كقول الشاعر: أتهجوه ولست له بكفء فشركما لخيركما الفداء فيكون ما في الآية من باب التهكم بهم، إذ لا خير فيهم أصلاً. وقد حكى سيبويه أن العرب تقول: السعادة أحب إليك أم الشقاوة، ولا خير في الشقاوة أصلاً. وقيل المعنى: أثواب الله خير، أم عقاب ما تشركون به؟ وقيل: قال لهم ذلك جرياً على اعتقادهم، لأنهم كانوا يعتقدون أن في عبادة الأصنام خيراً. وقيل المراد من هذا الاستفهام الخبر. قرأ الجمهور "تشركون" بالفوقية على الخطاب، وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم. وقرأ أبو عمرو وعاصم ويعقوب "يشركون" بالتحتية، و أم في أما يشركون هي المتصلة.
60- "أمن خلق السموات والأرض" فهي المنقطعة. وقال أبو حاتم: تقديره أآلهتكم خير أم من خلق السموات والأرض وقدر على خلقهن؟ وقيل المعنى: أعبادة ما تعبدون من أوثانكم خير، أم عبادة من خلق السموات والأرض؟ فتكون أم على هذا متصلة وفيها معنى التوبيخ والتهكم كما في الجملة الأولى. وقرأ الأعمش أمن بتخفيف الميم "وأنزل لكم من السماء ماء" أي نوعاً من الماء، وهو المطر "فأنبتنا به حدائق" جمع حديقة. قال الفراء: الحديقة البستان الذي عليه حائط، فإن لم يكن عليه حائط فهو البستان وليس بحديقة. وقال قتادة وعكرمة: الحدائق النخل "ذات بهجة" أي ذات حسن ورونق. والبهجة: هي الحسن الذي يبتهج به من رآه ولم يقل ذوات بهجة على الجمع، ومعنى هذا النفي الحظر والمعنى من فعل هذا: أي ما كان للبشر ولا يتهيأ لهم ذلك ولا يدخل تحت مقدرتهم لعجزهم عن إخراج الشيء من العدم إلى الوجود. ثم قال سبحانه موبخاً لهم ومقرعاً " أإله مع الله " أي هل معبود مع الله الذي تقدم ذلك بعض أفعاله حتى يقرن به ويجعل شريكاً له في العبادة، وقرئ ءإلهاً مع الله بالنصب على تقدير: أتدعون إلهاً. ثم أضرب عن تقريعهم وتوبيخهم بما تقدم وانتقل إلى بيان سوء حالهم مع الالتفات من الخطاب إلى الغيبة فقال "بل هم قوم يعدلون" أي يعدلون بالله غيره، أو يعدلون عن الحق إلى الباطل، ثم شرع في الاستدلال بأحوال الأرض وما عليها.
فقال: 61- "أمن جعل الأرض قراراً" القرار المستقر: أي دحاها وسواها بحيث يمكن الاستقرار عليها. وقيل هذه الجملة وما بعدها من الجمل الثلاث بدل من قوله أمن خلق السموات والأرض ولا ملجئ لذلك، بل هي وما بعدها إضراب وانتقال من التوبيخ والتقريع بما قبلها إلى التوبيخ والتقريع بشيء آخر "وجعل خلالها أنهاراً" الخلال: الوسط. وقد تقدم تحقيقه في قوله: "وفجرنا خلالهما نهراً"، "وجعل لها رواسي" أي جبالاً ثوابت تمسكها وتمنعها من الحركة "وجعل بين البحرين حاجزاً" الحاجز: المانع: أي جعل بين البحرين من قدرته حاجزاً، والبحران هما العذب والمالح، فلا يختلط أحدهما بالآخر فلا هذا يغير ذاك ولا ذاك يدخل في هذا، وقد مر بيانه في سورة الفرقان " أإله مع الله " أي إذا ثبت أنه لا يقدر على ذلك إلا الله فهل إله في الوجود يصنع صنعه ويخلق خلقه؟ فكيف يشركون به ما لا يضر ولا ينفع "بل أكثرهم لا يعلمون" توحيد ربهم وسلطان قدرته.
62- " أمن يجيب المضطر إذا دعاه " هذا استدلال منه سبحانه بحاجة الإنسان إليه على العموم، والمضطر اسم مفعول من الاضطرار: وهو المكروب المجهود الذي لا حول له ولا قوة. وقيل هو المذنب، وقيل هو الذي عراه ضر من فقر أو مرض، فألجأه إلى التضرع إلى الله. واللام في المضطر للجنس لا للاستغراق، فقد لا يجاب دعاء بعض المضطرين لمانع يمنع من ذلك بسبب يحدثه العبد يحول بينه وبين إجابة دعائه، وإلا فقد ضمن الله سبحانه إجابة دعاء المضطر إذا دعاه، وأخبر بذلك عن نفسه، والوجه في إجابة دعاء المضطر أن ذلك الاضطرار الحاصل له يتسبب عنه الإخلاص وقطع النظر عما سوى الله، وقد أخبر الله سبحانه بأنه يجيب دعاء المخلصين له الدين وإن كانوا كافرين فقال: "حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين" وقال: "فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون" فأجابهم عند ضرورتهم وأخلاصهم مع علمه بأنهم سيعودون إلى شركهم "ويكشف السوء" أي الذي يسوء العبد من غير تعيين، وقيل هو الضر، وقيل هو الجور " ويجعلكم خلفاء الأرض " أي يخلف كل قرن منكم القرن الذي قبله بعد انقراضهم، والمعنى: يهلك قرناً وينشئ آخرين، وقيل يجعل أولادكم خلفاً منكم، وقيل يجعل المسلمين خلفاً من الكفار ينزلون أرضهم وديارهم " أإله مع الله " الذي يوليكم هذه النعم الجسام "قليلاً ما تذكرون" أي تذكراً قليلاً ما تذكرون. قرأ الجمهور بالفوقية على الخطاب. وقرأ أبو عمرو وهشام ويعقوب بالتحتية على الخبر رداً على قوله بل أكثرهم لا يعلمون واختار هذه القراءة أبو حاتم.
63- "أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر" أي يرشدكم في الليالي المظلمات إذا سافرتم في البر أو البحر. وقيل المراد: مفاوز البر التي لا أعلام لها ولجج البحار، وشبهها بالظلمات لعدم ما يهتدون به فيها " ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته " والمراد بالرحمة هنا المطر: أي يرسل الرياح بين يدي المطر، وقبل نزوله " أإله مع الله " يفعل ذلك ويوجده "تعالى الله عما يشركون" أي تنزه وتقدس عن وجود ما يجعلونه شريكاً له.