تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 41 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 41

040

وقوله: 250- "برزوا" أي صاروا في البراز وهو المتسع من الأرض. وجالوت أمير العمالقة. قالوا: أي جميع من معه من المؤمنين، والإفراغ يفيد معنى الكثرة. وقوله: "وثبت أقدامنا" هذا عبارة عن القوة وعدم الفشل، يقال: ثبت قدم فلان على كذا إذا استقر له ولم يزل عنه، وثبت قدمه في الحرب إذا كان الغلب له والنصر معه. قوله: "وانصرنا على القوم الكافرين" هم جالوت وجنوده. ووضع الظاهر موضع المضمر إظهاراً لما هو العلة الموجبة للنصر عليهم وهي كفرهم، وذكر النصر بعد سؤال تثبيت الأقدام، لكون الثاني هو غاية الأول.
قوله: 251- "فهزموهم بإذن الله" الهزم: بالكسر: ومنه سقاء منهزم: أي انثنى بعضه على بعض مع الجفاف، ومنه ما قيل في زمزم إنها هزمة جبريل: أي هزمتها برجله فخرج الماء، والهزم: ما يكسر من يابس الحطب، وتقدير الكلام فأنزل الله عليهم النصر: "فهزموهم بإذن الله" أي بأمره وإرادته. قوله: "وقتل داود جالوت" هو داود بن إيشا بكسر الهمزة ثم تحتية ساكنة بعدها معجمة، ويقال: داود بن زكريا بن بشوي من سبط يهوذا بن يعقوب جمع الله له بين النبوة والملك بعد أن كان راعياً، وكان أصغر إخوته، اختاره طالوت لمقاتلة جالوت فقتله. والمراد بالحكمة هنا النبوة، وقيل: هي تعليمه صنعة الدروع ومنطق الطير، وقيل: هي إعطاؤه السلسلة التي كانوا يتحاكمون إليها. قوله: "وعلمه مما يشاء" قيل: إن المضارع هنا موضوع موضع الماضي، وفاعل هذا الفعل هو الله تعالى، وقيل: داود. وظاهر هذا التركيب أن الله سبحانه علمه مما قضت به مشيئته وتعلقت به إرادته، وقد قيل إن من ذلك ما قدمنا من تعليمه صنعة الدروع وما بعده. قوله: " ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض " قرأه الجماعة "ولولا دفع الله" وقرأ نافع " دفع " وهما مصدران لدفع، كذا قال سيبويه. وقال أبو حاتم: دافع ودفع واحد مثل: طرقت نعلي وطارقته. واختار أبو عبيدة قراءة الجمهور وأنكر قراءة دفاع، قال: لأن الله عز وجل لا يغالبه أحد. قال مكي: يوهم أبو عبيدة أن هذا من باب المفاعلة وليس به، وعلى القراءتين فالمصدر مضاف إلى الفاعل: أي "ولولا دفع الله الناس" وبعضهم بدل من الناس وهم الذين يباشرون أسباب الشر والفساد ببعض آخر منهم، وهم الذين يكفونهم عن ذلك ويردونهم عنه "لفسدت الأرض" لتغلب أهل الفساد عليها وإحداثهم للشرور التي تهلك الحرث والنسل وتنكير فضل للتعظيم.
وآيات الله: هي ما اشتملت عليه هذه القصة من الأمور المذكورة. والمراد 252- "بالحق" هنا الخبر الصحيح الذي لا ريب فيه عند أهل الكتاب والمطلعين على أخبار العالم. وقوله: "إنك لمن المرسلين" إخبار من الله سبحانه بأنه من جملة رسل الله سبحانه تقوية لقلبه وتثبيتاً لجنانه وتشديداً لأمره. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل" قال: هذا حين رفعت النبوة واستخرج أهل الإيمان، وكانت الجبابرة قد أخرجتهم من ديارهم وأبنائهم "فلما كتب عليهم القتال" وذلك حين أتاهم التابوت، قال: وكان من إسرائيل سبطان: سبط نبوة، وسبط خلافة، فلا تكون الخلافة إلا في سبط الخلافة، ولا تكون النبوة إلا في سبط النبوة، " وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه " وليس من أحد السبطين لا من سبط النبوة ولا من سبط الخلافة "قال إن الله اصطفاه عليكم" فأبوا أن يسلموا له الرياسة حتى قال لهم: "إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية" وكان موسى حين ألقى الألواح تكسرت ورفع منها وجمع ما بقي فجعله في التابوت، وكانت العمالقة قد سبت ذلك التابوت، والعمالقة فرقة من عاد كانوا بأريحاء، فجاءت الملائكة بالتابوت تحمله بين السماء والأرض وهم ينظرون إليه حتى وضعته عند طالوت، فلما رأوا ذلك قالوا: نعم فسلموا له وملكوه، وكانت الأنبياء إذا حضروا قتالاً قدموا التابوت بين أيديهم ويقولون: إن آدم نزل بذلك التابوت وبالركن وبعصى موسى من الجنة. وبلغني أن التابوت وعصى موسى في بحيرة طبرية، وأنهما يخرجان قبل يوم القيامة. وقد ورد هذا المعنى مختصراً ومطولاً عن جماعة من السلف فلا يأتي التطويل بذكر ذلك بفائدة يعتد بها. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق السدي عن أبي مالك عن ابن عباس "وزاده بسطة" يقول: فضيلة "في العلم والجسم" يقول: كان عظيماً جسيماً يفضل بني إسرائيل بعنقه. وأخرج أيضاً عن وهب بن منبه "وزاده بسطة في العلم" قال: العلم بالحرب. وأخرج ابن المنذر عنه أنه سئل أنبياً كان طالوت؟ قال: لا، لم يأته وحي. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عنه أنه سئل عن تابوت موسى ما سعته؟ قال: نحو من ثلاثة أذرع في ذراعين. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: السكينة الرحمة. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه قال: السكينة والطمأنينة. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال: السكينة دابة قدر الهر لها عينان لهما شعاع، وكان إذا التقى الجمعان أخرجت يديها ونظرت إليهم فيهزم الجيش من الرعب. وأخرج الطبراني بسند ضعيف عن علي قال: السكينة ريح خجوج ولها رأسان. وأخرج عبد الرزاق وأبو عبيد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن علي قال: السكينة لها وجه كوجه الإنسان، ثم هي بعد ريح هفانة. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن مجاهد قال: السكينة من الله كهيئة الريح، لها وجه كوجه الهر وجناحان وذنب مثل ذنب الهر. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير عن ابن عباس قال: "فيه سكينة من ربكم" قال: طست من ذهب من الجنة كان يغسل بها قلوب الأنبياء ألقي الألواح فيها. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن وهب بن منبه أنه قال: هي روح من الله لا تتكلم، إذا اختلفوا في شيء تكلم فأخبرهم ببيان ما يريدون. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال: هي شيء تسكن إليه قلوبهم. وأخرج عبد الرزاق عن قتادة قال: فيه سكينة، أي: وقار. وأقول: هذه التفاسير المتناقضة لعلها وصلت إلأى هؤلاء الأعلام من وجهة اليهود أقماهم الله، فجاءوا بهذه الأمور لقصد التلاعب بالمسلمين رضي الله عنهم والتشكيك عليهم، وانظر إلى جعلهم لها تارةً حيواناً وتارةً جماداً وتارةً شيئاً لا يعقل، كقول مجاهد: كهيئة الريح لها وجه كوجه الهر، وجناحان وذنب مثل ذنب الهر. وهكذا كل منقول عن بني إسرائيل يتناقض ويشتمل على ما لا يعقل في الغالب، ولا يصح أن يكون مثل هذه التفاسير المتناقضة مروياً عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا رأياً رآه قائله، فهم أجل قدراً من التفسير بالرأي وبما لا مجال للاجتهاد فيه. إذا تقرر لك هذا عرفت أن الواجب الرجوع في مثل ذلك إلى معنى السكينة لغة وهو معروف ولا حاجة إلى ركوب هذه الأمور المتعسفة المتناقضة، فقد جعل الله عنها سعة ولو ثبت لنا في السكينة تفسير عن النبي صلى الله عليه وسلم لوجب علينا المصير إليه والقول به، ولكنه لم يثبت من وجه صحيح بل ثبت انها تنزلت عن بعض الصحابة عند تلاوته للقرآن كما في صحيح مسلم عن البراء قال:" كان رجل يقرأ سورة الكهف وعنده فرس مربوط، فتغشته سحابة فجعلت تدور وتدنو، وجعل فرسه ينفر منها: فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال: تلك السكينة نزلت للقرآن" .وليس في هذا إلا ان هذه التي سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم سحابة دارت على ذلك القارئ فالله أعلم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وبقية مما ترك آل موسى" قال: عصاه ورضاض الألواح. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن أبي صالح قال: كان في التابوت عصى موسى وعصى هارون، وثياب موسى وثياب هارون، ولوحان من التوراة والمن، وكلمة الفرج لا إله إلا الله الحليم الكريم وسبحان الله رب السموات السبع ورب العرش العظيم والحمد لله رب العالمين. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة في قوله: "تحمله الملائكة" قال: أقبلت به الملائكة تحمله حتى وضعته في بيت طالوت فأصبح في داره. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس "إن في ذلك لآية" قال: علامة. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس "إن الله مبتليكم بنهر" يقول: بالعطش، فلما انتهى إلى النهر وهو نهر الأردن كرع فيه عامة الناس فشربوا منه، فلم يزد من شرب منه إلا عطشاً، وأجزأ من اغترف غرفة بيده وانقطع الظمأ عنه. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير "فشربوا منه إلا قليلاً منهم" قال: القليل ثلثمائة وبضعة عشر عدة أهل بدر. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد والبخاري وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن البراء قال: كنا أصحاب محمد نتحدث أن أصحاب بدر على عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر، ولم يجاوز معه إلا مؤمن بضعة عشر وثلثمائة. وقد أخرج ابن جرير عن قتادة قال: ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم بدر: "أنتم بعدة أصحاب طالوت يوم لقي جالوت". وأخرج ابن عساكر من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال: كانوا ثلثمائة ألف وثلاثة آلاف وثلثمائة وثلاثة عشر، فشربوا منه كلهم إلا ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً عدة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر، فردهم طالوت ومضى ثلثمائة وثلاثة عشر. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله: "الذين يظنون" قال: الذين يستيقنون. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: كان طالوت أميراً على الجيش، فبعث أبو داود مع داود بشيء إلى إخوته، فقال داود لطالوت: ماذا لي، وأقبل جالوت فقال: لك ثلث ملكي وأنكحك ابنتي، فأخذ مخلاة فجعل فيها ثلاث مروات، ثم سمى إبراهيم وإسحاق ويعقوب، ثم أدخل يده فقال: بسم الله إلهي وإله آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فخرج على إبراهيم فجعله في مرحمته، فرمى بها جالوت فخرق ثلاثة وثلاثين بيضة عن رأسه وقتلت ما وراءه ثلاثين ألفاً. وقد ذكر المفسرون أقاصيص كثيرة من هذا الجنس والله أعلم. وأخرج ابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس في قوله: "ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض" قال: يدفع الله بمن يصلي عمن لا يصلي، وبمن بحج عمن لا يحج، وبمن يزكي عمن لا يزكي. وأخرج ابن عدي وابن جرير بسند ضعيف عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ليدفع بالمسلم الصالح عن مائة أهل بيت من جيرانه البلاء" ثم قرأ ابن عمر "ولولا دفع الله الناس" الآية وفي إسناده يحيى بن سعيد العطار الحمصي وهو ضعيف جداً.
قوله: 253- "تلك الرسل" قيل: هو إشارة إلى جميع الرسل فتكون الألف واللام للاستغراق- وقيل: هو إشارة إلى الأنبياء المذكورين في هذه السورة، وقيل: إلى الأنبياء الذين بلغ علمهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم. والمراد بتفضيل بعضهم على بعض أن الله سبحانه جعل لبعضهم من مزايا الكمال فوق ما جعله للآخر، فكان الأكثر مزايا فاضلاً والآخر مفضولاً. وكما دلت هذه الآية على أن بعض الأنبياء أفضل من بعض كذلك دلت الآية الأخرى وهي قوله تعالى: "ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبوراً". وقد استشكل جماعة من أهل العلم الجمع بين هذه الآية وبين ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعاً بلفظ "لا تفضلوني على الأنبياء" وفي لفظ آخر "لا تفضلوا بين الأنبياء" وفي لفظ "لا تخيروا بين الأنبياء" فقال قوم: إن هذا القول منه صلى الله عليه وسلم كان قبل أن يوحى إليه بالتفضيل، وأن القرآن ناسخ للمنع من التفضيل، وقيل: إنه قال صلى الله عليه وسلم ذلك على سبيل التواضع كما قال: " لا يقل أحدكم أنا خير من يونس بن متى" تواضعاً مع علمه أنه أفضل الأنبياء كما يدل عليه قوله: "أنا سيد ولد آدم"، وقيل: إنما نهى عن ذلك قطعاً للجدال والخصام في الأنبياء، فيكون مخصوصاً بمثل ذلك لا إذا كان صدور ذلك مأموناً، وقيل: إن النهي إنما هو من جهة النبوة فقط، لأنها خصلة واحدة لا تفاضل فيها، ولا نهي عن التفاضل بزيادة الخصوصيات والكرامات، وقيل: إن المراد النهي عن التفضيل لمجرد الأهواء والعصبية. وفي جميع هذه الأقوال ضعف. وعندي أنه لا تعارض بين القرآن والسنة، فإن القرآن دل على أن الله فضل بعض أنبيائه على بعض، وذلك لا يستلزم أنه يجوز لنا أن نفضل بعضهم على بعض، فإن المزايا التي هي مناط التفضيل معلومة عند الله لا تخفى عليه منها خافية وليست بمعلومة عند البشر، فقد يجهل أتباع نبي من الأنبياء بعض مزاياه وخصوصياته فضلاً عن مزايا غيره، والتفضيل لا يجوز إلا بعد العلم بجميع الأسباب التي يكون بهال هذا فاضلاً وهذا مفضولاً، لا قبل العلم ببعضها أو بأكثرها أو بأقلها، فإن ذلك تفضيل بالجهل وإقدام على أمر لا يعلمه الفاعل له وهو ممنوع منه، فلو فرضنا أنه لم يرد إلا القرآن في الإخبار لنا بأن الله فضل بعض أنبيائه على بعض لم يكن فيه دليل على أنه يجوز للبشر أن يفضلوا بين الأنبياء، فكيف وقد وردت السنة الصحيحة بالنهي عن ذلك؟ وإذا عرفت هذا علمت أنه لا تعارض بين القرآن والسنة بوجه من الوجوه، فالقرآن فيه الإخبار من الله بأنه نفضل بعض أنبيائه على بعض، والسنة فيها النهي لعباده أن يفضلوا بين أنبيائه، فمن تعرض للجمع بينهما زاعماً أنهما متعارضان فقد غلط غلطاً بيناً. قوله: "منهم من كلم الله" وهو موسى ونبينا سلام الله عليهما. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في آدم: "إنه نبي مكلم". وقد ثبت ما يفيد ذلك في صحيح ابن حبان من حديث أبي ذر. قوله: "ورفع بعضهم درجات" هذا البعض يحتمل أن يراد به من عظمت منزلته عند الله سبحانه من الأنبياء ويحتمل أن يراد به نبينا صلى الله عليه وسلم لكثرة مزاياه المقتضية لتفضيله، ويحتمل أن يراد به إدريس لأن الله سبحانه أخبرنا بأنه رفعه مكاناً علياً، وقيل: إنهم أولوا العزم، وقيل: إبراهيم، ولا يخفاك أن الله سبحانه أيهم هذا البعض المرفوع، فلا يجوز لنا التعرض للبيان له إلا ببرهان من الله سبحانه أو من أنبيائه عليهم الصلاة والسلام ولم يرد ما يرشد إلى ذلك، فالتعرض لبيانه هو من تفسير القرآن الكريم بمحض الرأي، وقد عرفت ما فيه من الوعيد الشديد مع كون ذلك ذريعة إلى التفضيل بين الأنبياء وقد نهينا عنه، وقد جزم كثير من أئمة التفسير أنه نبينا صلى الله عليه وسلم وأطالوا في ذلك، واستدلوا بما خصه الله به من المعجزات ومزايا الكمال وخصال الفضل، وهم بهذا الجزم بدليل لا يدل على المطلوب قد وقعوا في خطرين وارتكبوا نهيين، وهما تفسير القرآن بالرأي، والدخول في ذرائع التفضيل بين الأنبياء، وإن لم يكن ذلك تفضيلاً صريحاً فهو ذريعة إليه بلا شك ولا شبهة، لأن من جزم بأن هذا البعض المرفوع درجات هو النبي الفلاني انتقل من ذلك إلى التفضيل المنهي عنه، وقد أغنى الله نبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم عن ذلك بما لا يحتاج معه إلى غيره من الفضائل والفواضل، فإياك أن تتقرب إليه صلى الله عليه وسلم بالدخول في أبواب نهاك عن دخولها فتعصيه وتسيء وأنت تظن أنك مطيع محسن. قوله: "وآتينا عيسى ابن مريم البينات" أي الآيات الباهرة والمعجزات الظاهرة من إحياء الأموات وإبراء المرضى وغير ذلك. قوله: "وأيدناه بروح القدس" هو جبريل، وقد تقدم الكلام على هذا. قوله: "ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم" أي من بعد الرسل، وقيل: من بعد موسى وعيسى ومحمد، لأن الثاني مذكور صريحاً، والأول والثالث وقعت الإشارة إلأيهما بقوله: "منهم من كلم الله" أي: لو شاء الله عدم اقتتالهم ما اقتتلوا، فمفعول المشيئة محذوف على القاعدة ولكن اختلفوا استثناءً من الجملة الشرطية: أي ولكن الاقتتال ناشئ عن اختلافهم اختلافاً عظيماً حتى صاروا مللاً مختلفة" منهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله" عدم اقتتالهم بعد هذا الإختلاف " ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد" لا راد لحكمه، ولا مبدل لقضائه، فهو يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله تعالى: "فضلنا بعضهم على بعض" قال: اتخذ الله إبراهيم خليلاً، وكلم موسى تكليماً، وجعل عيسى كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له: كن فيكون، وهو عبد الله وكلمته وروحه، وآتى داود زبوراً، وآتى سليمان ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، وغفر لمحمد ما تقدم من ذنبه وما تأخر. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي عن مجاهد في قوله: " منهم من كلم الله " قال: كلم الله موسى، وأرسل محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة. وأخرج ابن أبي حاتم عن عامر الشعبي في قوله: "ورفع بعضهم درجات" قال: محمداً صلى الله عليه وسلم. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة: "ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم" يقول: من بعد موسى وعيسى. وأخرج ابن عساكر عن ابن عباس قال:" كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وعند أبو بكر وعمر وعثمان ومعاوية إذ أقبل علي فقال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاوية: أتحب علياً؟ قال: نعم، قال: إنها ستكون بينكم فتنة هنيهة، قال معاوية: فما بعد ذلك يا رسول الله؟ قال: عفو الله ورضوانه، قال: رضينا بقضاء الله، فعند ذلك نزلت هذه الآية "ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد"" قال السيوطي: وسنده واه.
ظاهر الأمر في قوله: 254- "أنفقوا" الوجوب، وقد حمله جماعة على صدقة الفرض لذلك، ولما في آخر الآية من الوعيد الشديد، وقيل: إن هذه الآية تجمع زكاة الفرض والتطوع. قال ابن عطية: وهذا صحيح، ولكن ما تقدم من الآيات في ذكر القتال وأن الله يدفع بالمؤمنين في صدور الكافرين يترجح منه أن هذا الندب إنما هو في سبيل الله. قال القرطبي: وعلى هذا التأويل يكون إنفاق المال مرة واجباً، ومرة ندباً بحسب تعين الجهاد وعدم تعينه. قوله: "من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه" أي: أنفقوا ما دمتم قادرين "من قبل أن يأتي" ما لا يمكنكم الإنفاق فيه وهو "يوم لا بيع فيه" أي لا يتبايع الناس فيه. والخلة: خالص المودة مأخوذة من تخلل الأسرار بين الصديقين. أخبر سبحانه أنه لا خلة في يوم القيامة نافعة ولا شفاعة مؤثرة إلا لمن أذن الله له. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بنصب لا بيع ولا خلة ولا شفاعة، من غير تنوين. وقرأ الباقون برفعها منونة، وهما لغتان مشهورتان للعرب، ووجهان معروفان عند النحاة، فمن الأول قول حسان: ألا طعان ألا فرسان عادية ألا يحشئوكم حول التنانير ومن الثاني قول الراعي: وما صرمتك حتى قلت معلنة لا ناقة لي في هذا ولا جمل ويجوز في غير القرآن التغاير برفع البعض ونصب البعض كما هو مقرر في علم الإعراب. قوله: "والكافرون هم الظالمون" فيه دليل على أن كل كافر ظالم لنفسه، ومن جملة من يدخل تحت هذا العموم مانع الزكاة منعاً يوجب كفره لوقوع ذلك في سياق الأمر بالإنفاق. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريج في قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم" قال: من الزكاة والتطوع. وأخرج ابن المنذر عن سفيان قال: يقال نسخت الزكاة كل صدقة في القرآن، ونسخ شهر رمضان كل صوم. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال: قد علم الله أن ناساً يتخاللون في الدنيا ويشفع بعضهم لبعض، فأما يوم القيامة فلا خلة إلا خلة المتقين. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن عطاء قال: الحمد لله الذي قال: "والكافرون هم الظالمون" ولم يقل والظالمون هم الكافرون.