تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 401 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 401

400

39- "وقارون وفرعون وهامان" قال الكسائي: إن شئت كان محمولاً على عاداً وكان فيه ما فيه، وإن شئت كان على فصدهم عن السبيل أي وصد قارون وفرعون وهامان. وقيل التقدير: وأهلكنا هؤلاء بعد أن جاءتهم الرسل "فاستكبروا في الأرض" عن عبادة الله "وما كانوا سابقين" أي فائتين، يقال سبق طالبه: إذا فاته: وقيل وما كانوا سابقين في الكفر، بل قد سبقهم إليه قرون كثيرة.
40- "فكلا أخذنا بذنبه" أي عاقبنا بكفره وتكذيبه. قال الكسائي: "فكلا أخذنا" أي فأخذنا كلاً بذنبه "فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً" أي ريحاً تأتي بالحصباء، وهي الحصى الصغار فترجمهم بها، وهم قوم لوط "ومنهم من أخذته الصيحة" وهم ثمود وأهل مدين "ومنهم من خسفنا به الأرض" وهو قارون وأصحابه "ومنهم من أغرقنا" وهم قوم نوح وقوم فرعون "وما كان الله ليظلمهم" بما فعل بهم، لأنه قد أرسل إليهم رسله وأنزل عليهم كتبه "ولكن كانوا أنفسهم يظلمون" باستمرارهم على الكفر وتكذيبهم للرسل وعملهم بمعاصي الله. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وتأتون في ناديكم المنكر" قال: مجلسكم. وأخرج الفريابي وأحمد وعبد بن حميد والترمذي وحسنه وابن أبي الدنيا في كتاب المصمت وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب وابن عساكر عن أم هانيء بنت أبي طالب قالت "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله سبحانه: "وتأتون في ناديكم المنكر" قال: كانوا يجلسون بالطريق فيحذفون أبناء السبيل ويسخرون منهم". قال الترمذي: بعد إخراجه وتحسينه: ولا نعرفه إلا من حديث حاتم بن أبي صغيرة عن سماك.وأخرج ابن مردويه عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الحذف، وهو قول الله سبحانه: "وتأتون في ناديكم المنكر". وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر في الآية قال: هو الحذف. وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس مثله. وأخرج البخاري في تاريخه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن عائشة في الآية قالت: الضراط. وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم في قوله: "فأخذتهم الرجفة" قال: الصيحة، وفي قوله: " وكانوا مستبصرين " قال: في الضلالة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً" قال: قوم لوط "ومنهم من أخذته الصيحة" قال: ثمود "ومنهم من خسفنا به الأرض" قال: قارون "ومنهم من أغرقنا" قال: قوم نوح.
قوله: 41- "مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء" يوالونهم ويتكلمون عليهم في حاجاتهم من دون الله سواء كانوا من الجماد أو الحيوان، ومن الأحياء أو من الأموات "كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً" فإن بيتها لا يغني عنها شيئاً لا في حر ولا قر ولا مطر، كذلك ما تخذوه ولياً من دون الله، فإنه لا ينفعهم بوجه من وجوه النفع ولا يغني عنهم شيئاً. قال الفراء: هو مثل ضربه الله لمن اتخذ من دونه آلهة لا تنفعه ولا تضره، كما أن بيت العنكبوت لا يقيها حراً ولا برداً. قال: ولا يحسن الوقف على العنكبوت لأنه لما قصد بالتشبيه لبيتها الذي لا يقيها من شيء شبهت الآلهة التي لا تنفع ولا تضر به، وقد جوز الوقف على العنكبوت التي اتخذت بيتاً، فلا يحسن الوقف على الصلة دون الموصول والعنكبوت تقع على الواحد والجمع والمذكر والمؤنث، وتجمع على عناكب وعنكبوتات، وهي الدويبة الصغيرة التي تنسج نسجاً رقيقاً. وقد يقال لها عكنبات، ومنه قول الشاعر: كأنما يسقط من لغامها بيت عكنبات على زمامها "وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت" لا بيت أضعف منه مما يتخذه الهوام بيتاً ولا يدانيه في الوهى والوهن شيء من ذلك "لو كانوا يعلمون" أن اتخاذهم الأولياء من دون الله كاتخاذ العنكبوت بيتاً، أو لو كانوا يعلمون شيئاً من العلم لعلموا بهذا.
42- " إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شيء " ما استفهامية، أو نافية أو موصولة، ومن للتبعيض أو مزيدة للتوكيد. وقيل إن هذه الجملة على إضمار القول: أي قل للكافرين إن الله يعلم أي شيء يدعون من دونه. وجزم أبو علي الفارسي بأنها استفهامية، وعلى تقدير النفي كأنه قيل: إن الله يعلم أنكم لا تدعون من دونه من شيء: يعني ما تدعونه ليس بشيء، وعلى تقدير الموصولة: إن الله يعلم الذين تدعونهم من دونه، ويجوز أن تكون ما مصدرية، ومن شيء عبارة عن المصدر. قرأ عاصم وأبو عمرو ويعقوب "يدعون" بالتحتية. واختار هذه القراءة أبو عبيد لذكر الأمم قبل هذه الآية. وقرأ الباقون بالفوقية على الخطاب "وهو العزيز الحكيم" الغالب المصدر أفعاله على غاية الإحكام والإتقان.
43- "وتلك الأمثال نضربها للناس" أي هذا المثل وغيره من الأمثال التي في القرآن نضربها للناس تنبيهاً لهم وتقريباً لما بعد من أفهامهم "وما يعقلها" أي يفهمها ويتعقل الأمر الذي ضربناها لأجله "إلا العالمون" بالله الراسخون في العلم المتدبرون المتفكرون لما يتلى عليهم وما يشاهدونه.
44- "خلق الله السموات والأرض بالحق" أي بالعدل والقسط مراعياً في خلقها مصالح عباده. وقيل المراد بالحق كلامه وقدرته، ومحل بالحق النصب على الحال "إن في ذلك لآية للمؤمنين" أي لدلالة عظيمة وعلامة ظاهرة على قدرته وتفرده بالإلهية، وخص المؤمنين لأنهم الذين ينتفعون بذلك.
45- "اتل ما أوحي إليك من الكتاب" أي القرآن، وفيه الأمر بالتلاوة للقرآن والمحافظة على قراءته مع التدبر لآياته والتفكر في معانيه "وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر" أي دم على إقامتها واستمر على أدائها كما أمرت بذلك، وجملة "إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر" تعليل لما قبلها، والفحشاء ما قبح من العمل، والمنكر ما لا يعرف في الشريعة: أي تمنعه من معاصي الله وتبعده منها، ومعنى نهيها عن ذلك أن فعلها يكون سبباً للانتهاء، والمراد هنا الصلوات المفروضة "ولذكر الله أكبر" أي أكبر من كل شيء: أي أفضل من العبادات كلها بغير ذكر. قال ابن عطية: وعندي أن المعنى ولذكر الله أكبر على الإطلاق: أي هو الذي ينهى عن الفحشاء والمنكر، فالجزء الذي منه في الصلاة يفعل ذلك وكذلك يفعل ما لم يكن منه في الصلاة لأن الانتهاء لا يكون إلا من ذاكر لله مراقب له. وقيل ذكر الله أكبر بالذكر في الآية التسبيح والتهليل، يقول هو أكبر وأحرى بأن ينهى عن الفحشاء والمنكر. وقيل المراد بالذكر هنا الصلاة: أي وللصلاة أكبر من سائر الطاعات، وعبر عنها بالذكر كما في قوله: "فاسعوا إلى ذكر الله" للدلالة على أن ما فيها من الذكر هو العمدة في تفضيلها على سائر الطاعات، وقيل المعنى: ولذكر الله لكم بالثواب والثناء عليكم منه أكبر من ذكركم له في عبادتكم وصلواتكم، واختار هذا ابن جرير، ويؤيده حديث "من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم" "والله يعلم ما تصنعون" لا تخفى عليه من ذلك خافية فهو مجازيكم بالخير خيراً وبالشر شراً.