تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 46 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 46

045

قوله: 270- "وما أنفقتم من نفقة" ما شرطية ويجوز أن تكون موصولة، والعائد محذوف: أي الذي أنفقتموه، وهذا بيان لحكم عام يشمل كل صدقة مقبولة وغير مقبولة وكل نذر مقبول أو غير مقبول. وقوله: "فإن الله يعلمه" فيه معنى الوعد لمن أنفق ونذر على الوجه المقبول، والوعيد لمن جاء بعكس ذلك. ووحد الضمير مع كونه مرجعه شيئين، هما النفقة والنذر، لأن التقدير: وما أنفقتم من نفقة فإن الله يعلمها، أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه، ثم حذف أحدهما استغناءً بالآخر، قاله النحاس، وقيل: إن ما كان للعطف فيه بكلمة أو كما في قولك: زيد أو عمرو، فإنه يقال: أكرمته ولا يقال: أكرمتها، والأولى أن يقال: إن العطف بأو يجوز فيه الأمران توحيد الضمير كما في هذه الآية، وفي قوله تعالى: " وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها ". وقوله: "ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثم يرم به بريئاً"، وتثنيته كما في قوله تعالى: "إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما" ومن الأول في العطف بالواو قول امرئ القيس: فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها لما نسجته من جنوب وشمال ومنه قول الشاعر: نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأي مختلف ومنه: "والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها" وقيل: إنه إذا وجد الضمير بعد ذكر شيئين أو أشياء فهو بتأويل المذكور: أي فإن الله يعلم المذكور، وبه جزم ابن عطية ورجحه القرطبي وذكر معناه كثير من النحاة في مؤلفاتهم. قوله: "وما للظالمين من أنصار" أي ما للظالمين أنفسهم بما وقعوا فيه من الإثم لمخالفة ما أمر الله به من الإنفاق في وجوه الخير من أنصار ينصرونهم يمنعونهم من عقاب الله بما ظلموا به أنفسهم والأولى الحمل على العموم من غير تخصيص لما يفيده السياق: أي ما الظالمين بأي مظلمة كانت من أنصار.
271- قوله " إن تبدوا الصدقات فنعما هي" قرئ بفتح النون وكسر العين وبكسرهما وبكسر النون وسكون العين وبكسر النون وإخفاء حركة العين. وقد حكى النحويون في نعم أربع لغات، وهي هذه التي قرئ بها، وفي هذا نوع تفصيل لما أجمل في الشرطية المتقدمة: أي إن تظهروا الصدقات فنعم شيئاً إظهارها، وإن تخفوها تصيبوا بها مصارفها من الفقراء فالإخفاء خير لكم. وقد ذهب جمهور المفسرين إلى أن هذه الآية في صدقة التطوع لا في صدقة الفرض فلا فضيلة للإخفاء فيها بل قد قيل إن الإظهار فيها أفضل، وقالت طائفة: إن الإخفاء أفضل في الفرض والتطوع. قوله: "ويكفر عنكم من سيئاتكم" قرأ أبو عمرو وعاصم في رواية حفص بالياء والرفع. وقرأ الأعمش ونافع وحمزة والكسائي بالنون والجزم وقرأ ابن عباس بالتاء الفوقية وفتح الفاء والجزم. وقرأ الحسين بن علي الجعفي بالنون ونصب الراء. فمن قرأ بالرفع فهو معطوف على محل الجملة الواقعة جواباً بعد الفاء، أو على أنه خبر مبتدأ محذوف. ومن قرأ بالجزم فهو معطوف على الفاء وما بعدها. ومن قرأ بالنصب فعلى تقدير أن. قال سيبويه: والرفع ها هنا الوجه الجيد، وأجاز الجزم بتأويل وإن تخفوها يكن الإخفاء خيراً لكم ويكفر، وبمثل قول سيبويه قال الخليل. ومن في قوله: "من سيئاتكم" للتبعيض: أي شيئاً من سيئاتكم. وحكى الطبري عن فرقة أنها زائدة، وذلك على رأي الأخفش. قال ابن عطية: وذلك منهم خطأ. وقد أخرج ابن جرير عن علي بن أبي طالب في قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم" قال: من الذهب والفضة "ومما أخرجنا لكم من الأرض" يعني من الحب والثمر وكل شيء عليه زكاة. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن مجاهد في قوله: "أنفقوا من طيبات ما كسبتم" قال: من التجارة "ومما أخرجنا لكم من الأرض" قال: من الثمار. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد والترمذي وصححه وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن البراء بن عازب في قوله: "ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون" قال: نزلت فينا معشر الأنصار، كنا أصحاب نخل وكان الرجل يأتي من نخله على قدر كثرته وقلته، وكان الرجل يأتي القنو والقنوين فيعلقه في المسجد، وكان أهل الصفة ليس لهم طعام، فكان أحدهم إذا جاع أتى القنو فضربه بعصاه فيسقط البسر والتمر فيأكل، وكان ناس ممن لا يرغب في الخير يأتي الرجل بالقنو فيه الشيص والحشف وبالقنو قد انكسر فيعلقه، فأنزل الله: "يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه" قال: لو أن أحدكم أهدي إليه مثل ما أعطى لم يأخذه إلا على إغماض وحياء، قال: فكنا بعد ذلك يأتي أحدنا بصالح ما عنده. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة قال: ذكر لنا أن الرجل كان يكون له الحائطان فينظر إلى أردئهما تمراً في تمراً فيتصدق به ويخلط به الحشف فنزلت الآية، فعاب الله ذلك عليهم ونهاهم عنه. وأخرج عبد بن حميد عن جعفر بن محمد بن أبيه قال: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدقة الفطر فجاء رجل بتمر رديء، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الذي يخرص النخل أن لا يجيز. فأنزل الله تعالى الآية هذه. وأخرج عبد بن حميد وأبو داود والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والدارقطني والحاكم والبيهقي في سننه عن سهل بن حنيف قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من جاء بهذا؟ وكان كل من جاء بشيء نسب إليه، فنزلت: "ولا تيمموا الخبيث" الآية. ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لونين من التمر أن يوجدوا في الصدقة، الجعرور ولون الحبيق وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والضياء في المختارة عن ابن عباس قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يشترون الطعام الرخيص ويتصدقون، فأنزل الله "يا أيها الذين آمنوا" الآية. وأخرج ابن جرير عن عبيدة السلماني قال: سألت علي بن أبي طالب عن قول الله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا أنفقوا" الآية، فقال: نزلت هذه الآية في الزكاة المفروضة، كان الرجل بعمد إلى التمر فيصرمه فيعزل الجيد ناحية، فإذا جاء صاحب الصدقة أعطاه من الرديء. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "يؤتي الحكمة من يشاء" قال: المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه، محكمة ومتشابهة، ومقدمه ومؤخره، وحلاله وحرامه وأمثاله. وأخرج ابن مردويه عنه: أنها القرآن يعني تفسيره. وأخرج ابن المنذر عنه أنها النبوة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه قال: إنها الفقه في القرآن. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي الدرداء "يؤتي الحكمة" قال: قراءة القرآن والفكرة فيه. وأخرج ابن جرير عن أبي العالية قال: هي الكتاب والفهم به. وأخرج أيضاً عن النخعي نحوه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد قال: هي الكتاب يؤتي إصابته من يشاء. وأخرج عبد بن حميد عنه قال: هي الإصابة في القول. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية قال: هي الخشية لله. وأخرج أيضاً عن مطر الوراق مثله. وأخرج ابن المنذر عن سعيد بن جبير مثله. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "فإن الله يعلمه" قال: يحصيه. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في نذر الطاعة والمعصية في الصحيح وغيره ما هو معروف كقوله صلى الله عليه وسلم: "لا نذر في معصية الله" وقوله: "من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه" وقوله: "النذر ما ابتغي به وجه الله" وثبت عنه في كفارة النذر ما هو معروف. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "إن تبدوا الصدقات فنعما هي" الآية، قال: فجعل السر في التطوع بفضل علانيتها سبعين ضعفاً، وجعل صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها بخمسة وعشرين ضعفاً. وكذلك جميع الفرائض والنوافل في الأشياء كلها. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "إن تبدوا الصدقات" الآية، قال: كان هذا يعمل قبل أن تنزل براءة، فلما نزلت براءة بفرائض الصدقات وتفصيلها انتهت الصدقات إليها. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "إن تبدوا الصدقات" الآية، قال: هذا منسوخ. وقوله: " في أموالهم حق معلوم * للسائل والمحروم " قال: منسوخ، نسخ كل صدقة في القرآن الآية التي في سورة التوبة "إنما الصدقات للفقراء" وقد ورد في فضل صدقة السر أحاديث صحيحة مرفوعة.
قوله: 272- "ليس عليك هداهم" أي ليس بواجب عليك أن تجعلهم مهديين قابلين لما أمروا به ونهوا عنه "ولكن الله يهدي من يشاء" هداية توصله إلى المطلوب، وهذه الجملة معترضة وفيها الإلتفات، وسيأتي بيان السبب الذي نزلت لأجله، والمراد بقوله: "من خير" كل ما يصدق عليه اسم الخير كائناً ما كان، وهو متعلق بمحذوف: أي أي شيء تنفقون كائناً من خير، ثم بين أن النفقة المعتد بها المقبولة إنما هي ما كان ابتغاء وجه الله سبحانه: أي لابتغاء وجه الله. وقوله: "يوف إليكم" أي: أجره وثوابه على الوجه الذي تقدم ذكره من التضعيف.
قوله: 273- "للفقراء" متعلق بقوله: "وما تنفقوا من خير" أو بمحذوف: أي اجعلوا ذلك للفقراء أو خبر مبتدأ محذوف: أي إنفاقكم للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله بالغزو أو الجهاد، وقيل: امتنعوا عن التكسب لما فيه من الضعف " لا يستطيعون ضربا في الأرض " للتكسب بالتجارة والزراعة، ونحو ذلك بسبب ضعفهم، قيل: هم فقراء الصفة، وقيل: كل من يتصف بالفقر وما ذكر معه. ثم ذكر سبحانه من أحوال أولئك الفقراء ما يوجب الحنو عليهم والشفقة بهم، وهم كونهم متعففين عن المسألة من أحوال أولئك الفقراء ما يوجب الحنو عليهم والشفقة بهم، وهو كونهم متعففين عن المسألة وإظهار المسكنة بحيث يظنهم الجاهل بهم أغنياء. والتعفف تفعل وهو بناء مبالغة من عف عن الشيء: إذا أمسك عنه وتنزه عن طلبه وفي يحبسهم لغتان: فتح السين، وكسرها. قال أبو علي الفارسي: والفتح أقيس، لأن العين من الماضي مكسورة، فبابها أن تأتي في المضارع مفتوحة. فالقراءة بالكسر على هذا حسنة وإن كانت شاذة. ومن في قوله: من التعفف لابتداء الغاية، وقيل: لبيان الجنس. قوله: "تعرفهم بسيماهم" أي برثاثة ثيابهم وضعف أبدانهم وكل ما يشعر بالفقر والحاجة. والخطاب إما لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل من يصلح للمخاطبة، والسيما مقصورة: العلامة، وقد تمد. والإلحاف: الإلحاح في المسألة، وهو مشتق من اللحاف، سمي بذلك لاشتماله على وجوه الطلب في المسألة كاشتمال اللحاف على التغطية. ومعنى قوله: "لا يسألون الناس إلحافاً" أنهم لا يسألونهم ألبتة، لا سؤال إلحاح، ولا سؤال غير إلحاح. وبه قال الطبري والزجاج، وإليه ذهب جمهور المفسرين، ووجه أن التعفف صفة ثابتة لهم لا تفارقهم، ومجرد السؤال ينافيها، وقيل: المراد أنهم إذا سألوا سألوا بتلطف ولا يلحفون في سؤالهم، وهذا وإن كان هو الظاهر من توجه النفي إلى القيد دون المقيد، لكن صفة التعفف تنافيه، وأيضاً كون الجاهل بهم يحسبهم أغنياء لا يكون إلا مع عدم السؤال ألبتة.
وقوله: 274- "بالليل والنهار" يفيد زيادة رغبتهم في الإنفاق وشدة حرصهم عليه حتى أنهم لا يتركون ذلك ليلاً ولا نهاراً، ويفعلونه سراً وجهراً عند أن تنزل بهم حاجة المحتاجين، ويظهر لديهم فاقة المفتاقين في جميع الأزمنة على جميع الأحوال. ودخول الفاء في خبر الموصول أعني قوله: "فلهم أجرهم" للدلالة على سببية ما قبلها لما بعدها، وقيل: هي للعطف والخبر للموصول محذوف: أي ومنهم الذين ينفقون. وقد أخرج عبد بن حميد والنسائي والبزار وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي في سننه والضياء في المختارة عن ابن عباس، قال: كانوا يكرهون أن يرضخوا لأنسابهم من المشركين فنزلت هذه الآية: "ليس عليك هداهم" إلى قوله: "وأنتم لا تظلمون" فرخص لهم. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والضياء عنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمرنا أن لا تتصدق إلا على أهل الإسلام حتى نزلت هذه الآية، فأمر بالصدقة بعدها على كل من سألك من كل دين. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن سعيد بن جبير نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن الحنفية نحوه. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: كان أناس من الأنصار لهم نسب وقرابة من قريظة والنضير، وكان يتقون أن لا يتصدقوا عليهم ويريدونهم أن يسلموا، فنزلت "ليس عليك هداهم" الآية. وأخرج ابن المنذر عن عمرو الهلالي قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم أنتصدق على فقراء أهل الكتاب؟ فأنزل الله "ليس عليك هداهم" الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء الخراساني قال في قوله: "وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله" قال: إذا أعطيت لوجه الله فلا عليك ما كان عمله. وأخرج ابن المنذر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله: "للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله" قال: هم أصحاب الصفة. وأخرج ابن سعد عن محمد بن كعب القرظي نحوه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: هم مهاجرو قريش بالمدينة مع النبي صلى الله عليه وسلم أمروا بالصدقة عليهم. وأخرج ابن جرير عن الربيع في قوله: "الذين أحصروا في سبيل الله" قال: حصروا أنفسهم في سبيل الله للغزو فلا يستطيعون تجارة. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: هم قوم أصابتهم الجراحات في سبيل الله فصاروا زمنى، فجعل لهم في أموال المسلمين حقاً. وأخرج ابن أبي حاتم عن رجاء بن حيوة في قوله: "لا يستطيعون ضرباً في الأرض" قال: لا يستطيعون تجارة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله: "يحسبهم الجاهل أغنياء" قال: دل الله المؤمنين عليهم وجعل نفقاتهم لهم، وأمرهم أن يضعوا نفقاتهم فيهم ورضي عنهم. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "تعرفهم بسيماهم" قال: التجشع. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الربيع أن معناه تعرف في وجوههم الجهد من الحاجة. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد "تعرفهم بسيماهم" قال: رثاثة ثيابهم، وثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان، واللقمة واللقمتان، إنما المسكين الذي يتعفف، وأقرأوا إن شئتم: لا يسألون الناس إلحافاً" وقد ورد في تحريم المسألة أحاديث كثيرة إلا لذي سلطان أو في أمر لا يجد منه بداً. وأخرج ابن سعد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن عدي والطبراني وأبو الشيخ عن يزيد بن عبد الله بن غريب المليكي عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنزلت هذه الآية "الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار" في أصحاب الخيل". وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن عساكر عن أبي أمامة الباهلي نحوه قال: فيمن لا يربطها خيلاء ولا رياء ولا سمعة. وأخرج ابن جرير عن أبي الدرداء نحوه. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن حنش الصنعاني أنه سمع ابن عباس يقول في هذه الآية: هم الذين يعلفون الخيل في سبيل الله. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن عساكر من طريق عبد الوهاب بن مجاهد عن أبيه عن ابن عباس في هذه الآية، قال: نزلت في علي بن أبي طالب كانت له أربعة دراهم فأنفق بالليل درهماً، وبالنهار درهماً، ودرهماً سراً، ودرهماً علانيةً. وعبد الوهاب ضعيف ولكن قد رواه ابن مردويه من وجه آخر عن ابن عباس. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في هذه الآية قال: هؤلاء قوم أنفقوا في سبيل الله الذي افترض عليهم في غير سرف ولا إملاق ولا تبذير ولا فساد. وأخرج ابن المنذر عن سعيد بن المسيب قال: نزلت في عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان في نفقتهم في جيش العسرة.
الربا في اللغة: الزيادة مطلقاً، يقال ربا الشيء يربو: إذا زاد، وفي الشرع يطلق على شيئين على ربا الفضل، وربا النسيئة حسبما هو منفصل في كتب الفروع، وغالب ما كانت تفعله الجاهلية أنه إذا حل أجل الدين قال من هو له لمن هو عليه: أتقضي أم تربي؟ فإذا لم يقض زاد مقداراً في المال الذي وأخر له الأجل إلى حين. وهذا حرام بالاتفاق، وقياس كتابة الربا بالياء للكسرة في أوله. وقد كتبوه في المصحف بالواو. قال في الكشاف: على لغة من يفخم كما كتبت الصلاة والزكاة، وزيدت الألف بعدها تشبيهاً بواو الجمع انتهى. قلت: وهذا مجرد اصطلاح لا يلزم المشي عليه، فإن هذه النقوش الكتابية أمور اصطلاحية لا يشاحح في مثلها إلا فيما كان يدل به منها على الحرف الذي كانه في أصل الكلمة ونحوه كما هو مقرر في مباحث الخط من علم الصرف، وعلى كل حال فرسم الكلمة وجعل نقشها الكتابي على ما يقتضيه اللفظ بها هو الأولى، فما كان في النطق ألفاً كالصلاة والزكاة ونحوهما كان الأولى في رسمه أن يكون كذلك، وكون أصل هذا الألف واواً أو ياءً لا يخفى على من علم الصرف، وهذه النقوش ليست إلا لفهم اللفظ الذي يدل على بها عليه كيف هو في نطق من ينطق به لا لتفهيم أن أصل الكلمة كذا مما لا يجري به النطق، فاعرف هذا ولا تشتغل بما يعتبره كثير من أهل العلم في هذه النقوش ويلزمون به أنفسهم ويعيبون من خالفه، فإن ذلك من المشاححة في الأمور الاصطلاحية التي لا تلزم أحداً أن يتقيد بها، فعليك بأن ترسم هذه النقوش على ما يلفظ به اللافظ عند قراءتها، فإنه الأمر المطلوب من وضعها والتواضع عليها، وليس الأمر المطلوب منها أن تكون دالة على ما هو أصل الكلمة التي يتلفظ بها المتلفظ مما لا يجري في لفظه الآن، فلا تغتر بما يروى عن سيبويه ونحاة البصرة أن يكتب الربا بالواو، لأنه يقول في تثنيته ربوان. وقال الكوفيون: يكتب بالياء، وتثنيته ربيان. قال الزجاج: ما رأيت خطأ أقبح من هذا ولا أشنع، لا يكفيهم الخطأ في الخط حتى يخطئوا في التثنية وهم يقرأون " وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو " وليس المراد بقوله هنا: 275- "الذين يأكلون الربا" اختصاص هذا الوعيد بمن يأكله، بل هو عام لكل من يعامل بالربا فيأخذه ويعطيه، وإنما خص الأكل لزيادة التشنيع على فاعله، ولكونه هو الغرض الأهم فإن آخذ الربا إنما أخذه للأكل قوله: "لا يقومون" أي يوم القيامة، كما يدل عليه قراءة ابن مسعود " لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ". أخرجه عبد بن حميد وابن أبي حاتم، وبهذا فسره جمهور المفسرين قالوا: إنه يبعث كالمجنون عقوبة له وتمقيتاً عند أهل المحشر، وقيل: إن المراد تشبيه من يحرص في تجارته فيجمع ماله من الربا بقيام المجنون، لأن الحرص والطمع والرغبة في الجمع قد استفزته حتى صار شبيهاً في حركته بالمجنون، كما يقال لمن يسرع في مشيه ويضطرب في حركاته: إنه قد جن، ومنه قول الأعشى في ناقته: وتصبح من غب السرى وكأنها ألم بها من طائف الجن أولق فجعلها بسرعة مشيها ونشاطها كالمجنون. قوله: "إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس" أي إلا قياماً كقيام الذي يتخبطه، والخبط: الضرب بغير استواء كخبط العشواء وهو المصروع. والمس: الجنون، والأمس: المجنون، وكذلك الأولق وهو متعلق بقوله: "يقومون" أي: لا يقومون من المس الذي بهم "إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان" أو متعلق بيقوم. وفي الآية دليل على فساد قول من قال: إن الصرع لا يكون من جهة الجن، وزعم أنه من فعل الطبائع، وقال: إن الآية خارجة على ما كانت العرب تزعمه من أن الشيطان يصرع الإنسان، وليس بصحيح، وإن الشيطان لا يسلك في الإنسان ولا يكون منه مس. وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من أن يتخبطه الشيطان، كما أخرجه النسائي وغيره. قوله: "ذلك" إشارة إلى ما ذكر من حالهم وعقوبتهم بسبب قولهم: "إنما البيع مثل الربا" أي: أنهم جعلوا البيع والربا شيئاً واحداً، وإنما شبهوا البيع بالربا مبالغة بجعلهم الربا أصلاً والبيع فرعاً، أي: إنما البيع بلا زيادة عند حلول الأجل كالبيع بزيادة عند حلوله، فإن العرب كانت لا تعرف ربا إلا ذلك، فرد الله سبحانه عليهم بقوله: "وأحل الله البيع وحرم الربا" أي: أن الله حل البيع وحرم نوعاً من أنواعه، وهو البيع المشتمل على الربا. والبيع مصدر باع يبيع: أي دفع عوضاً وأخذ معوضاً، والجملة بيانية لا محل لها من الإعراب. قوله: "فمن جاءه موعظة من ربه" أي من بلغته موعظة من الله من المواعظ التي تشتمل عليها الأوامر والنواهي، ومنها ما وقع هنا من النهي عن الربا "فانتهى" أي فامتثل النهي الذي جاءه والزجر عن المنهي عنه وهو معطوف: أي قوله: "فانتهى" على قوله: "جاءه". وقوله: "من ربه" متعلق بقوله: "جاءه" أو بمحذوف وقع صفة لموعظة: أي كائنة من " من ربه فانتهى فله ما سلف " أي ما تقدم منه من الربا لا يؤاخذ به، لأنه فعله قبل أن يبلغه تحريم الربا أو قبل أن تنزل آية تحريم الربا. وقوله: " وأمره إلى الله " قيل: الضمير عائد إلى ما سلف: أي أمره إلى الله في العفو عنه وإسقاط التبعة فيه، وقيل: الضمير يرجع إلى المربي: أي أمر من عامل بالربا إلى الله في تثبيته على الانتهاء أو الرجوع إلى المعصية "ومن عاد" إلى أكل الربا والمعاملة به "فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون" والإشارة إلى من عاد، وجمع أصحاب باعتبار معنى من، وقيل: إن معنى من عاد: هو أن يعود إلى القول: بـ"إنما البيع مثل الربا" وأنه يكفر بذلك فيستحق الخلود، وعلى التقدير الأول يكون الخلود مستعاراً على معنى المبالغة، كما تقول العرب ملك خالد: أي طويل البقاء، والمصير إلى هذا التأويل واجب للأحاديث المتواترة القاضية بخروج الموحدين من النار.