تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 47 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 47

046

قوله: 276- "يمحق الله الربا" أي: يذهب بركته في الدنيا وإن كان كثيراً فلا يبقى بيد صاحبه، وقيل: يمحق بركته في الآخرة. قوله: "ويربي الصدقات" أي يزيد في المال الذي أخرجت صدقته، وقيل: يبارك في ثواب الصدقة ويضاعفه ويزيد في أجر المتصدق، ولا مانع من حمل ذلك على الأمرين جميعاً. قوله: "والله لا يحب كل كفار أثيم" أي لا يرضى، لأن الحب مختص بالتوابين، وفيه تشديد وتغليظ عظيم على من أربى حيث حكم عليه بالكفر، ووصفه بأثيم للمبالغة، وقيل: لإزالة الاشتراك، إذ قد يقع على الزراع، ويحتمل أن المراد بقوله: "كل كفار" من صدرت منه خصلة توجب الكفر، ووجه التصاقه بالمقام أن الذين قالوا: إنما البيع مثل الربا كفار.
وقد تقدم تفسير قوله: 277- "إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات" إلى آخر الآية. وقد أخرج أبو يعلى من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله: "الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس" قال: يعرفون يوم القيامة بذلك لا يستطيعون القيام إلا كما يقوم المتخبط المنخنق "ذلك بأنهم قالوا: إنما البيع مثل الربا" وكذبوا على الله "وأحل الله البيع وحرم الربا" ومن عاد فأكل الربا "فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في الآية قال: آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنوناً يخنق. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر من وجه آخر عنه أيضاً في قوله: "لا يقومون" قال: ذلك حين يبعث من قبره. وأخرج الأصبهاني في ترغيبه عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يأتي آكل الربا يوم القيامة مختبلاً يجر شفتيه، ثم قرأ "لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس"" وقد وردت أحاديث كثيرة في تعظيم ذنب الربا، منها من حديث عبد الله بن مسعود عند الحاكم وصححه والبيهقي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الربا ثلاثة وسبعون باباً، أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه، وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم" ومن حديث أبي هريرة مرفوعاً عند ابن ماجه والبيهقي بلفظ "سبعون باباً" وورد هذا المعنى مع اختلاف العدد عن عبد الله بن سلام وكعب وابن عباس وأنس. وأخرج ابن جرير عن الربيع في الآية قال: يبعثون يوم القيامة وبهم خبل من الشيطان وهي في بعض القراءات: لا يقومون يوم القيامة. يعني قراءة ابن مسعود المتقدم ذكرها. وفي الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة قالت: لما نزلت الآيات من آخر سورة البقرة في الربا "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد فقرأهن على الناس، ثم حرم التجارة في الخمر". وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن عمر بن الخطاب أنه خطب فقال: إن من آخر القرآن نزولاً آية الربا، وإنه قد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبينه لنا فدعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم. وأخرج البخاري وغيره عن ابن عباس أنه قال: آخر آية أنزلها على رسوله آية الربا. وأخرج البيهقي في الدلائل عن عمر مثله. وأخرج ابن جرير عن مجاهد في الربا الذي نهى الله عنه قال: كان أهل الجاهلية يكون للرجل على الرجل الدين فيقول: لك كذا وكذا وتؤخر عني فيؤخر عنه. وأخرج أيضاً عن قتادة نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير نحوه أيضاً وزاد في قوله: "فمن جاءه موعظة من ربه" قال: يعني البيان الذي في القرآن في تحريم الربا فانتهى عنه "فله ما سلف" يعني فله ما كان أكل من الربا قبل التحريم "وأمره إلى الله" يعني بعد التحريم وبعد تركه إن شاء عصمه منه وإن شاء لم يفعل "ومن عاد" يعني في الربا بعد التحريم فاستحله بقولهم: " إنما البيع مثل الربا " - " فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " يعني لا يموتون. وأخرج ابن جرير وابن المنذر من طريق ابن جريج عن ابن عباس في قوله: "يمحق الله الربا" قال: ينقص الربا "ويربي الصدقات" قال: يزيد فيها، وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة مرفوعاً " من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا طيباً، ، فإن الله يقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل". وأخرج البزار وابن جرير وابن حبان والطبراني من حديث عائشة نحوه. وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن ابن عمر مرفوعاً نحوه أيضاً. وفي حديث عائشة وابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ بعد أن ساق الحديث "يمحق الله الربا ويربي الصدقات". وأخرج الطبراني عن أبي برزة الأسلمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن العبد ليتصدق بالكسرة تربو عند الله حتى تكون مثل أحد" وهذه الأحاديث تبين معنى الآية.
قوله: 278- "اتقوا الله" أي قوا أنفسكم من عقابه واتركوا البقايا التي بقيت لكم من الربا، وظاهره أنه أبطل من الربا ما لم يكن مقبوضاً. قوله: "إن كنتم مؤمنين" قيل: هو شرط مجازي على جهة المبالغة، وقيل: إن إن في هذه الآية بمعنى إذ. قال ابن عطية: وهو مردود لا يعرف في اللغة، والظاهر أن المعنى: إن كنتم مؤمنين على الحقيقة، فإن ذلك يستلزم امتثال أوامر الله ونواهيه.
قوله: 279- "فإن لم تفعلوا" يعني ما أمرتم به من الاتقاء وترك ما بقي من الربا "فأذنوا بحرب من الله ورسوله" أي فاعلموا بها، من أذن بالشيء إذا علم به، قيل: هو من الإذن بالشيء وهو الاستماع لأنه من طرق العلم. وقرأ أبو بكر عن عاصم وحمزة فأذنوا على معنى فأعلموا غيركم أنكم على حربهم. وقد دلت هذه على أن أكل الربا والعمل به من الكبائر، ولا خلاف في ذلك، وتنكير الحرب للتعظيم، وزادها تعظيماً نسبتها إلى اسم الله الأعظم وإلى رسوله الذي هو أشرف خليقته. قوله: "فإن تبتم" أي من الربا "فلكم رؤوس أموالكم" تأخذونها "لا تظلمون" غراماءكم بأخذ الزيادة "ولا تظلمون" أنتم من قبلهم بالمطل والنقص، والجملة حالية أو استئنافية. وفي هذا دليل على أن أموالهم مع عدم التوبة حلال لمن أخذها من الأئمة ونحوهم ممن ينوب عنهم.
قوله: 280- "وإن كان ذو عسرة" لما حكم سبحانه لأهل الربا برؤوس أموالهم عند الواجدين للمال حكم في ذوي العسرة بالنظر إلى يسار، والعسرة: ضيق الحال من جهة عدم المال، ومنه جيش العسرة. والنظرة: التأخير، والميسرة مصدر بمعنى اليسر، وارتفع ذو بكان التامة التي بمعنى وجد، وهذا قول سيبويه وأبو علي الفارسي وغيرهما. وأنشد سيبويه: فدى لبني ذهل بن شيبان يا فتى إذا كان يوم ذو كواكب أشهب وفي مصحف أبي وإن كان ذا عسرة على معنى: وإن كان المطلوب ذا عسرة. وقرأ الأعمش وإن كان معسراً قال أبو عمرو الداني عن أحمد بن موسى وكذلك في مصحف أبي بن كعب. وروى المعتمر عن حجاج الوراق قال في مصحف عثمان: " وإن كان ذو عسرة " قال النحاس ومكي والنقاش: وعلى هذا يختص لفظ الآية بأهل الربا، وعلى من قرأ ذو فهي عامة في جميع من عليه دين، وإليه ذهب الجمهور. وقرأ الجماعة "فنظرة" بكسر الظاء. وقرأ مجاهد وأبو رجاء والحسن بسكونها وهي لغة تميم. وقرأ نافع وحده "ميسرة" بضم السين والجمهور بفتحها، وهي اليسار. قوله: "وأن تصدقوا" بحذف إحدى التاءين، وقرئ بتشديد الصاد: أي وأن تصدقوا على معسري غرمائكم بالإبراء خير لكم، وفيه الترغيب لهم بأن يتصدقوا برؤوس أموالهم على من أعسر وجعل ذلك خيراً من إنظاره، قاله السدي وابن زيد والضحاك. قال الطبري: وقال آخرون: معنى الآية وأن تصدقوا على الغني والفقير خير لكم. والصحيح الأول، وليس في الآية مدخل للغني. قوله: "إن كنتم تعلمون" جوابه محذوف: أي إن كنتم تعلمون أنه خير لكم عملتم به.
قوله: 281- "واتقوا يوماً" هو يوم القيامة وتنكيره للتهويل وهو منصوب على أنه مفعول به لا ظرف. وقوله: "ترجعون فيه إلى الله" وصف له. وقرأ أبو عمرو بفتح التاء وكسر الجيم، والباقون بضم التاء وفتح الجيم، وذهب قوم إلى أن هذا االيوم المذكور هو يوم الموت. وذهب الجمهور إلى أنه يوم القيامة كما تقدم. وقوله: "إلى الله" فيه مضاف محذوف تقديره إلى حكم الله "ثم توفى كل نفس" من النفوس المكلفة "ما كسبت" أي جزاء ما عملت من خير أو شر، وجملة "وهم لا يظلمون" حالية، وجمع الضمير لأنه أنسب بحال الجزاء كما أن الإفراد أنسب بحال الكسب، وهذه الآية فيها الموعظة الحسنة لجميع الناس. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن السدي في قوله: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا" قال: نزلت في العباس بن عبد المطلب ورجل من بني المغيرة كانا شريكين في الجاهلية يسلفان الربا إلى ناس من ثقيف، فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة في الربا، فأنزل الله هذه الآية. وأخرج ابن جرير عن ابن جريج قال: كانت ثقيف قد صالحت النبي صلى الله عليه وسلم على أن ما لهم من ربا على الناس، وما كان للناس عليهم من ربا فهو موضوع، فلما كان الفتح استعمل عتاب بن أسيد على مكة، وكانت بنو عمرو ابن عوف يأخذون الربا من بني المغيرة، وكان بنو المغيرة يربون لهم في الجاهلية، فجاء الإسلام ولهم عليهم مال كثير فأتاهم بنو عمرو يطلبون رباهم، فأبى بنو المغيرة أن يعطوهم في الإسلام، ورفعوا ذلك إلى عتاب بن أسيد، فكتب عتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا" فكتب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عتاب وقال: إن رضوا وإلا فأذنهم بحرب. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "فأذنوا بحرب" قال: من كان مقيماً على الربا لا ينزع منه فحق على إمام المسلمين أن يستتيبه، فإن نزع وإلا ضرب عنقه. وأخرجوا أيضاً عنه في قوله: "فأذنوا بحرب" قال: استيقنوا بحرب. وأخرج أهل السنن وغيرهم عن عمرو بن الأحوص أنه شهد حجة الوداع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ألا إن كل ربا في الجاهلية موضوع، لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون، وأول ربا موضوع ربا العباس". وأخرج ابن منده عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في ربيعة بن عمرو وأصحابه "وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم". وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وإن كان ذو عسرة" قال: نزلت في الربا. وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وعبد بن حميد عن شريح نحوه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن الضحاك في الآية قال: وكذلك كل دين على مسلم. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير نحوه. وقد وردت أحاديث صحيحة في الصحيحين وغيرهما في الترغيب لمن له دين على معسر أن ينظره. وأخرج أبو عبيد وعبد بن حميد والنسائي وابن جرير والطبراني وابن المنذر والطبراني وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال: آخر آية نزلت من القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم: "واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله". وأخرج ابن أبي شيبة عن السدي وعطية العوفي مثله. وأخرج ابن الأنباري عن أبي صالح وسعيد بن جبير مثله أيضاً. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر والبيهقي من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنها آخر آية نزلت، وكان بين نزولها وبين موت النبي صلى الله عليه وسلم إحدى وثمانون يوماً. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أنه عاش النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزولها تسع ليال ثم مات.
هذا شروع في بيان حال المداينة الواقعة بين الناس بعد بيان حال الربا: أي إذا داين بعضكم بعضاً وعامله بذلك، وذكر الدين بعد ذكر ما يغني عنه من المداينة لقصد التأكيد مثل قوله: "ولا طائر يطير بجناحيه" وقيل: إنه ذكر ليرجع إليه الضمير في من قوله: 282- " فاكتبوه " ولو قال: فاكتبوا الدين لم يكن فيه من الحسن ما في قوله: "إذا تداينتم بدين"، والدين عبارة عن كل معاملة كان أحد العوضين فيها نقداً، والآخر في الذمة نسيئة، فإن العين عند العرب ما كان حاضراً، والدين ما كان غائباً، قال الشاعر: وعدتنا بدرهمينا طلاء وسواء معجلاً غير دين وقال الآخر: إذا ما أوقدوا ناراً وحطباً فذاك الموت نقداً غير دين وقد بين الله سبحانه هذا المعنى بقوله: "إلى أجل مسمى" وقد استدل به على أن الأجل المجهول لا يجوز وخصوصاً أجل السلم. وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من أسلف في تمر فليسلف في كيل معلوم إلى أجل معلوم" وقد قال بذلك الجمهور، واشترطوا توقيته بالأيام أو الأشهر أو السنين، قالوا: ولا يجوز إلى الحصاد أو الدياس أو رجوع القافلة أو نحو ذلك. وجوزه مالك. قوله: "فاكتبوه" أي الدين بأجله لأنه أدفع للنزاع وأقطع للخلاف. قوله: "وليكتب بينكم كاتب" هو بيان لكيفية الكتابة المأمور بها، وظاهر الأمر الوجوب، وبه قال عطاء والشعبي وغيرهما، فأوجبوا على الكاتب أن يكتب إذا طلب منه ذلك، ولم يوجد كاتب سواه، وقيل: الأمر للندب. وقوله: "بالعدل" متعلق بمحذوف صفة لكاتب أي كاتب كائن بالعدل: أي يكتب بالسوية لا يزيد ولا ينقص ولا يميل إلى أحد الجانبين، وهو أمر للمتداينين باختيار كاتب متصف بهذه الصفة لا يكون في قلبه ولا قلمه هوادة لأحدهما على الآخر، بل يتحرى الحق بينهم والمعدلة فيهم. قوله: "ولا يأب كاتب" النكرة في سياق النفي مشعرة بالعموم: أي لا يمتنع أحد من الكتاب أن يكتب كتاب التداين كما علمه الله: أي على الطريقة التي علمه الله من الكتابة، أو كما علمه الله بقوله: "بالعدل". قوله: "وليملل الذي عليه الحق" الإملال والإملاء لغتان: الأولى لغة أهل الحجاز وبني أسد والثانية لغة بني تميم، فهذه الآية جاءت على اللغة الأولى، وجاء على اللغة الثانية قوله تعالى: "فهي تملى عليه بكرة وأصيلاً" و"الذي عليه الحق" هو من عليه الدين، أمره الله تعالى بالإملاء، لأن الشهادة إنما تكون على إقراره بثبوت الدين في ذمته، وأمره الله بالتقوى فيما يمليه على الكاتب، بالغ في ذلك بالجمع بين الإسم والوصف في قوله: "وليتق الله ربه" ونهاه عن البخس وهو النقص، وقيل: إنه نهي للكاتب. والأول أولى لأن من عليه الحق هو الذي يتوقع منه النقص، ولو كان نهياً للكاتب لم يقتصر في نهيه على النقص، لأنه يتوقع منه الزيادة كما يتوقع منه النقص. والسفيه هو الذي لا رأي له في حسن التصرف فلا يحسن الأخذ ولا الإعطاء، شبه بالثوب السفيه وهو الخفيف النسج، والعرب تطلق السفه على ضعف العقل تارة، وعلى ضعف البدن أخرى، فمن الأول قول الشاعر: نخاف أن تسفه أحلامنا ونجهل الدهر مع الجاهل ومن الثاني قول ذي الرمة: مشين كما اهتزت رماح تسفهت أعاليها مر الرياح النواسم أي استضعفها واستلانها بحركتها، وبالجملة فالسفيه هو المبذر إما لجهله بالصرف أو لتلاعبه بالمال عبثاً مع كونه لا يجهل الصواب. والضعيف: هو الشيخ الكبير، أو الصبي. قال أهل اللغة: الضعف بضم الضاد في البدن، وبفتحها في الرأي. والذي لا يستطيع أن يمل هو الأخرس أو العيي الذي لا يقدر على التعبير كما ينبغي، وقيل: إن الضعيف هو المذهول العقل الناقص الفطنة العاجز عن الإملاء، والذي لا يستطيع أن يمل هو الصغير. قوله: "فليملل وليه بالعدل" الضمير عائد إلى الذي عليه الحق فيمل عن السفيه وليه المنصوب عنه بعد حجره عن التصرف في ماله، ويمل عن الصبي وصيه أو وليه، وكذلك يمل عن العاجز الذي لا يستطيع الإملال لضعف وليه لأنه في حكم الصبي أو المنصوب عنه من الإمام أو القاضي، ويمل عن الذي لا يستطيع وكيله إذا كان صحيح العقل وعرضت له آفة في لسانه أو لم تعرض، ولكنه جاهل لا يقدر على التعبير كما ينبغي. وقال الطبري: إن الضمير في قوله: "وليه" يعود إلى الحق، وهو ضعيف جداً. قال القرطبي في تفسيره: وتصرف السفيه المحجور عليه دون وليه فاسد إجماعاً مفسوخ أبداً لا يوجب حكماً ولا يؤثر شيئاً، فإن تصرف سفيه ولا حجر عليه ففيه خلاف انتهى. قوله: "واستشهدوا شهيدين من رجالكم" الاستشهاد: طلب الشهادة، وسماهما شهيدين قبل الشهادة من مجاز الأول أي باعتبار ما يؤول إليه أمرهما من الشهادة، و"من رجالكم" متعلق بقوله: "واستشهدوا" أو بمحذوف هو صفة لشهيدين: أي كائنين من رجالكم: أي من المسلمين فيخرج الكفار، ولا وجه لخروج العبيد من هذه الآية، فهم إذا كانوا مسلمين من رجال المسلمين، وبه قال شريح وعثمان البتي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو ثور. وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي وجمهور العلماء: لا تجوز شهادة العبد لما يلحقه من نقص الرق. وقال الشعبي والنخعي: يصح في الشيء اليسير دون الكثير. واستدل الجمهور على عدم جواز شهادة العبد بأن الخطاب في هذه الآية مع الذين يتعاملون بالمداينة والعبيد لا يملكون شيئاً تجري فيه المعاملة. ويجاب عن هذا بأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وأيضاً العبد تصح منه المداينة وسائر المعاملات إذا أذن له مالكه بذلك. وقد اختلف الناس هل الإشهاد واجب أو مندوب، فقال أبو موسى الأشعري وابن عمر والضحاك وعطاء وسعيد بن المسيب وجابر بن زيد ومجاهد وداود علي الظاهري وابنه: إنه واجب، ورجحه ابن جرير الطبري، وذهب الشعبي والحسن ومالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابه إلى أنه مندوب، وهذا الخلاف بين هؤلاء هو في جوب الإشهاد على البيع. واستدل الموجبون بقوله تعالى: "وأشهدوا إذا تبايعتم" ولا فرق بين هذا الأمر وبين قوله: "واستشهدوا"، فيلزم القائلين بوجوب الإشهاد في البيع أن يقولوا بوجوبه في المداينة. قوله: "فإن لم يكونا" أي الشهيدان " رجلين فرجل وامرأتان " أي: فليشهد رجل وامرأتان أو فرجل وامرأتان يكفون. وقوله: " ممن ترضون من الشهداء " متعلق بمحذوف وقع صفة لرجل وامرأتان: أي كائنون ممن ترضون حال كونهم من الشهداء. والمراد ممن ترضون دينهم وعدالتهم، أي كائنون ممن ترضون حال كونهم من الشهداء. والمراد ممن ترضون دينهم وعدالتهم، وفيه أن المرأتين في الشهادة برجل، وأنها لا تجوز شهادة النساء إلا مع الرجل لا وحدهن إلا فيما لا يطلع عليه غيرهن للضرورة. واختلفوا هل يجوز الحكم بشهادة امرأتين مع يمين المدعي كما جاز الحكم برجل مع يمين المدعي؟ فذهب مالك والشافعي إلى أنه يجوز ذلك، لأن الله سبحانه قد جعل المرأتين كالرجل في هذه الآية. وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنه لا يجوز ذلك، وهذا يرجع إلى الخلاف في الحكم بشاهد مع يمين المدعي، والحق أنه جائز لورود الدليل عليه، وهو زيادة لم تخالف ما في الكتاب العزيز فيتعين قبولها. وقد أوضحنا ذلك في شرحنا للمنتقى وغيره من مؤلفاتنا، ومعلوم عند كل من يفهم أنه ليس في هذه الآية ما يرد به قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشاهد واليمين، ولم يدفعوا هذا إلا بقاعدة مبينة على شفا جرف هار هي قوله: إن الزيادة على النص نسخ، وهذه دعوى باطلة، بل الزيادة على النص شريعة ثابتة جاءنا بها من جاءنا بالنص المتقدم عليها، وأيضاً كان يلزمهم أن لا يحكموا بنكول المطلوب ولا بيمين الرد على الطالب. وقد حكموا بهما، والجواب الجواب. قوله: "أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى" قال أبو عبيد: معنى تضل تنسى، والضلال عن الشهادة إنما هو نسيان جزء منها وذكر جزء. وقرأ حمزة إن تضل بكسر الهمزة. وقوله: "فتذكر" جوابه على هذه القراءة، وعلى قراءة الجمهور هو منصوب بالعطف على تضل، ومن رفعه فعلى الاستئناف. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو فتذكر بتخفيف الذال والكاف، ومعناه: تزيدها ذكراً. وقراءة الجماعة بالتشديد: أي تنبيهاً إذا غفلت ونسيت، وهذه الآية تعليل لاعتبار العدد في النساء: أي فليشهد رجل وتشهد امرأتان عوضاً عن الرجل الآخر لأجل تذكير إحداهما للأخرى إذا ضلت، وعلى هذا فيكون في الكلام حذف وهو سؤال سائل عن وجه اعتبار امرأتين عوضاً عن الرجل الواحد، فقيل: وجهه أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى، والعلة في الحقيقة هي التذكير، ولكن الضلال لما كان سبباً له نزل منزلته، وأبهم الفاعل في تضل وتذكر، لأن كلاً منهما يجوز عليه الوصفان، فالمعنى: إن ضلت هذه ذكرتها هذه، وإن ضلت هذه ذكرتها هذه لا على التعيين: أي: إن ضلت إحدى المرأتين ذكرتها المرأة الأخرى، وإنما اعتبر فيهما هذا التذكير لما يلحقهما من ضعف النساء بخلاف الرجال. وقد يكون الوجه في الإبهام أن ذلك يعني الضلال والتذكير يقع بينهما متناوباً حتى ربما ضلت هذه عن وجه وضلت تلك عن وجه آخر، فذكرت كل واحدة منهما صاحبتها. وقال سفيان بن عيينة: معنى قوله: "فتذكر إحداهما الأخرى" تصيرها ذكراً، يعني أن مجموع شهادة المرأتين مثل شهادة الرجل الواحد. وروي نحوه عن أبي عمرو بن العلاء، ولا شك أن هذا باطل لا يدل عليه شرع ولا لغة ولا عقل. قوله: "ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا" أي لأداء الشهادة التي قد تحملوها من قبل، وقيل: إذا ما دعوا لتحمل الشهادة، وتسميتهم شهداء مجاز كما تقدم، وحملها الحسن على المعنيين. وظاهر هذا النهي أن الامتناع من أداء الشهادة حرام. قوله: "ولا تسأموا أن تكتبوه" معنى تسأموا: تملوا. قال الأخفش: يقال: سئمت أسأم سآمة وسئاماً، ومنه قول الشاعر: سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ثمانين حولاً لا أبا لك يسأم أي لا تملوا أن تكتبوه: أي الدين الذي تداينتم به، وقيل: الحق، وقيل: الشاهد، وقيل: الكتاب، نهاهم الله سبحانه عن ذلك لأنهم ربما ملوا من كثرة المداينة أن يكتبوا، ثم بالغ في ذلك فقال: "صغيراً أو كبيراً" أي حال كون ذلك المكتوب صغيراً أو كبيراً: أي لا تملوا في حال من الأحوال سواء كان الدين كثيراً أو قليلاً، وقيل: إنه كنى بالسآمة عن الكسل. والأول أولى. وقدم الصغير هنا على الكبير للاهتمام به لدفع ما عساه أن يقال: إن هذا مال صغير: أي قليل لا احتياج إلى كتبه، والإشارة في قوله: "ذلكم" إلى المكتوب المذكور في ضمير قوله: "أن تكتبوه" "وأقسط" معناه أعدل: أي أصح وأحفظ "وأقوم للشهادة" أي أعون على إقامة الشهادة وأثبت لها وهو مبني من أقام، وكذلك أقسط مبني من فعله: أي أقسط. وقد صرح سيبويه بأنه قياسي: أي بني أفعل التفضيل. ومعنى قوله: " وأدنى أن لا ترتابوا " أقرب لنفي الريب في معاملاتكم: أي الشك، ولذلك أن الكتاب الذي يكتبونه يدفع ما يعرض لهم من الريب كائناً ما كان. قوله: "إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم" أن في موضع نصب على الاستثناء قاله الأخفش، وكان تامة: أي إلا أن تقع أو توجد تجارة، والاستثناء منقطع: أي لكن وقت تبايعكم وتجارتكم حاضرة بحضور البدلين "تديرونها بينكم" تتعاطونها يداً بيد، فالإدارة: التعاطي والتقابض، فالمراد التبايع الناجز يداً بيد فلا حرج عليكم إن تركتم كتابه. وقرئ بنصب تجارة على أن كان ناقصة: أي إلا أن تكون التجارة تجارة حاضرة. قوله: "وأشهدوا إذا تبايعتم" قيل معناه: وأشهدوا إذا تبايعتم هذا التبايع المذكور هذا وهو التجارة الحاضرة على أن الإشهاد فيها يكفي، وقيل معناه: إذا تبايعتم أي تبايع كان حاضراً أو كالئاً، لأن ذلك أدفع لمادة الخلاف وأقطع لمنشأ الشجار. وقد تقدم قريباً ذكر الخلاف في كون هذه الإشهاد واجباً أو مندوباً. قوله: "ولا يضار كاتب ولا شهيد" يحتمل أن يكون مبنياً للفاعل أو للمفعول، فعلى الأول معناه: لا يضارر كاتب ولا شهيد من طلب ذلك منهما، إما بعدم الإجابة، أو بالتحريف والتبديل والزيادة والنقصان في كتابه، ويدل على هذا قراءة عمر بن الخطاب وابن عباس وابن أبي إسحاق ولا يضارر بكسر الراء الأولى، وعلى الثاني لا يضارر كاتب ولا شهيد بأن يدعيا إلى ذلك وهما مشغولان بمهم لهما ويضيق عليهما في الإجابة ويؤذيا إن حصل منهما التراخي، أو يطلب منهما الحضور من مكان بعيد، ويدل على ذلك قراءة ابن مسعود ولا يضارر بفتح الراء الأولى، وصيغة المفاعلة تدل على اعتبار الأمرين جميعاً. وقد تقدم في تفسير قوله تعالى: "لا تضار والدة بولدها" ما إذا راجعته زادك بصيرة إن شاء الله. قوله: "وإن تفعلوا" أي ما نهيتم عنه من المضارة "فإنه" أي فعلكم هذا "فسوق بكم" أي خروج عن الطاعة إلى المعصية ملتبس بكم "واتقوا الله" في فعل ما أمركم به وترك ما نهاكم عنه "ويعلمكم الله" ما تحتاجون إليه من العلم، وفيه الوعد لمن اتقاه أن يعلمه، ومنه قوله تعالى: "إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً".