تفسير الطبري تفسير الصفحة 46 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 46
047
045
 الآية : 270
القول في تأويل قوله تعالى:
{ وَمَآ أَنفَقْتُمْ مّن نّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مّن نّذْرٍ فَإِنّ اللّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ }
يعني بذلك جل ثناؤه: وأيّ نفقة أنفقتم, يعني أيّ صدقة تصدقتم, أو أيّ نذر نذرتم يعني بالنذر: ما أوجبه المرء على نفسه تبرّراً في طاعة الله, وتقرّباً به إليه, من صدقة أو عمل خير, فَانّ اللّهَ يَعْلَمُهُ أي أن جميع ذلك بعلم الله, لا يعزب عنه منه شيء, ولا يخفى عليه منه قليل ولا كثير, ولكنه يحصيه أيها الناس عليكم حتى يجازيكم جميعكم على جميع ذلك, فمن كانت نفقته منكم وصدقته ونذره ابتغاء مرضاة الله وتثبيتاً من نفسه, جازاه بالذي وعده من التضعيف ومن كانت نفقته وصدقته رياء الناس ونذروه للشيطان جازاه بالذي أوعده من العقاب وأليم العذاب. كالذي:
4977ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله عزّ وجلّ: وَما أنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَانّ اللّهَ يَعْلَمُهُ ويحصيه.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.
ثم أوعد جل ثناؤه من كانت نفقته رياء ونذوره طاعة للشيطان, فقال: وَما للظّالِمِينَ مِنْ أنْصَارٍ يعني: وما لمن أنفق ماله رياء الناس وفي معصية الله, وكانت نذوره للشيطان وفي طاعته, مِنْ أنْصَارٍ. وهم جمع نصير, كما الأشراف جمع شريف. ويعني بقوله: مِنْ أنْصَارٍ من ينصرهم من الله يوم القيامة, فيدفع عنهم عقابه يومئذٍ بقوّة وشدّة بط5 ولا بفدية. وقد دللنا على أن الظالم: هو الواضع للشيء في غير موضعه. وإنما سمى الله المنفق رياء الناس, والناذر في غير طاعته ظالماً, لوضعه إنفاق ماله في غير موضعه ونذره في غير ماله وضعه فيه, فكان ذلك ظلمه.
فإن قال لنا قائل: فكيف قال: فَانّ اللّهَ يَعْلَمُهُ ولم يقل: يعلمهما, وقد ذكر النذر والنفقة؟ قيل: إنما قال: فَانّ اللّهَ يَعْلَمَهُ لأنه أراد: فإن الله يعلم ما أنفقتم أو نذرتم, فلذلك وحدّ الكناية.
الآية : 271
القول في تأويل قوله تعالى:
{إِن تُبْدُواْ الصّدَقَاتِ فَنِعِمّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَآءَ فَهُوَ خَيْرٌ لّكُمْ وَيُكَفّرُ عَنكُم مّن سَيّئَاتِكُمْ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }
يعني بقوله جل ثناؤه إنْ تُبْدُوا الصّدَقَاتِ إن تعلنوا الصدقات فتعطوها من تصدقتم بها عليه, فَنِعِمّا هِيَ يقول: فنعم الشيء هي. وَإِنْ تُخْفُوها يقول: وإن تستروها فلم تلعنوها وتؤتوها الفُقَرَاءَ يعني: وتعطوها الفقراء في السرّ, فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ يقول: فإخفاؤكم إياها خير لكم من إعلانها. وذلك في صدقة التطوّع. كما:
4978ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: إِنْ تُبْدُوا الصّدَقَاتِ فَنِعِمّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُءْوتُوها الفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ كل مقبول إذا كانت النية صادقة, وصدقة السرّ أفضل. وذكر لنا أن الصدقة تطفىء الخطيئة كما يطفىء الماءُ النارَ.
4979ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع, في قوله: إِنْ تُبْدُوا الصّدَقَاتِ فَنِعِمّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُءْوتُوها الفُقَرَاءُ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ قال: كلَ مقبول إذا كانت النية صادقة, والصدقة في السر أفضل. وكان يقول: إن الصدقة تطفىء الخطيئة كما يطفىء الماءُ النارَ.
4980ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: إِنْ تُبْدُوا الصّدَقَاتِ فَنِعِمّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُءْوتُوها الفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ فجعل الله صدقة السرّ في التطوّع تفضل علانيتها بسبعين ضعفاً, وجعل صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرّها يقال بخمسة وعشرين ضعفاً, وكذلك جميع الفرائض والنوافل في الأشياء كلها.
4981ـ حدثني عبد الله بن محمد الحنفي, قال: حدثنا عبد الله بن عثمان, قال: حدثنا عبد الله بن المبارك, قال: سمعت سفيان يقول في قوله: إِنْ تُبْدُوا الصّدَقَاتِ فَنِعِمّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُءْوتُوها الفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ قال: يقول: هو سوى الزكاة.
وقال آخرون: إنما عنى الله عزّ وجل بقوله: إِنْ تُبْدُوا الصّدَقَاتِ فَنِعِمّا هِيَ إن تبدوا الصدقات على أهل الكتابين من اليهود والنصارى فنعما هي, وإن تخفوها وتؤتوها فقراءهم فهو خير لكم. قالوا: وأما ما أعطى فقراء المسلمين من زكاة وصدقة تطوّع فاخفاؤه أفضل من علانيته. ذكر من قال ذلك:
4982ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: ثني عبد الرحمن بن شريح, أنه سمع يزيد بن أبي حبيب يقول: إنما نزلت هذه الآية: إِنْ تُبْدُوا الصّدَقَاتِ فَنِعِمّا هِيَ في الصدقة على اليهود والنصارى.
4983ـ حدثني عبد الله بن محمد الحنفي, قال: أخبرنا عبد الله بن عثمان, قال: أخبرنا ابن المبارك, قال: أخبرنا ابن لهيعة, قال: كان يزيد بن أبي حبيب يأمر بقسم الزكاة في السرّ, قال عبد الله: أحبّ أن تعطى في العلانية, يعني الزكاة.
ولم يخصص الله من قوله: إِنْ تُبْدُوا الصّدَقَاتِ فَنِعِمّا هِيَ فذلك على العموم إلا ما كان من زكاة واجبة, فإن الواجب من الفرائض قد أجمع الجميع على أن الفضل في إعلانه وإظهاره سوى الزكاة التي ذكرنا اختلاف المختلفين فيها مع إجماع جميعهم على أنها واجبة, فحكمها في أن الفضل في أدائها علانية حكم سائر الفرائض غيرها.
القول في تأويل قوله تعالى: وَيُكَفّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيّئاتِكُمْ.
اختلف القراء في قراءة ذلك. فرُوي عن ابن عباس أنه كان يقرؤه: «وتُكَفّرُ عَنْكُمْ» بالتاء. ومن قرأه كذلك. فإنه يعني به: وتكفر الصدقات عنكم من سيئاتكم. وقرأ آخرون: وَيُكَفّرُ عَنْكُمْ بالياء بمعنى: ويكفر الله عنكم بصدقاتكم على ما ذكر في الآية من سيئاتكم. وقرأ ذلك بعد عامة قرّاء أهل المدينة والكوفة والبصرة: «وَنُكَفّرْ عَنْكُمْ» بالنون وجزم الحرف, يعني: وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء نكفر عنكم من سيئاتكم, بمعنى: مجازاة الله عز وجل مخفي الصدقة بتكفير بعض سيئاته بصدقته التي أخفاها.
وأولى القراءات في ذلك عندنا بالصواب قراءة من قرأ: «وَنُكَفّرْ عَنْكُمْ» بالنون وجزم الحرف, على معنى الخبر من الله عن نفسه أنه يجازي المخفي صدقته من التطوّع ابتغاء وجهه من صدقته بتكفير سيئاته. وإذا قرىء كذلك فهو مجزوم على موضع الفاء في قوله: فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لأن الفاء هنالك حلت محلّ جواب الجزاء.
فإن قال لنا قائل: وكيف اخترت الجزم على النسق على موضع الفاء, وتركت اختيار نسقه على ما بعد الفاء, وقد علمت أن الأفصح من الكلام في النسق على جواب الجزاء الرفع, وإنما الجزم تجويز؟ قيل: اخترنا ذلك ليؤذن بجزمه أن التكفير, أعني تكفير الله من سيئات المصدّق لا محالة داخل فيما وعد الله المصدّق أن يجازيه به على صدقته, لأن ذلك إذا جزم مؤذن بما قلنا لا محالة, ولو رفع كان قد يحتمل أن يكون داخلاً فيما وعده الله أن يجازيه به, وأن يكون خبراً مستأنفاً أنه يكفر من سيئات عباده المؤمنين على غير المجازاة لهم بذلك على صدقاتهم, لأن ما بعد الفاء في جواب الجزاء استئناف, فالمعطوف على الخبر المستأنف في حكم المعطوف عليه في أنه غير داخل في الجزاء, ولذلك من العلة اخترنا جزم نكفر عطفاً به على موضع الفاء من قوله: فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وقراءته بالنون.
فإن قال قائل: وما وجه دخول «مِنْ» في قوله: وَنُكَفّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيّئاتِكُمْ؟ قيل: وجه دخولها في ذلك بمعنى: ونكفر عنكم من سيئاتكم ما نشاء تكفيره منها دون جميعها, ليكون العباد على وجل من الله فلا يتكلوا على وعده ما وعد على الصدقات التي يخفيها المتصدّق فيجترئوا على حدوده ومعاصيه.
وقال بعض نحويي البصرة: معنى «مِنْ» الإسقاط من هذا الموضع, ويتأوّل معنى ذلك: ونكفر عنكم سيئاتكم.
القول في تأويل قوله تعالى: وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ.
يعني بذلك جل ثناؤه: والله بما تعملون في صدقاتكم من إخفائها وإعلان وإسرار بها وإجهار, وفي غير ذلك من أعمالكم. خَبِيرٌ يعني بذلك ذو خبرة وعلم, لا يخفى عليه شيء من ذلك, فهو بجميعه محيط, ولكله محص على أهله حتى يوفيهم ثواب جميعه وجزاء قليله وكثيره.
الآية : 272
القول في تأويل قوله تعالى:
{لّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـَكِنّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلاّ ابْتِغَآءَ وَجْهِ اللّهِ وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ }
يعني تعالى ذكره بذلك: ليس عليك يا محمد هدى المشركين إلى الإسلام, فتمنعهم صدقة التطوّع, ولا تعطيهم منها ليدخلوا في الإسلام حاجة منهم إليها, ولكن الله هو يهدي من يشاء من خلقه إلى الإسلام فيوفقهم له, فلا تمنعهم الصدقة. كما:
4984ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا ابن يمان, عن أشعث, عن جعفر, عن شعبة, قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يتصدّق على المشركين, فنزلت: وَمَا تُنْفِقُونَ إِلاّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللّهِ فتصدّق عليهم.
4985ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا أبو داود, عن سفيان, عن الأعمش, عن جعفر بن إياس, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, قال: كانوا لا يرضخون لقراباتهم من المشركين, فنزلت: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنّ اللّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ.
4986ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن سفيان, عن رجل, عن سعيد بن جبير, قال: كانوا يتقون أن يرضخوا لقراباتهم من المشركين حتى نزلت: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكَنّ اللّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ.
حدثنا محمد بن بشار وأحمد بن إسحاق, قالا: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا سفيان, عن الأعمش, عن جعفر بن إياس, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, قال: كانوا لا يرضخون لأنسبائهم من المشركين, فنزلت: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنّ اللّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فرخص لهم.
حدثنا المثنى, قال: حدثنا سويد, قال: أخبرنا ابن المبارك, عن سفيان, عن الأعمش, عن جعفر بن إياس, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, قال: كان أناس من الأنصار لهم أنسباء وقرابة من قريظة والنضير, وكانوا يتقون أن يتصدّقوا عليهم, ويريدونهم أن يسلموا, فنزلت: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ... الآية.
4987ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, وذكر لنا أن رجالاً من أصحاب نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قالوا: أنتصدّق على من ليس من أهل ديننا؟ فأنزل الله في ذلك القرآن: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ.
4988ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع في قوله: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنّ اللّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ قال: كان الرجل من المسلمين إذا كان بينه وبين الرجل من المشركين قرابة وهو محتاج فلا يتصدّق عليه يقول: ليس من أهل ديني, فأنزل الله عزّ وجلّ: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ... الآية.
4989ـ حدثني محمد, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسباط, عن السدي قوله: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنّ اللّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ, وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَءَلانْفُسِكُمْ أما «ليس عليك هداهم» فيعني المشركين, وأما النفقة فبين أهلها.
4990ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا الحماني, قال: حدثنا يعقوب القُمي, عن جعفر بن أبي المغيرة, عن سعيد بن جبير قال: كانوا يتصدّقون...
4991ـ كما حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله: يُوَفّ إِلَيْكُمْ وأنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ قال: هو مردود عليك, فمالك ولهذا تؤذيه وتمنّ عليه, إنما نفقتك لنفسك وابتغاء وجه الله, والله يجزيك.
الآية : 273
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{لِلْفُقَرَآءِ الّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَآءَ مِنَ التّعَفّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ }
أما قوله: {لِلْفُقَرَاءِ الّذِينَ أُحْصِرُوا فِـي سَبِـيـلِ اللّهِ} فبـيان من الله عزّ وجلّ عن سبـيـل النفقة ووجهها. ومعنى الكلام: وما تنفقوا من خير فلأنفسكم, تنفقون للفقراء الذين أحصروا فـي سبـيـل الله. واللام التـي فـي الفقراء مردودة علـى موضع اللام فـي فلأنفسكم, كأنه قال: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ} يعنـي به: وما تتصدّقوا به من مال, فللفقراء الذين أحصروا فـي سبـيـل الله, فلـما اعترض فـي الكلام بقوله: «فلأنفسكم», فأدخـل الفـاء التـي هي جواب الـجزاء فـيه تركت إعادتها فـي قوله: «للفقراء», إذ كان الكلام مفهوما معناه. كما:
4992ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي قوله: {لَـيْسَ عَلَـيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنّ اللّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فِلأَنْفُسِكُمْ} أما «لـيس علـيك هداهم», فـيعنـي الـمشركين, وأما النفقة فبـين أهلها, فقال: للفقراء الذين أحصروا فـي سبـيـل الله.
وقـيـل: إن هؤلاء الفقراء الذين ذكرهم الله فـي هذه الآية, هم فقراء الـمهاجرين عامة دون غيرهم من الفقراء. ذكر من قال ذلك:
4993ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قوله: {لِلْفُقَرَاءِ الّذِينَ أُحْصِرُوا فِـي سَبِـيـلِ اللّهِ} مهاجري قريش بـالـمدينة مع النبـيّ صلى الله عليه وسلم, أمر بـالصدقة علـيهم.
4994ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه قوله: {لِلْفِقُرَاءِ الّذِينَ أُحْصِرُوا فِـي سَبِـيـلِ اللّهِ}... الآية. قال: هم فقراء الـمهاجرين بـالـمدينة.
4995ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: {لِلْفُقَرَاءِ الّذِينَ أُحْصِرُوا فِـي سَبِـيـلِ اللّهِ} قال: فقراء الـمهاجرين.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {الّذِينَ أُحْصِرُوا فِـي سَبِـيـلِ اللّهِ}.
يعنـي تعالـى ذكره بذلك: الذين جعلهم جهادهم عدوّهم يحصرون أنفسهم فـيحبسونها عن التصرف فلا يستطيعون تصرّفـا. وقد دللنا فـيـما مضى قبل علـى أن معنى الإحصار: تصيـير الرجل الـمـحصر بـمرضه أو فـاقته أو جهاده عدوّه, وغير ذلك من علله إلـى حالة يحبس نفسه فـيها عن التصرّف فـي أسبـابه بـما فـيه الكفـاية فـيـما مضى قبل.
وقد اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك, فقال بعضهم: فـي ذلك بنـحو الذي قلنا فـيه. ذكر من قال ذلك:
4996ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله: {الّذِينَ أُحْصِرُوا فِـي سَبِـيـلِ اللّهِ} قال: حصروا أنفسهم فـي سبـيـل الله للغزو.
4997ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: {لِلْفُقَرَاءِ الّذِينَ أُحْصِرُوا فِـي سَبِـيـلِ اللّهِ} قال: كانت الأرض كلها كفرا لا يستطيع أحد أن يخرج يبتغي من فضل الله إذا خرج خرج فـي كفر. وقـيـل: كانت الأرض كلها حربـا علـى أهل هذا البلد, وكانوا لا يتوجهون جهة إلا لهم فـيها عدوّ, فقال الله عزّ وجلّ: {لِلْفُقَرَاءِ الّذِينَ أُحْصِرُوا فِـي سَبِـيـلِ اللّهِ}... الآية¹ كانوا ههنا فـي سبـيـل الله.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: الذين أحصرهم الـمشركون فمنعوهم التصرّف. ذكر من قال ذلك:
4998ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: {لِلْفُقَرَاءِ الّذِينَ أُحْصِرُوا فِـي سَبِـيـلِ اللّهِ} حصرهم الـمشركون فـي الـمدينة.
ولو كان تأويـل الآية علـى ما تأوّله السدي, لكان الكلام: للفقراء الذين حصروا فـي سبـيـل الله, ولكنه «أحصروا», فدلّ ذلك علـى أن خوفهم من العدوّ الذي صير هؤلاء الفقراء إلـى الـحال التـي حَبسوا وهم فـي سبـيـل الله أنفسهم, لا أن العدوّ هم كانوا الـحابسيهم, وإنـما يقال لـمن حبسه العدوّ: حصره العدوّ, وإذا كان الرجل الـمـحبس من خوف العدوّ قـيـل: أحصره خوف العدوّ.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبـا فِـي الأرْضِ}.
يعنـي بذلك جل ثناؤه: لا يستطيعون تقلبـا فـي الأرض, وسفرا فـي البلاد, ابتغاء الـمعاش وطلب الـمكاسب, فـيستغنوا عن الصدقات رهبة العدوّ, وخوفـا علـى أنفسهم منهم. كما:
4999ـ حدثنـي الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة: {لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبـا فِـي الأرْضِ} حبسوا أنفسهم فـي سبـيـل الله للعدوّ, فلا يستطيعون تـجارة.
5000ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: {لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبـا فِـي الأرْضِ} يعنـي التـجارة.
5001ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد قوله: {لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبـا فِـي الأرْضِ} كان أحدهم لا يستطيع أن يخرج يبتغي من فضل الله.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَحْسَبُهُمُ الـجاهِلُ أغْنِـياءَ مِنَ التّعَفّفِ}.
يعنـي بذلك: يحسبهم الـجاهل بأمرهم وحالهم أغنـياء من تعففهم عن الـمسألة وتركهم التعرّض لـما فـي أيدي الناس صبرا منهم علـى البأساء والضرّاء. كما:
5002ـ حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: {يَحْسَبُهُمُ الـجاهِلُ أغْنِـيَاءَ} يقول: يحسبهم الـجاهل بأمرهم أغنـياء من التعفف.
ويعنـي بقوله: {مِنَ التّعَفّفِ} من ترك مسألة الناس, وهو التفعل من العفة عن الشيء, والعفة عن الشيء: تركه, كما قال رؤبة:
فَـعَـفّ عَـنْ أسْـرَارِهـا بَـعْـدَ العَـسَـقْ
يعنـي برىء وتـجنب.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {تَعْرِفُهُمْ بِسِيـماهُمْ}.
يعنـي بذلك جل ثناؤه: تعرفهم يا مـحمد بسيـماهم, يعنـي بعلامتهم وآثارهم, من قول الله عزّ وجلّ: {سِيـماهُمْ فِـي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السّجُودِ} هذه لغة قريش, ومن العرب من يقول: «بسيـمائهم» فـيـمدها, وأما ثقـيف وبعض أسد, فإنهم يقولون: «بسيـميائهم»¹ ومن ذلك قول الشاعر:
غُلامٌ رَماهُ اللّهُ بـالـحُسْنِ يافِعالَهُ سِيـمِيَاءُ لا تَشُقّ عَلـى البَصَرْ
وقد اختلف أهل التأويـل فـي السيـما التـي أخبر الله جل ثناؤه أنها لهؤلاء الفقراء الذين وصفت صفتهم وأنهم يعرفون بها, فقال بعضهم: هو التـخشع والتواضع. ذكر من قال ذلك:
5003ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قوله: {تَعْرِفُهُمْ بِسِيـماهُمْ} قال: التـخشع.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن لـيث, قال: كان مـجاهد يقول: هو التـخشع.
وقال آخرون يعنـي بذلك: تعرفهم بسيـما الفقر وجهد الـحاجة فـي وجوههم. ذكر من قال ذلك:
5004ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: {تَعْرِفُهُمْ بِسِيـماهُمْ} بسيـما الفقر علـيهم.
5005ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع فـي قوله: {تَعْرِفُهُمْ بِسِيـماهُمْ} يقول: تعرف فـي وجوههم الـجهد من الـحاجة.
وقال آخرون: معنى ذلك: تعرفهم برثاثة ثـيابهم, وقالوا: الـجوع خفـيّ. ذكر من قال ذلك:
5006ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: {تَعْرِفُهُمْ بِسِيـمَاهُمْ} قال: السيـما: رثاثة ثـيابهم, والـجوع خفـيّ علـى الناس, ولـم تستطع الثـياب التـي يخرجون فـيها تـخفـى علـى الناس.
وأول الأقوال فـي ذلك بـالصواب: أن يقال: إن الله عزّ وجلّ أخبر نبـيه صلى الله عليه وسلم أنه يعرفهم بعلاماتهم وآثار الـحاجة فـيهم. وإنـما كان النبـيّ صلى الله عليه وسلم يدرك تلك العلامات والاَثار منهم عند الـمشاهدة بـالعيان, فـيعرفهم وأصحابه بها, كما يدرك الـمريض فـيعلـم أنه مريض بـالـمعاينة.
وقد يجوز أن تكون تلك السيـما كانت تـخشعا منهم, وأن تكون كانت أثر الـحاجة والضرّ, وأن تكون كانت رثاثة الثـياب, وأن تكون كانت جميع ذلك, وإنـما تدرك علامات الـحاجة وآثار الضرّ فـي الإنسان, ويعلـم أنها من الـحاجة والضرّ بـالـمعاينة دون الوصف, وذلك أن الـمريض قد يصير به فـي بعض أحوال مرضه من الـمرض نظر آثار الـمـجهود من الفـاقة والـحاجة, وقد يـلبس الغنـيّ ذو الـمال الكثـير الثـياب الرثة, فـيتزيا بزيّ أهل الـحاجة, فلا يكون فـي شيء من ذلك دلالة بـالصفة علـى أن الـموصوف به مختلّ ذو فـاقة, وإنـما يدري ذلك عند الـمعاينة بسيـماه, كما وصفهم الله نظير ما يعرف أنه مريض عند الـمعاينة دون وصفه بصفته.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {لاَ يَسألُونَ النّاسَ إلْـحاف}.
يقال: قد ألـحف السائل فـي مسألته إذا ألـحّ فهو يـلـحف فـيها إلـحافـا.
فإن قال قائل: أفكان هؤلاء القوم يسألون الناس غير إلـحاف؟ قـيـل: غير جائز أن يكون كانوا يسألون الناس شيئا علـى وجه الصدقة, إلـحافـا أو غير إلـحاف, وذلك أن الله عزّ وجلّ وصفهم بأنهم كانوا أهل تعفف, وأنهم إنـما كانوا يعرفون بسيـماهم, فلو كانت الـمسألة من شأنهم لـم تكن صفتهم التعفف, ولـم يكن بـالنبـيّ صلى الله عليه وسلم إلـى علـم معرفتهم بـالأدلة والعلامة حاجة, وكانت الـمسألة الظاهرة تنبىء عن حالهم وأمرهم. وفـي الـخبر الذي:
5007ـ حدثنا به بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, عن هلال بن حصن, عن أبـي سعيد الـخدري, قال: أعوزنا مرة فقـيـل لـي: لو أتـيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته. فـانطلقت إلـيه مُعْنقا, فكان أوّل ما واجهنـي به: «مَنْ اسْتَعَفّ أعَفّهُ الله, ومَنِ اسْتَغْنَى أغْنَاهُ الله, ومَنْ سَأَلَنا لَـمْ نَدّخِرْ عَنْهُ شَيْئا نَـجِدُهُ», قال: فرجعت إلـى نفسي, فقلت: ألا أستعفّ فـيفعنـي الله! فرجعت فما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا بعد ذلك من أمر حاجة حتـى مالت علـينا الدنـيا فغرقتنا إلا من عصم الله.
الدلالة الواضحة علـى أن التعفف معنى ينفـي معنى الـمسألة من الشخص الواحد, وأن من كان موصوفـا بـالتعفف فغير موصوف بـالـمسألة إلـحافـا أو غير إلـحاف.
فإن قال قائل: فإن كان الأمر علـى ما وصفت, فما وجه قوله: {لاَ يَسْأَلُونَ النّاسَ إِلْـحاف} وهم لا يسألون الناس إلـحافـا أو غير إلـحاف؟ قـيـل له: وجه ذلك أن الله تعالـى ذكره لـما وصفهم بـالتعفف وعرّف عبـاده أنهم لـيسوا أهل مسألة بحال بقوله: {يَحْسَبُهُمُ الـجاهِلُ أغْنِـيَاءَ مِنَ التّعَفّفِ} وأنهم إنـما يعرفون بـالسيـما, زاد عبـاده إبـانة لأمرهم, وحسن ثناء علـيهم بنفـي الشره والضراعة التـي تكون فـي الـملـحّين من السؤال عنهم. وقال: كان بعض القائلـين يقول فـي ذلك نظير قول القائل: فَلَـمّا رأيت مثل فلان, ولعله لـم يره مثله أحدا ولا نظيرا.
وبنـحو الذي قلنا فـي معنى الإلـحاف قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
5008ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: {لاَ يَسألُونَ الناسَ إلْـحاف} قال: لا يـلـحفون فـي الـمسألة.
5009ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: {لا يَسْألُونَ النّاسَ إِلْـحاف} قال: هو الذي يـلـح فـي الـمسألة.
5010ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: {لا يَسألُونَ النّاسَ إِلْـحاف} ذكر لنا أن نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «إِنّ اللّهَ يُحِبّ الـحَلِـيـمَ الغَنِـيّ الـمُتَعَفّفَ, وَيُبْغِضُ الغَنِـيّ الفـاحِشَ البَذِيّ السّائِلَ الـمُلْـحِفَ» قال: وذكر لنا أن نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «إِنّ اللّهَ عَزّ وَجَلّ كَرِهَ لَكُمْ ثَلاَثا, قِـيـلَ وَقَالَ, وَإضَاعَةَ الـمَالِ وَكَثْرَةَ السّوءَالِ» فإذا شئت رأيته فـي قـيـل وقال يومه أجمع وصدر لـيـلته, حتـى يُـلقـى جفـية علـى فراشه, لا يجعل الله له من نهاره ولا لـيـلته نصيبـا, وإذا شئت رأيته ذا مال فـي شهوته ولذاته وملاعبه, ويعدله عن حقّ الله, فذلك إضاعة الـمال, وإذا شئت رأيته بـاسطا ذراعيه, يسأل الناس فـي كفـيه, فإذا أعطي أفرط فـي مدحهم, وإن منع أفرط فـي ذمهم.
الآية : 274
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{الّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللّيْلِ وَالنّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }
حدثنا يعقوب بن إبراهيـم, قال: حدثنا معتـمر, عن أيـمن بن نابل, قال: حدثنـي شيخ من غافق: أن أبـا الدرداء كان ينظر إلـى الـخيـل مربوطة بـين البراذين والهجن, فـيقول: أهل هذه ـ يعنـي الـخيـل ـ من الذين ينفقون أموالهم بـاللـيـل والنهار سرّا وعلانـية, فلهم أجرهم عند ربهم, ولا خوف علـيهم ولا هم يحزنون.
وقال آخرون: عنى بذلك قوما أنفقوا فـي سبـيـل الله فـي غير إسراف ولا تقتـير. ذكر من قال ذلك:
5011ـ حدثنـي بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: {الّذِينَ يُنْفِقُونَ أمْوَالَهُمْ} إلـى قوله: {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} هؤلاء أهل الـجنة¹ ذكر لنا أن نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «الـمُكْثِرُونَ هم الأسْفَلُونَ». قالوا: يا نبـيّ الله إلاّ مَنْ؟ قال: «الـمُكْثِرُونَ هُمْ الأسْفَلُونَ», قالوا: يا نبـيّ الله إلا مَن؟ حتـى خشوا أن تكون قد مضت فلـيس لها ردّ, حتـى قال: «إِلاّ مَنْ قَالَ بـالـمَالِ هَكَذَا وَهَكَذَا» عَنْ يَـمِينِهِ وَعَنْ شِمالِهِ, «وَهَكَذَا» بـين يَدَيْهِ «وَهَكَذَا» خَـلْفَهُ, «وَقَلِـيـلٌ مَا هُمْ, هَولاءِ قَوْمٌ أنْفَقُوا فِـي سَبِـيـلِ اللّهِ الّتِـي افْتَرَضَ وَارْتَضَى فِـي غَيْرِ سَرَفٍ وَلا إِمْلاقٍ وَلا تَبْذِيرٍ وَلاَ فَسَادٍ».
وقد قـيـل: إن هذه الاَيات من قوله: {إِنْ تُبْدُوا الصّدَقَاتِ فَنِعِمّا هِيَ} إلـى قوله: {وَلاَ خَوْفٌ عَلَـيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} كان مـما يعمل به قبل نزول ما فـي سورة براءة من تفصيـل الزكوات, فلـما نزلت براءة قصروا علـيها. ذكر من قال ذلك:
5012ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس: {إِنْ تُبْدُوا الصّدَقَاتِ فَنِعِمّا هِيَ} إلـى قوله: {وَلا خَوْفٌ عَلَـيْهِم وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} فكان هذا يعمل به قبل أن تنزل براءة, فلـما نزلت براءة بفرائض الصدقات وتفصيـلها انتهت الصدقات إلـيها