تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 459 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 459

458

ثم لما ذكر سبحانه كونه منزهاً عن الولد بكونه إلهاً واحداص قهاراً ذكر ما يدل على ذلك من صفاته فقال: 6- "خلق السموات والأرض بالحق" أي لم يخلقهما باطلاً لغير شيء، ومن كان هذا الخلق العظيم خلقه استحال أن يكون له شريك أو صاحبة أو ولد. ثم بين كيفية تصرفه في السموات والأرض فقال "يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل" التكوير في اللغة طرح الشيء بعضه على بعض. يقال كور المتاع: إذا ألقى بعضه على بعض، ومنه كور العمام، فمعنى تكوير الليل على النهار تغشيته إياه حتى يذهب ضوؤه، ومعنى تكوير النهار على الليل: تغشيته إياه حتى تذهب ظلمته، وهو معنى قوله تعالى: " يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا " هكذا قال قتادة وغيره. وقال الضحاك: أي يلقى هذا على هذا، وهذا على هذا، وهو مقارب للقول الأول. وقيل معنى الآية: أن ما نقص من الليل دخل في النهار، وما نقص من النهار دخل في الليل، وهو معنى قوله: "يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل" وقيل المعنى: إن هذا يكر على هذا وهذا يكر على هذا كروراً متتابعاً. قال الراغب: تكوير الشيء إدارته وضم بعضه إلى بعض ككور العمامة اهـ. والإشارة بهذا التكوير المذكور في الآية إلى جريان الشمس في مطالعها وانتقاص الليل والنهار وازديادهما. قال الرازي: إن النور والظلمة عسكران عظيمان، وفي كل يوم يغلب هذا ذاك، وذاك هذا، ثم ذكر تسخيره لسلطان النهار وسلطان الليل، وهما الشمس والقمر فقال: "وسخر الشمس والقمر" أي جعلهما منقادين لأمره بالطلوع والغروب لمنافع العباد، ثم بين كيفية هذا التسخير فقال: "كل يجري لأجل مسمى" أي يجري في فلكه إلى أن تنصرم الدنيا، وذلك يوم القيامة وقد تقدم الكلام على الأجل المسمى لجريهما مستوفى في سورة يس "ألا هو العزيز الغفار" ألا حرف تنبيه، والمعنى: تنبهوا أيها العباد، فالله هو الغالب الساتر لذنونب خلقه بالمغفرة. ثم بين سبحانه نوعاً آخر من قدرته وبديع صنعه، فقال: "خلقكم من نفس واحد" وهي نفس آدم "ثم جعل منها زوجها" جاء بثم للدلالة على ترتيب خلق حواء على خلق آدم، وتراخيه عنه لأنها خلقت منه، والعطف: إما على مقدر هو صفة لنفس. قال الفراء والزجاج التقدير خلقكم من نفس خلقها واحدة ثم جعل منها زوجها. ويجوز أن يكون العطف على معنى واحدة: أي من نفس انفردت ثم جعل إلخ، والتعبير بالجعل دون الخلق مع العطف بثم للدلالة على أن خلق حواء من ضلع آدم أدخل في كونه آية باهرة دالة على كمال القدرة، لأن خلق آدم هو على عادة الله المستمرة في خلقه، وخلقها على الصفة المذكورة لم تجر به عادة لكونه لم يخلق سبحانه أنثى من ضلع رجل غيرها، وقد تقدم تفسير هذه الآية مستوفى في سورة الأعراف. ثم بين سبحانه نوعاً آخر من قدرته الباهرة فقال: "وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج" وهو معطوف على خلقكم، وعبر بالإنزال لما يروى أنه خلقها في الجنة ثم أنزلها، فيكون الإنزال حقيقة، ويحتمل أن يكون مجازاً لأنها لم تعش إلا بالنبات، والنبات إنما يعي بالماء والماء منزل من السماء، كانت الأنعام كأنها منزلة، لأن سبب سببها منزل كما أطلق على السبب في قوله: إذا نزل السماء بأرض قوم رعيناه وإن كانوا غضابا وقيل إن أنزل بمعنى أنشأ وجعل، أو بمعنى أعطى، وقيل جعل الخلق إنزالاً، لأن الخلق إنما يكون بأمر ينزل من السماء، والثمانية الأزواج هي ما في قوله: " من الضأن اثنين ومن المعز اثنين " "ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين" ويعني بالاثنين في الأربعة المواضع الذكر والأنثى، وقد تقدم تفسير الآية في سورة الأنعام. ثم بين سبحانه نوعاً آخر من قدرته البديعة فقال: "يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلق" والجملة استئنافية لبيان ما تضمنته من الأطوار المختلفة في خلقهم، وخلقاً مصدر مؤكد للفعل المذكور، و"من بعد خلق" صفة له: أي خلقاً كائناً من بعد خلق. قال قتادة والسدي: نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظماً ثم لحماً. وقال ابن زيد: خلقكم خلقاً في بطون أمهاتكم من بعد خلقكم في ظهر آدم، وقوله: "في ظلمات ثلاث" متعلق بقوله يخلقكم وهذه الظلمات الثلاث هي: ظلمة البطن، وظلمة الرحم،وظلمة المشيمة قاله مجاهد وعكرمة وقتادة والضحاك. وقال سعيد بن جبير: ظلمة المشيمة، وظلمة الرحم، وظلمة الليل. وقال أبو عبيدة: ظلمة صلب الرجل، وظلمة بطن المرأة، وظلمة الرحم، والإشارة بقوله: "ذلك الله" إليه سبحانه باعتبار أفعاله السابقة، والاسم الشريف خبره "ربكم" خبر آخر "له الملك" الحقيقي في الدنيا والآخرة لا شركة لغير فيه، وهو خبر ثالث، وقوله: "لا إله إلا هو" خبر رابع "فأنى تصرفون" أي فكيف تنصرفون عن عبادته وتنقلبون عنها إلى عبادة غيره. قرأ حمزة " أمهاتكم " بكسر الهمزة والميم. وقرأ الكسائي بكسر الهمزة وفتح الميم. وقرأ الباقون بضم الهمزة وفتح الميم. وقد أخرج ابن مردويه عن يزيد الرقاشي أن رجلاً قال: "يا رسول الله إنا نعطي أموالنا التماس الذكر فهل لنا في ذلك من أجر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:لا، قال: يا رسول الله إنما نعطي التماس الأجر والذكر فهل لنا أجر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله لا يقبل إلا ما أخلص له، ثم تلا هذه الآية "ألا لله الدين الخالص"". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "يكور الليل" قال: يحمل الليل. وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "خلقاً من بعد خلق" قال: علقة ثم مضغة ثم عظاماً "في ظلمات ثلاث" البطن والرحم والمشيمة.
لما ذكر سبحانه النعمالتي أنعم بها على عباده وبين لهم من بديع صنعه وعجيب فعله ما يوجب على كل عاقل أن يؤمن به عقبه بقوله: 7-"إن تكفروا فإن الله غني عنكم" أي غير محتاج إليكم ولا إلى أيمانكم ولا إلى عبادتكم له فإنه الغني المطلق، "و" مع كون كفر الكافر لا يضره كما أنه لا ينفعه إيمان المؤمن، فهو أيضاً "لا يرضى لعباده الكفر" أي لا يرضى لأحد من عباده الكفر ولا يحبه ولا يأمر به، ومثل هذه الآية قوله: " إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد " ومثلها ما ثبت في صحيح مسلم من قوله صلى الله عليه وسلم: "يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على قلب أفجر رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً". وقد اختلف المفسرون في هذه الآية هل هي على عمومها، وإن الكفر غير مرضي لله سبحانه على كل حال كما هو الظاهر، أو هي خاصة؟ والمعنى: لا يرضى لعباده المؤمنين الكفر، وقد ذهب إلى التخصيص حبر الأمة ابن عباس رضي الله عنه كما سيأتي بيانه آخر البحث، وتابعه على ذلك عكرمة والسدي وغيرهما. ثم اختلفوا في الآية اختلافاً آخر. فقال قوم: إنه يريد كفر الكافر ولا يرضاه، وقال آخرون: إنه لا يريده ولا يرضاه، والكلام في تحقيق مثل هذا يطول جداً. وقد استدل القائلون بتخصيص هذه الآية، والمثبتون للإرادة مع عدم الرضى بما ثبت في آيات كثيرة من الكتاب العزيز أنه سبحانه "يضل من يشاء" "ويهدي من يشاء" " وما تشاؤون إلا أن يشاء الله " ونحو هذا مما يؤدي معناه كثير في الكتاب العزيز. ثم لما ذكر سبحانه أنه لا يرضى لعباده الكفر بين أنه يرضى لهم الشكر فقال: "وإن تشكروا يرضه لكم" أي يرضى لكم الشكر المدلول عليه بقوله وإن تشكروا ويثبكم عليه، وإنما رضي لهم سبحانه الشكر لأنه سبب سعادتهم في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه: "لئن شكرتم لأزيدنكم" قرأ أبو جعفر وأبو عمرو وشيبة وهبيرة عن عاصم بإسكان الهاء من يرضه، وأشبع الضمة على الهاء ابن ذكوان وابن كثير والكسائي وابن محيصن وورش عن نافع، واختلس الباقون "ولا تزر وازرة وزر أخرى" أي لا تحمل نفس حاملة للوزر حمل نفس أخرى، وقد تقدم تفسير هذه الآية مستوفى "ثم إلى ربكم مرجعكم" يوم القيامة "فينبئكم بما كنتم تعملون" من خير وشر، وفيه تهديد شديد "إنه عليم بذات الصدور" أي ما تضمره القلوب وتستره، فكيف بما تظهره وتبديه.
8- "وإذا مس الإنسان ضر" أي ضر كان من مرض أو فقر أو خوف "دعا ربه منيباً إليه" أي راجعاً إليه مستغيثاً به في دفع ما نزل به تاركاً ما كان يدعوه ويستغيث به من ميت أو حي أو صنم أو غير ذلك "ثم إذا خوله نعمة منه" أي أعطاء وملكه، يقال خوله أي ملكه إياه، وكان أبو عمرو بن العلاء ينشد: هنالك إن يستخولوا المال يخولوا وإن يسألوا يعطوا وإن ييسروا يغلوا ومنه قول أي النجم: أعطى ولم يبخل ولم يبخل كوم الذرى من خول المخول "نسي ما كان يدعو إليه من قبل" أي نسي الضر الذي كان يدعو الله إلى كشفه عنه من قبل أن يخوله ما خوله وقيل نسي الدعاء الذي كان يتضرع به وتركه أو نسي ربه الذي كان يدعوه ويتضرع إليه، ثم جاوز ذلك إلى الشرك بالله، وهو معنى قوله:"وجعل لله أنداداً" أي شركاء من الأصنام أو غيرها يستغيث بها ويعبدها "ليضل عن سبيله" أي ليضل الناس عن طريق الله التي هي الإسلام والتوحيد. وقال السدي: يعني أنداداً من الرجال يعتمد عليهم في جميع أموره. ثم أمر الله سبحانه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهدد من كان متصفاً بتلك الصفة فقال: "قل تمتع بكفرك قليلاً" أي تمتعاً قليلاً أو زماناً قليلاً، فمتاع الدنيا قليل، ثم علل ذلك بقوله: "إنك من أصحاب النار" أي مصيرك إليها عن قريب، وفيه من التهديد أمر عظيم. قال الزجاج: لفظه لفظ الأمر، ومعناه التهديد والوعيد قرأ الجمهور "ليضل" بضم الياء، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتحها.
ثم لما ذكر سبحانه صفات المشركين وتمسكهم بغير الله عند اندفاع المكروهات عنهم ذكر صفات المؤمنين فقال: 9- "أمن هو قانت آناء الليل" وهذا إلى آخره من تمام الكلام المأمور به رسول الله صلى الله عليه وسلم. والمعنى ذلك الكافر أحسن حالاً ومالاً، أمن هو قائم بطاعات الله في السراء والضراء في ساعات الليل، مستمر على ذلك غير مقتصر على دعاء الله سبحانه عند نزول الضرر به. قرأ الحسن وأبو عمرو وابن عامر وعاصم والكسائي "أمن" بالتشديد، وقرأ نافع وابن كثير وحمزة ويحيى بن وثاب والأعمش بالتخفيف، فعلى القراءة الأولى أم داخلة على من الموصولة وأدغمت الميم في الميم وأم هي المتصلة معادلها محذوف تقديره: الكافر خير أم الذي هو قانت. وقيل هي المنقطعة المقدرة ببل والهمزة أي بل أمن هو قانت كالكافر، وأما على القراءة الثانية فقيل الهمزة للاستفهام دخلت على من، والاستفهام للتقرير ومقابله محذوف: أي أمن هو قانت كمن كفر. وقال الفراء: إن الهمزة في هذه القراءة للنداء ومن منادى، وهي عبارة عن النبي صلى الله عليه وسلم المأمور بقوله قل تمتع والتقدير: يا من هو قانت، قيل كيت وكيت، وقيل التقدير: يا من هو قانت إنك من أصحاب الجنة. ومن القائلين بأن الهمزة للنداء الفراء، وضعف ذلك أبو حيان، وقال: هو أجنبي عما قبله وعما بعده، وقد سبقه إلى هذا التضعيف أبو علي الفارسي، واعترض على هذه القراءة من أصلها أبو حاتم والأخفش ولا وجه لذلك فإنا إذا ثبتت الرواية بطلت الدراية. وقد اختلف في تفسير القانت هنا فقيل المطيع، وقيل الخاشع في صلاته، وقيل القائم في صلاته، وقيل الداعي لربه. قال النحاس: أصل القنوت الطاعة، فكل ما قيل فيه فهو داخل في الطاعة، والمراد بآناء الليل ساعاته، وقيل جوفه، وقيل ما بين المغرب والعشاء، وانتصاب "ساجداً وقائماً" على الحال أي جامعاً بين السجود والقيام، وقدم السجود على القيام لكونه أدخل في العبادة، ومحل "يحذر الآخرة" النصب على الحال أيضاً: أي يحذر عذاب الآخرة قاله سعيد بن جبير ومقاتل " ويرجو رحمة ربه " فيجمع بين الرجاء والخوف، وما اجتمعا في قلب رجل إلا فاز. قيل وفي الكلام حذف، والتقدير: كمن لا يفعل شيئاً من ذلك كما يدل عليه السياق. ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم قولاً آخر يتبين به الحق من الباطل فقال " قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون " أي الذي يعلمون أن ما وعد الله به من البعث والثواب والعقاب حق والذين لا يعلمون ذلك، أو الذي يعلمون ما أنزل الله على رسله والذين لا يعلمون ذلك، أو المراد العلماء والجهال ومعلوم عند كل من له عقل أنه لا استواء بين العلم والجهل، ولا بين العالم والجاهل. قال الزجاج: أي كما لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، كذلك لا يستوي المطيع والعاصي. وقيل المراد بالذين يعلمون: هم العاملون بعلمهم فإنهم المنتفعون به، لأن من لم يعمل بمنزلة من لم يعلم " إنما يتذكر أولو الألباب " أي إنما يتعظ ويتدبر ويتفكر أصحاب العقول، وهم المؤمنون لا الكفار، فإنهم وإن زعموا أن لهم عقولاً فهي كالعدم وهذه الجملة ليست من جملة الكلام المأمور به بل من جهة الله سبحانه.
10-"قل يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم" لما نفى سبحانه المساواه بين من يعلم ومن لا يعلم، وبين أنه " إنما يتذكر أولو الألباب " أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يأمر المؤمنين من عباده بالثبات على تقواه والإيمان به. والمعنى: يا أيها الذين صدقوا بتوحيد الله اتقوا ربكم بطاعته، واجتناب معاصيه، وإخلاص الإيمان له، ونفي الشركاء عنه، والمراد قل لهم قولي هذا بعينه. ثم لما أمر الله سبحانه المؤمنين بالتقوى بين لهم ما في هذه التقوى من الفوائد فقال: "للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة" أي للذين عملوا الأعمال الحسنة في هذه الدنيا على وجه الإخلاص حسنة عظيمة وهي الجنة، وقوله: "في هذه الدنيا" متعلق بأحسنوا، وقيل هو متعلق بحسنة على أنه بيان لمكانها، فيكون المعنى: للذين أحسنوا في العمل حسنة في الدنيا بالصحة والعافية والظفر والغنيمة، والأول أولى. ثم لما كان بعض العباد قد يتعسر عليه فعل الطاعات والإحسان في وطنه أرشد الله سبحانه من كان كذلك إلى الهجرة فقال:"وأرض الله واسعة" أي فليهاجر إلى حيث يمكنه طاعة الله. والعمل بما أمر به، والترك لما نهى عنه، ومثل ذلك قوله سبحانه: "ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها" وقد مضى الكلام في الهجرة مستوفى في سورة النساء، وقيل المراد بالأرض هنا: أرض الجنة، رغبهم في سعتها وسعة نعيمها كما في قوله: "جنة عرضها السموات والأرض" والأول أولى. ثم لما بين سبحانه ما للمحسنين إذا أحسنوا، وكان لا بد في ذلك من الصبر على فعل الطاعة وعلى كف النفس عن الشهوات، أشار إلى فضيلة الصبر وعظيم مقداره فقال: "إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب" أي يوفيهم الله أجرهم في مقابلة صبرهم بغير حساب: أي بما لا يقدر على حصره حاصر، ولا يستطيع حسبانه حاسب. قال عطاء: بما لا يهتدي إليه عقل ولا وصف. وقال مقاتل: أجرهم الجنة، وأرزاقهم فيها بغير حساب. والحاصل أن الآية تدل على أن ثواب الصابرين وأجرهم لا نهاية له، لأن كل شيء يدخل تحت الحساب فهو متناه، وما كان لا يدخل تحت الحساب فهو غير متناه، وهذه فضيلة عظيمة ومثوبة جليلة تقتضي أن على كل راغب في ثواب الله، وطامع فيما عنده من الخير أن يتوفر على الصبر ويزم نفسه بزمامه ويقيدها بقيده، فإن الجزع لا يرد قضاءً قد نزل، ولا يجلب خيراً قد سلب، ولا يدفع مكروهاً قد وقع، وإذا تصورالعاقل هذا حق تصوره وتقله حق تعقله علم أن الصابر على ما نزل به قد فاز بهذا الأجر العظيم، وظفر بهذا الجزاء الخطير، وغير الصابر قد نزل به القضاء شاء أم أبى، ومع ذلك فاته من الأجر ما لا يقادر قدره ولا يبلغ مداه، فضم إلى مصيبته مصيبة أخرى ولم يظفر بغير الجزع، وما أحسن قول من قال: أرى الصبر محموداً وعنه مذاهب فكيف إذا ما لم يكن عنه مذهب هناك يحق الصبر والصبر واجب وما كان منه للضرورة أوجب