تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 462 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 462

461

ثم بين سبحانه حال كل فريق من المختصمين فقال: 32- "فمن أظلم ممن كذب على الله" أي لا أحد أظلم ممن كذب على الله، فزعم أن له ولداً أو شريكاً أو صاحبة "وكذب بالصدق إذ جاءه" وهو ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من دعاء الناس إلى التوحيد، وأمرهم بالقيام بفرائض الشرع ونهيهم عن محرماته وإخبارهم بالبعث والنشور، وما أعد الله للمطيع والعاصي. ثم استفهم سبحانه استفهاماً تقريرياً فقال: "أليس في جهنم مثوى للكافرين" أي أليس لهؤلاء المفترين المكذبين بالصدق، والمثوى المقام، وهو مشتق من ثوى بالمكان إذا أقام به يثوي ثواءً وثوباً، مثل مضى مضاءً ومضياً. وحكى أبو عبيد أنه يقال أثوى وأنشد قول الأعشى: أثوى وأقصر ليله ليرودا فمضت وأخلف من قبيلة موعدا وأنكر ذلك الأصمعيوقال لا نعرف أثوى.
ثم ذكر سبحانه فريق المؤمنين المصدقين فقال: 33- "والذي جاء بالصدق وصدق به" الموصول في موضع رفع الابتداء، وهو عبارة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تابعه وخبره "أولئك هم المتقون" وقيل الذي جاء بالصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي صدق أبو بكر. وقال مجاهد: الذي جاء بالصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي صدق به علي بن أبي طالب. وقال السدي: الذي جاء بالصدق جبريل، والذي صدق به رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال قتادة ومقاتل وابن زيد: الذي جاء بالصدق النبي صلى الله عليه وسلم، والذي صدق به المؤمنون. وقال النخعي: الذي جاء بالصدق وصدق به هم المؤمنون الذين يجيئون بالقرآن يوم القيامة. وقيل إن ذلك عام في كل من دعا إلى توحيد الله وأرشد إلى ما شرعه لعباده، واختار هذا ابن جرير وهو الذي اختاره من هذه الأقوال، ويؤيده قراءة ابن مسعود والذين جاءوا بالصدق وصدقوا به. ولفظ كما وقع في قراءة الجمهور وإن كان مفرداً فمعناه الجمع، لأنه يراد به الجنس كما يفيده قوله: "أولئك هم المتقون" أي المتصفون بالتقوى التي هي عنوان النجاة. وقرأ أبو صالح وصدق به مخخفاً: أي صدق به الناس.
ثم ذكر سبحانه ما لهؤلاء الصادقين المصدقين في الآخرة: 34- " لهم ما يشاؤون عند ربهم " أي لهم كل ما يشاءونه من رفع الدرجات ودفع المضرات وتكفير السيئات، وفي هذا ترغيب عظيم وتشويق بالغ، والإشارة بقوله: "ذلك" إلى ما تقدم ذكره من جزائهم وهو مبتدأ، وخبره قوله: "جزاء المحسنين" أي الذين أحسنوا في أعمالهم. وقد ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
ثم بين سبحانه ما هو الغاية مما لهم عند ربهم فقال: 35- "ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا" فإن ذلك هو أعظم ما يرجونه من دفع الضرر عنهم لأن الله سبحانه إذا غفر لهم ما هو الأسوأ من أعمالهم غفر لهم ما دونه بطريقة الأولى، واللام متعلقة بيشاءون أو بالمحسنين أو بمحذوف. قرأ الجمهور "أسوأ" على أنه أفعل تفضيل. وقيل ليست للتفضيل بل بمعنى سيء الذي عملوا. وقرأ ابن كثير في رواية عنه أسواء بألف بين الهمزة والواو بزنة أجمال جمع سوء، "ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون" لما ذكر سبحانه ما يدل على المضار عنهم ذكر ما يدل على جلب أعظم المنافع إليهم وإضافة الأحسن إلى ما بعده ليست من إضافة المفضل إلى المفضل عليه، بل من إضافة الشيء إلى بعضه قصداً إلى التوضيح من غير اعتبار تفضيل. قال مقاتل: يجزيهم بالمحاسن من أعمالهم ولا يجزيهم المساوئ. وقد أخرج الآجري والبيهقي عن ابن عباس في قوله: "غير ذي عوج" قال: غير مخلوق. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله: "ضرب الله مثلاً رجلاً" الآية قال: الرجل يعبد آلهة شتى، فهذا مثل ضربه الله لأهل الأوثان " ورجلا سلما " يعبد إلهاً واحداً ضرب لنفسه مثلاً. وأخرجا عنه أيضاً في قوله: " ورجلا سلما " قال: ليس لأحد فيه شيء. وأخرج عبد بن حميد والنسائي وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن ابن عمر قال: لقد لبثنا برهة من دهرنا، ونحن نرى أن هذه الآية نزلت فينا وفي أهل الكتابين من قبلنا "إنك ميت وإنهم ميتون" الآية، حتى رأيت بعضنا يضرب وجوه بعض بالسيف، فعرفت أنها نزلت فينا. وأخرج نعيم بن حماد في الفتن والحاكم وصححه وابن مردويه عنه نحوه بأطول منه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن مردويه عنه أيضاً قال: نزلت علينا الآية "ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون" وما ندري ما تفسيرها حتى وقعت الفتنة، فقلنا هذا الذي وعدنا ربنا أن نختصم فيه. وأخرج عبد الرزاق وأحمد وابن منيع وعبد بن حميد والترمذي وصححه وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في البعث والنشور عن الزبير بن العوام قال: "لما نزلت " إنك ميت وإنهم ميتون * ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون " قلت: يا رسول الله أيكرر علينا ما يكون بيننا في الدنيا مع خواص الذنوب؟ قال: نعم ليكررن عليكم ذلك حتى يؤدي إلى كل ذي حق حقه. قال الزبير: فوالله إن الأمر لشديد". وأخرج سعيد بن منصور عن أبي سيعد الخدري قال: لما نزلت "ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون" كنا نقول: ربنا واحد وديننا واحد ونبينا واحد فما هذه الخصومة؟ فلما كان يوم صفين وشد بعضنا على بعض بالسيوف، قلنا نعم هو هذا. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله: "والذي جاء بالصدق" يعني بلا إله إلا الله "وصدق به" يعني برسول الله صلى الله عليه وسلم "أولئك هم المتقون" يعني اتقوا الشرك. وأخرج ابن جرير والباوردي في معرفة الصحابة وابن عساكر من طريق أسيد بن صفوان، وله صحبة عن علي بن أبي طالب قال: الذي جاء بالصدق محمد صلى الله عليه وسلم، وصدق به أبو بكر. وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة مثله.
قوله: 36- "أليس الله بكاف عبده" قرأ الجمهور "عبده" بالإفراد. وقرأ حمزة والكسائي "عباده" بالجمع، فعلى القراءة الأولى المراد النبي صلى الله عليه وسلم أو الجنس، ويدخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم دخولاً أولياً، وعلى القراءة الأخرى المراد الأنبياء أو المؤمنون أو الجميع، واختار أبو عبيد قراءة الجمهور لقوله عقبه ويخوفونك والاستفهام للإنكار لعدم كفايته سبحانه على أبلغ وجه كأنه بمكان من الظهور لا يتيسر لأحد أن ينكره. وقيل المراد بالعبد والعباد ما يعم المسلم والكافر. قال الجرجاني: إن الله كاف عبده المؤمن وعبده الكافر هذا بالثواب، وهذا بالعقاب. وقرئ بكافي عباده بالإضافة، وقرئ يكافي بصيغة المضارع، وقوله: "ويخوفونك بالذين من دونه" يجوز أن يكون في محل نصب على الحال، إذ المعنى أليس كافيك حال تخويفهم إياك، ويجوز أن تكون مستأنفة، والذين من دونه عبارة عن المعبودات التي يعبدونها "ومن يضلل الله فما له من هاد" أي من حق عليه القضاء بضلاله فما له من هاد يهديه إلى الرشد ويخرجه من الضلالة.
37- "ومن يهد الله فما له من مضل" يخرجه من الهداية ويوقعه في الضلالة "أليس الله بعزيز" أي غالب لكل شيء قاهر له "ذي انتقام" ينتقم من عصاته بما يصبه عليهم من عذابه وما ينزله بهم من سوط عقابه.
38- "ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله" ذكر سبحانه اعترافهم إذا سئلوا عن الخالق بأن الله سبحانه مع عبادتهم للأوثان، واتخاذهم الآلهة من دون الله، وفي هذا أعظم دليل على أنهم كانوا في غفلة شديدة وجهالة عظيمة لأنهم إذا علموا أن الخالق لهم ولما يعبدون من دون الله هو الله سبحانه، فكيف استحسنت عقولهم عبادة غير خالق الكل وتشريك مخلوق مع خالقه في العبادة؟ وقد كانوا يذكرون بحسن العقول وكمال الإدراك والفطنة التامة، ولكنهم لما قلدوا أسلافهم وأحسنوا الظن بهم هجروا ما يقتضيه العقل، وعملوا بما هو محض الجهل. ثم أمر الله سبحانه رسوله أن يبكتهم بعد هذا الاعتراف ويوبخهم فقال: "قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره" أي أخبروني عن آلهتكم هذه هل تقدر على كشف ما أراده الله بي من الضر، والضر هو الشدة أو أعلى: "أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته" عني بحيث لا تصل إلي، والرحمة النعمة والرخاء. قرأ الجمهور ممسكات وكاشفات في الموضعين بالإضافة وقرأهما أبو عمر بالتنوين. قال مقاتل: لما نزلت هذه الآية سألهم النبي صلى الله عليه وسلم فسكتوا، وقال غيره: قالوا لا تدفع شيئاً من قدر الله ولكنها تشفع، فنزل "قل حسبي الله" في جميع أموري في جلب النفع ودفع الضر "عليه يتوكل المتوكلون" أي عليه، لا على غيره يعتمد المعتمدون، واختار أبو عبيد وأبو حاتم قراءة أبي عمرو. لأن كاشفات اسم فاعل في معنى الاستقبال، وما كان كذلك فتنوينه أجود، وبها قرأ الحسن وعاصم.
ثم أمره الله أن يهددهم ويتوعدهم فقال: 39- "قل يا قوم اعملوا على مكانتكم" أي على حالتكم التي أنتم عليها وتمكنتم منها "إني عامل" أي على حالتي التي أنا عليها وتمكنت منها، وحذف ذلك للعلم به مما قبله.
40- "فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه" أي يهينه ويذله في الدنيا، فيظهر عند ذلك أنه المبطل وخصمه المحق، والمراد بهذا العذاب عذاب الدنيا وما حل بهم من القتل والأسر والقهر والذلة. ثم ذكر عذاب الآخرة فقال: "ويحل عليه عذاب مقيم" أي دائم مستمر في الدار الآخرة، وهو عذاب النار.