تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 463 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 463

462

ثم لما كان يعظم على رسول الله صلى الله عليه وسلم إضرارهم على الكفر أخبره بأنه لم يكلف إلا بالبيان، لا بأن يهدي من ضل، فقال: 41- "إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس" أي لأجلهم ولبيان ما كلفوا به، و"بالحق" حال من الفاعل أو المفعول: أي محقين أو متلبساً بالحق "فمن اهتدى" طريق الحق وسلكها "فلنفسه ومن ضل" عنها "فإنما يضل عليها" أي على نفسه، فضرر ذلك عليه لا يتعدى إلى غيره "وما أنت عليهم بوكيل" أي بمكلف بهدايتهم مخاطب بها، بل ليس عليك إلا البلاغ وقد فعلت. وهذه الآيات هي منسوخة بآية السيف، فقد أمر الله رسوله بعد هذا أن يقاتلهم حتى يقولوا لا إله إلا الله ويعملوا بأحكام الإسلام.
ثم ذكر سبحانه نوعاً من أنواع قدرته البالغة وصنعته العجيبة فقال: 42- "الله يتوفى الأنفس حين موتها" أي يقبضها عند حضور أجلها ويخرجها من الأبدان "والتي لم تمت في منامها" أي ويتوفى الأنفس التي لم تمت: أي لم يحضر أجلها في منامها. وقد اختلف في هذا، فقيل يقبضها عن التصرف مع بقاء الروح في الجسد. وقال الفراء: المعنى ويقبض التي لم تمت عند انقضاء أجلها قال: وقد يكون توفيها نومها، فيكون التقدير على هذا: والتي لم تمت وفاتها نومها. قال الزجاج: لكل إنسان نفسان: أحدهما نفس التمييز وهي التي تفارقه إذا نام فلا يعقل، والأخرى نفس الحياة إذا زالت زال معها النفس والنائم يتنفس. قال القشيري: في هذا بعد إذ المفهوم من الآية أن النفس المقبوضة في الحالين شيء واحد، ولهذا قال: "فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى" أي النائمة "إلى أجل مسمى" وهو الوقت المضروب لموته، وقد قال بمثل قول الزجاج ابن الأنباري. وقال سعيد بن جبير: إن الله يقبض أرواح الأموات إذا ماتوا وأرواح الأحياء إذا ناموا فتتعارف ما شاء الله أن تتعارف "فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى" فيعيدها، والأولى أن يقال إن توفي الأنفس حال النوم بإزالة الإحساس وحصول الآفة به في محل الحس، فيمسك التي قضى عليها الموت ولا يردها إلى الجسد الذي كانت فيه ويرسل الأخرى بأن يعيد عليها إحساسها. قيل ومعنى "يتوفى الأنفس حين موتها" هو على حذف مضاف: أي عند موت أجسادها. وقد اختلف العقلاء في النفس والروح هل هما شيء واحد أو شيئان؟ والكلام في ذلك يطول جداً وهو معروف في الكتب الموضوعة لهذا الشأن. قرأ الجمهور قضى مبنياً للفاعل: أي قضى الله عليها الموت وقرأ حمزة والكسائي والأعمش ويحيى بن وثاب على البناء للمفعول، واختار أبو عبيد وأبو حاتم القراءة الأولى لموافقتها لقوله: "الله يتوفى الأنفس" والإشارة بقوله: "إن في ذلك" إلى ما تقدم من التوفي والإمساك والإرسال للنفوس "لآيات" أي لآيات عجيبة بديع دال على القدرة الباهرة، ولكن ليس كون ذلك آيات يفهمه كل أحد بل "لقوم يتفكرون" في ذلك ويتدبرونه ويستدلون به على توحيد الله وكمال قدرته، فإن في هذا التوفي والإمساك والإرسال موعظة للمتعظين وتذكرة للمتذكرين. وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "الله يتوفى الأنفس حين موتها" الآية قال: نفس وروح بينهما مثل شعاع الشمس، فيتوفى الله النفس في منامها ويدع الروح في جوفه تتقلب وتعيش، فإن بدا له أن يقبضه قبض الروح فمات، وإن أخر أجله رد النفس إلى مكانها من جوفه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والطبراني في الأوسط، وأبو الشيخ في العظمة، وابن مردويه والضياء في المختارة عنه في الآية قال: تلتقي أرواح الأحياء وأرواح الأموات في المنام فيتساءلون بينهم ما شاء الله، ثم يمسك الله أرواح الأموات ويرسل أرواح الأحياء في أجسادهم "إلى أجل مسمى" لا يغلط بشيء منها فذلك قوله "إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون". وأخرج عبد بن حميد عنه أيضاً في الآية قال: كل نفس لها سبب تجري فيه، فإذا قضي عليها الموت نامت حتى ينقطع السبب، والتي لم تمت في منامها تترك. وأخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أوى أحدكم إلى فراشه لينفضه بداخلة إزاره فإنه لا يدري ما خلفه عليه، ثم ليقل باسمك ربي وضعت جنبي وباسمك أرفعه، إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين".
قوله: 43- "أم اتخذوا من دون الله شفعاء" أم هي المنقطعة المقدرة ببل والهمزة: أي بل اتخذوا من دون الله آلهة شفعاء تشفع لهم عند الله " قل أو لو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون " الهمزة للإنكار والتوبيخ والواو للعطف على محذوف مقدر: أي أيشفعون ولو كانوا إلخ، وجواب لو محذوف تقديره تتخذونهم: أي وإن كانوا بهذه الصفة تتخذونهم، ومعنى لا يملكون شيئاً أنهم غير مالكين لشيء من الأشياء وتدخل الشفاعة في ذلك دخولاً أولياً أو يعقلون شيئاً من الأشياء لأنها جمادات لا عقل لها، وجمعهم بالواو والنون لاعتقاد الكفار فيهم أنهم يعقلون.
ثم أمره سبحانه بأن يخبرهم أن الشفاعة لله وحده فقال: 44- "قل لله الشفاعة جميعاً" فليس لأحد منها شيء إلا أن يكون بإذنه لمن ارتضى، كما في قوله: "من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه" وقوله: "ولا يشفعون إلا لمن ارتضى" وانتصاب جميعاً على الحال، وإنما أكد الشفاعة بما يؤكد به الاثنان فصاعداً لأنها مصدر يطلق على الواحد والاثنين والجماعة ثم وصفه بسعة الملك فقال: "له ملك السموات والأرض" أي يملكهما ويملك ما فيهما ويتصرف في ذلك كيف يشاء ويفعل ما يريد "ثم إليه ترجعون" لا إلى غيره، وذلك بعد البعث.
45- "وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة" انتصاب وحده على الحال عند يونس، وعلى المصدر عند الخليل وسيبويه، والاشمئزاز في اللغة النفور. قال أبو عبيدة: اشمأزت نفرت، وقال المبرد: انقبضت. وبالأول قال قتادة، وبالثاني قال مجاهد المعنى متقارب. وقال المؤرج: أنكرت، وقال أبو زيد: اشمأز الرجل ذعر من الفزع، والمناسب للمقام تفسير اشمأزت بانقبضت، وهو في الأصل الازورار، وكان المشركون إذا قيل لهم لا إله إلا الله انقبضوا، كما حكاه الله عنهم في قوله: "وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفوراً" ثم ذكر سبحانه استبشارهم بذكر أصنامهم فقال: "وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون" أي يفرحون بذلك يوبتهجون به، والعامل في إذا في قوله: "وإذا ذكر الله" الفعل الذي بعدها، وهو اشمأزت، والعامل في إذا في قوله: "وإذا ذكر الذين من دونه" الفعل العامل في إذا الفجائية، والتقدير: فاجئوا الاستبشار وقت ذكر الذين من دونه.
ولما لم يقبل المتمردون من الكفار ما جاءهم به صلى الله عليه وسلم من الدعاء إلى الخير وصمموا على كفرهم، أمره الله سبحانه أن يرد الأمر فقال: 46- " قل اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك في ما كانوا فيه يختلفون " وقد تقدم تفسير فاطر السموات، وتفسير عالم الغيب والشهادة، وهما منصوبان على النداء ومعنى "تحكم بين عبادك" تجازي المحسن بإحسانه وتعاقب المسيء بإساءته، فإنه بذلك يظهر من هو المحق ومن هو المبطل، ويرتفع عنده خلاف المختلفين وتخاصم المتخاصمين.
ثم لما حكى عن الكفار ما حكاه من الاشمئزاز عند ذكر الله والاستبشار عند ذكر الأصنام ذكر ما يدل على شدة عذابهم وعظيم عقوبتهم فقال: 47- "ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعاً" أي جميع ما في الدنيا من الأموال والذخائر "ومثله معه" أي منضماً إليه "لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة" أي من سوء عذاب ذلك اليوم وقد مضى تفسير هذا في آل عمران "وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون" أي ظهر لهم من عقوبات الله وسخطه وشدة عذابه ما لم يكن في حسابهم، وفي هذا وعيد عظيم وتهديد بالغ، وقال مجاهد: عملوا أعمالاً توهموا أنها حسنات فإذا هي سيئات، وكذا قال السدي. وقال سفيان الثوري: ويل لأهل الرياء، ويل لأهل الرياء، ويل لأهل الرياء هذه آيتهم وقصتهم. وقال عكرمة بن عمار: جزع محمد بن المنكدر عند موته جزعاً شديداً، فقيل له ما هذا الجزع؟ قال: أخاف آية من كتاب الله "وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون" فأنا أخشى أن يبدو لي ما لم أكن أحتسب.