تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 471 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 471

470

ثم زاد في وعظهم وتذكيرهم فقال: 34- "ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات" أي يوسف بن يعقوب، والمعنى: أن يوسف بن يعقوب جاءهم بالمعجزات والآيات الواضحات من قبل مجيء موسى إليهم: أي جاء إلى آبائكم، فجعل المجيء إلى الآباء مجيئاً إلى الأبناء. وقيل المراد بيوسف هنا يوسف بن إفرائيم بن يوسف ين يعقوب، وكان أقام فيهم نبياً عشرين سنة. وحكى النقاش عن الضحاك أن الله بعث إليهم رسولاً من الجن يقال له يوسف، والأول أولى. وقد قيل إن فرعون موسى أدرك أيام يوسف بن يعقوب لطول عمره "فما زلتم في شك مما جاءكم به" من البينات ولم تؤمنوا به "حتى إذا هلك" يوسف "قلتم لن يبعث الله من بعده رسولاً" فكفروا به في حياته وكفروا بمن بعده من الرسل بعد موته "كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب" أي مثل ذلك الضلال الواضح يضل الله من هو مسرف في معاصي الله مستكثر منها مرتاب في دين الله شاك في وحدانيته ووعده ووعيده.
والموصول في قوله: 35- "الذين يجادلون في آيات الله" بدل من من، والجمع باعتبار معناها، أو بيان لها، أو صفة، أو في محل نصب بإضمار أعني، أو خبر مبتدأ محذوف: أي هم الذين، أو مبتدأ وخبره يطبع "بغير سلطان" متعلقق بيجادلون: أي يجادلون في آيات الله بغير حجة واضحة، و"أتاهم" صفة لسلطان "كبر مقتاً عند الله وعند الذين آمنوا" يحتمل أن يراد به التعجب، وأن يراد به الذم كبئس، وفاعل كبر ضمير يعود إلى الجدال المفهوم من يجادلون، وقيل فاعله ضمير يعود إلى من في من هو مسرف والأول أولى. وقوله: "عند الله" متعلق بكبر، وكذلك "عند الذين آمنوا" قيل هذا من كلام الرجل المؤمن، وقيل ابتداء كلام من الله سبحانه "كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار" أي كما طبع على قلوب هؤلاء المجادلين فكذلك يطبع: أي يختم على كل قلب متكبر جبار. قرأ الجمهور بإضافة قلب إلى متكبر، فحذف كل الثانية لدلالة الأولى عليها، والمعنى: أنه سبحانه يطبع على قلوب جميع المتكبرين الجبارين، وقرأ أبو عمرو وابن محيصن وابن ذكوان عن أهل الشام بتنوين قلب على أن متكبر صفة له، فيكون القلب مراداً به الجملة، لأن القلب هو محل التكبر وسائر الأعضاء تبع له في ذلك، وقرأ ابن مسعود على قلب كل متكبر.
ثم لما سمع فرعون هذا رجع إلى تكبره وتجبره معرضاً عن الموعظة نافراً من قبولها وقال "يا هامان ابن لي صرحاً" أي قصراً مشيداً كما تقدم بيان تفسيره "لعلي أبلغ الأسباب" أي الطرق. قال قتادة والزهري والسدي والأخفش: هي الأبواب.
وقوله: 37- "أسباب السموات" بيان للأسباب، لأن الشيء إذا أبهم ثم فسر كان أوقع في النفوس، وأنشد الأخفش عند تفسيره للآية بيت زهير: ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ولو رام أسباب السماء بسلم وقيل أسباب السموات الأمور التي يستمسك بها "فأطلع إلى إله موسى" قرأ الجمهور بالرفع عطفاً على أبلغ، فهو على هذا داخل في حيز الترجي. وقرأ الأعرج والسملي وعيسى بن عمر وحفص بالنصب على جواب الأمر في قوله: "ابن لي" أو على جواب الترجي كما قال أبو عبيدة وغيره. قال النحاس: ومعنى النصب خلاف معنى الرفع، لأن معنى النصب: متى بلغت الأسباب اطلعت، ومعنى الرفع: لعلي أبلغ الأسباب ولعلي أطلع بعد ذلك، وفي هذا دليل على أن فرعون كان بمكان من الجهل عظيم، وبمنزلة من فهم حقائق الأشياء سافلة جداً "وإني لأظنه كاذباً" أي وإني لأظن موسى كاذباً في ادعائه بأن له إلهاً، أو فيما يدعيه من الرسالة "وكذلك زين لفرعون سوء عمله" أي ومثل ذلك التزيين زين الشيطان لفرعون سوء عمله من الشرك والتكذيب، فتمادى في الغي واستمر على الطغيان "وصد عن السبيل" أي سبيل الرشاد. قرأ الجمهور "وصد" بفتح الصاد والدال: أي صد فرعون الناس عن السبيل، وقرأ الكوفيون "وصد" بضم الصاد مبنياً للمفعول، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم، ولعل وجه الاختيار لها منهما كونها مطابقة لما أجمعوا عليه في "زين" من البناء للمفعول، وقرأ يحيى بن وثاب وعلقمة صد بكسر الصاد، وقرأ ابن أبي إسحاق وعبد الرحمن بن أبي بكرة بفتح الصاد وضم الدال منوناً على أنه مصدر معطوف على سوء عمله: أي زين له الشيطان سوء العمل والصد "وما كيد فرعون إلا في تباب" التباب: الخسار والهلاك ومنه "تبت يدا أبي لهب".
ثم إن ذلك الرجل المؤمن أعاد التذكير والتحذير كما حكى الله عنه بقوله: 38- "وقال الذي آمن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد" أي اقتدوا بي في الدين أهدكم طريق الرشاد، وهو الجنة، وقيل هذا من قول موسى، والأول أولى. وقرأ معاذ بن جبل الرشاد بتشديد بتشديد الشين كما تقدم قريباً في قول فرعون ووقع في المصحف اتبعون بدون ياء، وكذلك قرأ أبو عمرو ونافع بحذفها في الوقف وإثباتها في الأصل، وقرأ يعقوب وابن كثير بإثباتها وصلاً ووقفاً وقرأ الباقون بحذفها وصلاً ووقفاً فمن أثبتها فعلى ما هو الأصل، ومن حذفها فلكونها حذفت في المصحف.
39- "يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع" يتمتع بها أياماً ثم تنقطع وتزول "وإن الآخرة هي دار القرار" أي الاستقرار لكونها دائمة لا تنقطع ومستمرة لا تزول.
40- "من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها" أي من عمل في دار الدنيا معصية من المعاصي كائنة ما كانت فلا يجزى إلا مثلها ولا يعذب إلا بقدرها، والظاهر شمول الآية لكل ما يطلق عليه اسم السيئة، وقيل هي خاصة بالشرك، ولا وجه لذلك "ومن عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن" أي من عمل عملاً صالحاً مع كونه مؤمناً بالله وبما جاءت به رسله "فأولئك" الذين جمعوا بين العمل الصالح والإيمان "يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب" أي بغير تقدير ومحاسبة. قال مقاتل: يقول لا تبعة عليهم فيما يعطون في الجنة من الخير، وقيل العمل الصالح، هو لا إله إلا الله. قرأ الجمهور "يدخلون" بفتح التحتية مبنياً للفاعل. وقرأ ابن كثير وابن محيصن وأبو عمرو ويعقوب وأبو بكر عن عاصم بضمها مبنياً للمفعول. وقد أخرج ابن المنذر عن ابن عباس "مثل دأب" قال: مثل حال. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة "مثل دأب قوم نوح" قال: هم الأحزاب: قوم نوح وعاد وثمود. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله: "ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات" قال: رؤيا يوسف، وفي قوله: "الذين يجادلون في آيات الله" قال يهود. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "إلا في تباب" قال: خسران. وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "إنما هذه الحياة الدنيا متاع" قال: الدنيا جمعة من جمع الآخرة سبعة آلاف سنة. وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الحياة الدنيا متاع وليس من متاعها شيء أفضل من المرأة الصالحة، التي نظرت إليها سرتك، وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها ومالها".
كرر ذلك الرجل المؤمن دعاءهم إلى الله وصرح بإيمانه، ولم يسلك المسالك المتقدمة من إيهامه لهم أنه منهم، وأنه إنما يتصدى التذكير كراهة أن يصيبهم بعض ما توعدهم به موسى كما يقوله الرجل المحب لقومه من التحذير عن الوقوع فيما يخاف عليهم الوقوع فيه فقال: 41- " ويا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار " أي أخبروني عنكم كيف هذه الحال: أدعوكم إلى النجاة من النار ودخول الجنة بالإيمان بالله وإجابة رسله، وتدعونني إلى النار بما تريدونه مني من الشرك. قيل معنى " ما لي أدعوكم " ما لكم أدعوكم كما تقول: مالي أراك حزيناً أي مالك.