تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 491 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 491

490

ثم أخبر سبحانه أن غير هؤلاء من الكفار قد سبقهم إلى هذه المقالة وقال بها فقال: 23- "وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون" مترفوها: أغنياؤها ورؤساؤها، قال قتادة: مقتدون متبعون، ومعنى الاهتداء والاقتداء متقارب، وخصص المترفين تنبيهاً على أن التنعم هو سبب إهمال النظر.
ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يرد عليهم، فقال: 24- " قال أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم " أي أتتبعون آباءكم ولو جئتكم بدين أهدى من دين آبائكم، قال الزجاج: المعنى قل لهم أتتبعون ما وجدتم عليه آباءكم وإن جئتكم بأهدى منه. قرأ الجمهور " قال أو لو جئتكم " وقرأ ابن عامر وحفص " قال أو لو جئتكم " وهو حكاية ملا جرى بين المنذرين وقومهم: أي قال كل منذر من أولئك المنذرين لأمته، وقيل إن كلا القراءتين حكاية لما جرى بين الأنبياء وقومهم، كأنه قال: لكل نبي قل، بدليل قوله: "قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون" وهذا من أعظم الأدلة الدالة على بطلان التقليد وقبحه، فإن هؤلاء المقلدة في الإسلام إنما يعملون بقول أسلافهم ويتبعون آثارهم ويقتدون بهم، فإذا رام الداعي إلى الحق أن يخرجهم من ضلالة أو يدفعهم عن بدعة قد تمسكوا بها وورثوها عن أسلافهم بغير دليل نير ولا حجة واضحة، بل بمجرد قال وقيل لشبهة داحضة وحجة زائفة ومقالة باطلة، قالوا بما قاله المترفون من هذه الملل: إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون، أو بما يلاقي معناه معنى ذلك، فإن قال لهم الداعي إلى الحق: قد جمعتنا الملة الإسلامية وشملنا هذا الدين المحمدي، ولم يتعبدنا الله ولا تعبدكم وتعبد آباءكم من قبلكم إلا بكتابه الذي أنزله على رسوله وبما صح عن رسوله، فإنه المبين لكتاب الله الموضح لمعانيه، الفارق بين محكمه ومتشابهه، فتعالوا نرد ما تنازعنا فيه إلى كتاب الله وسنة رسوله كما أمرنا الله بذلك في كتابه بقوله: "فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول" فإن الرد إليهما أهدى لنا ولكم من الرد إلى ما قاله أسلافكم ودرج عليه آباؤكم، نفروا نفور الوحوش، ورموا الداعي لهم إلى ذلك بكل حجر ومدر، كأنهم لم يسمعوا قول الله سبحانه: "إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا" ولا قوله: "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً" فإن قال لهم القائل: هذا العالم الذي تقتدون به وتتبعون أقواله هو مثلكم في كونه متعبداً بكتاب الله وسنة رسوله، مطلوباً منه ما هو مطلوب منكم، وإذا عمل برأيه عند عدم وجدانه للدليل، فذلك رخصة له لا يحل أن يتبعه غيره عليها، ولا يجوز له العمل بها، وقد وجدوا الدليل الذي لم يجده، وها أنا أوجدكموه في كتاب الله، أو فيما صح من سنة رسوله، وذلك أهدى لكم مما وجدتم عليه آباءكم، قالوا: لا نعمل بهذا ولا سمع لك ولا طاعة، ووجدوا في صدورهم أعظم الحرج من حكم الكتاب والسنة، ولم يسلموا ذلك ولا أذعنوا له، وقد وهب لهم الشيطان عصا يتوكأون عليها عند أن يسمعوا من يدعوهم إلى الكتاب والسنة، وهي أنهم يقولون: إن إمامنا الذي قلدناه واقتدينا به أعلم منك بكتاب الله وسنة رسوله، وذلك لأن أذهانهم قد تصورت من يقتدون به تصوراً عظيماً بسبب تقدم العصر وكثرة الأتباع، وما علموا أن هذا منقوض عليهم مدفوع به في وجوههم، فإنه لو قيل لهم إن في التابعين من هو أعظم قدراً، وأقدم عصراً من صاحبكم، فإن كان لتقدم العصر وجلالة القدر مزية حتى توجب الاقتداء، فتعالوا حتى أريكم من هو أقدم عصراً وأجل قدراً، فإن أبيتم ذلك، فها أنا أدلكم على من هو أعظم قدراً وأجل خطراً وأكثر أتباعاً وأقدم عصراً، وهو محمد بن عبد الله نبينا ونبيكم رسول الله إلينا وإليكم فتعالوا فهذه سنته موجودة في دفاتر الإسلام ودواوينه التي تلقتها جميع هذه الأمة قرناً بعد قرن وعصراً بعد عصر، وهذا كتاب ربنا خالق الكل ورازق الكل وموجد الكل بين أظهرنا موجود في كل بيت، وبيد كل مسلم لم يلحقه تغيير ولا تبديل ولا زيادة ولا نقص ولا تحريف ولا تصحيف، ونحن وأنتم ممن يفهم ألفاظه ويتعقل معانيه، فتعالوا لنأخذ الحق من معدنه ونشرب صفو الماء من منبعه، فهو أهدى مما وجدتم عليه آباءكم، قالوا: لا سمع ولا طاعة، إما بلسان المقال أو بلسان الحال، فتدبر هذا وتأمله إن بقي فيك بقية من إنصاف وشعبة من خير ومزعة من حياء وحصة من دين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وقد أوضحت هذا غاية الإيضاح في كتابي الذي سميته أدب الطلب ومنتهى الأرب فارجع إليه إن رمت أن تنجلي عنك ظلمات التعصب وتنقشع لك سحائب التقليد.
25- "فانتقمنا منهم" وذلك الانتقام ما أوقعه الله بقوم نوح وعاد وثمود "فانظر كيف كان عاقبة المكذبين" من تلك الأمم، فإن آثارهم موجودة.
26- "وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه" أي واذكر لهم وقت قوله لأبيه وقومه الذين قلدوا آباءهم وعبدوا الأصنام "إنني براء مما تعبدون" البراء مصدر نعت به للمبالغة، وهو يستعمل للواحد والمثنى والمجموع والمذكر والمؤنث. قال الجوهري: وتبرأت من كذا وأنا منه براء وخلاء، لا يثنى ولا يجمع لأنه مصدر في الأصل.
ثم استثنى خالقه من البراءة فقال: 27- "إلا الذي فطرني" أي خلقني "فإنه سيهدين" سيرشدني لدينه ويثبتني على الحق، والاستثناء إما منقطع: أي لكن الذي فطرني، أو متصل من عموم ما، لأنهم كانوا يعبدون الله والأصنام، وإخباره بأنه سيهديه جزماً لثقته بالله سبحانه وقوة يقينه.
28- "وجعلها كلمة باقية في عقبه" الضمير في جعلها عائد إلى قوله: "إلا الذي فطرني" وهي بمعنى التوحيد كأنه قال: وجعل كلمة التوحيد باقية في عقب إبراهيم وهم ذريته، فلا يزال فيهم من يوحد الله سبحانه، وفاعل جعلها إبراهيم، وذلك حيث وصاهم بالتوحيد وأمرهم بأن يدينوا به كما في قوله: " ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب " الآية، وقيل الفاعل هو الله عز وجل: أي وجعل الله عز وجل كلمة التوحيد باقية في عقب إبراهيم، والعقب من بعد. قال مجاهد وقتادة: الكلمة لا إله إلا الله لا يزال من عقبه من يعبد الله إلى يوم القيامة. وقال عكرمة: هي الإسلام. قال ابن زيد: الكلمة هي قوله: "أسلمت لرب العالمين" وجملة "لعلهم يرجعون" تعليل للجعل: أي جعلها باقية رجاء أن يرجع إليها من يشرك منهم بدعاء من يوحد. وقيل الضمير في لعلهم راجع إلى أهل مكة: أي لعل أهل مكة يرجعون إلى دينك الذي هو دين إبراهيم. وقيل في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: فإنه سيهدين لعلهم يرجعون وجعلها إلخ. قال السدي: لعلهم يتوبون. فيرجعون عما هم عليه إلى عبادة الله.
ثم ذكر سبحانه نعمته على قريش ومن وافقهم من الكفار المعاصرين لهم فقال: 29- "بل متعت هؤلاء وآباءهم" أضرب عن الكلام الأول إلى ذكر ما متعهم به من الأنفس والأهل والأموال وأنواع النعم وما متع به آباءهم ولم يعاجلهم بالعقوبة، فاغتروا بالمهلة وأكبوا على الشهوات "حتى جاءهم الحق" يعني القرآن "ورسول مبين" يعني محمداً صلى الله عليه وسلم. ومعنى مبين ظاهر الرسالة واضحها، أو مبين لهم ما يحتاجون إليه من أمر الدين فلم يجيبوه ولم يعملوا بما أنزل عليه.
ثم بين سبحانه ما صنعوه عند مجيء الحق فقال: 30- "ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر وإنا به كافرون" أي جاحدون، فسموا القرآن سحراً وجحدوه. واستحقروا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
31- "وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم" المراد بالقريتين مكة والطائف، وبالرجلين الوليد بن المغيرة من مكة، وعروة بن مسعود الثقفي من الطائف كذا قال قتادة وغيره. وقال مجاهد وغيره: عتبة بن ربيعة من مكة، وعمير بن عبد ياليل الثقفي من الطائف. وقيل غير ذلك. وظاهر النظم أن المراد رجل من إحدى القريتين عظيم الجاه واسع المال مسود في قومه والمعنى: أنه لو كان قرآنا لنزل على رجل عظيم من عظماء القريتين.
فأجاب الله سبحانه عنهم بقوله: 32- "أهم يقسمون رحمة ربك" يعني النبوة أو ما هو أعم منها، والاستفهام للإنكار. ثم بين أنه سبحانه هو الذي قسم بينهم ما يعيشون به من أمور الدنيا فقال: "نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا" ولم نفوض ذلك إليهم، وليس لأحد من العباد أن يتحكم في شيء بل الحكم لله وحده، وإذا كان الله سبحانه هو الذي قسم بينهم أرزاقهم ورفع درجات بعضهم على بعض فكيف لا يقنعون بقسمته في أمر النبوة وتفويضها إلى من يشاء من خلقه. قال مقاتل: يقول أبأيديهم مفاتيح الرسالة فيضعونها حيث شاءوا. قرأ الجمهور "معيشتهم" بالإفراد، وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن محيصن معايشهم بالجمع "و" معنى "رفعنا بعضهم فوق بعض درجات" أنه فاضل بينهم فجعل بعضهم أفضل من بعض في الدنيا بالرزق والرياسة والقوة والحرية والعقل والعلم، ثم ذكر العلة لرفع درجات بعض في الدنيا بالرزق والرياسة والقوة والحرية والعقل والعلم، ثم ذكر العلة لرفع درجات بعضهم على بعض، فقال: "ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً" أي ليستخدم بعضهم بعضاً فيستخدم الغني الفقير والرئيس والمرؤوس والقوي الضعيف والحر العبد والعاقل من هو دونه من العقل والعالم الجاهل، وهذا في غالب أحوال أهل الدنيا، وبه تتم مصالحهم وينتظم معاشهم ويصل كل واحد منهم إلى مطلوبه، فإن كل صناعة دنيوية يحسنها قوم دون آخرين، فجعل البعض محتاجاً إلى البعض لتحصل المواساة بينهم في متاع الدنيا، ويحتاج هذا إلى هذا، ويصنع هذا هذا، ويعطي هذا هذا. قال السدي وابن زيد: سخرنا خولنا وخدماً يسخر الأغنياء الفقراء فيكون بعضهم سبباً لمعاش بعض. وقال قتادة والضحاك: ليملك بعضهم بعضاً، وقيل هو السخرية التي بمعنى الاستهزاء، وهذا وإن كان مطابقاً للمعنى اللغوي، ولكنه بعيد من معنى القرآن ومناف لما هو مقصود السياق "ورحمة ربك خير مما يجمعون" يعني بالرحمة ما أعده الله لعباده الصالحين في الدار الآخرة، وقيل هي النبوة لأنها المراد بالرحمة المتقدمة في قوله: "أهم يقسمون رحمة ربك" ولا مانع من أن يراد كل ما يطلق عليه اسم الرحمة إما شمولاً أو بدلاً، ومعنى مما يجمعون ما يجمعونه من الأموال وسائر متاع الدنيا.
ثم بين سبحانه حاقرة الدنيا عنده فقال: 33- "ولولا أن يكون الناس أمة واحدة" أي لولا أن يجتمعوا على الكفر ميلاً إلى الدنيا وزخرفها "لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة" جمع الضمير في بيوتهم وأفرده في يكفر باعتبار معنى من ولفظها، و لبيوتهم بدل اشتمال من الموصول والسقف جمع سقف. قرأ الجمهور بضم السين والقاف كرهن ورهن. قال أبو عبيدة: ولا ثالث لهما. وقال الفراء: هو جمع سقيف نحو كثير وكثب ورغيف ورغف، وقيل هو جمع سقوف فيكون جمعاً للجمع. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح السين وإسكان القاف على الإفراد ومعناه الجمع لكونه للجنس. قال الحسن: معنى الآية: لولا أن يكفر الناس جميعاً بسبب ميلهم إلى الدنيا وتركهم الآخرة لأعطيناهم في الدنيا ما وصفناه لهوان الدنيا عند الله وقال أكثر المفسرين. وقال ابن زيد: لولا أن يكون الناس أمة واحدة في طلب الدنيا واختيارهم لها على الآخرة. وقال الكسائي: المعنى لولا أن يكون في الكفار غني وفقير، وفي المسلمين مثل ذلك لأعطينا الكفار من الدنيا هذا لهوانها "ومعارج عليها يظهرون" المعارج: الدرج جمع معراج، والمعراج السلم. قال الأخفش: إن شئت جعلت الواحدة معرج ومعرج مثل: مرقاة ومرقاة، والمعنى: فجعلنا لهم معارج في فضة عليها يظهرون، أي على المعارج يرتقون ويصعدون، يقال ظهرت على البيت: أي علوت سطحه، ومنه قول النابغة: بلغنا السماء مجدا وفخرا وسؤددا وإنا لنرجوا فوق ذلك مظهرا أي مصعداً.