تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 504 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 504

503

والإشارة بقوله: 15- "أولئك" إلى الإنسان المذكور، والجمع لأنه يراد به الجنس وهو مبتدأ، وخبره "الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا" من أعمال الخير في الدنيا والمراد بالأحسن الحسن كقوله: "واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم" وقيل إن اسم التفضيل على معناه، ويراد به ما يثاب العبد عليه من الأعمال، لا ما لا يثاب عليه كالمباح فإنه حسن وليس بأحسن "ونتجاوز عن سيئاتهم" فلا نعاقبهم عليها. قرأ الجمهور "يتقبل" و" نتجاوز " على بناء الفعلين للمفعول. وقرأ حمزة والكسائي بالنون فيهما على إسنادهما إلى الله سبحانه، والتجاوز الغفران، وأصله من جزت الشيء: إذا لم تقف عليه، ومعنى "في أصحاب الجنة" أنهم كائنون في عدادهم منتظمون في سلكهم، فالجار والمجرور في محل النصب على الحال كقولك: أكرمني الأمير في أصحابه: أي كائناً في جملتهم، وقيل إن في بمعنى مع: أي مع أصحاب الجنة، وقيل إنهما خبر مبتدأ محذوف: أي هم في أصحاب الجنة "وعد الصدق الذي كانوا يوعدون" ووعد الصدق مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة، لأن قوله: "أولئك الذين نتقبل عنهم" الخ في معنى الوعد بالتقبل والتجاوز، ويجوز أن يكون مصدر الفعل محذوف. أي وعدهم الله وعد الصدق الذي كانوا يوعدون به على ألسن الرسل في الدنيا. وقد أخرج أبو يعلى وابن جرير والطبراني والحاكم وصححه عن عوف بن مالك الأشجعي قال: "انطلق النبي صلى الله عليه وسلم وأنا معه حتى دخلنا كنيسة اليهود يوم عيدهم، فكرهوا دخولنا عليهم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا معشر اليهود أروني اثني عشر رجلاً منكم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله يحط الله يحط الله تعالى عن كل يهودي تحت أديهم السماء الغضب الذي عليه"، فسكتوا فما أجابه منهم أحد، ثم رد عليهم فلم يجبه أحد ثلاثاً، فقال: أبيتم فوالله لأنا الحاشر، وأنا العاقب، وأنا المقفي آمنتم أو كذبتم، ثم انصرف وأنا معه حتى كدنا أن نخرج، فإذا رجل من خلقه فقال: كما أنت يا محمد فأقبل، فقال ذلك الرجل: أي رجل تعلموني فيكم يا معشر اليهود، فقالوا، والله ما نعلم فينا رجلاً أعلم بكتاب الله ولا أفقه منك ولا من أبيك ولا من جدك، قال: فإني أشهد بالله أنه النبي الذي تجدونه مكتوباً في التوراة والإنجيل، قالوا كذبت، ثم ردوا عليه وقالوا شراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذبتم لن يقبل منكم قولكم، فخرجنا ونحن ثلاثة، رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا وابن سلام، فأنزل الله "قل أرأيتم إن كان من عند الله" إلى قوله: "لا يهدي القوم الظالمين" وصححه السيوطي. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن سعد بن أبي وقاص قال: ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأحد يمشي على وجه الأرض إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام، وفيه نزلت "وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله". وأخرج الترمذي وابن جرير وابن مردويه عن عبد الله بن سلام قال: نزل في آيات من كتاب الله نزلت في "وشهد شاهد من بني إسرائيل" ونزل في "قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس "وشهد شاهد من بني إسرائيل" قال. عبد الله بن سلام، وقد روي نحو هذا عن جماعة من التابعين. وفيه دليل على أن هذه الآية مدنية فيخصص بها عموم قولهم إن سورة الأحقاف كلها مكية. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة قال: قال ناس من المشركين نحن أعز ونحن ونحن، فلو كان خيراً ما سبقنا إليه فلان وفلان، فنزل "وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيراً ما سبقونا إليه". وأخرج ابن المنذر عن عون بن أبي شداد قال: كانت لعمر بن الخطاب أمة أسلمت قبله: يقال لها زنيرة، وكان عمر يضربها على الإسلام، وكان كفار قريش يقولون: لو كان خيراً ما سبقتنا إليه زنيرة، فأنزل الله في شأنها "وقال الذين كفروا" الآية. وأخرج الطبراني عن سمرة بن جندب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بنو غفار وأسلم كانوا لكثير من الناس فتنة، يقولون لو كان خيراً ما جعلهم الله أول الناس فيه". وأخرج ابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: نزل قوله: "ووصينا الإنسان بوالديه" الآية إلى قوله: "وعد الصدق الذي كانوا يوعدون" في أبي بكر الصديق. وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن نافع بن جبير أن ابن عباس أخبره قال: إني لصاحب المرأة التي أتى بها عمر وضعت لستة أشهر فأنكر الناس ذلك. فقلت لعمر: لم تظلم؟ قال كيف؟ قلت اقرأ "وحمله وفصاله ثلاثون شهراً" "والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين" كم الحول؟ قال سنة، قلت: كم السنة؟ قال إثنا عشر شهراً، قلت فأربعة وعشرون شهراً حولان كاملان، ويؤخر الله من الحمل ما شاء ويقدم ما شاء، فاستراح عمر إلى قولي. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه أنه كان يقول: إذا ولدت المرأة لتسعة أشهر كفاها من الرضاع أحد وعشرون شهراً، وإذا ولدت لسبعة أشهر كفاها من الرضاع ثلاثة وعشرون شهراً، وإذا وضعت لستة أشهر فحولان كاملان، لأن الله يقول: "وحمله وفصاله ثلاثون شهراً". وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً قال: أنزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق "حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني" الآية، فاستجاب الله له فأسلم والده جميعاً وإخوته وولده كلهم، ونزلت فيه أيضاً "فأما من أعطى واتقى" إلى آخر السورة.
لما ذكر سبحانه من شكر نعمة الله سبحانه عليه وعلى والديه ذكر من قال لهما قولاً يدل على التضجر منهما عند دعوتهما له إلى الإيمان فقال: 16- "والذي قال لوالديه أف لكما" الموصول عبارة عن الجنس القائل ذلك القول ولهذا أخبر عنه بالجمع، وأف كلمة تصدر عن قائلها عند تضجره من شيء يرد عليه. قرأ نافع وحفص "أف" بكسر الفاء مع التنوين. وقرأ ابن كثير وابن عامر وابن محيصن بفتحها من غير تنوين، وقرأ الباقون بكسر من غير تنوين وهي لغات، وقد مضى بيان الكلام في هذا في سورة بني إسرائيل، واللام في قوله "لكما" لبيان التأفيف: أي التأفيف لكما كما في قوله: "هيت لك" قرأ الجمهور "أتعدانني" بنونين مخففتين، وفتح ياءه أهل المدينة ومكة وأسكنها الباقون. وقرأ أبو حيوة والمغيرة وهشام بإدغام إحدى النونين في الأخرى، ورويت هذه القراءة عن نافع. وقرأ الحسن وشيبة وأبو جعفر وعبد الوارث عن أبي عمرو بفتح النون الأولى، كأنهم فروا من توالي مثلين مكسورين. وقرأ الجمهور "أن أخرج" بضم الهمزة وفتح الراء مبيناً للمفعول. وقرأ الحسن ونصر وأبو العالية والأعمش وأبو معمر بفتح الهمزة وضم الراء مبيناً للفاعل. والمعنى: أتعدانني أنني أن أبعث بعد الموت، وجملة "وقد خلت القرون من قبلي" في محل نصب على الحال: أي والحال أن قد مضت القرون من قبلي فماتوا ولم يبعث منهم أحد، وهكذا جملة "وهما يستغيثان الله" في محل نصب على الحال: أي والحال أنهما يستغيثان الله له، ويطلبان منه التوفيق إلى الإيمان، واستغاث يتعدى بنفسه وبالباء: يقال استغاث الله واستغاث به. وقال الرازي: معناه يستغيثان بالله من كفره، فلما حذف الجار وصل الفعل، وقيل الاستغاثة الدعاء فلا حاجة إلى الباء. قال الفراء: يقال أجاب الله دعاءه وغواثه، وقوله: "ويلك" هو بتقدير القول: أي يقولان له ويلك، وليس المراد به الدعاء عليه، بل الحث له على الإيمان، ولهذا قالا له: "آمن إن وعد الله حق" أي آمن بالبعث إن وعد الله حق لا خلف فيه "فيقول" عند ذلك مكذباً لما قالاه: "ما هذا إلا أساطير الأولين" أي ما هذا الذي تقولاته من البعث إلا أحاديث الأولين وأباطيلهم التي [سطرونها] في الكتب، قرأ الجمهور: "إن وعد الله" بكسر إن على الاستئناف أو التعليل وقرأ عمر بن فايد والأعرج بفتحها على أنها معمولة لآمن بتقدير الباء. أي آمن بأن وعد الله بالبعث حق.
17- "أولئك الذين حق عليهم القول" أي أولئك القائلون هذه المقالات هم الذين حق عليهم القول: أي وجب عليهم العذاب بقوله سبحانه لإبليس: "لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين" كما يفيده قوله: "في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس"، وجملة "إنهم كانوا خاسرين" تعليل لما قبله، وهذا يدفع كون سبب نزول الآية عبد الرحمن بن أبي بكر وأنه الذي قال لوالديه ما قال، فإنه من أفاضل المؤمنين، وليس ممن حقت عليه كلمة العذاب، وسيأتي بيان النزول في آخر البحث إن شاء الله.
18- "ولكل درجات مما عملوا" أي لكل فريق من الفريقين المؤمنين والكافرين من الجن والإنس مراتب عند الله يوم القيامة بأعمالهم. قال ابن زيد: درجات أهل النار في هذه الآية تذهب سفلاً، ودرجات أهل الجنة تذهب علوا "وليوفيهم أعمالهم" أي جزاء أعمالهم. قرأ الجمهور " ليوفيهم " بالنون. وقرأ ابن كثير وابن محيصن وعاصم وأبو عمرو ويعقوب بالياء التحتية. واختار أبو عبيد القراءة الأولى واختار الثانية أبو حاتم "وهم لا يظلمون" أي لا يزاد مسيء ولا ينقص محسن بل يوفى كل فريق ما يستحقه من خير وشر، والجملة في محل نصب على الحال، أو مستأنفة مقررة لما قبلها.
19- "ويوم يعرض الذين كفروا على النار" الظرف متعلق بمحذوف: أي اذكر لهم يا محمد يوم ينكشف الغطاء فينظرون إلى النار ويقربون منها، وقيل معنى يعرضون ‌يعذبون من قولهم: عرضه على السيف، وقيل في الكلام قلب. والمعنى: تعرض النار عليهم "أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا" أي يقال لهم ذلك، قيل وهذا القدر هو الناصب للظرف، والأول أولى قرأ الجمهور: "أذهبتم" بهمزة واحدة، وقرأ الحسن ونصر وأبو العالية ويعقوب وابن كثير بهمزتين مخففتين، ومعنى الاستفهام التقريع والتوبيخ. قال الفراء والزجاج: العرب توبخ بالاستفهام وبغيره، فالتوبيخ كائن على القراءتين. قال الكلبي: المراد بالطيبات اللذات وما كانوا فيه من المعايش "واستمتعتم بها" أي بالطيبات، والمعنى: أنهم اتبعوا الشهوات واللذات التي في معاصي الله سبحانه، ولم يبالوا بالذنب تكذيباً منهم لما جاءت به الرسل من الوعد بالحساب والعقاب والثواب "فاليوم تجزون عذاب الهون" أي العذاب الذي فيه ذل لكم وخزي عليكم. قال مجاهد وقتادة: الهون الهوان بلغة قريش " بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق " أي بسبب تكبركم عن عبادة الله والإيمان به وتوحيده "وبما كنتم تفسقون" أي [تخرجون] عن طاعة الله وتعملون بمعاصيه، فجعل السبب في عذابهم أمرين: التكبر عن اتباع الحق، والعمل بمعاصي الله سبحانه وتعالى، وهذا شأن الكفرة فإنهم قد جمعوا بينهما. وقد أخرج البخاري عن يوسف بن ماهك قال: كان مروان على الحجاز استعمله معاوية بن أبي سفيان، فخطب فجعل يذكر يزيد بن معاوية لكي يبايع له بعد أبيه، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر شيئاً، فقال خذوه، فدخل بيت عائشة فلم يقدروا عليه، فقال مروان: إن هذا أنزل فيه "والذي قال لوالديه أف لكما" فقالت عائشة: ما أنزل الله فينا شيئاً من القرآن إلا أن الله أنزل عذري. وأخرج عبد بن حميد والنسائي وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه عن محمد بن زياد قال: لما بايع معاوية لابنه، قال مروان: سنة أبي بكر وعمر، فقال عبد الرحمن سنة هرقل وقيصر، فقال مروان: هذا الذي قال الله فيه "والذي قال لوالديه أف لكما" الآية، فبلغ ذلك عائشة فقالت: كذب مروان والله ما هو به، ولو شئت أن أسمي الذي نزلت فيه لسميته، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن أبا مروان ومروان في صلبه، فمروان من لعنه الله. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية قال: هذا ابن لأبي بكر. وأخرج نحوه أبو حاتم عن السدي، ولا يصح هذا كما قدمنا.
قوله: 20- "واذكر أخا عاد" أي واذكر يا محمد لقومك أخا عاد، وهو هود بن عبد الله بن رباح كان أخاهم في النسب، لا في الدين، وقوله: " إذ أنذر قومه " بدل اشتمال منه: أي وقت إنذاره إياهم "بالأحقاف" وهي ديار عاد جمع حقف، وهو الرمل العظيم المستطيل المعوج قاله الخليل وغيره وكانوا قهروا أهل الأرض بقوتهم، والمعنى أن الله سبحانه أمره أن يذكر لقومه قصتهم ليتعظوا ويخافوا، وقيل أمره بأن يتذكر في نفسه قصتهم مع هود ليقتدي به ويهون عليه تكذيب قومه. قال عطاء: الأحقاف رمال بلاد الشحر. وقال مقاتل: هي باليمين في حضر موت وقال ابن زيد: هي رمال مبسوطة مستطيلة كهيئة الجبال، ولم تبلغ أن تكون جبالاً "وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه" أي وقد مضت الرسل من قبله ومن بعده كذا قال الفراء وغيره. وفي قراءة ابن مسعود: من بين يديه ومن بعده والجملة في محل نصب على الحال، ويجوز أن تكون معترضة بين إنذار هود وبين قوله لقومه: "إني أخاف عليكم" والأول أولى. والمعنى: أعلمهم أن الرسل الذين بعثوا قبله والذين سيبعثون بعده كلهم منذرون نحو إنذاره، ثم رجع إلى كلام هود لقومه، فقال حاكياً عنه "إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم" وقيل إن جعل تلك الجملة اعتراضية أولى بالمقام وأوفق بالمعنى.