تفسير الطبري تفسير الصفحة 504 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 504
505
503
 الآية : 15
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَوَصّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً حَتّىَ إِذَا بَلَغَ أَشُدّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبّ أَوْزِعْنِيَ أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ الّتِيَ أَنْعَمْتَ عَلَيّ وَعَلَىَ وَالِدَيّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرّيّتِيَ إِنّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ }.
يقول تعالى ذكره: ووصينا ابن آدم بوالديه الحسن في صحبته إياهما أيام حياتهما, والبرّ بهما في حياتهما وبعد مماتهما.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: إحسانا فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة «حُسْنا» بضمّ الحاء على التأويل الذي وصفت. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة إحْسانا بالألف, بمعنى: ووصيناه بالإحسان إليهما, وبأيّ ذلك قرأ القارىء فمصيب, لتقارب معاني ذلك, واستفاضة القراءة بكل واحدة منهما في القرّاء.
وقوله: حَمَلَتْهُ أُمّهُ كُرْها وَوَضَعَتْهُ كُرْها يقول تعالى ذكره: ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا برّا بهما, لما كان منهما إليه حملاً ووليدا وناشئا, ثم وصف جلّ ثناؤه ما لديه من نعمة أمه, وما لاقت منه في حال حمله ووضعه, ونبهه على الواجب لها عليه من البرّ, واستحقاقها عليه من الكرامة وجميل الصحبة, فقال: حَمَلَتْهُ أُمّهُ يعني في بطنها كرها, يعني مشقة, وَوَضَعَتْهُ كُرْها يقول: وولدته كرها يعني مشقة. كما:
24172ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة حَمَلَتْهُ أُمّهُ كُرْها وَوَضَعَتْهُ كُرْها يقول: حملته مشقة, ووضعته مشقة.
24173ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة والحسن, في قوله: حَمَلَتْهُ أُمّهُ كُرْها وَوَضَعَتْهُ كُرْها قالا: حملته في مشقة, ووضعته في مشقة.
24174ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: حَمَلَتْهُ أُمّهُ كُرْها قال: مشقة عليها.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: كُرْها فقرأته عامة قراء المدينة والبصرة «كَرْها» بفتح الكاف. وقرأته عامة قرّاء الكوفة كُرْها بضمها, وقد بيّنت اختلاف المختلفين في ذلك قبل إذا فتح وإذا ضمّ في سورة البقرة بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان معروفتان, متقاربتا المعنى, فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب.
وقوله: وحَمْلُهُ وفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرا يقول تعالى ذكره: وحمل أمه إياه جنينا في بطنها, وفصالها إياه من الرضاع, وفطمها إياه, شرب اللبن ثلاثون شهرا.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: وَفِصَالُهُ, فقرأ ذلك عامة قرّاء الأمصار غير الحسن البصري: وحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ بمعنى: فاصلته أمه فصالاً ومفاصلة. وذُكر عن الحسن البصري أنه كان يقرأه: «وحَمْلُهُ وَفَصْلُهُ» بفتح الفاء بغير ألف, بمعنى: وفصل أمه إياه.
والصواب من القول في ذلك عندنا, ما عليه قرّاء الأمصار, لإجماع الحجة من القرّاء عليه, وشذوذ ما خالفه.
وقوله: حتى إذَا بَلَغَ أشُدّهُ اختلف أهل التأويل في مبلغ حدّ ذلك من السنين, فقال بعضهم: هو ثلاث وثلاثون سنة. ذكر من قال ذلك:
24175ـ حدثنا أبو كُرَيب, قال: حدثنا ابن إدريس, قال: سمعت عبد الله بن عثمان بن خثيم, عن مجاهد, عن ابن عباس, قال: أشدّه: ثلاث وثلاثون سنة, واستواؤه أربعون سنة, والعذر الذي أعذر الله فيه إلى ابن آدم ستون.
24176ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة حتى إذَا بَلَغَ أشُدّهُ قال: ثلاثا وثلاثين.
وقال آخرون: هو بلوغ الحلم. ذكر من قال ذلك:
24177ـ حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: حدثنا هشيم, قال: أخبرنا مجالد, عن الشعبيّ, قال: الأشدّ: الحلم إذا كتبت له الحسنات, وكتبت عليه السيئات.
وقد بيّنا فيما مضى الأشدّ جمع شدّ, وأنه تناهي قوّته واستوائه. وإذا كان ذلك كذلك, كان الثلاث والثلاثون به أشبه من الحلم, لأن المرء لا يبلغ في حال حُلمه كمال قواه, ونهاية شدّته, فإن العرب إذا ذكرت مثل هذا من الكلام, فعطفت ببعض على بعض جعلت كلا الوقتين قريبا أحدهما من صاحبه, كما قال جلّ ثناؤه: إنّ رَبّكَ يَعْلَمُ أنّكَ تَقُومُ أدنى مِنْ ثُلُثَي اللّيْل وَنِصْفَهُ ولا تكاد تقول أنا أعلم أنك تقوم قريبا من ساعة من الليل وكله, ولا أخذت قليلاً من مال أو كله, ولكن تقول: أخذت عامة مالي أو كله, فكذلك ذلك في قوله: حتى إذَا بَلَغَ أشُدّهُ وَبَلَغَ أرْبَعِينَ سَنَةً لا شكّ أن نسق الأربعين على الثلاث والثلاثين أحسن وأشبه, إذ كان يُراد بذلك تقريب أحدهما من الاَخر من النسق على الخمس عشرة أو الثمان عشرة.
وقوله: وَبَلَغَ أرْبَعِينَ سَنَةً ذلك حين تكاملت حجة الله عليه, وسير عنه جهالة شبابه وعرف الواجب لله من الحقّ في برّ والديه. كما:
24178ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وَبَلَغَ أرْبَعِينَ سَنَةً وقد مضى من سيء عمله.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة وَبَلَغَ أرْبَعِينَ سَنَةً, قالَ رَبّ أوْزِعْنِي حتى بلغ مِنَ المُسْلِمِينَ وقد مضى من سيء عمله ما مضى.
وقوله: قالَ رَبّ أوْزِعْنِي أنْ أشْكُرَ نِعْمَتَكَ الّتِي أنْعَمْتَ عَليّ وَعَلى وَالِدَيّ يقول تعالى ذكره: قال هذا الإنسان الذي هداه الله لرشده, وعرف حقّ الله عليه فيما ألزمه من برّ والديه رَبّ أوْزِعْنِي أنْ أشْكُرَ نِعْمَتَكَ يقول: أغرني بشكر نعمتك التي أنعمت عليّ في تعريفك إياي توحيدك وهدايتك لي للإقرار بذلك, والعمل بطاعتك وَعَلىَ وَالِدَيّ من قبلي, وغير ذلك من نعمك علينا, وألهمني ذلك. وأصله من وزعت الرجل على كذا: إذا دفعته عليه. وكان ابن زيد يقول في ذلك ما:
24179ـ حدثني به يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: أوْزِعْنِي أنْ أشْكُرَ نِعْمَتَكَ قال: اجعلني أشكر نعمتك, وهذا الذي قاله ابن زيد في قوله: ربّ أوْزِعْنِي وإن كان يؤول إليه معنى الكلمة, فليس بمعنى الإيزاع على الصحة.
وقوله: وأنْ أعمَلَ صَالِحا تَرْضَاهُ يقول تعالى ذكره: أوزعني أن أعمل صالحا من الأعمال التي ترضاها, وذلك العمل بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقوله: وأصْلِحْ لي في ذُرّيّتِي يقول: وأصلح لي أموري في ذرّيتي الذين وهبتهم, بأن تجعلهم هداة للإيمان بك, واتباع مرضاتك, والعمل بطاعتك, فوصاه جلّ ثناؤه بالبرّ بالاَباء والأمهات والبنين والبنات. وذُكر أن هذه الاَية نزلت في أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه.
وقوله: إنّي تُبْتُ إلَيْكَ وَإنّي مِنَ المُسْلِمِينَ يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل هذا الإنسان: إنّي تُبْتُ إلَيْكَ يقول: تبت من ذنوبي التي سلفت مني في سالف أيامي إليك وَإنّي مِنَ المُسْلِمِينَ يقول: وإني من الخاضعين لك بالطاعة, المستسلمين لأمرك ونهيك, المنقادين لحكمك.
الآية : 16
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {أُوْلَـَئِكَ الّذِينَ نَتَقَبّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيّئَاتِهِمْ فِيَ أَصْحَابِ الْجَنّةِ وَعْدَ الصّدْقِ الّذِي كَانُواْ يُوعَدُونَ }.
يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين هذه الصفة صفتهم, هم الذين يتُقبل عنهم أحسن ما عملوا في الدنيا من صالحات الأعمال, فيجازيهم به, ويثيبهم عليه وَيَتَجاوَزُ عَنْ سَيّئاتِهِم يقول: ويصفح لهم عن سيئات أعمالهم التي عملوها في الدنيا, فلا يعاقبهم عليها في أصحَابِ الجَنّةِ يقول: نفعل ذلك بهم فعلنا مثل ذلك في أصحاب الجنة وأهلها الذين هم أهلها. كما:
24180ـ حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: حدثنا المعتمر بن سليمان, عن الحكم بن أبان, عن الغطريف, عن جابر بن زيد, عن ابن عباس, عن النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الروح الأمين, قال: «يُؤْتَىَ بِحَسَناتِ العَبْد وَسَيّئاته, فَيُقُتَصّ بَعْضُها ببَعْض فإنْ بَقيَتْ حَسَنةٌ وَسّعَ اللّهُ لَهُ في الجَنّةِ» قال: فدخلتُ على يزداد, فحدّث بمثل هذا الحديث, قال: قلت: فإن ذهبت الحسنة؟ قال: أُولَئِكَ الّذِينَ نَتَقَبّلُ عَنْهُمْ أحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيّئاتِهِمْ... الاَية.
24181ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن ليث, عن مجاهد, قال: دعا أبو بكر عمر رضي الله عنهما, فقال له: إني أوصيك بوصية أن تحفظها: إن لله في الليل حقا لا يقبله بالنهار, وبالنهار حقا لا يقبله بالليل, إنه ليس لأحد نافلة حتى يؤدّي الفريضة, إنه إنما ثقُلت موازين من ثقُلَت موازينه يوم القيامة باتباعهم الحقّ في الدنيا, وثقُل ذلك عليهم, وحقّ لميزان لا يوضع فيه إلا الحقّ أن يثقل, وخفّت موازين من خفّت موازينه يوم القيامة, لاتباعهم الباطل في الدنيا, وخفته عليهم, وحقّ لميزان لا يوضع فيه إلا الباطل أن يخف, ألم تر أن الله ذكر أهل الجنة بأحسن أعمالهم, فيقول قائل: أين يبلغ عملي من عمل هؤلاء, وذلك أن الله عزّ وجلّ تجاوز عن أسوإ أعمالهم فلم يبده, ألم تر أن الله ذكر أهل النار بأسوإ أعمالهم حتى يقول قائل: أنا خير عملاً من هؤلاء, وذلك بأن الله ردّ عليهم أحسن أعمالهم, ألم تر أن الله عزّ وجلّ أنزل آية الشدّة عند آية الرخاء, وآية الرخاء عند آية الشدّة, ليكون المؤمن راغبا راهبا, لئلا يُلقي بيده إلى التهلكة, ولا يتمنى على الله أمنية يتمنى على الله فيها غير الحقّ.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: نَتَقَبّلُ عَنْهُمْ أحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض قرّاء الكوفة «يُتَقَبّلُ, وَيُتَجاوَزُ» بضم الياء منهما, على ما لم يسمّ فاعله, ورفع «أحْسَنُ». وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة نَتَقَبّلُ, ونَتَجاوَزُ بالنون وفتحها, ونصب أحسنَ على معنى إخبار الله جلّ ثناؤه عن نفسه أنه يفعل ذلك بهم, وردّا للكلام على قوله: وَوَصّيْنا الإنْسانَ ونحن نتقبل منهم أحسن ما عملوا ونتجاوز, وهما قراءتان معروفتان صحيحتا المعنى, فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب.
وقوله: وَعْدَ الصّدْقِ الّذِي كانُوا يُوعَدُون يقول: وعدهم الله هذا الوعد, وعد الحقّ لا شك فيه أنه موفَ لهم به, الذي كانوا إياه في الدنيا يعدهم الله تعالى, ونصب قوله: وَعْدَ الصّدْقِ لأنه مصدر خارج من قوله: يَتَقَبّلُ عَنْهُمْ أحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَتَجاوَزُ عَنْ سَيّئاتِهِم, وإنما أخرج من هذا الكلام مصدر وعد وعدا, لأن قوله: يَتَقَبّلُ عَنْهُمْ وَيَتَجاوَزُ وعد من الله لهم, فقال: وعد الصدق, على ذلك المعنى.
الآية : 17
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَالّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفّ لّكُمَآ أَتَعِدَانِنِيَ أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِن قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغثِيَانِ اللّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنّ وَعْدَ اللّهِ حَقّ فَيَقُولُ مَا هَـَذَآ إِلاّ أَسَاطِيرُ الأوّلِينَ }.
وهذا نعت من الله تعالى ذكره نعت ضالّ به كافر, وبوالديه عاقّ, وهما مجتهدان في نصيحته ودعائه إلى الله, فلا يزيده دعاؤهما إياه إلى الحقّ, ونصيحتهما له إلا عتوّا وتمرّدا على الله, وتماديا في جهله, يقول الله جلّ ثناؤه وَالّذِي قالَ لِوَالِدَيْهِ أن دعواه إلى الإيمان بالله, والإقرار ببعث الله خلقه من قبورهم, ومجازاته إياهم بأعمالهم أُفَ لَكُما يقول: قذرا لكما ونتنا أتَعِدَانِنِي أنْ أُخْرَجَ يقول أتعدانني أن أخرج من قبري من بعد فنائي وبلائي فيه حيا. كما:
24182ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة أتَعِدَانِنِي أنْ أُخْرَجَ أن أُبعَث بعد الموت.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, في قوله: أتَعِدَانِنِي أنْ أُخْرَجَ قال: يعني البعث بعد الموت.
24183ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله وَالّذِي قال لِوَالِدَيْهِ أُفَ لَكُما أتَعِدَانِنِي... إلى آخر الاَية قال: الذي قال هذا ابن لأبي بكر رضي الله عنه, قال: أتَعِدَانِنِي أنْ أُخْرَجَ: أتعدانني أن أُبعث بعد الموت.
24184ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا هوذة, قال: حدثنا عوف, عن الحسن, في قوله: وَالّذِي قالَ لِوَالِدَيْهِ أُفَ لَكُما أتَعِدَانِنِي أنْ أُخْرَجَ قال: هو الكافر الفاجر العاقّ لوالديه, المكذب بالبعث.
24185ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قال: ثم نعت عبد سوء عاقا لوالديه فاجرا فقال: وَالّذِي قالَ لِوَالِدَيْهِ أُفَ لَكُما... إلى قوله: أساطِيرُ الأوّلِينَ.
وقوله: وَقَدْ خَلَتِ القُرُونُ مِنْ قَبْلِي يقول: أتعدانني أن أبعث, وقد مضت قرون من الأمم قبلي, فهلكوا, فلم يبعث منهم أحدا, ولو كنت مبعوثا بعد وفاتي كما تقولان, لكان قد بُعث من هلك قبلي من القرون وهُمَا يَسْتَغِيثانِ اللّهِ يقول تعالى ذكره: ووالداه يستصرخان الله عليه, ويستغيثانه عليه أن يؤمن بالله, ويقرّ بالبعث ويقولان له: ويْلَك آمن, أي صدّق بوعد الله, وأقرّ أنك مبعوث من بعد وفاتك, إن وعد الله الذي وعد خلقه أنه باعثهم من قبورهم, ومخرجهم منها إلى موقف الحساب لمجازاتهم بأعمالهم حقّ لا شكّ فيه, فيقول عدوّ الله مجيبا لوالديه, وردّا عليهما نصيحتهما, وتكذيبا بوعد الله: ما هذا الذي تقولان لي وتدعواني إليه من التصديق بأني مبعوث من بعد وفاتي من قبري, إلا ما سطره الأوّلون من الناس من الأباطيل, فكتبوه, فأصبتماه أنتما فصدّقتما.
الآية : 18-19
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {أُوْلَـَئِكَ الّذِينَ حَقّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِيَ أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مّنَ الْجِنّ وَالإِنسِ إِنّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ * وَلِكُلّ دَرَجَاتٌ مّمّا عَمِلُواْ وَلِيُوَفّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ }.
يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين هذه الصفة صفتهم, الذين وجب عليهم عذاب الله, وحلّت بهم عقوبته وسخطه, فيمن حلّ به عذاب الله على مثل الذي حلّ بهؤلاء من الأمم الذين مضوا قبلهم من الجنّ والإنس, الذين كذّبوا رسل الله, وعتوا عن أمر ربهم.
وقوله: إنّهُمْ كانُوا خاسِرينَ يقول تعالى ذكره: إنهم كانوا المغبونين ببيعهم الهدى بالضلال والنعيم بالعقاب.
24186ـ حدثنا محمد بن بشار, قال: حدثنا معاذ بن هشام, قال: حدثنا أبي, عن قتادة, عن الحسن, قال: الجنّ لا يموتون, قال قتادة: فقلت أُولَئِكَ الّذِينَ حَقّ عَلَيْهِمُ القَوْلُ فِي أُمَم قَدْ خَلَت... الاَية.
وقوله: وَلِكُلَ دَرَجاتٌ مِمّا عَمِلُوا يقول تعالى ذكره: ولكلّ هؤلاء الفريقين: فريق الإيمان بالله واليوم الاَخر, والبرّ بالوالدين, وفريق الكفر بالله واليوم الاَخر, وعقوق الوالدين اللذين وصف صفتهم ربنا عزّ وجلّ في هذه الاَيات منازل ومراتب عند الله يوم القيامة, مما عملوا, يعني من عملهم الذي عملوه في الدنيا من صالح وحسن وسيىء يجازيهم الله به. وقد:
24187ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: وَلِكُلّ دَرَجاتٌ مِمّا عَمِلُوا قال: درج أهل النار يذهب سفالاً, ودرج أهل الجنة يذهب علوّا وَلِيُوَفّيَهُمْ أعمالَهُمْ يقول جلّ ثناؤه: وليعطي جميعهم أجور أعمالهم التي عملوها في الدنيا, المحسن منهم بإحسانه ما وعد الله من الكرامة, والمسيء منهم بإساءته ما أعدّه من الجزاء وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ يقول: وجميعهم لا يظلمون: لا يجازي المسيء منهم إلا عقوبة على ذنبه, لا على ما لم يعمل, ولا يحمل عليه ذنب غيره, ولا يبخس المحسن منهم ثوابَ إحسانه.
الآية : 20
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى النّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ }.
يقول تعالى ذكره: وَيَوْمَ يُعْرَضُ الّذِينَ كَفَرُوا بالله عَلى النّارِ يقال لهم: أذْهَبْتُمْ طَيّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدّنْيا, وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فيها. كما:
24188ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَيَوْمَ يُعْرَضُ الّذِينَ كَفَرُوا على النّارِ قرأ يزيد حتى بلغ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ تعلمون والله إن أقواما يَسْترطون حسناتهم. استبقى رجل طيباته إن استطاع, ولا قوّة إلا بالله. ذُكر أن عمر بن الخطاب كان يقول: لو شئت كنت أطيبكم طعاما, وألينكم لباسا, ولكني أستبقي طيباتي. وذُكر لنا أنه لما قدم الشأم, صُنِع له طعام لم ير قبله مثله, قال: هذا لنا, فما لفقراء المسلمين الذين ماتوا وهم لا يشبعون من خبز الشعير؟ قال خالد بن الوليد: لهم الجنة, فاغرورقت عينا عمر, وقال: لئن كان حظنا في الحُطام, وذهبوا قال أبو جعفر: فيما أرى أنا بالجنة, لقد باينونا بونا بعيدا.
24189ـ وذُكر لنا. أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم دخل على أهل الصّفة مكانا يجتمع فيه فقراء المسلمين, وهم يَرْقعون ثيابهم بالأَدَم, ما يجدون لها رقاعا, قال: «أنتم اليوم خير, أو يَوم يغدو أحدكم في حلة, ويروح في أُخرى, ويغدي عليه بجفنة, ويُراح عليه بأخرى, ويستر بيته كما تستر الكعبة». قالوا: نحن يومئذٍ خير, قال: «بل أنتم اليوم خير».
24190ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قال: حدثنا صاحب لنا عن أبي هريرة, قال: «إنما كان طعامنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم الأسودين: الماء, والتمر, والله ما كنا نرى سمراءكم هذه, ولا ندري ما هي».
24191ـ قال: ثنا سعيد, عن قتادة, عن أبي بردة بن عبد الله بن قيس الأشعريّ, عن أبيه, قال: أي بنيّ لو شهدتْنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن مع نبينا إذا أصابتنا السماء, حسبت أن ريحنا ريح الضأن, إنما كان لباسنا الصوف.
24192ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قول الله عزّ وجلّ أذْهَبْتُمْ طَيّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدّنْيا... إلى آخر الاَية, ثم قرأ مَنْ كانَ يُرِيدُ الحَياةَ الدّنْيا وَزِينَتَها نُوَفّ إلَيْهِمْ أعمالَهُمْ فِيها, وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ, وقرأ مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الاَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ, وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها, وقرأ مَنْ كانَ يُرِيدُ العاجِلَةَ عَجّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ... إلى آخر الاَية, وقال: هؤلاء الذين أذهبوا طيّباتهم في حياتهم الدنيا.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: أذْهَبْتُمْ طَيّباتِكُمْ, فقرأته عامة قرّاء الأمصار أذْهَبْتُمْ بغير استفهام, سوى أبي جعفر القارىء, فإنه قرأه بالاستفهام, والعرب تستفهم بالتوبيخ, وتترك الاستفهام فيه, فتقول: أذهبت ففعلت كذا وكذا, وذهبت ففعلت وفعلت. وأعجب القراءتين إليّ ترك الاستفهام فيه, لإجماع الحجة من القرّاء عليه, ولأنه أفصح اللغتين.
وقوله فالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهُونِ يقول تعالى ذكره: يقال لهم: فاليوم أيها الكافرون الذين أذهبوا طيباتهم في حياتهم الدنيا تجزون: أي تثابون عذاب الهون, يعني عذاب الهوان, وذلك عذاب النار الذي يهينهم. كما:
24193ـ حدثنا محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحرث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد عَذَابَ الهُونِ قال: الهوان بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأرْضِ بغَيْرِ الحَقّ يقول: بما كنتم تتكبرون في الدنيا على ظهر الأرض على ربكم, فتأبون أن تخلصوا له العبادة, وأن تذعنوا لأمره ونهيه بغير الحقّ, أي بغير ما أباح لكم ربكم, وأذن لكم به وبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ يقول: بما كنتم فيها تخالفون طاعته فتعصُونه