تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 509 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 509

508

سأل المؤمنون ربهم عز وجل أن ينزل على رسوله صلى الله عليه وسلم سورة يأمرهم فيها بقتال الكفار حرضاً منهم على الجهاد ونيل ما أعد الله للمجاهدين من جزيل الثواب، فحكى الله عنهم ذلك بقوله: 20- "ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة" أي هلا نزلت "فإذا أنزلت سورة محكمة" أي غير منسوخة "وذكر فيها القتال" أي فرض الجهاد قال قتادة: كل سورة ذكر فيها الجهاد فهي محكمة، وهي أشد القرآن على المنافقين، وفي قراءة ابن مسعود فإذا أنزلت سورة محدثة أي محدثه النزول. قرأ الجمهور "فإذا أنزلت" وذكر على بناء الفعلين للمفعول. وقرأ زيد بن علي وابن عمير نزلت وذكر على بناء الفعلين للفاعل ونصب القتال "رأيت الذين في قلوبهم مرض" أي شك، وهم المنافقون "ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت" أي ينظرون إليك نظر من شخص بصره عند الموت لجبنهم عن القتال وميلهم إلى الكفار. قال ابن قتيبة والزجاج: يريد أنهم يشخصون نحوك بأبصارهم وينظرون إليك نظراً شديداً كما ينظر الشاخص بصره عند الموت "فأولى لهم" قال الجوهري: وقولهم أولى لك تهديد ووعيد، وكذا قال مقاتل والكلبي وقتادة. قال الأصمعي: معنى قولهم في التهديد أولى لك أي وليك وقاربك ما تكره، وأنشد قول الشاعر: فعادى بين هاديتين منها وأولى أن يزيد على الثلاث أي قارب أن يزيد. قال ثعلب: ولم يقل في أحسن مما قاله الأصمعي. وقال المبرد: لمن هم بالغضب ثم أفلت أولى لك: أي قاربت الغضب. وقال الجرحاني: هو مأخوذ من الويل: أي فويل لهم، وكذا قال في الكشاف. قال قتادة أيضاً: كأنه قال العقاب أولى لهم.
وقوله: 21- "طاعة وقول معروف" كلام مستأنف: أي أمرهم طاعة، أو طاعة وقول معروف خير لكم. قال الخليل وسيبويه: إن التقدير والطاعة وقول معروف أحسن وأمثل لكم من غيرهما. وقيل إن طاعة خبر أولى، وقيل إن طاعة صفة لسورة، وقيل إن لهم خبر مقدم وطاعة مبتدأ مؤخر، والأول أولى "فإذا عزم الأمر" عزم الأمر جد الأمر: أي جد القتال ووجب وفرض، وأسند العزم إلى الأمر وهو لأصحابه مجازاً، وجواب إذا قيل هو فلو صدقوا الله وقيل محذوف تقديره كرهوه. قال المفسرون معناه إذا جد الأمر ولزم فرض القتال خالفوا وتخلفوا "فلو صدقوا الله" في إظهار الإيمان والطاعة "لكان خيراً لهم" من المعصية والمخالفة.
22- "فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم" هذا خطاب للذين في قلوبهم مرض بطريق الالتفات لمزيد التوبيخ والتقريع. قال الكلبي: أي فهل عسيتم إن توليتم أمر الأمة أن تفسدوا في الأرض بالظلم. وقال كعب "أن تفسدوا في الأرض" أي بقتل بعضكم بعضاً، وقال قتادة: إن توليتم عن طاعة كتاب الله عز وجل أن تفسدوا في الأرض بسفك الدماء وتقطعوا أرحامكم. وقال ابن جريح: إن توليتم عن الطاعة، وقيل أعرضتم عن القتال وفارقتم أحكامه. قرأ الجمهور "توليتم" مبنياً للفاعل، وقرأ علي بن أبي طالب بضم التاء والواو وكسر اللام مبنياً للمفعول، وبها قرأ ابن أبي إسحاق وورش عن يعقوب، ومعناها فهل عسيتم إن ولي عليكم ولاة جائرين أن تخرجوا عليهم في الفتنة وتحاربوهم وتقطعوا أرحامكم بالبغي والظلم والقتل. وقرأ الجمهور "وتقطعوا" بالتشديد على التكثير، وقرأ أبو عمرو في رواية عنه وسلام وعيسى ويعقوب بالتخفيف من القطع يقال: عسيت أن أفعل كذا، وعسيت بالفتح والكسر لغتان، ذكره الجوهري وغيره، وخبر عسيتم هو أن تفسدوا، والجملة الشرطية بينهما اعتراض.
والإشارة بقوله: 23- "أولئك" إلى المخاطبين بما تقدم وهو مبتدأ وخبره: "الذين لعنهم الله": أي أبعدهم من رحمته وطردهم عنها "فأصمهم" عن استماع الحق "وأعمى أبصارهم" عن مشاهدة ما يستدلون به على التوحيد والبعث وحقية سائر ما دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والاستفهام في قوله: 24- "أفلا يتدبرون القرآن" للإنكار، والمعنى: أفلا يتفهمونه فيعلمون بما اشتمل عليه من المواعظ الزاجرة والحجج الظاهرة والبراهين القاطعة التي تكفي من له فهم وعقل وتزجره عن الكفر بالله والإشراك به والعمل بمعاصيه "أم على قلوب أقفالها" أم هي المنقطعة: أي بل أعلى قلوب أقفالها فهم لا يفهمون ولا يعقلون. قال مقاتل: يعني الطبع على القلوب والأقفال استعارة لانغلاق القلب عن معرفة الحق، وإضافة الأقفال إلى القلوب للتنبيه على أن المراد بها ما هو للقلوب بمنزلة الأقفال للأبواب، ومعنى الآية أنه لا يدخل في قلوبهم الإيمان ولا يخرج منها الكفر والشرك، لأن الله سبحانه قد طبع عليها، والمراد بهذه القلوب قلوب هؤلاء المخاطبين. قرأ الجمهور "أقفالها" بالجمع، وقرئ " أقفالها " بكسر الهمزة على أنه مصدر كالإقبال.
25- "إن الذين ارتدوا على أدبارهم" أي رجعوا كفاراً كما كانوا، قال قتادة: هم كفار أهل الكتاب كفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد ما عرفوا نعته عندهم، وبه قال ابن جرير: وقال الضحاك والسدي: هم المنافقون قعدوا عن القتال، وهذا أولى لأن السياق في المنافقين "من بعد ما تبين لهم الهدى" بما جاءهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم من المعجزات الظاهرة والدلائل الواضحة "الشيطان سول لهم" أي زين لهم خطاياهم وسهل لهم الوقوع فيها، وهذه الجملة خبر إن، ومعنى "وأملى لهم" أن الشيطان مد لهم في الأمل ووعدهم طول العمر، وقيل إن الذي أملى لهم هو الله عز وجل على معنى أنه لم يعاجلهم بالعقوبة. قرأ الجمهور "أملى" مبنياً للفاعل، وقرأ أبو عمرو وابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر وأبو جعفر وشيبة على البناء للمفعول. قيل وعلى هذه القراءة يكون الفاعل هو الله أو الشيطان كالقراءة الأولى، وقد اختار القول بأن الفاعل الله الفراء والمفضل، والأولى اختيار أنه الشيطان لتقدم ذكره قريباً.
والإشارة بقوله: 26- "ذلك" إلى ما تقدم من ارتدادهم، وهو مبتدأ وخبره "بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله" وهم المشركون "سنطيعكم في بعض الأمر" وهذا البعض هو عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومخالفة ما جاء به. وقيل المعنى: إن المنافقين قالوا لليهود: سنطيعكم في بعض الأمر، وقيل إن القائلين اليهود والذين كرهوا ما أنزل الله: المنافقون، وقيل إن الإشارة بقوله ذلك إلى الإملاء، وقيل إلى التسويل، والأول أولى. ويؤيده كون القائلين المنافقين والكارهين اليهود قوله تعالى: " ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا وإن قوتلتم لننصرنكم " ولما كان قولهم المذكور للذين كرهوا ما أنزل الله بطريقة السر بينهم. قال الله سبحانه: " والله يعلم إسرارهم " قرأ الجمهور بفتح الهمزة جمع سر، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم. وقرأ الكوفيون وحمزة والنسائي وحفص عن عاصم وابن وثاب والأعمش بكسر الهمزة على المصدر: أي إخفاءهم.
27- "فكيف إذا توفتهم الملائكة" الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، وكيف في محل رفع على أنها خبر مقدم، والتقدير: فكيف علمه بأسرارهم إذا توفتهم الملائكة، أو في محل نصب بفعل محذوف: أي فكيف يصنعون، أو خبر لكان مقدرة: أي فكيف يكونون، والظرف معمول للمقدر، قرأ الجمهور "توفتهم" وقرأ الأعمش توفاهم وجملة "يضربون وجوههم وأدبارهم" في محل نصب على الحال من فاعل توفتهم أو من مفعوله: أي ضاربين وجوههم وضاربين أدبارهم، وفي الكلام تخويف وتشديد، والمعنى: أنه إذا تأخر عنهم العذاب فسيكون حالهم هذا، وهو تصوير لتوفيهم على أقبح حال وأشنعه. وقيل ذلك عند القتال نصرة من الملائكة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل ذلك يوم القيامة، والأول أولى.
والإشارة بقوله: 28- "ذلك" إلى التوفي المذكور على الصفة المذكورة، وهو مبتدأ وخبره "بأنهم اتبعوا ما أسخط الله" أي بسبب اتباعهم ما يسخط الله من الكفر والمعاصي، وقيل كتمانهم ما في التوراة من نعت نبياً صلى الله عليه وسلم، والأول أولى لما في الصيغة من العموم "وكرهوا رضوانه" أي كرهوا ما يرضاه الله من الإيمان والتوحيد والطاعة "فأحبط" الله "أعمالهم" بهذا السبب، والمراد بأعمالهم الأعمال التي صورتها صورة الطاعة وإلا فلا عمل لكافر، أو ما كانوا قد عملوا من الخير قبل الردة.
29- "أم حسب الذين في قلوبهم مرض" يعني المنافقين المذكورين سابقاً، وأم هي المنقطعة: أي بل أحسب المنافقون "أن لن يخرج الله أضغانهم" الإخراج بمعني الإظهار، والأضغان جمع ضغن، وهو ما يضمر من المكروه. واختلف في معناه، فقيل هو الغش، وقيل الحسد، وقيل الحقد. قال الجوهري: الضغن والضغينة الحقد. وقال قطرب: هو في الآية العداوة، وأن هي المخففة من الثقيلة واسمها ضمير شأن مقدر.