تفسير الطبري تفسير الصفحة 509 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 509
510
508
 الآية : 20-21
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَيَقُولُ الّذِينَ آمَنُواْ لَوْلاَ نُزّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ مّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَىَ لَهُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مّعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأمْرُ فَلَوْ صَدَقُواْ اللّهَ لَكَانَ خَيْراً لّهُمْ }.
يقول تعالى ذكره: ويقول الذين صدّقوا الله ورسوله: هلا نزلت سورة من الله تأمرنا بجهاد أعداء الله من الكفار فإذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ يعني: أنها محكمة بالبيان والفرائض. وذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله «فإذَا أُنْزِلَتْ سُورةٌ مُحْدَثَةٌ».
وقوله: وَذُكِرَ فِيها القِتالُ يقول: وذُكر فيها الأمر بقتال المشركين. وكان قتادة يقول في ذلك ما:
24286ـ حدثني بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَيَقُولُ الّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزّلَتْ سُورَةٌ فإذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيها القِتالُ قال: كلّ سورة ذُكر فيها الجهاد فهي محكمة, وهي أشدّ القرآن على المنافقين.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة: وَذُكِرَ فِيها القِتالُ قال: كل سورة ذُكر فيها القتال فهي محكمة.
وقوله: رأيْتَ الّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يقول: رأيت الذين في قلوبهم شك في دين الله وضعف يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ يا محمد, نَظَرَ المَغْشِيّ عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ, خوفا أن تغزيهم وتأمرهم بالجهاد مع المسلمين, فهم خوفا من ذلك وتجبنا عن لقاء العدوّ ينظرون إليك نظر المغشيّ عليه الذي قد صرع. وإنما عنى بقوله: مِنَ المَوْتِ من خوف الموت, وكان هذا فعل أهل النفاق. كالذي:
24287ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: يَنْظُرُونَ إلَيْكَ نَظَرَ المَغْشِيّ عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ قال: هؤلاء المنافقون طبع الله على قلوبهم, فلا يفقهون ما يقول النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وقوله: فَأَوْلَى لَهُمْ يقول تعالى ذكره: فأولى لهؤلاء الذين في قلوبهم مرض.
وقوله: فأوْلَى لَهُمْ وعيد توعّد الله به هؤلاء المنافقين. كما:
24288ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة فَأَوْلَى لَهُمْ قال: هذه وعيد, فأولى لهم, ثم انقطع الكلام فقال: طَاعَةٌ وقَوْلٌ مَعْرُوفٌ.
حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: فَأَوْلَى لَهُمْ قال: وعيد كما تسمعون.
وقوله: طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن قيل هؤلاء المنافقين من قبل أن تنزل سورة محكمة, ويذكر فيها القتال, وأنهم إذا قيل لهم: إن الله مفترض عليكم الجهاد, قالوا: سمع وطاعة, فقال الله عزّ وجلّ لهم إذَا أنْزلَتْ سُورَةٌ وفُرض القتال فيها عليهم, فشقّ ذلك عليهم, وكرهوه طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ قبل وجوب الفرض عليكم, فإذا عزم الأمر كرهتموه وشقّ عليكم.
وقوله: طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ مرفوع بمضمر, وهو قولكم قبل نزول فرض القتال طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ.
24289ـ ورُوي عن ابن عباس بإسناد غيرِ مرتضى أنه قال: قال الله تعالى: فَأَوْلَى لَهُمْ ثم قال للذين آمنوا منهم طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فعلى هذا القول تمام الوعيد فأولى, ثم يستأنف بعد, فيقال لهم طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فتكون الطاعة مرفوعة بقوله: لهم.
وكان مجاهد يقول في ذلك كما:
24290ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ قال: أمر الله بذلك المنافقين.
وقوله: فإذَا عَزَمَ الأمْرُ يقول: فإذا وجب القتال وجاء أمر الله بفرض ذلك كرهتموه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
24291ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد فإذَا عَزَمَ الأمْرُ قال: إذا جدّ الأمر, هكذا.
قال: محمد بن عمرو في حديثه, عن أبي عاصم, وقال الحارث في حديثه, عن الحسن يقول: جدّ الأمر.
وقوله: فَلَوْ صَدَقُوا اللّهَ لَكانَ خَيْرا لَهُمْ يقول تعالى ذكره: فلو صدقوا الله ما وعدوه قبل نزول السورة بالقتال بقولهم: إذ قيل لهم: إن الله سيأمركم بالقتال طاعة, فَوَفّوا له بذلك, لكان خيرا لهم في عاجل دنياهم, وآجل معادهم. كما:
24292ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة فإذَا عَزَمَ الأمْرُ يقول: طواعية الله ورسوله, وقول معروف عند حقائق الأمور خير لهم.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة يقول: طاعة الله وقول بالمعروف عند حقائق الأمور خير لهم.
الآية : 22-23
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِي الأرْضِ وَتُقَطّعُوَاْ أَرْحَامَكُمْ * أَوْلَـَئِكَ الّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ فَأَصَمّهُمْ وَأَعْمَىَ أَبْصَارَهُمْ }.
يقول تعالى ذكره لهؤلاء الذين وصف أنهم إذا نزلت سورة محكمة, وذُكر فيها القتال نظروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر المغشيّ عليه فَهَلْ عَسَيْتُمْ أيها القوم, يقول: فلعلكم إن توليتم عن تنزيل الله جلّ ثناؤه, وفارقتم أحكام كتابه, وأدبرتم عن محمد صلى الله عليه وسلم وعما جاءكم به أنْ تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ يقول: أن تعصوا الله في الأرض, فتكفروا به, وتسفكوا فيها الدماء وَتُقَطّعُوا أرْحامَكُمْ وتعودوا لما كنتم عليه في جاهليتكم من التشتت والتفرّق بعد ما قد جمعكم الله بالإسلام, وألّف به بين قلوبكم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
24293ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إنْ تَوَلّيْتُمْ... الآية. يقول: فهل عسيتم كيف رأيتم القوم حين تولوا عن كتاب الله, ألم يسفكوا الدم الحرام, وقطّعوا الأرحام, وعَصَوا الرحمن.
24294ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة فَهَلْ عَسَيْتُمْ إنْ تَوَلّيْتُمْ أنْ تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ وَتُقَطّعُوا أرْحامَكُمْ قال: فعلوا.
24295ـ حدثني محمد بن عبد الرحيم البرقي, قال: حدثنا ابن أبي مريم, قال: أخبرنا محمد بن جعفر وسليمان بن بلال, قالا: حدثنا معاوية بن أبي المزرّد المديني, عن سعيد بن يسار, عن أبي هريرة, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «خَلَقَ اللّهُ الخَلْقَ, فَلَمّا فَرغ مِنْهُمْ تَعَلّقَتِ الرّحِمُ بِحَقْوِ الرّحْمَنِ» فَقالَ مَهْ: فَقالَتْ: هَذَا مَقامُ العائِذِ بِكَ مِنَ القَطِيعَةِ, قالَ: أَفمَا تَرْضَيْنَ أنْ أقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ, وأصِلَ مَنْ وَصَلَكِ؟ قالَتْ: نَعَمْ, قالَ: فَذلكِ لَكِ.
قال سليمان في حديثه: قال أبو هريرة: اقرأوا إن شئتم فَهَلْ عَسَيْتُمْ إنْ تَوَلّيْتُمْ أنْ تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ وتُقَطّعُوا أرْحامَكُمْ وقد تأوّله بعضهم: فهل عسيتم إن توليتم أمور الناس أن تفسدوا في الأرض بمعنى الولاية, وأجمعت القرّاء غير نافعٍ على فتح السين من عَسَيتم, وكان نافع يكسرها «عَسِيتم».
والصواب عندنا قراءة ذلك بفتح السين لإجماع الحجة من القرّاء عليها, وأنه لم يسمع في الكلام: عَسِىَ أخوك يقوم, بكسر السين وفتح الياء ولو كان صوابا كسرها إذا اتصل بها مكنيّ, جاءت بالكسر مع غير المكنيّ, وفي إجماعهم على فتحها مع الاسم الظاهر, الدليل الواضح على أنها كذلك مع المكنيّ, وإن التي تَلِي عسيتم مكسورة, وهي حرف جزاء, و«أن» التي مع تفسدوا في موضع نصيب بعسيتم.
وقوله: أُولَئِكَ الّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين يفعلون هذا, يعني الذين يفسدون ويقطعون الأرحام الذين لعنهم الله, فأبعدهم من رحمته فأصمهم, يقول: فسلبهم فَهْمَ ما يسمعون بآذانهم من مواعظ الله في تنزيله وأعْمَى أبْصَارَهُمْ يقول: وسلبهم عقولهم, فلا يتبيّنون حُجج الله, ولا يتذكّرون ما يرون من عبره وأدلته.
الآية : 24-25
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىَ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ * إِنّ الّذِينَ ارْتَدّواْ عَلَىَ أَدْبَارِهِمْ مّن بَعْدِ مَا تَبَيّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشّيْطَانُ سَوّلَ لَهُمْ وَأَمْلَىَ لَهُمْ }.
يقول تعالى ذكره: أفلا يتدبر هؤلاء المنافقون مواعظ الله التي يعظهم بها في آي القرآن الذي أنزله على نبيه عليه الصلاة والسلام, ويتفكّرون في حُججه التي بيّنها لهم في تنزيله فيعلموا بها خطأ ما هم عليه مقيمون أمْ عَلى قُلُوبٍ أقْفالُهَا يقول: أم أقفل الله على قلوبهم فلا يعقلون ما أنزل الله في كتابه من المواعظ والعِبَر. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 24296ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: أفَلا يَتَدَبّرُونَ القُرآنَ أمْ عَلى قُلُوبٍ أقْفالُهَا إذا والله يجدون في القرآن زاجرا عن معصية الله, لو تدبره القوم فعقلوه, ولكنهم أخذوا بالمتشابه فهلكوا عند ذلك.
24297ـ حدثنا إسماعيل بن حفص الأيلي, قال: حدثنا الوليد بن مسلم, عن ثور بن يزيد, عن خالد بن مَعدان, قال: ما من آدميّ إلا وله أربع أعين: عينان في رأسه لدنياه, وما يصلحه من معيشته, وعينان في قلبه لدينه, وما وعد الله من الغيب, فإذا أراد الله بعبدٍ خيرا أبصرت عيناه اللتان في قلبه, وإذا أراد الله به غير ذلك طَمَس عليهما, فذلك قوله: أمْ عَلى قُلُوبٍ أقْفالُهَا.
حدثنا ابن حُمَيد, قال: حدثنا يحيى بن واضح, قال: حدثنا ثور بن يزيد, قال: حدثنا خالد بن معدان, قال: ما من الناس أحد إلا وله أربع أعين, عينان في وجهه لمعيشته, وعينان في قلبه, وما من أحد إلا وله شيطان متبطن فقار ظهره, عاطف عنقه على عنقه, فاغر فاه إلى ثمرة قلبه, فإذا أراد الله بعبدٍ خيرا أبصرت عيناه اللتان في قلبه ما وعد الله من الغيب, فعمل به, وهما غيب, فعمل بالغيب, وإذا أراد الله بعبد شرّا تركه, ثم قرأ أمْ عَلى قُلُوبٍ أقْفالُهَا.
حدثنا ابن حُميد, قال: حدثنا الحكم, قال: حدثنا عمرو, عن ثور, عن خالد بن مَعَدان بنحوه, إلا أنه قال: ترك القلب على ما فيه.
24298ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, قال: حدثنا حماد بن زيد, قال: حدثنا هشام بن عروة, عن أبيه قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما أفَلا يَتَدَبّرُونَ القُرْآن أمْ عَلى قُلُوبٍ أقْفالُها فقال شاب من أهل اليمن: بل عليها أقفالها, حتى يكون الله عزّ وجلّ يفتحها أو يفرجها, فما زال الشاب في نفس عمر رضي الله عنه حتى ولي فاستعان به.
وقوله: إنّ الّذِينَ ارْتَدّوا عَلى أدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيّنَ لَهُمُ الهُدَى يقول الله عزّ وجلّ إن الذين رجعوا القهقرى على أعقابهم كفارا بالله من بعد ما تبين لهم الحقّ وقصد السبيل, فعرفوا واضح الحجة, ثم آثروا الضلال على الهدى عنادا لأمر الله تعالى ذكره من بعد العلم. كما:
24299ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: إنّ الّذِينَ ارْتَدّوا عَلى أدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيّنَ لَهُمُ الهُدَى هم أعداء الله أهل الكتاب, يعرفون بعث محمد نبيّ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عندهم, ثم يكفرون به.
24300ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة مِنْ بَعْدِ ما تَبَيّنَ لَهُمُ الهُدَى إنهم يجدونه مكتوبا عندهم.
وقال آخرون: عنى بذلك أهل النفاق. ذكر من قال ذلك:
24301ـ حُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله إنّ الّذِينَ ارْتَدّوا على أدْبارِهِمْ... إلى قوله فأَحْبَطَ أعمالَهُمْ هم أهل النفاق.
24302ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: إنّ الّذِينَ ارْتَدّوا على أدْبارِهِمْ... إلى إسْرَارَهُمْ هم أهل النفاق. وهذه الصفة بصفة أهل النفاق عندنا, أشبه منها بصفة أهل الكتاب, وذلك أن الله عزّ وجلّ أخبر أن ردّتهم كانت بقيلهم لِلّذِينَ كَرِهُوا, ما نَزّلَ اللّهُ سَنُطِيعُكُم في بَعْضِ الأَمْرِ ولو كانت من صفة أهل الكتاب, لكان في وصفهم بتكذيب محمد صلى الله عليه وسلم الكفاية من الخبر عنهم بأنهم إنما ارتدّوا من أجل قيلهم ما قالوا.
وقوله: الشّيْطانُ سَوّلَ لَهُمْ يقول تعالى ذكره: الشيطان زين لهم ارتدادهم على أدبارهم, من بعد ما تبين لهم الهدى. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
24303ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة الشّيْطانُ سَوّلَ لَهُمْ وأمْلَى لَهُمْ يقول: زين لهم.
حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة سَوّلَ لَهُمْ يقول: زين لهم.
وقوله: وأمْلَى لَهُمْ يقول: ومدّ الله لهم في آجالهم مُلاوة من الدهر, ومعنى الكلام: الشيطان سوّل لهم, والله أملى لهم.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء الحجاز والكوفة وأمْلَى لَهُمْ بفتح الألف منها بمعنى: وأملى الله لهم. وقرأ ذلك بعض أهل المدينة والبصرة «وأُمْلِيَ لَهُمْ» على وجه ما لم يسمّ فاعله. وقرأ مجاهد فيما ذُكر عنه «وأُمْلِي» بضم الألف وإرسال الياء على وجه الخبر من الله جلّ ثناؤه عن نفسه أنه يفعل ذلك بهم.
وأولى هذه القراءات بالصواب, التي عليها عامة قرّاء الحجاز والكوفة من فتح الألف في ذلك, لأنها القراءة المستفيضة في قَرَأةَ الأمصار, وإن كان يجمعها مذهب تتقارب معانيها فيه.
الآية : 26
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنّهُمْ قَالُواْ لِلّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزّلَ اللّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأمْرِ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ }.
يقول تعالى ذكره: أملى الله لهؤلاء المنافقين وتركهم, والشيطان سول لهم, فلم يوفقهم للهدى من أجل أنهم قَالُوا لِلّذِينَ كَرِهُوا ما نَزّلَ اللّهُ من الأمر بقتال أهل الشرك به من المنافقين: سَنُطِيعُكُمْ في بَعْضِ الأَمْرِ الذي هو خلاف لأمر الله تبارك وتعالى, وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم. كما:
24304ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة ذلكَ بأنّهُمْ قالُوا للّذِينَ كَرِهُوا ما نَزّلَ اللّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأمْرِ فهؤلاء المنافقون وَاللّهُ يَعْلَمُ إسْرَارَهُمْ يقول تعالى ذكره: والله يعلم إسرار هذين الحزبين المتظاهرين من أهل النفاق, على خلاف أمر الله وأمر رسوله, إذ يتسارّون فيما بينهم بالكفر بالله ومعصية الرسول, ولا يخفى عليه ذلك ولا غيره من الأمور كلها.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء أهل المدينة والبصرة «أسْرَارُهُمْ» بفتح الألف من أسرارهم على وجه جماع سرّ. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة إسْرَارَهُمْ بكسر الألف على أنه مصدر من أسررت إسرارا.
والصواب من القول في ذلك عندنا أنهما قراءتان معروفتان صحيحتا المعنى, فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب.
الآية : 27-28
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنّهُمُ اتّبَعُواْ مَآ أَسْخَطَ اللّهَ وَكَرِهُواْ رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ }.
يقول تعالى ذكره: والله يعلم إسرار هؤلاء المنافقين, فكيف لا يعلم حالهم إذا توفتهم الملائكة, وهم يضربون وجوههم وأدبارهم, يقول: فحالهم أيضا لا يخفى عليه في ذلك الوقت ويعني بالأدبار: الأعجاز, وقد ذكرنا الرواية في ذلك فيما مضى قبل.
وقوله: ذَلكَ بأنّهُمْ اتّبَعُوا ما أسْخَطَ اللّهُ يقول تعالى ذكره: تفعل الملائكة هذا الذي وصفت بهؤلاء المنافقين من أجل أنهم اتبعوا ما أسخط الله, فأغضبه عليهم من طاعة الشيطان وكَرِهُوا رِضْوَانَهُ يقول: وكرهوا ما يرضيه عنهم من قتال الكفار به, بعد ما افترضه عليهم.
وقوله: فأَحْبَطَ أعمالَهُمْ يقول: فأبطل الله ثواب أعمالهم وأذهبه, لأنها عملت في غير رضاه ولا محبته, فبطلت, ولم تنفع عاملها