تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 51 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 51

050

وقوله: 9- "ربنا إنك جامع الناس" أي باعثهم ومحييهم بعد تفرقهم "ليوم" هو يوم القيامة أي لحساب يوم أو لجزاء يوم على تقدير حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه. قوله: "لا ريب فيه" أي: في وقوعه ووقوع ما فيه من الحساب والجزاء، وقد تقدم تفسير الريب، وجملة قوله: "إن الله لا يخلف الميعاد" للتعليل لمضمون ما قبلها: أي أن الوفاء بالوعد شأن الإله سبحانه وخلفه يخالف الألوهية كما أنها تنافيه وتباينه. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: المحكمات ناسخه وحلاله وحرامه وحدوده وفرائضه وما نؤمن به ونعمل به والمتشابهات منسوخه ومقدمه ومؤخره، وأمثاله وأقسامه وما نؤمن به ولا نعمل به. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن عباس قال في قوله: "منه آيات محكمات" قال: الثلاث آيات من آخر سورة الأنعام محكمات "قل تعالوا" والآيتان بعدها. وفي رواية عنه أخرجها عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم في قوله: "آيات محكمات" قال: من هنا "قل تعالوا" إلى ثلاث آيات، ومن هنا " وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه " إلى ثلاث آيات بعدها. وأقول: رحم الله ابن عباس ما أقل جدوى هذا الكلام المنقول عنه. فإن تعيين ثلاث آيات أو عشر أو مائة من جميع آيات القرآن ووصفها بأنها محكمة ليس تحته من الفائدة شيء، فالمحكمات هي أكثر القرآن على جميع الأقوال حتى على قوله المنقول عنه قريباً من أن المحكمات ناسخه وحلاله إلخ، فما معنى تعيين تلك الآيات من آخر سورة الأنعام. وأخرج عبد بن حميد عنه قال: المحكمات: الحلال والحرام، وللسلف أقوال كثيرة هي راجعة إلى ما قدمنا في أول هذا البحث. وأخرج ابن جرير ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: "فأما الذين في قلوبهم زيغ" يعني أهل الشك، فيحملون المحكم على المتشابه والمتشابه على المحكم، ويلبسون فلبس الله عليهم "وما يعلم تأويله إلا الله" قال: تأويله يوم القيامة لا يعلمه إلا الله. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود "زيغ" قال: شك. وفي الصحيحين وغيرهما عن عائشة قالت: "تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم "هو الذي أنزل عليك الكتاب" إلى قوله: "فأما الذين في قلوبهم زيغ". إلى قوله: " أولو الألباب " قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا رأيتم الذين يجادلون فيه فهم الذين عنى فاحذروهم". وفي لفظ "فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سماهم الله فاحذروهم" هذا لفظ البخاري ولفظ ابن جرير وغيره "فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه والذين يجادلون فيه فهم الذين عنى الله فلا تجالسوهم". وأخرج عبد بن حميد وعبد الرزاق وأحمد وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه والبيهقي في سننه عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه" قال: هم الخوارج. وأخرج ابن جرير والحاكم وصححه عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كان الكتاب الأول ينزل من باب واحد على حرف واحد ونزل القرآن على سبعة أحرف: زاجر، وآمر، وحلال، وحرام، ومحكم، ومتشابه، وأمثال، فأحلوا حلاله وحرموا حرامه، وافعلوا ما أمرتم به، وانتهوا عما نهيتم عنه، واعتبروا بأمثاله، واعملوا بمحكمه، وآمنوا بمتشابهه، وقولوا: آمنا به كل من عند ربنا". وأخرجه ابن أبي حاتم عن ابن مسعود موقوفاً. وأخرج الطبراني عن عمر بن أبي سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن مسعود فذكر نحوه. وأخرج البخاري في التاريخ عن علي مرفوعاً بإسناد ضعيف نحوه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي داود في المصاحف عن ابن مسعود نحوه. وأخرج ابن جرير وأبو يعلى عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "نزل القرآن على سبعة أحرف والمراء في القرآن كفر، ما عرفتم فاعملوا به، وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه" وإسناده صحيح. وأخرج البيهقي في الشعب عن أبي هريرة مرفوعاً، وفيه "واتبعوا المحكم وآمنوا بالمتشابه". وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه عن طاوس قال: كان ابن عباس يقرأها " وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به ". وأخرج ابن أبي داود في المصاحف عن الأعمش قال في قراءة عبد الله: وإن حقيقة تأويله إلا عند الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي الشعثاء وأبي نهيك قال: إنكم تصلون هذه الآية وهي مقطوعة "وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون: آمنا به كل من عند ربنا" فانتهى علمهم إلى قولهم الذي قالوا. وأخرج ابن جرير عن عروة قال: الراسخون في العلم لا يعلمون تأويله، ولكنهم يقولون: آمنا به كل من عند ربنا. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن عمر بن عبد العزيز نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن أبي قال: كتاب الله ما استبان فاعمل به، وما اشتبه عليك فآمن به وكله إلى عالمه. وأخرج أيضاً عن ابن مسعود قال: إن للقرآن مناراً كمنار الطريق، فما عرفتم فتمسكوا به وما اشتبه عليكم فذروه. وأخرج أيضاً عن معاذ نحوه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس قال: تفسير القرآن على أربعة وجوه: تفسير يعلمه العلماء، وتفسير يعذر الناس بجهالته من حلال أو حرام، وتفسير تعرفه العرب بلغتها، وتفسير لا يعلم تأويله إلا الله، من ادعى علمه فهو كذاب. وأخرج ابن جرير عنه قال: أنزل القرآن على سبعة أحرف حلال وحرام لا يعذر أحد بالجهالة به، وتفسير تفسره العرب، وتفسير تفسره العلماء، ومتشابه لا يعلمه إلا الله، ومن ادعى علمه سوى الله فهو كاذب. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه قال: أنا ممن يعلم تأويله. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق عطية العوفي عنه في قوله: "يقولون: آمنا به" نؤمن بالمحكم وندين به ونؤمن بالمتشابه ولا ندين به وهو من عند الله كله. وأخرج الدارمي في مسنده ونصر المقدسي في الحجة عن سليمان بن يسار: أن رجلاً يقال له ضبيع قدم المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن. فأرسل إليه عمر وقد أعد له عراجين النخل، فقال: من أنت؟ فقال: أنا عبد الله ضبيع، فقال: وأنا عبد الله عمر، فأخذ عمر عرجوناً من تلك العراجين فضربه حتى دمي رأسه، فقال: يا أمير المؤمنين حسبك قد ذهب الذي كنت أجد في رأسي. وأخرجه الدارمي أيضاً من وجه آخر، وفيه: أنه ضربه ثلاث مرات يتركه في كل مرة حتى يبرأ، ثم يضربه. وأخرج أصل القصة ابن عساكر في تاريخه عن أنس. وأخرج الدارمي وابن عساكر: أن عمر كتب إلى أهل البصرة أن لا يجالسوا ضبيعاً، وقد أخرج هذه القصة جماعة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني عن أنس وأبي أمامة وواثلة بن الأسقع وأبي الدرداء "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الراسخين في العلم؟ فقال: من برت يمينه، وصدق لسانه، واستقام قلبه، ومن عف بطنه وفرجه، فذلك من الراسخين في العلم". وأخرج ابن عساكر من طريق عبد الله بن يزيد الأزدي عن أنس مرفوعاً نحوه. وأخرج أبو داود والحاكم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الجدال في القرآن كفر". وأخرج نصر المقدسي في الحجة عن ابن عمر قال: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن وراء حجرته قوم يتجادلون بالقرآن، فخرج محمرة وجنتاه كأنما يقطران دماً فقال: يا قوم لا تجادلوا في القرآن فإنما ضل من كان قبلكم بجدالهم، إن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضاً، ولكن نزل ليصدق بعضه بعضاً، فما كان من محكمه فاعملوا به وما كان من متشابهه فآمنوا به". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أم سلمة "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، ثم قرأ "ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا" الآية". وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والترمذي وابن جرير والطبراني وابن مردويه عنها مرفوعاً نحوه بأطول منه. وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وابن مردويه عن عائشة مرفوعاً نحوه. وقد ورد نحوه من طرق أخر. وأخرج ابن النجار في تاريخه في قوله: "ربنا إنك جامع الناس ليوم" الآية. عن جعفر بن محمد الخلدي قال: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن من قرأ هذه الآية على شيء ضاع منه رده الله عليه، ويقول بعد قراءتها: يا جامع الناس ليوم لا ريب فيه اجمع بيني وبين مالي إنك على كل شيء قدير".
المراد بالذين كفروا جنس الكفرة- وقيل: وفد نجران، وقيل: قريظة، وقيل: النضير، وقيل: مشركوا العرب. وقرأ السلمي لن يغني بالتحتية، وقرأ الحسن بكون الياء الآخرة تخفيفاً. قوله: 10- "من الله شيئاً" أي: من عذابه شيئاً من الإغناء، وقيل: إن كلمة من بمعنى عند: أي لا تغني عند الله شيئاً قاله أبو عبيد، وقيل: هي بمعنى بدل. والمعنى بدل رحمة الله وهو بعيد. قوله: "وأولئك هم وقود النار" الوقود: اسم للحطب وقد تقدم الكلام عليه في سورة البقرة. أي: هم حطب جهنم الذي تسعر به، وهم مبتدأ، ووقود خبره والجملة خبر أولئك، أو هم ضمير فصل، وعلى التقديرين فالجملة مستأنفة مقررة لقوله: "لن تغني عنهم أموالهم" الآية. وقرأ الحسن ومجاهد وطلحة بن مصرف "وقود" بضم الواو وهو مصدر، وكذلك الوقود بفتح الواو في قراءة الجمهور يحتمل أن يكون اسماً للحطب كما تقدم فلا يحتاج إلى تقدير، ويحتمل أن يكون مصدراً، لأنه من المصادر التي تأتي على وزن الفعول فتحتاج إلى تقدير: أي: هم أهل وقود النار.
قوله: 11- "كدأب آل فرعون" الدأب: الاجتهاد، يقال: دأب الرجل في عمله يدأب دأباً ودؤوباً: إذا جد واجتهد، والدائبان الليل والنهار، والدأب: العادة والشأن، ومنه قول امرئ القيس: كدأبك من أم الحويرث قبلها وجارتها أم الرباب بمأسل والمراد هنا كعادة آل فرعون وحالهم، واختلفوا في الكاف، فقيل: هي في موضع رفع تقديره دأبهم آل فرعون مع موسى. وقال الفراء: إن المعنى كفرت العرب ككفر آل فرعون. قال النحاس: لا يجوز أن تكون الكاف متعلقة بكفروا، لأن كفروا داخلة في الصلة، وقيل: هي متعلقة بأخذهم الله: أي أخذهم أخذة كما أخذ آل فرعون، وقيل: هي متعلقة ب"لن تغني" أي لم تغن عنهم غناء، كما لم تغن عن آل فرعون، وقيل: إن العامل فعل مقدر من لفظ الوقود، ويكون التشبيه في نفس الإحراق. قالوا: ويؤيده قوله تعالى: "النار يعرضون عليها غدواً وعشياً ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب"، والقول الأول هو الذي قاله جمهور المحققين، ومنهم الأزهري. قوله: "والذين من قبلهم" أي من قبل آل فرعون من الأمم الكافرة: أي وكدأب الذين من قبلهم. قوله: "كذبوا بآياتنا فأخذهم الله" يحتمل أن يريد الآيات المتلوة، ويحتمل أن يريد الآيات المتلوة، ويحتمل أن يريد الآيات المنصوبة للدلالة على الوحدانية، ويصح إرادة الجميع. والجملة بيان وتفسير لدأبهم، ويجوز أن تكون في محل نصب على الحال من آل فرعون والذين من قبلهم على إضمار قد: أي دأب هؤلاء كدأب أولئك قد كذبوا إلخ. وقوله: "بذنوبهم" أي بسائر ذنوبهم التي من جملتها تكذيبهم.
قوله: 12- "قل للذين كفروا" قيل: هم اليهود، وقيل: هم مشركو مكة، وسيأتي بيان سبب نزول الآية. وقوله: "ستغلبون" قرئ بالفوقية والتحتية، وكذلك: "تحشرون". وقد صدق الله وعده بقتل بني قريظة، وإجلاء بني النضير، وفتح خيبر، وضرب الجزية على سائر اليهود، ولله الحمد. قوله: "وبئس المهاد" يحتمل أن يكون من تمام القول الذي أمر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم، ويحتمل أن تكون الجملة مستأنفة تهويلاً وتفظيعاً.
قوله: 13- "قد كان لكم آية" أي: علامة عظيمة دالة على صدق ما أقول لكم، وهذه الجملة جواب قسم محذوف، وهي من تمام القول المأمور به لتقرير مضمون ما قبله ولم يقل كانت لأن التأنيث غير حقيقي. وقال الفراء: إنه ذكر الفعل لأجل الفصل بينه وبين الاسم بقوله: "لكم". والمراد بالفئتين المسلمون والمشركون لما اتقوا يوم بدر. قوله: "فئة تقاتل في سبيل الله" قراءة الجمهور برفع فئة. وقرأ الحسن ومجاهد فئة وكافرة بالخفض، فالرفع على الخبرية لمبتدأ محذوف أي: إحداهما فئة. وقوله: "تقاتل" في محل رفع على الصفة، والجر على البدل من قوله: "فئتين". وقوله: "وأخرى" أي: وفئة أخرى كافرة. وقرأ ابن أبي عبلة بالنصب فيهما. قال ثعلب: هو على الحال: أي التقتا مختلفتين، مؤمنة وكافرة. وقال الزجاج: النصب بتقدير أعني، وسميت الجماعة من الناس فئة لا يفاء إليها: أي يرجع في وقت الشدة. وقال الزجاج الفئة: الفرقة مأخوذ من فأوت رأسه بالسيف: إذا قطعته، ولا خلاف أن المراد بالفئتين هما المقتتلتان في يوم بدر، وإنما وقع الخلاف في المخاطب بهذا الخطاب، فقيل: المخاطب بها المؤمنون، وقيل: اليهود. وفائدة الخطاب للمؤمنين تثبيت نفوسهم وتشجيعها، وفائدته إذا كان مع اليهود عكس الفائدة المقصودة بخطاب المسلمين. قوله: " يرونهم مثليهم " قال أبو علي الفارسي: الرؤية في هذه الآية رؤية العين، ولذلك تعدت إلى مفعول واحد، ويدل عليه قوله: "رأي العين" والمراد أنه يرى المشركون المسلمين مثلي عدد المشركين أو مثلي عدد المسلمين، وهذا على قراءة الجمهور بالياء التحتية، وقرأ نافع بالفوقية. وقوله: "مثليهم" منتصب على الحال. وقد ذهب الجمهور إلى أن فاعل ترون أيها المسلمون المشركين مثلي ما هم عليه من العدد، وفيه بعد أن يكثر الله المشركين في أعين المؤمنين وقد أخبرنا أنه قللهم في أعين المؤمنين فيكون المعنى ترون أيها المسلمون المشركين مثليكم في العدد وقد كانوا ثلاثة أمثالهم فقلل الله المشركين في أعين المسلمون فأراهم إياهم مثلي عدتهم لتقوى أنفسهم. وقد كانوا أعلموا أن المائة منهم تغلب المائتين من الكفار، ويحتمل أن يكون الضمير في مثليهم للمسلمين: أي ترون أيها المسلمون أنفسكم مثلي ما أنتم عليه من العدد لتقوى بذلك أنفسكم وقد قال من ذهب إلى التفسير الأول: أعني أن فاعل الرؤية المشركون، وأنهم رأوا المسلمين مثلي عددهم أنه لا يناقض هذا ما في سورة الأنفال من قوله تعالى: "ويقللكم في أعينهم" بل قللوا أولاً في أعينهم ليلاقوهم ويجترئوا عليهم، فلما لاقوهم كثروا في أعينهم حتى غلبوا. قوله: "رأي العين" مصدر مؤكد لقوله: "ترونهم" أي: رؤية ظاهرة مكشوفة لا لبس فيها "والله يؤيد بنصره من يشاء" أي يقوي من يشاء أن يقويه، ومن جملة ذلك تأييد أهل بدر بتلك الرؤية "إن في ذلك" أي في رؤية القليل كثيراً "لعبرة" فعلة من العبور كالجلسة من الجلوس. والمراد الاتعاظ، والتنكير للتعظيم: أي عبرة عظيمة، وموعظة جسيمة. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "كدأب آل فرعون" قال: كصنيع آل فرعون. وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عنه قال: كفعل. وأخرج مثله أبو الشيخ عن مجاهد. وأخرج ابن جرير عن الربيع قال: كسنتهم. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أصاب من أهل بدر ما أصاب ورجع إلى المدينة جمع اليهود في سوق بني قينقاع قال: يا معشر يهود أسلموا قبل أن يصيبكم الله بما أصاب قريشاً، قالوا: يا محمد لا يغرنك من نفسك أن قتلت نفراً كانوا غماراً لا يعرفون القتال، إنك والله لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس وأنك لم تلق مثلنا، فأنزل الله "قل للذين كفروا ستغلبون" إلى قوله: "أولي الأبصار"". وأخرج ابن جرير وابن إسحاق وابن أبي حاتم عن عاصم بن عمر بن قتادة مثله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن عكرمة قال: قال فنحاص اليهودي وذكر نحوه. وأخرج ابن جرير عن قتادة في قوله: "قد كان لكم آية" عبرة وتفكر. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله" أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر "وأخرى كافرة" فئة قريش الكفار. وأخرج عبد الرزاق أن هذه الآية نزلت في أهل بدر. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الربيع في قوله: "قد كان لكم آية" يقول: قد كان لكم في هؤلاء عبرة ومتفكر أيدهم الله ونصرهم على عدوهم يوم بدر كان المشركون تسعمائة وخمسين رجلاً، وكان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في الآية قال: هذا يوم بدر نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يضعفون علينا ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلاً واحداً. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال: أنزلت في التخفيف يوم بدر على المؤمنين كانوا يومئذ ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً، وكان المشركون مثليهم ستمائة وستة وعشرين فأيد الله المؤمنين.
قوله 14- "زين للناس" إلخ: كلام مستأنف لبيان حقارة ما تستلذه الأنفس من هذه الدار، والمزين قيل: هو الله سبحانه، وبه قال عمر كما حكاه عنه البخاري وغيره، ويؤيد قوله تعالى: "إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم". وقيل: المزين هو الشيطان، وبه قال الحسن، حكاه عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عنه. وقرأ الضحاك زين على البناء للفاعل. وقرأه الجمهور على البناء المفعول. والمراد بالناس: الجنس. والشهوات جمع شهوة، وهي نزوع النفس إلى ما تريده. والمراد هنا المشتهيات عبر عنها بالشهوات مبالغة في كونها مرغوباً فيها أو تحقيراً لها لكونها مسترذلة عند العقلاء من صفات الطبائع البهيمية، ووجه تزيين الله سبحانه لها ابتلاء عباده كما صرح به في الآية الأخرى. وقوله: "من النساء والبنين" في محل الحال: أي زين للناس حب الشهوات حال كونها من النساء والبنين إلخ. وبدأ بالنساء لكثرة النفوس إليهن لأنهن حبائل الشيطان، وخص البنين دون البنات لعدم الاطراد في محبتهن. والقناطير جمع قنطار وهو اسم للكثير من المال. قال الزجاج: القنطار مأخوذ من عقد الشيء وإحكامه: تقول العرب قنطرت الشيء: إذا أحكمته، ومنه سميت القنطرة لإحكامها. وقد اختلف في تقديره على أقوال للسلف ستأتي إن شاء الله. واختلفوا في معنى المقنطرة، فقال ابن جرير الطبري: معناها المضعفة، وقال القناطير: ثلاثة، والمقنطرة تسعة. وقال الفراء: القناطير جمع قنطار، والمقنطرة جمع الجمع، فتكون تسع قناطير وقيل: المقنطرة المضروبة، وقيل: المكملة كما يقال: بدرة مبدرة، وألوف مؤلفة، وبه قال مكي وحكاه الهروي. وقال ابن كيسان: لا تكون المقنطرة أقل من سبع قناطير. وقوله: "من الذهب والفضة" بيان للقناطير، أو حال "والخيل المسومة" قيل هي المرعية في المروج والمسارح، يقال: سامت الدابة والشاة: إذا سرحت، وقيل: هي المعدة للجهاد، وقيل: هي الحسان، وقيل: المعلمة، من السومة وهي العلامة: أي التي يجعل عليها علامة لتتميز عن غيرها. وقال ابن فارس في المجمل المسومة: المرسلة وعليها ركبانها. وقال ابن كيسان: البلق. والأنعام هي الإبل والبقر والغنم، فإذا قلت نعم فهي الإبل خاصة قاله الفراء وابن كيسان، ومنه قول حسان: وكانت لا يزال بها أنيس خلال مروجها نعم وشاء والحرث: اسم لكل ما يحرث، وهو مصدر سمي به المحروث، يقول: حرث الرجل حرثاً، إذا أثار الأرض فيقع على الأرض والزرع. قال ابن الأعرابي: الحرث: التفتيش. قوله: "ذلك متاع الحياة الدنيا" أي ذلك المذكور ما يتمتع به ثم يذهب ولا يبقى، وفيه تزهيد في الدنيا وترغيب في الآخرة. والمآب: المرجع آب يؤوب إياباً: إذا رجع، ومنه قول امرئ القيس: لقد طوفت في الآفاق حتى رضيت من الغنيمة بالإياب.
قوله 15- "قل أؤنبئكم بخير من ذلكم" أي: هل أخبركم بما هو خير لكم من تلك المستلذات وإبهام الخير للتفخيم، ثم بينه بقوله "للذين اتقوا عند ربهم جنات" وعند في محل نصب على الحال من جنات وهي مبتدأ، وخبرها للذين اتقوا ويجوز أن تتعلق اللام بخير. وجنات خبر مبتدأ مقدر: أي هو جنات، وخص المتقين لأنهم المنتفعون بذلك. وقد تقدم تفسير قوله "تجري من تحتها الأنهار" وما بعده.