تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 52 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 52

051

قوله 16- "الذين يقولون" بدل من قوله "للذين اتقوا" أو خبر مبتدأ محذوف: أي هم الذين، أو منصوب على المدح، والصابرين وما بعده نعت للموصول على تقدير كونه بدلاً، أو منصوباً على المدح وعلى تقدير كونه خبراً يكون الصابرين وما بعده منصوبة على المدح وقد تقدم تفسير الصبر والصدق والقنوت.
قوله 17- "والمستغفرين بالأسحار" هم السائلون للمغفرة بالأسحار، وقيل المصلون. والأسحار جمع سحر بفتح الحاء وسكونها. قال الزجاج: هو من حين يدبر الليل إلى أن يطلع الفجر، وخص الأسحار لأنها من أوقات الإجابة. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب، لما نزلت "زين للناس حب الشهوات" قال: الآن يا رب حين زينتها لنا، فنزلت "قل أؤنبئكم". وأخرجه ابن المنذر عنه بلفظ خير انتهى إلى قوله "قل أؤنبئكم بخير" فبكى وقال: بعد ماذا، بعد ماذا بعد ما زينتها. وأخرج أحمد وابن ماجه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "القنطار اثنا عشر ألف أوقية". رواه أحمد من حديث عبد الصمد بن عبد الوارث عن حماد عن عاصم عن أبي صالح عنه. ورواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن عبد الصمد به. وقد رواه ابن جرير موقوفاً على أبي هريرة. قال ابن كثير: وهذا أصح. وأخرج الحاكم وصححه عن أنس قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القناطير المقنطرة فقال: "القنطار ألف أوقية". ورواه ابن أبي حاتم وابن مردويه عنه مرفوعاً بلفظ ألف دينار. وأخرج ابن جرير عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "القنطار ألف أوقية ومائتا أوقية". وأخرجه عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي من قول معاذ بن جبل، وأخرجه ابن جرير من قوله ابن عمر، وأخرجه عبد بن حميد وابن جرير والبيهقي من قول أبي هريرة، وأخرجه ابن جرير والبيهقي من قول ابن عباس. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم والبيهقي عن أبي سعيد الخدري قال: القنطار ملء مسك جلد الثور ذهباً. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عمر أنه قال: القنطار سبعون ألفاً، وأخرجه عبد بن حميد عن مجاهد. وأخرج أيضاً عن سعيد بن المسيب قال: القنطار ثمانون ألفاً. وأخرج أيضاً عن أبي صالح قال: القنطار مائة رطل. وأخرجه أيضاً عن قتادة. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي جعفر قال: القنطار خمسة عشر ألف مثقال، والمثقال أربعة وعشرون قيراطاً. وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال: هو المال الكثير من الذهب والفضة. وأخرجه أيضاً عن الربيع. وأخرج عن السدي أن المقنطرة المضروبة. وأخرج ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس "والخيل المسومة" قال: الراعية. وأخرج ابن المنذر عنه من طريق مجاهد. وأخرج ابن جرير عنه قال: هي الراعية والمطهمة الحسان. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد قال: هي المطهمة الحسان. وأخرجا عن عكرمة قال: تسويمها حسنها. وأخرج ابن أبي حاتم قال: "الخيل المسومة" الغرة والتحجيل. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله الصابرين قال: قوم صبروا على طاعة الله وصبروا عن محارمه، والصادقون قوم صدقت نياتهم واستقامت قلوبهم وألسنتهم وصدقوا في السر والعلانية، والقانتون هم المطيعون والمستغفرون بالأسحار أهل الصلاة. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة قال: هم الذين يشهدون صلاة الصبح. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن أنس قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستغفر بالأسحار سبعين مرة. وأخرج ابن جرير وأحمد في الزهد عن سعيد الجريري قال: بلغنا أن داود عليه السلام سأل جبريل فقال: يا جبريل أي الليل أفضل؟ قال: يا داود ما أدري إلا أن العرش يهتز في السحر. وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما عن جماعة من الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ينزل الله تبارك وتعالى في كل ليلة إلى سماء الدنيا حتى يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: هل من سائل فأعطيه، هل من داع فأستجيب له هل من مستغفر فأغفر له؟".
قوله 18- "شهد الله" أي بين وأعلم. قال الزجاج: الشاهد هو الذي يعلم الشيء ويبينه، فقد دلنا على وحدانيته بما خلق وبين، وقال أبو عبيدة: شهد الله بمعنى قضى: أي أعلم. قال ابن عطية: وهذا مردود من جهات، وقيل إنها شبهت دلالته على وحدانيته بأفعاله ووحيه بشهادة الشاهد في كونها مبنية. وقوله أنه بفتح الهمزة. قال المبرد: أي بأنه ثم حذفت الباء كما في أمرتك الخير: أي بالخير. وقرأ ابن عباس إنه بكسر الهمزة بتضمين شهد معنى قال. وقرأ أبو المهلب شهداء لله بالنصب على أنه حال من الصابرين وما بعده، أو على المدح "والملائكة" عطف على الاسم الشريف، وشهادتهم إقرارهم بأنه لا إله إلا الله. وقوله " وأولو العلم " معطوف أيضاً على ما قبله وشهادتهم بمعنى الإيمان منهم وما يقع من البيان للناس على ألسنتهم، وعلى هذا لا بد من حمل الشهادة على معنى يشمل شهادة الله وشهادة الملائكة وأولي العلم. وقد اختلف في أولي العلم هؤلاء من هم؟ فقيل هم الأنبياء، وقيل المهاجرون والأنصار، قاله ابن كيسان، وقيل مؤمنو أهل الكتاب، قاله مقاتل، وقيل المؤمنون كلهم، قاله السدي والكلبي، وهو الحق إذ لا وجه للتخصيص. وفي ذلك فضيلة لأهل العلم جليلة، ومنقبة نبيلة لقربهم باسمه واسم ملائكته، والمراد بأولي العلم هنا علماء الكتاب والسنة وما يتوصل به إلى معرفتهما، إذ لا اعتداد بعلم لا مدخل له في العلم الذي اشتمل عليه الكتاب العزيز والسنة المطهرة. وقوله "قائماً بالقسط" أي العدل: أي قائماً بالعدل في جميع أموره أو مقيماً له، وانتصاب قائماً على الحال من الاسم الشريف. قال في الكشاف: إنها حال مؤكدة كقوله: "وهو الحق مصدقاً" وجاز إفراده سبحانه بذلك دون ما هو معطوف عليه من الملائكة وأولي العلم لعدم اللبس، وقيل: إنه منصوب على المدح، وقيل: إنه صفة لقوله: "إله" أي لا إله قائماً بالقسط إلا هو أو هو حال من قوله "إلا هو" والعامل فيه معنى الجملة. وقال الفراء: هو منصوب على القطع لأن أصله الألف واللام، فلما قطعت نصب كقوله "لا إله إلا هو" تكرير لقصد التأكيد، وقيل إن قوله "أنه لا إله إلا هو" كالدعوى، والأخيرة كالحكم. وقال جعفر الصادق الأولى وصف وتوحيد، والثانية رسم وتعليم. وقوله "العزيز الحكيم" مرتفعان على البدلية من الضمير أو الوصفية لفاعل شهد لتقرير معنى الوحدانية.
قوله 19- "إن الدين عند الله الإسلام". قرأه الجمهور بكسر إن على أن الجملة مستأنفة مؤكدة للجملة الأولى، وقرئ بفتح أن. قال الكسائي: أنصبهما جميعاً يعني قوله "شهد الله أنه" وقوله "إن الدين عند الله الإسلام" بمعنى شهد الله أنه كذا وأن الدين عند الله الإسلام. قال ابن كيسان: إن الثانية بدل من الأولى. وقد ذهب الجمهور إلى أن الإسلام هنا بمعنى الإيمان وإن كانا في الأصل متغايرين كما في حديث جبريل الذي بين فيه النبي صلى الله عليه وسلم معنى الإسلام ومعنى الإيمان، وصدقه جبريل، وهو في الصحيحين وغيرهما ولكنه قد يسمى كل واحد منهما باسم الآخر وقد ورد ذلك في الكتاب والسنة. قوله " وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم " فيه الإخبار بأن اختلاف اليهود والنصارى كان لمجرد البغي بعد أن علموا بأنه يجب عليهم الدخول في دين الإسلام بما تضمنته كتبهم المنزلة إليهم. قال الأخفش: وفي الكلام تقديم وتأخير، والمعنى: ما اختلف الذين أوتوا الكتاب بغياً بينهم إلا من بعد ما جاءهم العلم. والمراد بهذا الخلاف الواقع بينهم هو خلافهم في كون نبينا صلى الله عليه وسلم نبياً أم لا؟ وقيل: اختلافهم في نبوة عيسى، وقيل: اختلافهم في ذات بينهم حتى قالت اليهود: ليست النصارى على شيء، وقالت النصارى: ليست اليهود على شيء. قوله "ومن يكفر بآيات الله" أي بالآيات الدالة على أن الدين عند الله الإسلام "فإن الله سريع الحساب" فيجازيه ويعاقبه على كفره بآياته، والإظهار في قوله فإن الله مع كونه مقام الإضمار للتهويل عليهم والتهديد لهم.
قوله 20- "فإن حاجوك" أي جادلوك بالشبه الباطلة والأقوال المحرفة، "فقل أسلمت وجهي لله" أي أخلصت ذاتي لله، وعبر بالوجه عن سائر الذات لكونه أشرف أعضاء الإنسان وأجمعها للحواس، وقيل الوجه هنا بمعنى القصد. وقوله "ومن اتبعن" عطف على فاعل أسلمت وجاز للفصل وأثبت نافعل وأبو عمرو ويعقوب الياء في اتبعن على الأصل وحذفها الآخرون اتباعاً لرسم المصحف، ويجوز أن تكون الواو بمعنى مع والمراد بالأميين هنا مشركوا العرب. وقوله "أأسلمتم" استفهام تقريري يتضمن الأمر: أي أسلموا، كذا قاله ابن جرير وغيره. وقال الزجاج: "أأسلمتم" تهديد، والمعنى: أنه قد أتاكم من البراهين ما يوجب الإسلام فهل علمتم بموجب ذلك أم لا؟ تبكيتاً لهم وتصغيراً لشأنهم في الإنصاف وقبول الحق. وقوله "فقد اهتدوا" أي ظفروا بالهداية التي هي الحظ الأكبر، وفازوا بخير الدنيا والآخرة "وإن تولوا" أي أعرضوا عن قبول الحجة ولم يعملوا بموجبها "فإنما عليك البلاغ" أي فإنما عليك أن تبلغهم ما أنزل إليك، ولست عليهم بمسيطر فلا تذهب نفسك عليهم حسرات، والبلاغ مصدر. وقوله "والله بصير بالعباد" فيه وعد ووعيد لتضمنه أنه عالم بجميع أحوالهم. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله "قائماً بالقسط" قال: بالعدل. وأخرج أيضاً عن ابن عباس مثله. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في قوله "إن الدين عند الله الإسلام" قال: الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله، والإقرار بما جاء به من عند الله، وهو دين الله الذي شرع لنفسه وبعث به رسله ودل عليه أولياؤه لا يقبل غيره. وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك قال: لم يبعث الله رسولاً إلا بالإسلام. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن سعيد بن جبير قال: كان حول البيت ستون وثلثمائة صنم لكل قبيلة من قبائل العرب صنم أو صنمان فأنزل الله "شهد الله أنه لا إله إلا هو" الآية، فأصبحت الأصنام كلها قد خرت سجداً للكعبة. وأخرج ابن السني في عمل اليوم والليلة وأبو منصور الشحامي في الأربعين عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن فاتحة الكتاب وآية الكرسي والآيتين من آل عمران " شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم* إن الدين عند الله الإسلام ". "قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء" إلى قوله: "بغير حساب" هن معلقات بالعرش ما بينهن وبين الله حجاب، يقلن يا رب تهبطنا إلى أرضك وإلى من يعصيك؟ قال الله: إني حلفت لا يقرأكن أحد من عبادي دبر كل صلاة إلا جعلت الجنة مأواه على ما كان منه، وإلا أسكنته حظيرة القدس، وإلا نظرت إليه بعيني المكنونة كل يوم سبعين نظرة وإلا قضيت له كل يوم سبعين حاجة أدناها المغفرة، وإلا أعذته من كل عدو ونصرته منه". وأخرج الديلمي في مسند الفردوس عن أبي أيوب الأنصاري مرفوعاً نحوه، وفيه " لا يتلوكن عبد دبر كل صلاة مكتوبة إلا غفرت له ما كان منه ،وأسكنته جنة الفردوس ، ونظرت إليه كل يوم سبعين مره وقضيت له سبعين حاجة أدناها المغفرة". وأخرج أحمد وابن أبي حاتم والطبراني وابن السني عن الزبير بن العوام قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بعرفة يقرأ هذه الآية " شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم " فقال: وأنا على ذلك من الشاهدين" ولفظ الطبراني "وأنا أشهد أن لا إله إلا أنت العزيز الحكيم". وأخرج ابن عدي والطبراني في الأوسط والبيهقي في شعب الإيمان وضعفه والخطيب في تاريخه وابن النجار عن غالب القطان قال: أتيت الكوفة في تجارة فمر بهذه الآية "شهد الله أنه لا إله إلا هو" إلى قوله: "إن الدين عند الله الإسلام" فقال: وأنا أشهد بما شهد به الله، وأستودع الله هذه الشهادة، وهي لي وديعة عند الله، قالها مراراً، فقلت: لقد سمع فيها شيئاً فسألته فقال: حدثني أبو وائل عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يجاء بصاحبها يوم القيامة فيقول الله: عبدي عهد إلي وأنا أحق من وفى بالعهد أدخلوا عبدي الجنة". وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله " وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه " قال: بنو إسرائيل. وأخرج ابن جرير عن أبي العالية في قوله "بغياً بينهم" يقول: بغياً على الدنيا وطلب ملكها وسلطانها، فقتل بعضهم بعضاً على الدنيا من بعد ما كانوا علماء الناس. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله "فإن حاجوك" قال: إن حاجك اليهود والنصارى. وأخرج ابن المنذر عن ابن جرير نحوه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس " وقل للذين أوتوا الكتاب " قال: اليهود والنصارى "والأميين" قال: هم الذين لا يكتبون.
قوله 21- "بآيات الله" ظاهره عدم الفرق بين آية وآية "ويقتلون النبيين بغير حق" يعني اليهود قتلوا الأنبياء "ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس" أي بالعدل، وهم الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. قال المبرد: كان ناس من بني إسرائيل جاءهم النبيون فدعوهم إلى الله فقتلوهم، فقام أناس من بعدهم من المؤمنين فأمروهم بالإسلام فقتلوهم. ففيهم نزلت الآية. وقوله "فبشرهم بعذاب أليم" خبر "إن الذين كفروا" إلخ، ودخلته الفاء لتضمن الموصول معنى الشرط، وذهب بعض أهل النحو إلى أن الخبر قوله "أولئك الذين حبطت أعمالهم" وقالوا إن الفاء لا تدخل في خبر إن وإن تضمن اسمها معنى الشرط، لأنه قد نسخ بدخول إن عليه، ومنهم سيبويه والأخفش وذهب غيرهما إلى أن ما يتضمنه المبتدأ من معنى الشرط لا ينسخ بدخول إن عليه، ومثل الكسرة المفتوحة، ومنه قوله تعالى: "واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه".
وقوله 22- "حبطت أعمالهم" قد تقدم تفسير الإحباط، ومعنى كونها حبطت في الدنيا والآخرة أنه لم يبق لحسناتهم أثر في الدنيا، حتى يعاملوا فيها معاملة أهل الحسنات، بل عوملوا معاملة أهل السيئات فلعنوا وحل بهم الخزي والصغار ولهم في الآخرة عذاب النار.