سورة آل عمران | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير الطبري تفسير الصفحة 51 من المصحف
تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 51
052
050
الآية : 10
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مّنَ اللّهِ شَيْئاً وَأُولَـَئِكَ هُمْ وَقُودُ النّارِ }
يعنـي جل ثناؤه بقوله: {إِنّ الّذِينَ كَفَرُو} إن الذين جحدوا الـحقّ الذي قد عرفوه من نبوّة مـحمد صلى الله عليه وسلم من يهود بنـي إسرائيـل ومنافقـيهم, ومنافقـي العرب وكفـارهم الذين فـي قلوبهم زيغ, فهم يتبعون من كتاب الله الـمتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويـله, {لَنْ تُغْنِـيَ عَنْهُمْ أمْوَالُهُمْ وَلاَ أوْلاَدُهُمْ مِنَ اللّهِ شَيْئ} يعنـي بذلك: أن أموالهم وأولادهم لن تنـجيهم من عقوبة الله إن أحلها بهم عاجلاً فـي الدنـيا علـى تكذيبهم بـالـحقّ بعد تبـيّنهم, واتبـاعهم الـمتشابه طلب اللبس فتدفعها عنهم, ولا يغنـي ذلك عنهم منها شيئا. {وَهُمْ فِـي الاَخِرَةِ وَقُودُ النّارِ} يعنـي بذلك حطبها.
الآية : 11
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ }
يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: إن الذين كفروا لن تغنـي عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا عند حلول عقوبتنا بهم, كسنة آل فرعون وعادتهم, والذين من قبلهم من الأمـم الذين كذبوا بآياتنا, فأخذناهم بذنوبهم فأهلكناهم حين كذبوا بآياتنا, فلن تغنـي عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا حين جاءهم بأسنا كالذي عوجلوا بـالعقوبة علـى تكذيبهم ربهم من قبل آل فرعون من قوم نوح وقوم هود وقوم لوط وأمثالهم.
واختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} فقال بعضهم: معناه: كسنتهم. ذكر من قال ذلك:
5362ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق بن الـحجاج, قال: حدثنا عبد الله بن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع فـي قوله: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} يقول: كسنتهم.
وقال بعضهم: معناه: كعملهم. ذكر من قال ذلك:
5363ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا مؤمل, قال: حدثنا سفـيان, وحدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو نعيـم, قال: حدثنا سفـيان جميعا, عن جويبر, عن الضحاك: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنِ} قال: كعمل آل فرعون.
5364ـ حدثنا يحيـى بن أبـي طالب, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا جويبر. عن الضخاك فـي قوله: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} قال: كعمل آل فرعون.
5365ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} قال: كفعلهم كتكذيبهم حين كذبوا الرسل. وقرأ قول الله: {مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ} أن يصيبكم مثل الذي أصابهم علـيه من عذاب الله. قال: الدأب: العمل.
5366ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا أبو تـميـلة يحيـى بن واضح, عن أبـي حمزة, عن جابر, عن عكرمة ومـجاهد فـي قوله: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} قال: كفعل آل فرعون, كشأن آل فرعون.
5367ـ حدثت عن الـمنـجاب, قال: حدثنا بشر بن عمارة, عن أبـي روق, عن الضحاك, عن ابن عبـاس فـي قوله: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} قال: كصنع آل فرعون.
وقال آخرون: معنى ذلك: كتكذيب آل فرعون. ذكر من قال ذلك:
5368ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذّبُوا بِآيَاتِنَا فَأخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ} ذكر الذين كفروا وأفعال تكذيبهم كمثل تكذيب الذين من قبلهم فـي الـجحود والتكذيب.
وأصل الدأب من دأبت فـي الأمر دأْبـا: إذا أدمنت العمل والتعب فـيه. ثم إن العرب نقلت معناه إلـى الشأن والأمر والعادة, كما قال امرؤ القـيس بن حجر:
وَإِنّ شِفـائي عَبْرَةٌ مُهَرَاقَةٌفَهَلْ عندَ رَسْمٍ دَارِسٍ من مُعَوّلِ
كَدأْبِكَ مِنْ أُم الـحُوَيْرِث قَبْلَهاوَجارَتِها أُمّ الرّبـابِ بِـمأْسَل
يعنـي بقوله كدأبك: كشأنك وأمرك وفعلك, يقال منه: هذا دأبـي ودأبك أبدا, يعنـي به: فعلـي وفعلك وأمري وأمرك, وشأنـي وشأنك, يقال منه: دأبت دووبـا ودَأْبـا. وحكي عن العرب سماعا: دأبت دَأَبـا مثقلة مـحركة الهمزة, كما قـيـل هذا شعَر وبهَر, فتـحرك ثانـيه لأنه حرف من الـحروف الستة, فألـحق الدأب إذ كان ثانـيه من الـحروف الستة, كما قال الشاعر:
لَهُ نَعْلٌ لاَ يَطّبِـي الكَلْبَ رِيحُهاوَإِنْ وُضِعَتْ بَـيْنَ الـمَـجالِسِ شُمّتِ
وأما قوله: {وَاللّهُ شَدِيدُ العِقَابِ} فإنه يعنـي به: والله شديد عقابه لـمن كفر به وكذّب رسله بعد قـيام الـحجة علـيه.
الآية : 12-13
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{قُلْ لّلّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَىَ جَهَنّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ * قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَىَ كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللّهُ يُؤَيّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ إِنّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لاُوْلِي الأبْصَارِ }
اختلفت القراء فـي ذلك فقرأه بعضهم: {قُلْ لِلّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُـحْشَرُونَ} بـالتاء علـى وجه الـخطاب للذين كفروا بأنهم سيغلبون. واحتـجوا لاختـيارهم قراءة ذلك بـالتاء بقوله: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِـي فِئَتَـيْنِ} قالوا: ففـي ذلك دلـيـل علـى أن قوله: {سَتُغْلَبُونَ} كذلك خطاب لهم. وذلك هو قراءة عامة قرّاء الـحجاز والبصرة وبعض الكوفـيـين. وقد يجوز لـمن كانت نـيته فـي هذه الاَية أن الـموعودين بأن يغلبوا هم الذين أمر النبـيّ صلى الله عليه وسلم بأن يقول ذلك لهم أن يقرأه بـالـياء والتاء, لأن الـخطاب الوحي حين نزل لغيرهم, فـيكون نظير قول القائل فـي الكلام: قلت للقوم إنكم مغلوبون, وقلت لهم إنهم مغلوبون. وقد ذكر أن فـي قراءة عبد الله: «قُلْ لِلّذِينَ كَفَرُوا إِنْ تَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَكُمْ» وهي فـي قراءتنا: {إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ}. وقرأت ذلك جماعة من قراء أهل الكوفة: «سيغلبوون ويحشرون» علـى معنى: قل للـيهود سيغلب مشركو العرب ويحشرون إلـى جهنـم. ومن قرأ ذلك كذلك علـى هذا التأويـل لـم يجز فـي قراءته غير الـياء.
والذي نـختار من القراءة فـي ذلك قراءة من قرأه بـالتاء, بـمعنى: قل يا مـحمد للذين كفروا من يهود بنـي إسرائيـل الذين يتبعون ما تشابه من آي الكتاب الذي أنزلته إلـيك ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويـله, ستغلبون وتـحشرون إلـى جهنـم وبئس الـمهاد.
وإنـما اخترنا قراءة ذلك كذلك علـى قراءته بـالـياء لدلالة قوله: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِـي فِئَتَـيْنِ} علـى أنهم بقوله ستغلبون مخاطبون خطابهم بقوله: قد كان لكم, فكان إلـحاق الـخطاب بـمثله من الـخطاب أولـى من الـخطاب بخلافه من الـخبر عن غائب. وأخرى أن:
5369ـ أبـا كريب حدثنا, قال: حدثنا يونس بن بكير, عن مـحمد بن إسحاق, قال: ثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد, عن سعيد بن جبـير أو عكرمة, عن ابن عبـاس, قال: لـما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا يوم بدر فقدم الـمدينة, جمع يهود فـي سوق بنـي قـينقاع فقال: «يا مَعْشَرَ يَهُودَ, أسْلِـمُوا قَبْلَ أنْ يُصِيبَكُمْ مِثْل أصَابَ قُرَيشا», فقالوا: يا مـحمد لا تغرّنك نفسك إنك قتلت نفرا من قريش كانوا أغمارا لا يعرفون القتال, إنك والله لو قاتلتنا لعرفت أنا نـحن الناس, وأنك لـم تأت مثلنا! فأنزل الله عزّ وجلّ فـي ذلك من قولهم: {قُلْ لِلّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُـحْشَرُونَ إلـى جَهَنّـمَ وَبِئْسَ الـمِهادُ} إلـى قوله: {لأُولِـي الأبْصَارِ}.
5370ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, قال: حدثنا مـحمد بن إسحاق, عن عاصم بن عمر بن قتادة, قال: لـما أصاب الله قريشا يوم بدر, جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود فـي سوق بنـي قـينقاع حين قدم الـمدينة, ثم ذكر نـحو حديث أبـي كريب, عن يونس.
5371ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قال: كان من أمر بنـي قـينقاع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمعهم بسوق بنـي قـينقاع, ثم قال: «يا مَعْشَرَ الـيَهُودِ احْذَرُوا مِنَ اللّهِ مِثْلَ مَا نَزَلَ بِقُرَيْشٍ مِنَ النّقْمَةِ, وَأَسْلِـمُوا فَـإِنّكُمْ قَدْ عَرَفْتُـمْ أنّـي نَبِـيّ مُرْسَلٌ تَـجِدُونَ ذلك فـي كِتابِكُمْ, وعَهْدِ الله إِلَـيْكُمْ!» فقالوا: يا مـحمد إنك ترى أنا كقومك, لا يغرنّك أنك لقـيت قوما لا علـم لهم بـالـحرب فأصبت فـيهم فرصة, إنا والله لئن حاربناك لتعلـمنّ أنا نـحن الناس!
5372ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن مـحمد بن إسحاق, عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى آل زيد بن ثابت, عن سعيد بن جبـير أو عكرمة, عن ابن عبـاس, قال: ما نزلت هؤلاء الاَيات إلا فـيهم: {قُلْ لِلّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُـحْشَرُونَ إِلـى جَهَنّـمَ وَبِئْسَ الـمِهَادُ} إلـى: {لأُولِـي الأبْصَار}.
5373ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن عكرمة فـي قوله: {قُلْ لِلّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُـحْشَرُونَ إلـى جَهَنّـمَ وَبِئْسَ الـمِهادُ} قال فنـحاص الـيهودي فـي يوم بدر: لا يغرنّ مـحمدا أن غلب قريشا وقتلهم, إن قريشا لا تـحسن القتال! فنزلت هذه الاَية: {قُلْ لِلّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُـحْشَرُونَ إلـى جَهَنّـمَ وَبِئْسَ الـمِهادُ}.
قال أبو جعفر: فكل هذه الأخبـار تنبىء عن أن الـمخاطبـين بقوله: {سَتُغْلَبُونَ وَتُـحْشَرُونَ إلـى جَهَنّـمَ وَبِئْسَ الـمِهَادُ} هم الـيهود الـمقول لهم: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِـي فِئَتَـيْنِ}... الاَية, وتدل علـى أن قراءة ذلك بـالتاء أولـى من قراءته بـالـياء. ومعنى قوله: {وَتُـحْشَرُونَ} وتـجمعون فتـجلبون إلـى جهنـم. وأما قوله: {وَبِئْسَ الـمِهاد} وبئس الفراش جهنـم التـي تـحشرون إلـيها. وكان مـجاهد يقول كالذي:
5374ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح عن مـجاهد فـي قوله: {وَبِئْسَ الـمِهادُ} قال: بئسما مَهَدوا لأنفسهم.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
يعنـي بذلك جل ثناؤه: قل يا مـحمد للذين كفروا من الـيهود الذين بـين ظهرانـي بلدك: قد كان لكم آية يعنـي علامة ودلالة علـى صدق ما أقول إنك ستغلبون وعبرة, كما:
5375ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ} عبرة وتفكر.
5376ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, مثله, إلا أنه قال: ومتفكّر {فـي فِئَتَـيْنِ} يعنـي فـي فرقتـين وحزبـين. والفئة: الـجماعة من الناس التقتا للـحرب, وإحدى الفئتـين رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن كان معه مـمن شهد وقعة بدر, والأخرى مشركو قريش, فئة تقاتل فـي سبـيـل الله, جماعة تقاتل فـي طاعة الله وعلـى دينه, وهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه, وأخرى كافرة وهم مشركو قريش. كما:
5377ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا يونس بن بكير, عن مـحمد بن إسحاق, قال: ثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت, عن سعيد بن جبـير أو عكرمة, عن ابن عبـاس: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِـي فِئَتَـيْنِ الْتَقَـيَا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِـي سَبِـيـلِ اللّهِ} أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر, {وأُخْرَى كافرَةٌ} فئة قريش الكفـار.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت, عن سعيد بن جبـير أو عكرمة, عن ابن عبـاس, مثله.
5378ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن عكرمة: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِـي فِئَتَـيْنِ الْتَقَـيَا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِـي سَبِـيـلِ اللّهِ} مـحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه, {وأُخرَى كافرَةٌ}: قريش يوم بدر.
5379ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, فـي قوله: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِـي فِئَتَـيْنِ} قال: فـي مـحمد وأصحابه ومشركي قريش يوم بدر.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا الثوريّ, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, فـي قوله: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِـي فِئَتَـيْنِ الْتَقَـيَا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِـي سَبِـيـلِ اللّهِ } قال ذلك يوم بدر, التقـى الـمسلـمون والكفـار.
ورفعت {فِئَةٌ تُقاتِلُ فِـي سَبِـيـلِ اللّهِ} وقد قـيـل قبل ذلك فـي فئتـين, بـمعنى: إحداهما تقاتل فـي سبـيـل الله علـى الابتداء, كما قال الشاعر:
فكنتُ كَذِي رِجْلَـيْنِ: رِجْلٌ صحيحةٌوَرِجْلٌ رَمَى فِـيها الزّمانُ فَشَلّتِ
وكما قال ابن مفرغ:
فكنتُ كذِي رِجْلَـيْنِ: رِجْلٌ صحيحةٌورِجْلٌ بِها رَيْبٌ من الـحَدَثَانِ
فَأمّا التـي صَحّتْ فأزْدُشَنُوءةٍوَأمّا التـي شَلّتْ فأزد عُمَانِ
وكذلك تفعل العرب فـي كل مكرر علـى نظير له قد تقدمه إذا كان مع الـمكرر خبر ترده علـى إعراب الأول مرة وتستأنفه ثانـية بـالرفع, وتنصبه فـي التام من الفعل والناقص, وقد جُرّ ذلك كلّه, فخفض علـى الرد علـى أول الكلام, كأنه يعنـي إذا خفض ذلك فكنت كذي رجلـين كذي رجل صحيحة ورجل سقـيـمة. وكذلك الـخفض فـي قوله: «فئة», جائز علـى الرد علـى قوله: «فـي فئتـين التقتا», فـي فئة تقاتل فـي سبـيـل الله. وهذا وإن كان جائزا فـي العربـية, فلا أستـجيز القراءة به لإجماع الـحجة من القراء علـى خلافه, ولو كان قوله: «فئة» جاء نصبـا كان جائزا أيضا علـى قوله: قد كان لكم آية فـي فئتـين التقتا مختلفتـين.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَرَوْنَهُمْ مِثْلَـيْهِمْ رَأيَ العَيْنِ}.
اختلفت القراء فـي قراءة ذلك, فقرأته قراء أهل الـمدينة: «ترونهم» بـالتاء, بـمعنى: قد كان لكم أيها الـيهود آية فـي فئتـين التقتا, فئة تقاتل فـي سبـيـل الله, والأخرى كافرة, ترون الـمشركين مثلـي الـمسلـمين رأي العين. يريد بذلك عظتهم. يقول: إن لكم عبرة أيها الـيهود فـيـما رأيتـم من قلة عدد الـمسلـمين, وكثرة عدد الـمشركين, وظفر هؤلاء مع قلة عددهم بهؤلاء مع كثرة عددهم. وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة والبصرة وبعض الـمكيـين: {يَرَوْنَهُمْ مِثْلَـيْهِمْ} بـالـياء, بـمعنى: يرى الـمسلـمون الذين يقاتلون فـي سبـيـل الله الـجماعة الكافرة مثلـي الـمسلـمين فـي القدر. فتأويـل الاَية علـى قراءتهم: قد كان لكم يا معشر الـيهود عبرة ومتفكّر فـي فئتـين التقتا, فئة تقاتل فـي سبـيـل الله, وأخرى كافرة, يرى هؤلاء الـمسلـمون مع قلة عددهم هؤلاء الـمشركين فـي كثرة عددهم.
فإن قال قائل: وما وجه تأويـل قراءة من قرأ ذلك بـالـياء, وأي الفئتـين رأت صاحبتها مثلـيها؟ الفئة الـمسلـمة هي التـي رأت الـمشركة مثلـيها, أم الـمشركة هي التـي رأت الـمسلـمة كذلك, أم غيرهما رأت إحداهما كذلك؟ قـيـل: اختلف أهل التأويـل فـي ذلك, فقال بعضهم: الفئة التـي رأت الأخرى مثلـي أنفسها الفئة الـمسلـمة, رأت عدد الفئة الـمشركة مثلـي عدد الفئة الـمسلـمة, قلّلها الله عز وجل فـي أعينها حتـى رأتها مثلـي عدد أنفسها, ثم قللها فـي حال أخرى, فرأتها مثل عدد أنفسها. ذكر من قال ذلك:
5380ـ حدثنا موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي فـي خبر ذكره عن مرة الهمدانـي, عن ابن مسعود: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِـي فِئَتَـيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِـي سَبِـيـلِ اللّهِ وأُخْرَى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَـيْهِمْ رأيَ العَيْنِ} قال: هذا يوم بدر, قال عبد الله بن مسعود: قد نظرنا إلـى الـمشركين, فرأيناهم يضعفون علـينا, ثم نظرنا إلـيهم فما رأيناهم يزيدون علـينا رجلاً واحدا, وذلك قول الله عز وجل: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَـيْتُـمْ فِـي أعْيُنِكُمْ قَلِـيلاً وَيُقَلّلُكُمْ فِـي أعْيُنِهِمْ}.
فمعنى الاَية علـى هذا التأويـل: قد كان لكم يا معشر الـيهود آية فـي فئتـين التقتا: إحداهما مسلـمة, والأخرى كافرة, كثـير عدد الكافرة, قلـيـل عدد الـمسلـمة, ترى الفئة القلـيـل عددها, الكثـير عددها أمثالاً لها أنها تكثرها من العدد بـمثل واحد, فهم يرونهم مثلـيهم, فـيكون أحد الـمثلـين عند ذلك, العدد الذي هو مثل عدد الفئة التـي رأتهم, والـمثل الاَخر: الضعف الزائد علـى عددهم, فهذا أحد معنـيـي التقلـيـل الذي أخبر الله عز وجل الـمؤمنـين أنه قللهم فـي أعينهم¹ والـمعنى الاَخر منه: التقلـيـل الثانـي علـى ما قاله ابن مسعود, وهو أن أراهم عدد الـمشركين مثل عددهم لا يزيدون علـيهم, فذلك التقلـيـل الثانـي الذي قال الله جل ثناؤه: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَـيْتُـمْ فِـي أعْيُنِكُمْ قَلِـيل}.
وقال آخرون من أهل هذه الـمقالة: إن الذين رأوا الـمشركين مثلـي أنفسهم هم الـمسلـمون, غير أن الـمسلـمين رأوهم علـى ما كانوا به من عددهم, لـم يقللوا فـي أعينهم, ولكن الله أيدهم بنصره. قالوا: ولذلك قال الله عز وجل للـيهود: قد كان لكم فـيهم عبرة¹ يخوفهم بذلك أن يحل بهم منهم, مثل الذي حل بأهل بدر علـى أيديهم. ذكر من قال ذلك:
5381ـ حدثنا مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِـي فِئَتَـيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِـي سَبِـيـلِ اللّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ}. أنزلت فـي التـخفـيف يوم بدر, فإنّ الـمؤمنـين كانوا يومئذٍ ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً, وكان الـمشركون مثلـيهم, فأنزل الله عز وجل: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِـي فِئْتَـيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِـي سَبِـيـلِ اللّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَـيْهِمْ رأيَ العَيْنِ} وكان الـمشركون ستة وعشرين وستـمائة, فأيد الله الـمؤمنـين, فكان هذا الذي فـي التـخفـيف علـى الـمؤمنـين.
وهذه الرواية خلاف ما تظاهرت به الأخبـار عن عدة الـمشركين يوم بدر, وذلك أن الناس إنـما اختلفوا فـي عددهم علـى وجهين, فقال بعضهم: كان عددهم ألفـا, وقال بعضهم: ما بـين التسعمائة إلـى الألف. ذكر من قال كان عددهم ألفـا:
5382ـ حدثنـي هارون بن إسحاق الهمدانـي, قال: حدثنا مصعب بن الـمقدام, قال: حدثنا إسرائيـل, قال: حدثنا أبو إسحاق, عن حارثة, عن علـي, قال: سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلـى بدر, فسبقنا الـمشركين إلـيها, فوجدنا فـيها رجلـين, منهم رجل من قريش, ومولـى لعقبة بن أبـي معيط¹ فأما القرشي فـانفلت, وأما مولـى عقبة, فأخذناه, فجعلنا نقول: كم القوم؟ فـيقول: هم والله كثـير شديد بأسهم. فجعل الـمسلـمون إذا قال ذلك صدّقوه, حتـى انتهوا به إلـى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال له: «كَمِ القَوْمُ؟» فقال: هم والله كثـير شديد بأسهم. فجهد النبـي صلى الله عليه وسلم علـى أن يخبرهم كم هم, فأبى. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله: «كَمْ تَنْـحَرُون مِنَ الـجُزُرِ؟» قال: عشرة كل يوم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «القَوْمُ ألْفٌ».
5383ـ حدثنـي أبو سعيد بن يوشع البغدادي, قال: حدثنا إسحاق بن منصور, عن إسرائيـل, عن أبـي إسحاق, عن أبـي عبـيدة عن عبد الله, قال: أسرنا رجلاً منهم ـ يعنـي من الـمشركين يوم بدر ـ فقلنا: كم كنتـم؟ قال: ألفـا.
ذكر من قال: كان عددهم ما بـين التسعمائة إلـى الألف:
5384ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, قال: قال ابن إسحاق: ثنـي يزيد بن رومان, عن عروة بن الزبـير قال: بعث النبـي صلى الله عليه وسلم نفرا من أصحابه إلـى ماء بدر يـلتـمسون الـخبر له علـيه, فأصابوا راوية من قريش فـيها أسلـم غلام بنـي الـحجاج, وعريض أبو يسار غلام بنـي العاص, فأتوا بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لهما: «كَمِ القَوْم؟» قالا: كثـير. قال: «ما عِدّتُهُمْ؟» قالا: لا ندري. قال: «كَمْ تَنْـحَرُونَ كُلّ يَوْمٍ؟» قالا: يوما تسعا ويوما عشرا, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «القَوْمُ مَا بَـيْنَ التّسْعِمَائَةِ إلـى الألْفِ».
5385ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِـي فَئَتَـيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِـي سَبِـيـلِ اللّهِ وأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَـيهِمْ رأيَ العَيْنِ} ذلكم يوم بدر ألف الـمشركون, أو قاربوا, وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً.
5386ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِـي فِئَتَـيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ} إلـى قوله: {رأيَ العَيْنِ} قال: يضعفون علـيهم فقتلوا منهم سبعين وأسروا سبعين يوم بدر.
5387ـ حدثنا الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع فـي قوله: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِـي فِئَتَـيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِـي سَبِـيـلِ اللّهِ وَأُخْرَى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَـيْهِمْ رأيَ العَيْنِ} قال: كان ذلك يوم بدر, وكان الـمشركون تسعمائة وخمسين, وكان أصحاب مـحمد صلى الله عليه وسلم ثلاثمائة وثلاثة عشر.
5388ـ حدثنـي القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, قال: قال ابن جريج, كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثمائة وبضعة عشر, والـمشركون ما بـين التسعمائة إلـى الألف.
فكل هؤلاء الذين ذكرنا مخالفون القول الذي رويناه عن ابن عبـاس فـي عدد الـمشركين يوم بدر. فإذا كان ما قاله من حكيناه مـمن ذكر أن عددهم كان زائدا علـى التسعمائة, فـالتأويـل الأول الذي قلناه علـى الرواية التـي روينا عن ابن مسعود أولـى بتأويـل الاَية.
وقال آخرون: كان عدد الـمشركين زائدا علـى التسعمائة, فرأى الـمسلـمون عددهم علـى غير ما كانوا به من العدد, وقالوا: أرى الله الـمسلـمين عدد الـمشركين قلـيلاً آية للـمسلـمين. قالوا: وإنـما عنى الله عز وجل بقوله: {يَرَوْنَهُمْ مِثْلَـيْهِمْ} الـمخاطبـين بقوله: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِـي فِئَتَـيْنِ} قالوا: وهم الـيهود غير أنه رجع من الـمخاطبة إلـى الـخبر عن الغائب, لأنه أمر من الله جل ثناؤه لنبـيه صلى الله عليه وسلم أن يقول ذلك لهم, فحسن أن يخاطب مرة, ويخبر عنهم علـى وجه الـخبر مرة أخرى, كما قال: {حتـى إذَا كُنْتُـمْ فِـي الفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيّبَةٍ}.
وقالوا: فإن قال لنا قائل: فكيف قـيـل: {يَرَوْنَهُمْ مِثْلَـيْهِمْ رَأيَ العَيْنِ} وقد علـمتـم أن الـمشركين كانوا يومئذٍ ثلاثة أمثال الـمسلـمين؟ قلنا لهم: كما يقول القائل وعنده عبد: أحتاج إلـى مثله, أنا مـحتاج إلـيه وإلـى مثله, ثم يقول: أحتاج إلـى مثلـيه, فـيكون ذلك خبرا عن حاجته إلـى مثله وإلـى مثلـي ذلك الـمثل, وكما يقول الرجل: معي ألف وأحتاج إلـى مثلـيه, فهو مـحتاج إلـى ثلاثة¹ فلـما نوى أن يكون الألف داخلاً فـي معنى الـمثل, صار الـمثل أشرف والاثنان ثلاثة, قال: ومثله فـي الكلام: أراكم مثلكم, كما يقال: إن لكم ضعفكم, وأراكم مثلـيكم, يعنـي أراكم ضعفـيكم, قالوا: فهذا علـى معنى ثلاثة أمثالهم.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أن الله أرى الفئة الكافرة عدد الفئة الـمسلـمة مثلـي عددهم. وهذا أيضا خلاف ما دل علـيه ظاهر التنزيـل, لأن الله جل ثناؤه قال فـي كتابه: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إذِ الْتَقَـيْتُـمْ فِـي أعْيُنِكُمْ قَلِـيلاً وَيُقَلّلُكُمْ فِـي أعْيُنِهِمْ} فأخبر أن كلاً من الطائفتـين قُلل عددهم فـي مرأى الأخرى.
وقرأ آخرون ذلك: «تُرَوْنَهم» بضم التاء, بـمعنى: يريكموهم الله مثلـيهم.
(وأولـى هذه القراءات بـالصواب قراءة من قرأ: {يَرَوْنَهُمْ} بـالـياء, بـمعنى: وأخرى كافرة, يراهم الـمسلـمون مثلـيهم, يعنـي: مثلـي عدد الـمسلـمين, لتقلـيـل الله إياهم فـي أعينهم فـي حال, فكان حزرهم إياهم كذلك, ثم قللهم فـي أعينهم عن التقلـيـل الأول, فحزروهم مثل عدد الـمسلـمين, ثم تقلـيلاً ثالثا, فحزروهم أقل من عدد الـمسلـمين.) كما:
5389ـ حدثنـي أبو سعيد البغدادي, قال: حدثنا إسحاق بن منصور, عن إسرائيـل, عن أبـي إسحاق, عن أبـي عبـيدة, عن عبد الله, قال: لقد قللوا فـي أعيننا يوم بدر حتـى قلت لرجل إلـى جنبـي: تراهم سبعين؟ قال: أراهم مائة. قال: فأسرنا رجلاً منهم, فقلنا كم كنتـم؟ قال: ألفـا.
وقد رُوي عن قتادة أنه كان يقول: لو كانت «تُرونهم», لكانت «مثلـيكم».
5390ـ حدثنـي الـمثنى, قال: ثنـي عبد الرحمن بن أبـي حماد, عن ابن الـمعرك, عن معمر, عن قتادة بذلك.
ففـي الـخبرين اللذين روينا عن عبد الله بن مسعود ما أبـان عن اختلاف حزر الـمسلـمين يومئذٍ عدد الـمشركين فـي الأوقات الـمختلفة, فأخبر الله عز وجل ـ عما كان من اختلاف أحوال عددهم عند الـمسلـمين ـ الـيهود علـى ما كان به عندهم, مع علـم الـيهود بـمبلغ عدد الفئتـين, إعلاما منه لهم أنه مؤيد الـمؤمنـين بنصره, لئلا يغتروا بعددهم وبأسهم, ولـيحذروا منه أن يحل بهم من العقوبة علـى أيدي الـمؤمنـين, مثل الذي أحل بأهل الشرك به من قريش علـى أيديهم ببدرهم.
وأما قوله: {رأيَ العَيْنِ} فإنه مصدر رأيته, يقال: رأيته رَأْيا ورؤية, ورأيت فـي الـمنام رؤيَا حسنة غير مُـجْراة, يقال: هو منـي رأي العين ورأي العين بـالنصب والرفع, يراد حيث يقع علـيه بصري, وهو من الرائي مثله, والقوم رأوا إذا جلسوا حيث يرى بعضهم بعضا. فمعنى ذلك: يرونهم حيث تلـحقهم أبصارهم, وتراهم عيونهم مثلـيهم.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَاللّهُ يُوءَيّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنّ فِـي ذَلِكَ لَعْبَرَةً لأُولِـي الأبْصَارِ}.
يعنـي بقوله جل ثناؤه: {واللّهُ يُوءَيّد}: يقوّي بنصره من يشاء, من قول القائل: قد أيدت فلانا بكذا: إذا قويته وأعنته, فأنا أؤيده تأيـيدا, و«فعلت» منه: إدْتُه فأنا أئيده أيدا¹ ومنه قول الله عز وجل: {وَاذْكُرْ عَبْدَنا دَاوُدَ ذَا الأيْدِ} يعنـي ذا القوة.
وتأويـل الكلام: قد كان لكم آية يا معشر الـيهود فـي فئتـين التقتا: إحداهما تقاتل فـي سبـيـل الله, وأخرى كافرة, يراهم الـمسلـمون مثلـيهم رأي أعينهم, فأيدنا الـمسلـمة وهم قلـيـل عددهم, علـى الكافرة وهم كثـير عددهم حتـى ظفروا بهم معتبر ومتفكر, والله يقوي بنصره من يشاء. وقال جل ثناؤه: إن فـي ذلك: يعنـي إن فـيـما فعلنا بهؤلاء الذين وصفنا أمرهم من تأيـيدنا الفئة الـمسلـمة مع قلة عددهم, علـى الفئة الكافرة مع كثرة عددها {لَعِبْرَةً} يعنـي لـمتفكرا ومتعظا لـمن عقل وادّكر فأبصر الـحق. كما:
5391ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: {إِنّ فِـي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِـي الأبْصَارِ} يقول: لقد كان لهم فـي هؤلاء عبرة وتفكر, أيدهم الله ونصرهم علـى عدوهم.
5392ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع مثله.
الآية : 14
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{زُيّنَ لِلنّاسِ حُبّ الشّهَوَاتِ مِنَ النّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذّهَبِ وَالْفِضّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوّمَةِ وَالأنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَاللّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ }
يعنـي تعالـى ذكره: (زين للناس مـحبة ما يشتهون من النساء والبنـين وسائر ما عدّ. وإنـما أراد بذلك توبـيخ الـيهود الذين آثروا الدنـيا وحبّ الرياسة فـيها علـى اتبـاع مـحمد صلى الله عليه وسلم بعد علـمهم بصدقه. وكان الـحسن يقول: من زَيْنها ما أحدٌ أشدّ لها ذما من خالقها.)
5393ـ حدثنـي بذلك أحمد بن حازم: قال: حدثنا أبو نعيـم, قال: حدثنا أبو الأشعث, عنه.
5394ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن عطاء, عن أبـي بكر بن حفص بن عمر بن سعد, قال: قال عمر: لـما نزل: {زُيّنَ للنّاسِ حُبّ الشّهَوَاتِ} قلت: الاَن يا ربّ حين زينتها لنا! فنزلت: {قُلْ أَؤنَبّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلّذِينَ اتّقَوْا عِنْدَ رَبّهِمْ جَنّاتٌ تَـجْرِي مِنْ تَـحْتِهَا الأنْهارُ}... الاَية.
وأما القناطير: فإنها جمع القنطار.
واختلف أهل التأويـل فـي مبلغ القنطار, فقال بعضهم: هو ألف ومائتا أوقـية. ذكر من قال ذلك:
5395ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان, عن أبـي حصين, عن سالـم بن أبـي الـجعد, عن معاذ بن جبل, قال: القنطار: ألف ومائتا أوقـية.
حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا أبو بكر بن عياش, قال: حدثنا أبو حصين, عن سالـم بن أبـي الـجعد, عن معاذ, مثله.
5396ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرنا, يعنـي حفص بن ميسرة, عن أبـي مروان, عن أبـي طيبة, عن ابن عمر, قال: القنطار: ألف ومائتا أوقـية.
5397ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم, قال: حدثنا قاسم بن مالك الـمزنـي, قال: أخبرنـي العلاء بن الـمسيب, عن عاصم بن أبـي النّـجود, قال: القنطار: ألف ومائتا أوقـية.
5398ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهديّ, قال: حدثنا حماد بن زيد, عن عاصم بن بهدلة, عن أبـي صالـح, عن أبـي هريرة, مثله.
5399ـ حدثنـي زكريا بن يحيـى الصديق, قال: حدثنا شبـابة, قال: حدثنا مخـلد بن عبد الواحد, عن علـيّ بن زيد عن عطاء بن أبـي ميـمونة, عن زرّ بن حبـيش, عن أبـيّ بن كعب, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «القِنْطَارُ ألْفُ أُوقِـيّةٍ وَمِائَتا أُوقِـيّة».
وقال آخرون: القنطار: ألف دينار ومائتا دينار. ذكر من قال ذلك:
5400ـ حدثنا عمران بن موسى, قال: حدثنا عبد الوارث بن سعيد, قال: حدثنا يونس عن الـحسن, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «القِنْطَارُ ألْفٌ وَمِائَتا دِينارٍ».
5401ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا يونس, عن الـحسن, قال: القنطار: ألف ومائتا دينار.
5402ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: حدثنا أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس قال: القنطار ألف ومائتا دينار, ومن الفضة ألف ومائتا مثقال.
5403ـ حدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ, قال: أخبرنا عبـيد بن سلـمان, قال: سمعت الضحاك بن مزاحم يقول: القناطير الـمقنطرة, يعنـي: الـمال الكثـير من الذهب والفضة, والقنطار: ألف ومائتا دينار, ومن الفضة: ألف ومائتا مثقال.
وقال آخرون: القنطار: اثنا عشر ألف درهم, أو ألف دينار. ذكر من قال ذلك:
5404ـ حدثنـي علـيّ بن داود, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قال: القنطار: اثنـي عشر ألف درهم, أو ألف دينار.
5405ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عمرو بن عون, قال: أخبرنا هشيـم, عن جويبر, عن الضحاك, قال: القنطار: ألف دينار, ومن الورِق: اثنا عشر ألف درهم.
5406ـ حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, عن الـحسن: أن القنطار اثنا عشر ألفـا.
حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: أخبرنا عوف, عن الـحسن: القنطار: اثنا عشر ألفـا.
حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عوف, عن الـحسن: اثنا عشر ألفـا.
حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الأعلـى, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, عن الـحسن بـمثل.
5407ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عمرو بن عون, قال: أخبرنا هشيـم, عن عوف, عن الـحسن, قال: القنطار: ألف دينار, دية أحدكم.
وقال آخرون: هو ثمانون ألفـا من الدراهم, أو مائة رطل من الذهب. ذكر من قال ذلك:
5408ـ حدثنا مـحمد بن بشار ومـحمد بن الـمثنى, قالا: حدثنا يحيـى بن سعيد, عن سلـيـمان التـيـمي, عن قتادة, عن سعيد بن الـمسيب, قال: القنطار, ثمانون ألفـا.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عمرو بن عون, قال: أخبرنا هشيـم, عن علـي بن زيد, عن سعيد بن الـمسيب, قال: القنطار: ثمانون ألفـا.
5409ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قال: كنا نـحدث أن القنطار مائة رطل من ذهب, أو ثمانون ألفـا من الورِق.
حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, قال: القنطار: مائة رطل من ذهب, أو ثمانون ألف درهم من وَرِق.
5410ـ حدثنا أحمد بن حازم, قال: حدثنا أبو نعيـم, قال: حدثنا سفـيان, عن إسماعيـل, عن أبـي صالـح, قال: القنطار: مائة رطل.
5411ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: القنطار يكون مائة رطل, وهو ثمانـية آلاف مثقال.
وقال آخرون: القنطار سبعون ألفـا. ذكر من قال ذلك:
5412ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله: {القَنَاطِيرِ الـمُقَنْطَرَةِ} قال: القنطار: سبعون ألف دينار.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
5413ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا عمر بن حوشب, قال: سمعت عطاء الـخراسانـي, قال: سئل ابن عمر عن القنطار, فقال: سبعون ألفـا.
وقال آخرون: هي ملء مَسْك ثور ذهبـا. ذكر من قال ذلك:
5414ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا سالـم بن نوح, قال: حدثنا سعيد الـجريري, عن أبـي نضرة, قال: ملء مسك ثور ذهبـا.
حدثنـي أحمد بن حازم, قال: حدثنا أبو نعيـم, قال: حدثنا أبو الأشعث, عن أبـي نضرة: ملء مسك ثور ذهبـا.
وقال آخرون: هو الـمال الكثـير. ذكر من قال ذلك:
5415ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع بن أنس, قال: {القناطير الـمقنطرة}: الـمال الكثـير بعضه علـى بعض.
وقد ذكر بعض أهل العلـم بكلام العرب أن العرب لا تـحدّ القنطار بـمقدار معلوم من الوزن, ولكنها تقول: هو قدر ووزن. وقد ينبغي أن يكون ذلك كذلك, لأن ذلك لو كان مـحدودا قدره عندها لـم يكن بـين متقدمي أهل التأويـل فـيه كل هذا الاختلاف.
(فـالصواب فـي ذلك أن يقال: هو الـمال الكثـير, كما قال الربـيع بن أنس, ولا يحدّ قدر وزنه بحدّ علـى تعنف, وقد قـيـل ما قـيـل مـما روينا. وأما الـمقنطرة: فهي الـمضعفة, وكأن القناطير ثلاثة والـمقنطرة تسعة, وهو كما قال الربـيع بن أنس: الـمال الكثـير بعضه علـى بعض.) كما:
5416ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: القناطير الـمقنطرة من الذهب والفضة: والـمقنطرة الـمال الكثـير بعضه علـى بعض.
5417ـ حدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ, قال: أخبرنا عبـيد بن سلـمان, قال: سمعت الضحاك فـي قوله: {القَنَاطِير الـمُقَنْطَرة}: يعنـي الـمال الكثـير من الذهب والفضة.
وقال آخرون: معنى الـمقنطرة: الـمضروبة دراهم أو دنانـير. ذكر من قال ذلك:
5418ـ حدثنا موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: أما قوله: {الـمُقْنَطَرَة} فـيقول: الـمضروبة حتـى صارت دنانـير أو دراهم.
وقد رُوي عن النبـي صلى الله عليه وسلم فـي قوله: {وآتَـيْتُـمْ إحْدَاهُنّ قِنْطار} خبر لو صح سنده لـم نعده إلـى غيره, وذلك ما:
5419ـ حدثنا به ابن عبد الرحمن البرقـي, قال: ثنـي عمرو بن أبـي سلـمة, قال: حدثنا زهير بن مـحمد, قال: ثنـي أبـان بن أبـي عياش وحميد الطويـل, عن أنس بن مالك, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وآتَـيْتُـمْ إحْدَاهُنّ قِنْطار} قال: «ألْفَـا مِئِين». يعنـي ألفـين.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {والـخَيْـلُ الـمُسَوّمَةِ}.
اختلف أهل التأويـل فـي معنى الـمسوّمة, فقال بعضهم: هي الراعية. ذكر من قال ذلك:
5420ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن سفـيان, عن حبـيب بن أبـي ثابت, عن سعيد بن جبـير: الـخيـل الـمسوّمة, قال: الراعية التـي ترعى.
حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان, عن حبـيب, عن سعيد بن جبـير, مثله.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو نعيـم, قال: حدثنا سفـيان, عن حبـيب, عن سعيد بن جبـير, مثله.
حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا سفـيان, عن حبـيب بن أبـي ثابت, عن سعيد بن جبـير: هي الراعية, يعنـي السائمة.
5421ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن طلـحة القناد, قال: سمعت عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى يقول: الراعية.
5422ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس: {والـخَيْـلِ الـمُسَوّمَةِ} قال: الراعية.
5423ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, عن الـحسن: {والـخَيْـلِ الـمُسَوّمَةِ} الـمسرّحة فـي الرعي.
5424ـ حدثت عن عمار بن الـحسن, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع قوله: {والـخَيْـلِ الـمُسَوّمَةِ} قال: الـخيـل الراعية.
5425ـ حدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن لـيث, عن مـجاهد أنه كان يقول: الـخيـل الراعية.
وقال آخرون: الـمسوّمة: الـحسان. ذكر من قال ذلك:
5426ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان, عن حبـيب, قال: قال مـجاهد: الـمسوّمة: الـمطهمة.
حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا الثوري, عن حبـيب بن أبـي ثابت, عن مـجاهد فـي قوله: {وَالـخَيْـلِ الـمُسَوّمَةِ} قال: الـمطهمة الـحسان.
حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قوله: {وَالـخَيْـلِ الـمُسَوّمَةِ} قال: الـمطهمة حسنا.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيج, عن مـجاهد, مثله.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو نعيـم, قال: حدثنا سفـيان, عن حبـيب, عن مـجاهد: الـمطهمة.
5427ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا أبو عبد الرحمن الـمقري, قال: حدثنا سعيد بن أبـي أيوب, عن بشير بن أبـي عمرو الـخولانـي, قال: سألت عكرمة عن الـخيـل الـمسوّمة, قال: تسويـمها: حسنها.
حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرنـي سعيد بن أبـي أيوب, عن بشير بن أبـي عمرو الـخولانـي, قال: سمعت عكرمة يقول: {الـخَيْـلِ الـمُسَوّمَةِ} قال: تسويـمها: الـحسن.
5428ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: {وَالـخَيْـلِ الـمُسَوّمَةِ والأنْعَامِ} الرائعة.
وقد حدثنـي بهذا الـحديث عن عمرو بن حماد غير موسى, قال: الراعية.
وقال آخرون: {الـخَيْـلِ الـمُسَوّمَةِ} الـمعلـمة. ذكر من قال ذلك:
5429ـ حدثنـي علـيّ بن داود, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس: {والـخَيْـلِ الـمُسَوّمَةِ} يعنـي: الـمعلـمة.
5430ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: {والـخَيْـلِ الـمُسَوّمَةِ} وسيـماها شِيَتها.
حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله: {والـخَيْـلِ الـمُسَوّمَةِ} قال: شية الـخيـل فـي وجوهها.
وقال غيرهم: الـمسوّمة: الـمعدّة للـجهاد. ذكر من قال ذلك:
5431ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد {وَالـخَيْـلِ الـمُسَوّمَةِ} قال: الـمعدة للـجهاد.
قال أبو جعفر: أولـى هذه الأقوال بـالصواب فـي تأويـل قوله: {والـخَيْـلِ الـمُسَوّمَةِ} الـمعلـمة بـالشيات الـحسان الرائعة حسنا من رآها, لأن التسويـم فـي كلام العرب: هو الإعلام, فـالـخيـل الـحسان معلـمة بإعلام إياها بـالـحسن من ألوانها وشياتها وهيئاتها, وهي الـمطهمة أيضا, ومن ذلك قول نابغة بنـي ذبـيان فـي صفة الـخيـل:
بِسُمْرٍ كالْقِدَاحٍ مُسَوّماتٍعلـيها مَعْشَرٌ أشبـاهُ جِنّ
يعنـي بـالـمسوّمات: الـمعلـمات¹ وقول لبـيد:
وَغَدَاةَ قَاعِ القُرْنَتَـيْنِ أتَـيْنَهُمْ
زُجَلاً يَـلُوحُ خِلالَها التّسْويـمُ
فمعنى تأويـل من تأول ذلك: الـمطهمة, والـمعلـمة, والرائعة واحد. وأما قول من تأوّله بـمعنى الراعية فإنه ذهب إلـى قول القائل: أسَمْتُ الـماشية فأنا أُسيـمها إسامة: إذا رعيتها الكلأ والعشب, كما قال الله عزّ وجلّ: {ومنهُ شجرٌ فِـيهِ تسيـمونَ} بـمعنى ترعون, ومنه قول الأخطل:
مثلِ ابن بَزْعَةَ أو كآخَرَ مِثْلِهِأوْلـى لكَ ابنَ مُسِيـمَةِ الأجْمالِ
يعنـي بذلك راعية الأجمال, فإذا أريد أن الـماشية هي التـي رعت, قـيـل: سامت الـماشية تسوم سوما, ولذلك قـيـل: إبل سائمة, بـمعنى راعية, غير أنه مستفـيض فـي كلامهم سوّمت الـماشية, بـمعنى أرعيتها, وإنـما يقال إذا أريد ذلك: أسمتها. فإذا كان ذلك كذلك, فتوجيه تأويـل الـمسوّمة إلـى أنها الـمعلـمة بـما وصفنا من الـمعانـي التـي تقدم ذكرها أصحّ. وأما الذي قاله ابن زيد من أنها الـمعدّة فـي سبـيـل الله, فتأويـل من معنى الـمسوّمة بـمعزل.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {والأنْعامِ والـحَرْثِ}.
(فـالأنعام جمع نعم: وهي الأزواج الثمانـية التـي ذكرها فـي كتابه من الضأن والـمعز والبقر والإبل. وأما الـحرث: فهو الزرع. وتأويـل الكلام: زين للناس حبّ الشهوات من النساء ومن البنـين, ومن كذا ومن كذا, ومن الأنعام والـحرث.)
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {ذَلِكَ مَتاعُ الـحَيَاةِ الدّنْـيا وَاللّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الـمآبِ}.
يعنـي بقوله جل ثناؤه: ذلك جميع ما ذكر فـي هذه الاَية من النساء والبنـين, والقناطير الـمقنطرة من الذهب والفضة, والـخيـل الـمسوّمة, والأنعام والـحرث, فكنى بقوله «ذلك» عن جميعهن, وهذا يدلّ علـى أن «ذلك» يشتـمل علـى الأشياء الكثـيرة الـمختلفة الـمعانـي, ويكنى به عن جميع ذلك. وأما قوله: {مَتاعُ الـحَيَاةِ الدّنْـي} فإنه خبر من الله عن أن ذلك كله مـما يستـمتع به فـي الدنـيا أهلها أحياء, فـيتبلغون به فـيها, ويجعلونه وصلة فـي معايشهم, وسببـا لقضاء شهواتهم, التـي زين لهم حبها, فـي عاجل دنـياهم, دون أن يكون عدّة لـمعادهم, وقربة لهم إلـى ربهم, إلا ما أسلك فـي سبـيـله, وأنفق منه فـيـما أمر به.
وأما قوله: {وَاللّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الـمآبِ} فإنه يعنـي بذلك جل ثناؤه: وعند الله حسن الـمآب, يعنـي حسن الـمرجع. كما:
5432ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: {وَاللّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الـمآبِ} يقول: حسن الـمنقلب, وهي الـجنة.
وهو مصدر علـى مثال مفْعَل, من قول القائل: آب الرجل إلـينا: إذا رجع, فهو يؤوب إيابـا وأوبة وأيبة ومآبـا, غير أن موضع الفـاء منها مهموز, والعين مبدلة من الواو إلـى الألف بحركتها إلـى الفتـح, فلـما كان حظها الـحركة إلـى الفتـح, وكانت حركتها منقولة إلـى الـحرف الذي قبلها وهو فـاء الفعل انقلبت فصارت ألفـا, كما قـيـل: قال: فصارت عين الفعل ألفـا, لأن حظها الفتـح والـمآب, مثل الـمقال والـمعاد والـمـحال, كل ذلك مَفْعَلْ, منقولة حركة عينه إلـى فـائه, فتصير وواه أو ياؤه ألفـا لفتـحة ما قبلها.
فإن قال قائل: وكيف قـيـل: {وَاللّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الـمآبِ} وقد علـمت ما عنده يومئذٍ من ألـيـم العذاب وشديد العقاب؟ قـيـل: إن ذلك معنـيّ به خاصّ من الناس, ومعنى ذلك: والله عنده حسن الـمآب للذين اتقوا ربهم, وقد أنبأنا عن ذلك فـي هذه الاَية التـي تلـيها. فإن قال: وما حسن الـمآب؟ قـيـل: هو ما وصفه به جلّ ثناؤه, وهو الـمرجع إلـى جنات تـجري من تـحتها الأنهار مخـلدا فـيها, وإلـى أزواج مطهرة ورضوان من الله.
الآية : 15
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{قُلْ أَؤُنَبّئُكُمْ بِخَيْرٍ مّن ذَلِكُمْ لِلّذِينَ اتّقَوْا عِندَ رَبّهِمْ جَنّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مّطَهّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ }
يعنـي جلّ ثناؤه: قل يا مـحمد للناس الذين زين لهم حبّ الشهوات, من النساء والبنـين, وسائر ما ذكر جلّ ثناؤه: {أؤنبّئكم} أأخبركم وأعلـمكم {بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ} يعنـي بخير وأفضل لكم. {مِنْ ذَلِكُمْ} يعنـي مـما زين لكم فـي الدنـيا حبّ شهوته من النساء والبنـين والقناطير الـمقنطرة من الذهب والفضة, وأنواع الأموال التـي هي متاع الدنـيا.
ثم اختلف أهل العربـية فـي الـموضع الذي تناهى إلـيه الاستفهام من هذا الكلام, فقال بعضهم: تناهى ذلك عند قوله: {مِنْ ذَلِكُمْ} ثم ابتدأ الـخبر عما {لِلّذِينَ اتّقَوْا عِنْدَ رَبّهِمْ} فقـيـل: للذين اتقوا عند ربهم جنات تـجري من تـحتها الأنهار خالدين فـيها, فلذلك رفع «الـجنات». ومن قال هذا القول, لـم يُجِز فـي قوله: {جَنّاتٌ تَـجْرِي مِنْ تَـحْتِها الأنهارُ} إلا الرفع, وذلك أنه خبر مبتدإ غير مردود علـى قوله بخير, فـيكون الـخفض فـيه جائزا. وهو وإن كان خبرا مبتدأ عندهم, ففـيه إبـانة عن معنى الـخير الذي أمر الله عزّ وجلّ نبـيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للناس أؤنبئكم به؟ والـجنات علـى هذا القول مرفوعة بـاللام التـي فـي قوله: {لِلّذِينَ اتّقَوْا عنْدَ رَبّهِمْ}.
وقال آخرون منهم بنـحو من هذا القول, إلا أنهم قالوا: إن جعلت اللام التـي فـي قوله «للذين» من صلة الإنبـاء جاز فـي الـجنات الـخفض والرفع: الـخفض علـى الردّ علـى «الـخير», والرفع علـى أن يكون قوله: {لِلّذِينَ اتّقُو} خبر مبتدإ علـى ما قد بـيناه قبل.
وقال آخرون: بل منتهى الاستفهام قوله: {عِنْدَ رَبّهِمْ} ثم ابتدأ: {جَنّاتٌ تَـجرِي مِنْ تَـحتِها الأنهَارُ} وقالوا: تأويـل الكلام: قل أؤنبئكم بخير من ذلكم؟ للذين اتقوا عند ربهم, ثم كأنه قـيـل: ماذا لهم, أو ما ذاك؟ أو علـى أنه يقال: ماذا لهم أو ما ذاك؟ فقال: هو جنات تـجري من تـحتها الأنهار... الاَية.
وأولـي هذه الأقوال عندي بـالصواب قول من جعل الاستفهام متناهيا عند قوله: {بِخَيرٍ مِنْ ذَلِكُمْ} والـخبر بعده مبتدأ عمن له الـجنات بقوله: {لِلّذِينَ اتّقَوْا عِندَ رَبّهِنْ جَنّاتٌ} فـيكون مخرج ذلك مخرج الـخبر, وهو إبـانة عن معنى الـخير الذي قال: أنبئكم به؟ فلا يكون بـالكلام حينئذ حاجة إلـى ضمير.
قال أبو جعفر مـحمد بن جرير الطبري: وأما قوله: {خالِدِينَ فِـيه} فمنصوب علـى القطع¹ ومعنى قوله: {لِلّذِينَ اتّقَوْ} للذين خافوا الله فأطاعوه, بأداء فرائضه, واجتناب معاصيه. {عِندَ رَبّهِمْ} يعنـي بذلك: لهم جنات تـجري من تـحتها الأنهار عند ربهم, والـجنات: البساتـين, وقد بـينا ذلك بـالشواهد فـيـما مضى, وأن قوله: {تَـجرِي مِنْ تَـحتِها الأنهَارُ} يعنـي به: من تـحت الأشجار, وأن الـخـلود فـيها دوام البقاء فـيها, وأن الأزواج الـمطهرة: هن نساء الـجنة اللواتـي طهرن من كل أذى يكون بنساء أهل الدنـيا من الـحيض والـمنـي والبول والنفـاس وما أشبه ذلك من الأذى, بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع. وقوله: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللّهِ} يعنـي: ورضا الله, وهو مصدر من قول القائل: رضي الله عن فلان, فهو يرضى عنه رضا منقوص, ورُضْوانا وَرِضْوانا ومرضاة. فأما الرّضوان بضم الراء فهو لغة قـيس, وبه كان عاصم يقرأ. وإنـما ذكر الله جل ثناؤه فـيـما ذكر للذين اتقوا عنده من الـخير: رضوانه, لأن رضوانه أعلـى منازل كرامة أهل الـجنة. كما:
5433ـ حدثنا ابن بشار, قال: ثنـي أبو أحمد الزبـيري, قال: حدثنا سفـيان, عن مـحمد بن الـمنكدر, عن جابر بن عبد الله, قال: إذا دخـل أهل الـجنة الـجنة, قال الله تبـارك وتعالـى: أعطيكم أفضل من هذا! فـيقولون: أي ربنا أي شيء أفضل من هذا؟ قال: رضوانـي.
وقوله: {وَاللّهُ بَصِيرٌ بـالعِبـادِ} يعنـي بذلك, والله ذو بصر بـالذي يتقـيه من عبـاده, فـيخافه فـيطيعه, ويؤثر ما عنده مـما ذكر أنه أعده للذين اتقوه علـى حب ما زين له فـي عاجل الدنـيا من شهوات النساء والبنـين وسائر ما عدد منها تعالـى ذكره, وبـالذي لا يتقـيه فـيخافه, ولكنه يعصيه, ويطيع الشيطان, ويؤثر ما زين له فـي الدنـيا من حب شهوة النساء والبنـين والأموال, علـى ما عنده من النعيـم الـمقـيـم, عالـم تعالـى ذكره بكل فريق منهم, حتـى يجازي كلهم عند معادهم إلـيه جزاءهم, الـمـحسن بإحسانه, والـمسيء بإساءته
052
050
الآية : 10
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مّنَ اللّهِ شَيْئاً وَأُولَـَئِكَ هُمْ وَقُودُ النّارِ }
يعنـي جل ثناؤه بقوله: {إِنّ الّذِينَ كَفَرُو} إن الذين جحدوا الـحقّ الذي قد عرفوه من نبوّة مـحمد صلى الله عليه وسلم من يهود بنـي إسرائيـل ومنافقـيهم, ومنافقـي العرب وكفـارهم الذين فـي قلوبهم زيغ, فهم يتبعون من كتاب الله الـمتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويـله, {لَنْ تُغْنِـيَ عَنْهُمْ أمْوَالُهُمْ وَلاَ أوْلاَدُهُمْ مِنَ اللّهِ شَيْئ} يعنـي بذلك: أن أموالهم وأولادهم لن تنـجيهم من عقوبة الله إن أحلها بهم عاجلاً فـي الدنـيا علـى تكذيبهم بـالـحقّ بعد تبـيّنهم, واتبـاعهم الـمتشابه طلب اللبس فتدفعها عنهم, ولا يغنـي ذلك عنهم منها شيئا. {وَهُمْ فِـي الاَخِرَةِ وَقُودُ النّارِ} يعنـي بذلك حطبها.
الآية : 11
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ }
يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: إن الذين كفروا لن تغنـي عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا عند حلول عقوبتنا بهم, كسنة آل فرعون وعادتهم, والذين من قبلهم من الأمـم الذين كذبوا بآياتنا, فأخذناهم بذنوبهم فأهلكناهم حين كذبوا بآياتنا, فلن تغنـي عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا حين جاءهم بأسنا كالذي عوجلوا بـالعقوبة علـى تكذيبهم ربهم من قبل آل فرعون من قوم نوح وقوم هود وقوم لوط وأمثالهم.
واختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} فقال بعضهم: معناه: كسنتهم. ذكر من قال ذلك:
5362ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق بن الـحجاج, قال: حدثنا عبد الله بن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع فـي قوله: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} يقول: كسنتهم.
وقال بعضهم: معناه: كعملهم. ذكر من قال ذلك:
5363ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا مؤمل, قال: حدثنا سفـيان, وحدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو نعيـم, قال: حدثنا سفـيان جميعا, عن جويبر, عن الضحاك: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنِ} قال: كعمل آل فرعون.
5364ـ حدثنا يحيـى بن أبـي طالب, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا جويبر. عن الضخاك فـي قوله: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} قال: كعمل آل فرعون.
5365ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} قال: كفعلهم كتكذيبهم حين كذبوا الرسل. وقرأ قول الله: {مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ} أن يصيبكم مثل الذي أصابهم علـيه من عذاب الله. قال: الدأب: العمل.
5366ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا أبو تـميـلة يحيـى بن واضح, عن أبـي حمزة, عن جابر, عن عكرمة ومـجاهد فـي قوله: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} قال: كفعل آل فرعون, كشأن آل فرعون.
5367ـ حدثت عن الـمنـجاب, قال: حدثنا بشر بن عمارة, عن أبـي روق, عن الضحاك, عن ابن عبـاس فـي قوله: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} قال: كصنع آل فرعون.
وقال آخرون: معنى ذلك: كتكذيب آل فرعون. ذكر من قال ذلك:
5368ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذّبُوا بِآيَاتِنَا فَأخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ} ذكر الذين كفروا وأفعال تكذيبهم كمثل تكذيب الذين من قبلهم فـي الـجحود والتكذيب.
وأصل الدأب من دأبت فـي الأمر دأْبـا: إذا أدمنت العمل والتعب فـيه. ثم إن العرب نقلت معناه إلـى الشأن والأمر والعادة, كما قال امرؤ القـيس بن حجر:
وَإِنّ شِفـائي عَبْرَةٌ مُهَرَاقَةٌفَهَلْ عندَ رَسْمٍ دَارِسٍ من مُعَوّلِ
كَدأْبِكَ مِنْ أُم الـحُوَيْرِث قَبْلَهاوَجارَتِها أُمّ الرّبـابِ بِـمأْسَل
يعنـي بقوله كدأبك: كشأنك وأمرك وفعلك, يقال منه: هذا دأبـي ودأبك أبدا, يعنـي به: فعلـي وفعلك وأمري وأمرك, وشأنـي وشأنك, يقال منه: دأبت دووبـا ودَأْبـا. وحكي عن العرب سماعا: دأبت دَأَبـا مثقلة مـحركة الهمزة, كما قـيـل هذا شعَر وبهَر, فتـحرك ثانـيه لأنه حرف من الـحروف الستة, فألـحق الدأب إذ كان ثانـيه من الـحروف الستة, كما قال الشاعر:
لَهُ نَعْلٌ لاَ يَطّبِـي الكَلْبَ رِيحُهاوَإِنْ وُضِعَتْ بَـيْنَ الـمَـجالِسِ شُمّتِ
وأما قوله: {وَاللّهُ شَدِيدُ العِقَابِ} فإنه يعنـي به: والله شديد عقابه لـمن كفر به وكذّب رسله بعد قـيام الـحجة علـيه.
الآية : 12-13
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{قُلْ لّلّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَىَ جَهَنّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ * قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَىَ كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللّهُ يُؤَيّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ إِنّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لاُوْلِي الأبْصَارِ }
اختلفت القراء فـي ذلك فقرأه بعضهم: {قُلْ لِلّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُـحْشَرُونَ} بـالتاء علـى وجه الـخطاب للذين كفروا بأنهم سيغلبون. واحتـجوا لاختـيارهم قراءة ذلك بـالتاء بقوله: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِـي فِئَتَـيْنِ} قالوا: ففـي ذلك دلـيـل علـى أن قوله: {سَتُغْلَبُونَ} كذلك خطاب لهم. وذلك هو قراءة عامة قرّاء الـحجاز والبصرة وبعض الكوفـيـين. وقد يجوز لـمن كانت نـيته فـي هذه الاَية أن الـموعودين بأن يغلبوا هم الذين أمر النبـيّ صلى الله عليه وسلم بأن يقول ذلك لهم أن يقرأه بـالـياء والتاء, لأن الـخطاب الوحي حين نزل لغيرهم, فـيكون نظير قول القائل فـي الكلام: قلت للقوم إنكم مغلوبون, وقلت لهم إنهم مغلوبون. وقد ذكر أن فـي قراءة عبد الله: «قُلْ لِلّذِينَ كَفَرُوا إِنْ تَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَكُمْ» وهي فـي قراءتنا: {إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ}. وقرأت ذلك جماعة من قراء أهل الكوفة: «سيغلبوون ويحشرون» علـى معنى: قل للـيهود سيغلب مشركو العرب ويحشرون إلـى جهنـم. ومن قرأ ذلك كذلك علـى هذا التأويـل لـم يجز فـي قراءته غير الـياء.
والذي نـختار من القراءة فـي ذلك قراءة من قرأه بـالتاء, بـمعنى: قل يا مـحمد للذين كفروا من يهود بنـي إسرائيـل الذين يتبعون ما تشابه من آي الكتاب الذي أنزلته إلـيك ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويـله, ستغلبون وتـحشرون إلـى جهنـم وبئس الـمهاد.
وإنـما اخترنا قراءة ذلك كذلك علـى قراءته بـالـياء لدلالة قوله: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِـي فِئَتَـيْنِ} علـى أنهم بقوله ستغلبون مخاطبون خطابهم بقوله: قد كان لكم, فكان إلـحاق الـخطاب بـمثله من الـخطاب أولـى من الـخطاب بخلافه من الـخبر عن غائب. وأخرى أن:
5369ـ أبـا كريب حدثنا, قال: حدثنا يونس بن بكير, عن مـحمد بن إسحاق, قال: ثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد, عن سعيد بن جبـير أو عكرمة, عن ابن عبـاس, قال: لـما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا يوم بدر فقدم الـمدينة, جمع يهود فـي سوق بنـي قـينقاع فقال: «يا مَعْشَرَ يَهُودَ, أسْلِـمُوا قَبْلَ أنْ يُصِيبَكُمْ مِثْل أصَابَ قُرَيشا», فقالوا: يا مـحمد لا تغرّنك نفسك إنك قتلت نفرا من قريش كانوا أغمارا لا يعرفون القتال, إنك والله لو قاتلتنا لعرفت أنا نـحن الناس, وأنك لـم تأت مثلنا! فأنزل الله عزّ وجلّ فـي ذلك من قولهم: {قُلْ لِلّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُـحْشَرُونَ إلـى جَهَنّـمَ وَبِئْسَ الـمِهادُ} إلـى قوله: {لأُولِـي الأبْصَارِ}.
5370ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, قال: حدثنا مـحمد بن إسحاق, عن عاصم بن عمر بن قتادة, قال: لـما أصاب الله قريشا يوم بدر, جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود فـي سوق بنـي قـينقاع حين قدم الـمدينة, ثم ذكر نـحو حديث أبـي كريب, عن يونس.
5371ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قال: كان من أمر بنـي قـينقاع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمعهم بسوق بنـي قـينقاع, ثم قال: «يا مَعْشَرَ الـيَهُودِ احْذَرُوا مِنَ اللّهِ مِثْلَ مَا نَزَلَ بِقُرَيْشٍ مِنَ النّقْمَةِ, وَأَسْلِـمُوا فَـإِنّكُمْ قَدْ عَرَفْتُـمْ أنّـي نَبِـيّ مُرْسَلٌ تَـجِدُونَ ذلك فـي كِتابِكُمْ, وعَهْدِ الله إِلَـيْكُمْ!» فقالوا: يا مـحمد إنك ترى أنا كقومك, لا يغرنّك أنك لقـيت قوما لا علـم لهم بـالـحرب فأصبت فـيهم فرصة, إنا والله لئن حاربناك لتعلـمنّ أنا نـحن الناس!
5372ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن مـحمد بن إسحاق, عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى آل زيد بن ثابت, عن سعيد بن جبـير أو عكرمة, عن ابن عبـاس, قال: ما نزلت هؤلاء الاَيات إلا فـيهم: {قُلْ لِلّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُـحْشَرُونَ إِلـى جَهَنّـمَ وَبِئْسَ الـمِهَادُ} إلـى: {لأُولِـي الأبْصَار}.
5373ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن عكرمة فـي قوله: {قُلْ لِلّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُـحْشَرُونَ إلـى جَهَنّـمَ وَبِئْسَ الـمِهادُ} قال فنـحاص الـيهودي فـي يوم بدر: لا يغرنّ مـحمدا أن غلب قريشا وقتلهم, إن قريشا لا تـحسن القتال! فنزلت هذه الاَية: {قُلْ لِلّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُـحْشَرُونَ إلـى جَهَنّـمَ وَبِئْسَ الـمِهادُ}.
قال أبو جعفر: فكل هذه الأخبـار تنبىء عن أن الـمخاطبـين بقوله: {سَتُغْلَبُونَ وَتُـحْشَرُونَ إلـى جَهَنّـمَ وَبِئْسَ الـمِهَادُ} هم الـيهود الـمقول لهم: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِـي فِئَتَـيْنِ}... الاَية, وتدل علـى أن قراءة ذلك بـالتاء أولـى من قراءته بـالـياء. ومعنى قوله: {وَتُـحْشَرُونَ} وتـجمعون فتـجلبون إلـى جهنـم. وأما قوله: {وَبِئْسَ الـمِهاد} وبئس الفراش جهنـم التـي تـحشرون إلـيها. وكان مـجاهد يقول كالذي:
5374ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح عن مـجاهد فـي قوله: {وَبِئْسَ الـمِهادُ} قال: بئسما مَهَدوا لأنفسهم.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
يعنـي بذلك جل ثناؤه: قل يا مـحمد للذين كفروا من الـيهود الذين بـين ظهرانـي بلدك: قد كان لكم آية يعنـي علامة ودلالة علـى صدق ما أقول إنك ستغلبون وعبرة, كما:
5375ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ} عبرة وتفكر.
5376ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, مثله, إلا أنه قال: ومتفكّر {فـي فِئَتَـيْنِ} يعنـي فـي فرقتـين وحزبـين. والفئة: الـجماعة من الناس التقتا للـحرب, وإحدى الفئتـين رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن كان معه مـمن شهد وقعة بدر, والأخرى مشركو قريش, فئة تقاتل فـي سبـيـل الله, جماعة تقاتل فـي طاعة الله وعلـى دينه, وهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه, وأخرى كافرة وهم مشركو قريش. كما:
5377ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا يونس بن بكير, عن مـحمد بن إسحاق, قال: ثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت, عن سعيد بن جبـير أو عكرمة, عن ابن عبـاس: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِـي فِئَتَـيْنِ الْتَقَـيَا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِـي سَبِـيـلِ اللّهِ} أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر, {وأُخْرَى كافرَةٌ} فئة قريش الكفـار.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت, عن سعيد بن جبـير أو عكرمة, عن ابن عبـاس, مثله.
5378ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن عكرمة: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِـي فِئَتَـيْنِ الْتَقَـيَا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِـي سَبِـيـلِ اللّهِ} مـحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه, {وأُخرَى كافرَةٌ}: قريش يوم بدر.
5379ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, فـي قوله: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِـي فِئَتَـيْنِ} قال: فـي مـحمد وأصحابه ومشركي قريش يوم بدر.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا الثوريّ, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, فـي قوله: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِـي فِئَتَـيْنِ الْتَقَـيَا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِـي سَبِـيـلِ اللّهِ } قال ذلك يوم بدر, التقـى الـمسلـمون والكفـار.
ورفعت {فِئَةٌ تُقاتِلُ فِـي سَبِـيـلِ اللّهِ} وقد قـيـل قبل ذلك فـي فئتـين, بـمعنى: إحداهما تقاتل فـي سبـيـل الله علـى الابتداء, كما قال الشاعر:
فكنتُ كَذِي رِجْلَـيْنِ: رِجْلٌ صحيحةٌوَرِجْلٌ رَمَى فِـيها الزّمانُ فَشَلّتِ
وكما قال ابن مفرغ:
فكنتُ كذِي رِجْلَـيْنِ: رِجْلٌ صحيحةٌورِجْلٌ بِها رَيْبٌ من الـحَدَثَانِ
فَأمّا التـي صَحّتْ فأزْدُشَنُوءةٍوَأمّا التـي شَلّتْ فأزد عُمَانِ
وكذلك تفعل العرب فـي كل مكرر علـى نظير له قد تقدمه إذا كان مع الـمكرر خبر ترده علـى إعراب الأول مرة وتستأنفه ثانـية بـالرفع, وتنصبه فـي التام من الفعل والناقص, وقد جُرّ ذلك كلّه, فخفض علـى الرد علـى أول الكلام, كأنه يعنـي إذا خفض ذلك فكنت كذي رجلـين كذي رجل صحيحة ورجل سقـيـمة. وكذلك الـخفض فـي قوله: «فئة», جائز علـى الرد علـى قوله: «فـي فئتـين التقتا», فـي فئة تقاتل فـي سبـيـل الله. وهذا وإن كان جائزا فـي العربـية, فلا أستـجيز القراءة به لإجماع الـحجة من القراء علـى خلافه, ولو كان قوله: «فئة» جاء نصبـا كان جائزا أيضا علـى قوله: قد كان لكم آية فـي فئتـين التقتا مختلفتـين.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَرَوْنَهُمْ مِثْلَـيْهِمْ رَأيَ العَيْنِ}.
اختلفت القراء فـي قراءة ذلك, فقرأته قراء أهل الـمدينة: «ترونهم» بـالتاء, بـمعنى: قد كان لكم أيها الـيهود آية فـي فئتـين التقتا, فئة تقاتل فـي سبـيـل الله, والأخرى كافرة, ترون الـمشركين مثلـي الـمسلـمين رأي العين. يريد بذلك عظتهم. يقول: إن لكم عبرة أيها الـيهود فـيـما رأيتـم من قلة عدد الـمسلـمين, وكثرة عدد الـمشركين, وظفر هؤلاء مع قلة عددهم بهؤلاء مع كثرة عددهم. وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة والبصرة وبعض الـمكيـين: {يَرَوْنَهُمْ مِثْلَـيْهِمْ} بـالـياء, بـمعنى: يرى الـمسلـمون الذين يقاتلون فـي سبـيـل الله الـجماعة الكافرة مثلـي الـمسلـمين فـي القدر. فتأويـل الاَية علـى قراءتهم: قد كان لكم يا معشر الـيهود عبرة ومتفكّر فـي فئتـين التقتا, فئة تقاتل فـي سبـيـل الله, وأخرى كافرة, يرى هؤلاء الـمسلـمون مع قلة عددهم هؤلاء الـمشركين فـي كثرة عددهم.
فإن قال قائل: وما وجه تأويـل قراءة من قرأ ذلك بـالـياء, وأي الفئتـين رأت صاحبتها مثلـيها؟ الفئة الـمسلـمة هي التـي رأت الـمشركة مثلـيها, أم الـمشركة هي التـي رأت الـمسلـمة كذلك, أم غيرهما رأت إحداهما كذلك؟ قـيـل: اختلف أهل التأويـل فـي ذلك, فقال بعضهم: الفئة التـي رأت الأخرى مثلـي أنفسها الفئة الـمسلـمة, رأت عدد الفئة الـمشركة مثلـي عدد الفئة الـمسلـمة, قلّلها الله عز وجل فـي أعينها حتـى رأتها مثلـي عدد أنفسها, ثم قللها فـي حال أخرى, فرأتها مثل عدد أنفسها. ذكر من قال ذلك:
5380ـ حدثنا موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي فـي خبر ذكره عن مرة الهمدانـي, عن ابن مسعود: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِـي فِئَتَـيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِـي سَبِـيـلِ اللّهِ وأُخْرَى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَـيْهِمْ رأيَ العَيْنِ} قال: هذا يوم بدر, قال عبد الله بن مسعود: قد نظرنا إلـى الـمشركين, فرأيناهم يضعفون علـينا, ثم نظرنا إلـيهم فما رأيناهم يزيدون علـينا رجلاً واحدا, وذلك قول الله عز وجل: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَـيْتُـمْ فِـي أعْيُنِكُمْ قَلِـيلاً وَيُقَلّلُكُمْ فِـي أعْيُنِهِمْ}.
فمعنى الاَية علـى هذا التأويـل: قد كان لكم يا معشر الـيهود آية فـي فئتـين التقتا: إحداهما مسلـمة, والأخرى كافرة, كثـير عدد الكافرة, قلـيـل عدد الـمسلـمة, ترى الفئة القلـيـل عددها, الكثـير عددها أمثالاً لها أنها تكثرها من العدد بـمثل واحد, فهم يرونهم مثلـيهم, فـيكون أحد الـمثلـين عند ذلك, العدد الذي هو مثل عدد الفئة التـي رأتهم, والـمثل الاَخر: الضعف الزائد علـى عددهم, فهذا أحد معنـيـي التقلـيـل الذي أخبر الله عز وجل الـمؤمنـين أنه قللهم فـي أعينهم¹ والـمعنى الاَخر منه: التقلـيـل الثانـي علـى ما قاله ابن مسعود, وهو أن أراهم عدد الـمشركين مثل عددهم لا يزيدون علـيهم, فذلك التقلـيـل الثانـي الذي قال الله جل ثناؤه: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَـيْتُـمْ فِـي أعْيُنِكُمْ قَلِـيل}.
وقال آخرون من أهل هذه الـمقالة: إن الذين رأوا الـمشركين مثلـي أنفسهم هم الـمسلـمون, غير أن الـمسلـمين رأوهم علـى ما كانوا به من عددهم, لـم يقللوا فـي أعينهم, ولكن الله أيدهم بنصره. قالوا: ولذلك قال الله عز وجل للـيهود: قد كان لكم فـيهم عبرة¹ يخوفهم بذلك أن يحل بهم منهم, مثل الذي حل بأهل بدر علـى أيديهم. ذكر من قال ذلك:
5381ـ حدثنا مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِـي فِئَتَـيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِـي سَبِـيـلِ اللّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ}. أنزلت فـي التـخفـيف يوم بدر, فإنّ الـمؤمنـين كانوا يومئذٍ ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً, وكان الـمشركون مثلـيهم, فأنزل الله عز وجل: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِـي فِئْتَـيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِـي سَبِـيـلِ اللّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَـيْهِمْ رأيَ العَيْنِ} وكان الـمشركون ستة وعشرين وستـمائة, فأيد الله الـمؤمنـين, فكان هذا الذي فـي التـخفـيف علـى الـمؤمنـين.
وهذه الرواية خلاف ما تظاهرت به الأخبـار عن عدة الـمشركين يوم بدر, وذلك أن الناس إنـما اختلفوا فـي عددهم علـى وجهين, فقال بعضهم: كان عددهم ألفـا, وقال بعضهم: ما بـين التسعمائة إلـى الألف. ذكر من قال كان عددهم ألفـا:
5382ـ حدثنـي هارون بن إسحاق الهمدانـي, قال: حدثنا مصعب بن الـمقدام, قال: حدثنا إسرائيـل, قال: حدثنا أبو إسحاق, عن حارثة, عن علـي, قال: سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلـى بدر, فسبقنا الـمشركين إلـيها, فوجدنا فـيها رجلـين, منهم رجل من قريش, ومولـى لعقبة بن أبـي معيط¹ فأما القرشي فـانفلت, وأما مولـى عقبة, فأخذناه, فجعلنا نقول: كم القوم؟ فـيقول: هم والله كثـير شديد بأسهم. فجعل الـمسلـمون إذا قال ذلك صدّقوه, حتـى انتهوا به إلـى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال له: «كَمِ القَوْمُ؟» فقال: هم والله كثـير شديد بأسهم. فجهد النبـي صلى الله عليه وسلم علـى أن يخبرهم كم هم, فأبى. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله: «كَمْ تَنْـحَرُون مِنَ الـجُزُرِ؟» قال: عشرة كل يوم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «القَوْمُ ألْفٌ».
5383ـ حدثنـي أبو سعيد بن يوشع البغدادي, قال: حدثنا إسحاق بن منصور, عن إسرائيـل, عن أبـي إسحاق, عن أبـي عبـيدة عن عبد الله, قال: أسرنا رجلاً منهم ـ يعنـي من الـمشركين يوم بدر ـ فقلنا: كم كنتـم؟ قال: ألفـا.
ذكر من قال: كان عددهم ما بـين التسعمائة إلـى الألف:
5384ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, قال: قال ابن إسحاق: ثنـي يزيد بن رومان, عن عروة بن الزبـير قال: بعث النبـي صلى الله عليه وسلم نفرا من أصحابه إلـى ماء بدر يـلتـمسون الـخبر له علـيه, فأصابوا راوية من قريش فـيها أسلـم غلام بنـي الـحجاج, وعريض أبو يسار غلام بنـي العاص, فأتوا بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لهما: «كَمِ القَوْم؟» قالا: كثـير. قال: «ما عِدّتُهُمْ؟» قالا: لا ندري. قال: «كَمْ تَنْـحَرُونَ كُلّ يَوْمٍ؟» قالا: يوما تسعا ويوما عشرا, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «القَوْمُ مَا بَـيْنَ التّسْعِمَائَةِ إلـى الألْفِ».
5385ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِـي فَئَتَـيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِـي سَبِـيـلِ اللّهِ وأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَـيهِمْ رأيَ العَيْنِ} ذلكم يوم بدر ألف الـمشركون, أو قاربوا, وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً.
5386ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِـي فِئَتَـيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ} إلـى قوله: {رأيَ العَيْنِ} قال: يضعفون علـيهم فقتلوا منهم سبعين وأسروا سبعين يوم بدر.
5387ـ حدثنا الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع فـي قوله: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِـي فِئَتَـيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِـي سَبِـيـلِ اللّهِ وَأُخْرَى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَـيْهِمْ رأيَ العَيْنِ} قال: كان ذلك يوم بدر, وكان الـمشركون تسعمائة وخمسين, وكان أصحاب مـحمد صلى الله عليه وسلم ثلاثمائة وثلاثة عشر.
5388ـ حدثنـي القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, قال: قال ابن جريج, كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثمائة وبضعة عشر, والـمشركون ما بـين التسعمائة إلـى الألف.
فكل هؤلاء الذين ذكرنا مخالفون القول الذي رويناه عن ابن عبـاس فـي عدد الـمشركين يوم بدر. فإذا كان ما قاله من حكيناه مـمن ذكر أن عددهم كان زائدا علـى التسعمائة, فـالتأويـل الأول الذي قلناه علـى الرواية التـي روينا عن ابن مسعود أولـى بتأويـل الاَية.
وقال آخرون: كان عدد الـمشركين زائدا علـى التسعمائة, فرأى الـمسلـمون عددهم علـى غير ما كانوا به من العدد, وقالوا: أرى الله الـمسلـمين عدد الـمشركين قلـيلاً آية للـمسلـمين. قالوا: وإنـما عنى الله عز وجل بقوله: {يَرَوْنَهُمْ مِثْلَـيْهِمْ} الـمخاطبـين بقوله: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِـي فِئَتَـيْنِ} قالوا: وهم الـيهود غير أنه رجع من الـمخاطبة إلـى الـخبر عن الغائب, لأنه أمر من الله جل ثناؤه لنبـيه صلى الله عليه وسلم أن يقول ذلك لهم, فحسن أن يخاطب مرة, ويخبر عنهم علـى وجه الـخبر مرة أخرى, كما قال: {حتـى إذَا كُنْتُـمْ فِـي الفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيّبَةٍ}.
وقالوا: فإن قال لنا قائل: فكيف قـيـل: {يَرَوْنَهُمْ مِثْلَـيْهِمْ رَأيَ العَيْنِ} وقد علـمتـم أن الـمشركين كانوا يومئذٍ ثلاثة أمثال الـمسلـمين؟ قلنا لهم: كما يقول القائل وعنده عبد: أحتاج إلـى مثله, أنا مـحتاج إلـيه وإلـى مثله, ثم يقول: أحتاج إلـى مثلـيه, فـيكون ذلك خبرا عن حاجته إلـى مثله وإلـى مثلـي ذلك الـمثل, وكما يقول الرجل: معي ألف وأحتاج إلـى مثلـيه, فهو مـحتاج إلـى ثلاثة¹ فلـما نوى أن يكون الألف داخلاً فـي معنى الـمثل, صار الـمثل أشرف والاثنان ثلاثة, قال: ومثله فـي الكلام: أراكم مثلكم, كما يقال: إن لكم ضعفكم, وأراكم مثلـيكم, يعنـي أراكم ضعفـيكم, قالوا: فهذا علـى معنى ثلاثة أمثالهم.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أن الله أرى الفئة الكافرة عدد الفئة الـمسلـمة مثلـي عددهم. وهذا أيضا خلاف ما دل علـيه ظاهر التنزيـل, لأن الله جل ثناؤه قال فـي كتابه: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إذِ الْتَقَـيْتُـمْ فِـي أعْيُنِكُمْ قَلِـيلاً وَيُقَلّلُكُمْ فِـي أعْيُنِهِمْ} فأخبر أن كلاً من الطائفتـين قُلل عددهم فـي مرأى الأخرى.
وقرأ آخرون ذلك: «تُرَوْنَهم» بضم التاء, بـمعنى: يريكموهم الله مثلـيهم.
(وأولـى هذه القراءات بـالصواب قراءة من قرأ: {يَرَوْنَهُمْ} بـالـياء, بـمعنى: وأخرى كافرة, يراهم الـمسلـمون مثلـيهم, يعنـي: مثلـي عدد الـمسلـمين, لتقلـيـل الله إياهم فـي أعينهم فـي حال, فكان حزرهم إياهم كذلك, ثم قللهم فـي أعينهم عن التقلـيـل الأول, فحزروهم مثل عدد الـمسلـمين, ثم تقلـيلاً ثالثا, فحزروهم أقل من عدد الـمسلـمين.) كما:
5389ـ حدثنـي أبو سعيد البغدادي, قال: حدثنا إسحاق بن منصور, عن إسرائيـل, عن أبـي إسحاق, عن أبـي عبـيدة, عن عبد الله, قال: لقد قللوا فـي أعيننا يوم بدر حتـى قلت لرجل إلـى جنبـي: تراهم سبعين؟ قال: أراهم مائة. قال: فأسرنا رجلاً منهم, فقلنا كم كنتـم؟ قال: ألفـا.
وقد رُوي عن قتادة أنه كان يقول: لو كانت «تُرونهم», لكانت «مثلـيكم».
5390ـ حدثنـي الـمثنى, قال: ثنـي عبد الرحمن بن أبـي حماد, عن ابن الـمعرك, عن معمر, عن قتادة بذلك.
ففـي الـخبرين اللذين روينا عن عبد الله بن مسعود ما أبـان عن اختلاف حزر الـمسلـمين يومئذٍ عدد الـمشركين فـي الأوقات الـمختلفة, فأخبر الله عز وجل ـ عما كان من اختلاف أحوال عددهم عند الـمسلـمين ـ الـيهود علـى ما كان به عندهم, مع علـم الـيهود بـمبلغ عدد الفئتـين, إعلاما منه لهم أنه مؤيد الـمؤمنـين بنصره, لئلا يغتروا بعددهم وبأسهم, ولـيحذروا منه أن يحل بهم من العقوبة علـى أيدي الـمؤمنـين, مثل الذي أحل بأهل الشرك به من قريش علـى أيديهم ببدرهم.
وأما قوله: {رأيَ العَيْنِ} فإنه مصدر رأيته, يقال: رأيته رَأْيا ورؤية, ورأيت فـي الـمنام رؤيَا حسنة غير مُـجْراة, يقال: هو منـي رأي العين ورأي العين بـالنصب والرفع, يراد حيث يقع علـيه بصري, وهو من الرائي مثله, والقوم رأوا إذا جلسوا حيث يرى بعضهم بعضا. فمعنى ذلك: يرونهم حيث تلـحقهم أبصارهم, وتراهم عيونهم مثلـيهم.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَاللّهُ يُوءَيّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنّ فِـي ذَلِكَ لَعْبَرَةً لأُولِـي الأبْصَارِ}.
يعنـي بقوله جل ثناؤه: {واللّهُ يُوءَيّد}: يقوّي بنصره من يشاء, من قول القائل: قد أيدت فلانا بكذا: إذا قويته وأعنته, فأنا أؤيده تأيـيدا, و«فعلت» منه: إدْتُه فأنا أئيده أيدا¹ ومنه قول الله عز وجل: {وَاذْكُرْ عَبْدَنا دَاوُدَ ذَا الأيْدِ} يعنـي ذا القوة.
وتأويـل الكلام: قد كان لكم آية يا معشر الـيهود فـي فئتـين التقتا: إحداهما تقاتل فـي سبـيـل الله, وأخرى كافرة, يراهم الـمسلـمون مثلـيهم رأي أعينهم, فأيدنا الـمسلـمة وهم قلـيـل عددهم, علـى الكافرة وهم كثـير عددهم حتـى ظفروا بهم معتبر ومتفكر, والله يقوي بنصره من يشاء. وقال جل ثناؤه: إن فـي ذلك: يعنـي إن فـيـما فعلنا بهؤلاء الذين وصفنا أمرهم من تأيـيدنا الفئة الـمسلـمة مع قلة عددهم, علـى الفئة الكافرة مع كثرة عددها {لَعِبْرَةً} يعنـي لـمتفكرا ومتعظا لـمن عقل وادّكر فأبصر الـحق. كما:
5391ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: {إِنّ فِـي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِـي الأبْصَارِ} يقول: لقد كان لهم فـي هؤلاء عبرة وتفكر, أيدهم الله ونصرهم علـى عدوهم.
5392ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع مثله.
الآية : 14
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{زُيّنَ لِلنّاسِ حُبّ الشّهَوَاتِ مِنَ النّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذّهَبِ وَالْفِضّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوّمَةِ وَالأنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَاللّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ }
يعنـي تعالـى ذكره: (زين للناس مـحبة ما يشتهون من النساء والبنـين وسائر ما عدّ. وإنـما أراد بذلك توبـيخ الـيهود الذين آثروا الدنـيا وحبّ الرياسة فـيها علـى اتبـاع مـحمد صلى الله عليه وسلم بعد علـمهم بصدقه. وكان الـحسن يقول: من زَيْنها ما أحدٌ أشدّ لها ذما من خالقها.)
5393ـ حدثنـي بذلك أحمد بن حازم: قال: حدثنا أبو نعيـم, قال: حدثنا أبو الأشعث, عنه.
5394ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن عطاء, عن أبـي بكر بن حفص بن عمر بن سعد, قال: قال عمر: لـما نزل: {زُيّنَ للنّاسِ حُبّ الشّهَوَاتِ} قلت: الاَن يا ربّ حين زينتها لنا! فنزلت: {قُلْ أَؤنَبّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلّذِينَ اتّقَوْا عِنْدَ رَبّهِمْ جَنّاتٌ تَـجْرِي مِنْ تَـحْتِهَا الأنْهارُ}... الاَية.
وأما القناطير: فإنها جمع القنطار.
واختلف أهل التأويـل فـي مبلغ القنطار, فقال بعضهم: هو ألف ومائتا أوقـية. ذكر من قال ذلك:
5395ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان, عن أبـي حصين, عن سالـم بن أبـي الـجعد, عن معاذ بن جبل, قال: القنطار: ألف ومائتا أوقـية.
حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا أبو بكر بن عياش, قال: حدثنا أبو حصين, عن سالـم بن أبـي الـجعد, عن معاذ, مثله.
5396ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرنا, يعنـي حفص بن ميسرة, عن أبـي مروان, عن أبـي طيبة, عن ابن عمر, قال: القنطار: ألف ومائتا أوقـية.
5397ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم, قال: حدثنا قاسم بن مالك الـمزنـي, قال: أخبرنـي العلاء بن الـمسيب, عن عاصم بن أبـي النّـجود, قال: القنطار: ألف ومائتا أوقـية.
5398ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهديّ, قال: حدثنا حماد بن زيد, عن عاصم بن بهدلة, عن أبـي صالـح, عن أبـي هريرة, مثله.
5399ـ حدثنـي زكريا بن يحيـى الصديق, قال: حدثنا شبـابة, قال: حدثنا مخـلد بن عبد الواحد, عن علـيّ بن زيد عن عطاء بن أبـي ميـمونة, عن زرّ بن حبـيش, عن أبـيّ بن كعب, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «القِنْطَارُ ألْفُ أُوقِـيّةٍ وَمِائَتا أُوقِـيّة».
وقال آخرون: القنطار: ألف دينار ومائتا دينار. ذكر من قال ذلك:
5400ـ حدثنا عمران بن موسى, قال: حدثنا عبد الوارث بن سعيد, قال: حدثنا يونس عن الـحسن, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «القِنْطَارُ ألْفٌ وَمِائَتا دِينارٍ».
5401ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا يونس, عن الـحسن, قال: القنطار: ألف ومائتا دينار.
5402ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: حدثنا أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس قال: القنطار ألف ومائتا دينار, ومن الفضة ألف ومائتا مثقال.
5403ـ حدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ, قال: أخبرنا عبـيد بن سلـمان, قال: سمعت الضحاك بن مزاحم يقول: القناطير الـمقنطرة, يعنـي: الـمال الكثـير من الذهب والفضة, والقنطار: ألف ومائتا دينار, ومن الفضة: ألف ومائتا مثقال.
وقال آخرون: القنطار: اثنا عشر ألف درهم, أو ألف دينار. ذكر من قال ذلك:
5404ـ حدثنـي علـيّ بن داود, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قال: القنطار: اثنـي عشر ألف درهم, أو ألف دينار.
5405ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عمرو بن عون, قال: أخبرنا هشيـم, عن جويبر, عن الضحاك, قال: القنطار: ألف دينار, ومن الورِق: اثنا عشر ألف درهم.
5406ـ حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, عن الـحسن: أن القنطار اثنا عشر ألفـا.
حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: أخبرنا عوف, عن الـحسن: القنطار: اثنا عشر ألفـا.
حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عوف, عن الـحسن: اثنا عشر ألفـا.
حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الأعلـى, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, عن الـحسن بـمثل.
5407ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عمرو بن عون, قال: أخبرنا هشيـم, عن عوف, عن الـحسن, قال: القنطار: ألف دينار, دية أحدكم.
وقال آخرون: هو ثمانون ألفـا من الدراهم, أو مائة رطل من الذهب. ذكر من قال ذلك:
5408ـ حدثنا مـحمد بن بشار ومـحمد بن الـمثنى, قالا: حدثنا يحيـى بن سعيد, عن سلـيـمان التـيـمي, عن قتادة, عن سعيد بن الـمسيب, قال: القنطار, ثمانون ألفـا.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عمرو بن عون, قال: أخبرنا هشيـم, عن علـي بن زيد, عن سعيد بن الـمسيب, قال: القنطار: ثمانون ألفـا.
5409ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قال: كنا نـحدث أن القنطار مائة رطل من ذهب, أو ثمانون ألفـا من الورِق.
حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, قال: القنطار: مائة رطل من ذهب, أو ثمانون ألف درهم من وَرِق.
5410ـ حدثنا أحمد بن حازم, قال: حدثنا أبو نعيـم, قال: حدثنا سفـيان, عن إسماعيـل, عن أبـي صالـح, قال: القنطار: مائة رطل.
5411ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: القنطار يكون مائة رطل, وهو ثمانـية آلاف مثقال.
وقال آخرون: القنطار سبعون ألفـا. ذكر من قال ذلك:
5412ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله: {القَنَاطِيرِ الـمُقَنْطَرَةِ} قال: القنطار: سبعون ألف دينار.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
5413ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا عمر بن حوشب, قال: سمعت عطاء الـخراسانـي, قال: سئل ابن عمر عن القنطار, فقال: سبعون ألفـا.
وقال آخرون: هي ملء مَسْك ثور ذهبـا. ذكر من قال ذلك:
5414ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا سالـم بن نوح, قال: حدثنا سعيد الـجريري, عن أبـي نضرة, قال: ملء مسك ثور ذهبـا.
حدثنـي أحمد بن حازم, قال: حدثنا أبو نعيـم, قال: حدثنا أبو الأشعث, عن أبـي نضرة: ملء مسك ثور ذهبـا.
وقال آخرون: هو الـمال الكثـير. ذكر من قال ذلك:
5415ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع بن أنس, قال: {القناطير الـمقنطرة}: الـمال الكثـير بعضه علـى بعض.
وقد ذكر بعض أهل العلـم بكلام العرب أن العرب لا تـحدّ القنطار بـمقدار معلوم من الوزن, ولكنها تقول: هو قدر ووزن. وقد ينبغي أن يكون ذلك كذلك, لأن ذلك لو كان مـحدودا قدره عندها لـم يكن بـين متقدمي أهل التأويـل فـيه كل هذا الاختلاف.
(فـالصواب فـي ذلك أن يقال: هو الـمال الكثـير, كما قال الربـيع بن أنس, ولا يحدّ قدر وزنه بحدّ علـى تعنف, وقد قـيـل ما قـيـل مـما روينا. وأما الـمقنطرة: فهي الـمضعفة, وكأن القناطير ثلاثة والـمقنطرة تسعة, وهو كما قال الربـيع بن أنس: الـمال الكثـير بعضه علـى بعض.) كما:
5416ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: القناطير الـمقنطرة من الذهب والفضة: والـمقنطرة الـمال الكثـير بعضه علـى بعض.
5417ـ حدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ, قال: أخبرنا عبـيد بن سلـمان, قال: سمعت الضحاك فـي قوله: {القَنَاطِير الـمُقَنْطَرة}: يعنـي الـمال الكثـير من الذهب والفضة.
وقال آخرون: معنى الـمقنطرة: الـمضروبة دراهم أو دنانـير. ذكر من قال ذلك:
5418ـ حدثنا موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: أما قوله: {الـمُقْنَطَرَة} فـيقول: الـمضروبة حتـى صارت دنانـير أو دراهم.
وقد رُوي عن النبـي صلى الله عليه وسلم فـي قوله: {وآتَـيْتُـمْ إحْدَاهُنّ قِنْطار} خبر لو صح سنده لـم نعده إلـى غيره, وذلك ما:
5419ـ حدثنا به ابن عبد الرحمن البرقـي, قال: ثنـي عمرو بن أبـي سلـمة, قال: حدثنا زهير بن مـحمد, قال: ثنـي أبـان بن أبـي عياش وحميد الطويـل, عن أنس بن مالك, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وآتَـيْتُـمْ إحْدَاهُنّ قِنْطار} قال: «ألْفَـا مِئِين». يعنـي ألفـين.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {والـخَيْـلُ الـمُسَوّمَةِ}.
اختلف أهل التأويـل فـي معنى الـمسوّمة, فقال بعضهم: هي الراعية. ذكر من قال ذلك:
5420ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن سفـيان, عن حبـيب بن أبـي ثابت, عن سعيد بن جبـير: الـخيـل الـمسوّمة, قال: الراعية التـي ترعى.
حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان, عن حبـيب, عن سعيد بن جبـير, مثله.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو نعيـم, قال: حدثنا سفـيان, عن حبـيب, عن سعيد بن جبـير, مثله.
حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا سفـيان, عن حبـيب بن أبـي ثابت, عن سعيد بن جبـير: هي الراعية, يعنـي السائمة.
5421ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن طلـحة القناد, قال: سمعت عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى يقول: الراعية.
5422ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس: {والـخَيْـلِ الـمُسَوّمَةِ} قال: الراعية.
5423ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, عن الـحسن: {والـخَيْـلِ الـمُسَوّمَةِ} الـمسرّحة فـي الرعي.
5424ـ حدثت عن عمار بن الـحسن, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع قوله: {والـخَيْـلِ الـمُسَوّمَةِ} قال: الـخيـل الراعية.
5425ـ حدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن لـيث, عن مـجاهد أنه كان يقول: الـخيـل الراعية.
وقال آخرون: الـمسوّمة: الـحسان. ذكر من قال ذلك:
5426ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان, عن حبـيب, قال: قال مـجاهد: الـمسوّمة: الـمطهمة.
حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا الثوري, عن حبـيب بن أبـي ثابت, عن مـجاهد فـي قوله: {وَالـخَيْـلِ الـمُسَوّمَةِ} قال: الـمطهمة الـحسان.
حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قوله: {وَالـخَيْـلِ الـمُسَوّمَةِ} قال: الـمطهمة حسنا.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيج, عن مـجاهد, مثله.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو نعيـم, قال: حدثنا سفـيان, عن حبـيب, عن مـجاهد: الـمطهمة.
5427ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا أبو عبد الرحمن الـمقري, قال: حدثنا سعيد بن أبـي أيوب, عن بشير بن أبـي عمرو الـخولانـي, قال: سألت عكرمة عن الـخيـل الـمسوّمة, قال: تسويـمها: حسنها.
حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرنـي سعيد بن أبـي أيوب, عن بشير بن أبـي عمرو الـخولانـي, قال: سمعت عكرمة يقول: {الـخَيْـلِ الـمُسَوّمَةِ} قال: تسويـمها: الـحسن.
5428ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: {وَالـخَيْـلِ الـمُسَوّمَةِ والأنْعَامِ} الرائعة.
وقد حدثنـي بهذا الـحديث عن عمرو بن حماد غير موسى, قال: الراعية.
وقال آخرون: {الـخَيْـلِ الـمُسَوّمَةِ} الـمعلـمة. ذكر من قال ذلك:
5429ـ حدثنـي علـيّ بن داود, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس: {والـخَيْـلِ الـمُسَوّمَةِ} يعنـي: الـمعلـمة.
5430ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: {والـخَيْـلِ الـمُسَوّمَةِ} وسيـماها شِيَتها.
حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله: {والـخَيْـلِ الـمُسَوّمَةِ} قال: شية الـخيـل فـي وجوهها.
وقال غيرهم: الـمسوّمة: الـمعدّة للـجهاد. ذكر من قال ذلك:
5431ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد {وَالـخَيْـلِ الـمُسَوّمَةِ} قال: الـمعدة للـجهاد.
قال أبو جعفر: أولـى هذه الأقوال بـالصواب فـي تأويـل قوله: {والـخَيْـلِ الـمُسَوّمَةِ} الـمعلـمة بـالشيات الـحسان الرائعة حسنا من رآها, لأن التسويـم فـي كلام العرب: هو الإعلام, فـالـخيـل الـحسان معلـمة بإعلام إياها بـالـحسن من ألوانها وشياتها وهيئاتها, وهي الـمطهمة أيضا, ومن ذلك قول نابغة بنـي ذبـيان فـي صفة الـخيـل:
بِسُمْرٍ كالْقِدَاحٍ مُسَوّماتٍعلـيها مَعْشَرٌ أشبـاهُ جِنّ
يعنـي بـالـمسوّمات: الـمعلـمات¹ وقول لبـيد:
وَغَدَاةَ قَاعِ القُرْنَتَـيْنِ أتَـيْنَهُمْ
زُجَلاً يَـلُوحُ خِلالَها التّسْويـمُ
فمعنى تأويـل من تأول ذلك: الـمطهمة, والـمعلـمة, والرائعة واحد. وأما قول من تأوّله بـمعنى الراعية فإنه ذهب إلـى قول القائل: أسَمْتُ الـماشية فأنا أُسيـمها إسامة: إذا رعيتها الكلأ والعشب, كما قال الله عزّ وجلّ: {ومنهُ شجرٌ فِـيهِ تسيـمونَ} بـمعنى ترعون, ومنه قول الأخطل:
مثلِ ابن بَزْعَةَ أو كآخَرَ مِثْلِهِأوْلـى لكَ ابنَ مُسِيـمَةِ الأجْمالِ
يعنـي بذلك راعية الأجمال, فإذا أريد أن الـماشية هي التـي رعت, قـيـل: سامت الـماشية تسوم سوما, ولذلك قـيـل: إبل سائمة, بـمعنى راعية, غير أنه مستفـيض فـي كلامهم سوّمت الـماشية, بـمعنى أرعيتها, وإنـما يقال إذا أريد ذلك: أسمتها. فإذا كان ذلك كذلك, فتوجيه تأويـل الـمسوّمة إلـى أنها الـمعلـمة بـما وصفنا من الـمعانـي التـي تقدم ذكرها أصحّ. وأما الذي قاله ابن زيد من أنها الـمعدّة فـي سبـيـل الله, فتأويـل من معنى الـمسوّمة بـمعزل.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {والأنْعامِ والـحَرْثِ}.
(فـالأنعام جمع نعم: وهي الأزواج الثمانـية التـي ذكرها فـي كتابه من الضأن والـمعز والبقر والإبل. وأما الـحرث: فهو الزرع. وتأويـل الكلام: زين للناس حبّ الشهوات من النساء ومن البنـين, ومن كذا ومن كذا, ومن الأنعام والـحرث.)
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {ذَلِكَ مَتاعُ الـحَيَاةِ الدّنْـيا وَاللّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الـمآبِ}.
يعنـي بقوله جل ثناؤه: ذلك جميع ما ذكر فـي هذه الاَية من النساء والبنـين, والقناطير الـمقنطرة من الذهب والفضة, والـخيـل الـمسوّمة, والأنعام والـحرث, فكنى بقوله «ذلك» عن جميعهن, وهذا يدلّ علـى أن «ذلك» يشتـمل علـى الأشياء الكثـيرة الـمختلفة الـمعانـي, ويكنى به عن جميع ذلك. وأما قوله: {مَتاعُ الـحَيَاةِ الدّنْـي} فإنه خبر من الله عن أن ذلك كله مـما يستـمتع به فـي الدنـيا أهلها أحياء, فـيتبلغون به فـيها, ويجعلونه وصلة فـي معايشهم, وسببـا لقضاء شهواتهم, التـي زين لهم حبها, فـي عاجل دنـياهم, دون أن يكون عدّة لـمعادهم, وقربة لهم إلـى ربهم, إلا ما أسلك فـي سبـيـله, وأنفق منه فـيـما أمر به.
وأما قوله: {وَاللّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الـمآبِ} فإنه يعنـي بذلك جل ثناؤه: وعند الله حسن الـمآب, يعنـي حسن الـمرجع. كما:
5432ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: {وَاللّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الـمآبِ} يقول: حسن الـمنقلب, وهي الـجنة.
وهو مصدر علـى مثال مفْعَل, من قول القائل: آب الرجل إلـينا: إذا رجع, فهو يؤوب إيابـا وأوبة وأيبة ومآبـا, غير أن موضع الفـاء منها مهموز, والعين مبدلة من الواو إلـى الألف بحركتها إلـى الفتـح, فلـما كان حظها الـحركة إلـى الفتـح, وكانت حركتها منقولة إلـى الـحرف الذي قبلها وهو فـاء الفعل انقلبت فصارت ألفـا, كما قـيـل: قال: فصارت عين الفعل ألفـا, لأن حظها الفتـح والـمآب, مثل الـمقال والـمعاد والـمـحال, كل ذلك مَفْعَلْ, منقولة حركة عينه إلـى فـائه, فتصير وواه أو ياؤه ألفـا لفتـحة ما قبلها.
فإن قال قائل: وكيف قـيـل: {وَاللّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الـمآبِ} وقد علـمت ما عنده يومئذٍ من ألـيـم العذاب وشديد العقاب؟ قـيـل: إن ذلك معنـيّ به خاصّ من الناس, ومعنى ذلك: والله عنده حسن الـمآب للذين اتقوا ربهم, وقد أنبأنا عن ذلك فـي هذه الاَية التـي تلـيها. فإن قال: وما حسن الـمآب؟ قـيـل: هو ما وصفه به جلّ ثناؤه, وهو الـمرجع إلـى جنات تـجري من تـحتها الأنهار مخـلدا فـيها, وإلـى أزواج مطهرة ورضوان من الله.
الآية : 15
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{قُلْ أَؤُنَبّئُكُمْ بِخَيْرٍ مّن ذَلِكُمْ لِلّذِينَ اتّقَوْا عِندَ رَبّهِمْ جَنّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مّطَهّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ }
يعنـي جلّ ثناؤه: قل يا مـحمد للناس الذين زين لهم حبّ الشهوات, من النساء والبنـين, وسائر ما ذكر جلّ ثناؤه: {أؤنبّئكم} أأخبركم وأعلـمكم {بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ} يعنـي بخير وأفضل لكم. {مِنْ ذَلِكُمْ} يعنـي مـما زين لكم فـي الدنـيا حبّ شهوته من النساء والبنـين والقناطير الـمقنطرة من الذهب والفضة, وأنواع الأموال التـي هي متاع الدنـيا.
ثم اختلف أهل العربـية فـي الـموضع الذي تناهى إلـيه الاستفهام من هذا الكلام, فقال بعضهم: تناهى ذلك عند قوله: {مِنْ ذَلِكُمْ} ثم ابتدأ الـخبر عما {لِلّذِينَ اتّقَوْا عِنْدَ رَبّهِمْ} فقـيـل: للذين اتقوا عند ربهم جنات تـجري من تـحتها الأنهار خالدين فـيها, فلذلك رفع «الـجنات». ومن قال هذا القول, لـم يُجِز فـي قوله: {جَنّاتٌ تَـجْرِي مِنْ تَـحْتِها الأنهارُ} إلا الرفع, وذلك أنه خبر مبتدإ غير مردود علـى قوله بخير, فـيكون الـخفض فـيه جائزا. وهو وإن كان خبرا مبتدأ عندهم, ففـيه إبـانة عن معنى الـخير الذي أمر الله عزّ وجلّ نبـيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للناس أؤنبئكم به؟ والـجنات علـى هذا القول مرفوعة بـاللام التـي فـي قوله: {لِلّذِينَ اتّقَوْا عنْدَ رَبّهِمْ}.
وقال آخرون منهم بنـحو من هذا القول, إلا أنهم قالوا: إن جعلت اللام التـي فـي قوله «للذين» من صلة الإنبـاء جاز فـي الـجنات الـخفض والرفع: الـخفض علـى الردّ علـى «الـخير», والرفع علـى أن يكون قوله: {لِلّذِينَ اتّقُو} خبر مبتدإ علـى ما قد بـيناه قبل.
وقال آخرون: بل منتهى الاستفهام قوله: {عِنْدَ رَبّهِمْ} ثم ابتدأ: {جَنّاتٌ تَـجرِي مِنْ تَـحتِها الأنهَارُ} وقالوا: تأويـل الكلام: قل أؤنبئكم بخير من ذلكم؟ للذين اتقوا عند ربهم, ثم كأنه قـيـل: ماذا لهم, أو ما ذاك؟ أو علـى أنه يقال: ماذا لهم أو ما ذاك؟ فقال: هو جنات تـجري من تـحتها الأنهار... الاَية.
وأولـي هذه الأقوال عندي بـالصواب قول من جعل الاستفهام متناهيا عند قوله: {بِخَيرٍ مِنْ ذَلِكُمْ} والـخبر بعده مبتدأ عمن له الـجنات بقوله: {لِلّذِينَ اتّقَوْا عِندَ رَبّهِنْ جَنّاتٌ} فـيكون مخرج ذلك مخرج الـخبر, وهو إبـانة عن معنى الـخير الذي قال: أنبئكم به؟ فلا يكون بـالكلام حينئذ حاجة إلـى ضمير.
قال أبو جعفر مـحمد بن جرير الطبري: وأما قوله: {خالِدِينَ فِـيه} فمنصوب علـى القطع¹ ومعنى قوله: {لِلّذِينَ اتّقَوْ} للذين خافوا الله فأطاعوه, بأداء فرائضه, واجتناب معاصيه. {عِندَ رَبّهِمْ} يعنـي بذلك: لهم جنات تـجري من تـحتها الأنهار عند ربهم, والـجنات: البساتـين, وقد بـينا ذلك بـالشواهد فـيـما مضى, وأن قوله: {تَـجرِي مِنْ تَـحتِها الأنهَارُ} يعنـي به: من تـحت الأشجار, وأن الـخـلود فـيها دوام البقاء فـيها, وأن الأزواج الـمطهرة: هن نساء الـجنة اللواتـي طهرن من كل أذى يكون بنساء أهل الدنـيا من الـحيض والـمنـي والبول والنفـاس وما أشبه ذلك من الأذى, بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع. وقوله: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللّهِ} يعنـي: ورضا الله, وهو مصدر من قول القائل: رضي الله عن فلان, فهو يرضى عنه رضا منقوص, ورُضْوانا وَرِضْوانا ومرضاة. فأما الرّضوان بضم الراء فهو لغة قـيس, وبه كان عاصم يقرأ. وإنـما ذكر الله جل ثناؤه فـيـما ذكر للذين اتقوا عنده من الـخير: رضوانه, لأن رضوانه أعلـى منازل كرامة أهل الـجنة. كما:
5433ـ حدثنا ابن بشار, قال: ثنـي أبو أحمد الزبـيري, قال: حدثنا سفـيان, عن مـحمد بن الـمنكدر, عن جابر بن عبد الله, قال: إذا دخـل أهل الـجنة الـجنة, قال الله تبـارك وتعالـى: أعطيكم أفضل من هذا! فـيقولون: أي ربنا أي شيء أفضل من هذا؟ قال: رضوانـي.
وقوله: {وَاللّهُ بَصِيرٌ بـالعِبـادِ} يعنـي بذلك, والله ذو بصر بـالذي يتقـيه من عبـاده, فـيخافه فـيطيعه, ويؤثر ما عنده مـما ذكر أنه أعده للذين اتقوه علـى حب ما زين له فـي عاجل الدنـيا من شهوات النساء والبنـين وسائر ما عدد منها تعالـى ذكره, وبـالذي لا يتقـيه فـيخافه, ولكنه يعصيه, ويطيع الشيطان, ويؤثر ما زين له فـي الدنـيا من حب شهوة النساء والبنـين والأموال, علـى ما عنده من النعيـم الـمقـيـم, عالـم تعالـى ذكره بكل فريق منهم, حتـى يجازي كلهم عند معادهم إلـيه جزاءهم, الـمـحسن بإحسانه, والـمسيء بإساءته
الصفحة رقم 51 من المصحف تحميل و استماع mp3