تفسير الطبري تفسير الصفحة 52 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 52
053
051
 الآية : 16
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{الّذِينَ يَقُولُونَ رَبّنَآ إِنّنَآ آمَنّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النّارِ }
ومعنى ذلك: قل هل أنبئكم بخير من ذلكم؟ للذين اتقوا يقولون ربنا آمنا إننا, فاغفر لنا ذنوبناوقنا عذاب النار. وقد يحتمل «الذين يقولون» وجهين من الإعراب: الخفض على الرد على «الذين» الأولى, والرفع على الإبتداء, إذ كان في مبتدأ آية أخرى غير التي فيها «الذين» الأولى, فيكون رفعها نظير قول الله عز وجل: {إنّ الله اشْتَرَى منَ المُؤْمِنِنَ أنفُسَهُمْ وَأَموَالَهُمْ} ثم قال في مبتدإ الاَية التي بعدها {التّائِبُونَ العابِدونَ}, ولو كان جاء ذلك مخفوضا كان جائزا.
ومعنى قوله: {الّذِينَ يَقُولُونَ رَبّنَا إنّنا آمَنّا فـاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَن} الذين يقولون: إننا صدقنا بك وبنبـيك, وما جاء به من عندك¹ {فـاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَن} يقول: فـاستر علـينا بعفوك عنها وتركك عقوبتنا علـيها¹ {وَقِنا عَذَابَ النّارِ} ادفع عنا عذابك إيانا بـالنار أن تعذبنا بها. وإنـما معنى ذلك: لا تعذبنا يا ربنا بـالنار. وإنـما خصوا الـمسألة بأن يقـيهم عذاب النار, لأن من زحزم يومئذ عن النار فقد فـاز بـالنـجاة من عذاب النار وحسن مآبه. وأصل قوله «قِنا»: من قول القائل: وقـى الله فلانا كذا, يراد به: دفع عنه فهو يقـيه, فإذا سأل بذلك سائل قال: قنـي كذا.
الآية : 17
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{الصّابِرِينَ وَالصّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأسْحَارِ }
يعنـي بقوله: {الصّابِرِينَ} الذين صبروا فـي البأساء والضراء وحين البأس. ويعنـي بـالصادقـين: الذين صدقوا الله فـي قولهم بتـحقـيقهم الإقرار به وبرسوله, وما جاء به من عنده بـالعمل بـما أمره به والانتهاء عما نهاه عنه. ويعنـي بـالقانتـين: الـمطيعين له. وقد أتـينا علـى الإبـانة عن كل هذه الـحروف ومعانـيها بـالشواهد علـى صحة ما قلنا فـيها, وبـالإخبـار عمن قال فـيها قولاً فـيـما مضى بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع, وقد كان قتادة يقول فـي ذلك بـما:
5434ـ حدثنا به بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: {الصّابِرِينَ وَالصّادِقِـينَ وَالقاتِتِـينَ وَالـمُنفِقِـينَ} الصادقـين:ف قوم صدقت أفواههم, واستقامت قلوبهم وألسنتهم, وصدقوا فـي السر والعلانـية. والصابرين: قوم صبروا علـى طاعة الله, وصبروا عن مـحارمه. والقانتون: هم الـمطيعون لله.
وأما الـمنفقون: فهم الـمؤتون زكوات أموالهم, وواضعوها علـى ما أمرهم الله بإتـيانها, والـمنفقون أموالهم فـي الوجوه التـي أذن الله لهم جلّ ثناؤه بإنفـاقها فـيها. وأما الصابرين والصادقـين وسائر هذه الـحروف فمخفوض ردّا علـى قوله: {الّذِينَ يَقُولُونَ رَبّنَا إنّنَا آمَنّ} والـخفض فـي هذه الـحروف يدلّ علـى أن قوله: {الّذِينَ يَقُولُونَ} خفض ردّا علـى قوله: {لِلّذِينَ اتّقَوْا عِندَ رَبّهِمْ}.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {والـمُسْتَغْفِرِينَ بـالأسْحارِ}.
اختلف أهل التأويـل فـي القوم الذين هذه الصفة صفتهم, فقال بعضهم: هم الـمصلون بـالأسحار. ذكر من قال ذلك:
5435ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: {وَالـمُسْتَغْفِرِينَ بـالأسْحارِ} هم أهل الصلاة.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن قتادة: {والـمُسْتَغْفِرِينَ بـالأسْحارِ} قال: يصلون بـالأسحار.
وقال آخرون: هم الـمستغفرون. ذكر من قال ذلك:
5436ـ حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبـي, عن حريث بن أبـي مطر, عن إبراهيـم بن حاطب, عن أبـيه, قال: سمعت رجلاً فـي السحر فـي ناحية الـمسجد وهو يقول: رب أمرتنـي فأطعتك, وهذا سحر فـاغفر لـي! فنظرت فإذا ابن مسعود.
5437ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا الولـيد بن مسلـم, قال: سألت عبد الرحمن بن يزيد بن جابر, عن قول الله عز وجل: {والـمُسْتَغْفِرِينَ بـالأسحارِ} قال: حدثنـي سلـيـمان بن موسى, قال: حدثنا نافع: أن ابن عمر كان يحيـي اللـيـل صلاة, ثم يقول: يا نافع أسحرنا؟ فـيقول: لا. فـيعاود الصلاة, فإذا قلت: نعم, قعد يستغفر ويدعو حتـى يصبح.
5438ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن بعض البصريـين, عن أنس بن مالك قال: أمرنا أن نستغفر بـالأسحار سبعين استغفـارة.
5439ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا زيد بن الـحبـاب, قال: حدثنا أبو يعقوب الضبـي, قال: سمعت جعفر بن مـحمد يقول: من صلـى من اللـيـل ثم استغفر فـي آخر اللـيـل سبعين مرة كتب من الـمستغفرين بـالأسحار.
وقال آخرون: هم الذين يشهدون الصبح فـي جماعة. ذكر من قال ذلك:
5440ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسماعيـل بن مسلـمة أخو القعنبـي قال: حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن, قال: قلت لزيد بن أسلـم من الـمستغفرين بـالأسحار؟ قال: هم الذين يشهدون الصبح.
وأولـى هذه الأقوال بتأويـل قوله: {وَالـمُسْتَغفِرِينَ بـالأسْحارِ} قول من قال: هم السائلون ربهم أن يستر علـيهم فضيحتهم بها بـالأسحار, وهي جمع سَحَر. وأظهر معانـي ذلك أن تكون مسألتهم إياه بـالدعاء, وقد يحتـمل أن يكون معناه: تعرضهم لـمغفرته بـالعمل والصلاة, غير أن أظهر معانـيه ما ذكرنا من الدعاء.
الآية : 18
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{شَهِدَ اللّهُ أَنّهُ لاَ إِلَـَهَ إِلاّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـَهَ إِلاّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }
يعنـي بذلك جل ثناؤه: شهد الله أنه لا إله إلا هو, وشهدت الـملائكة, وأولو العلـم. فـالـملائكة معطوف بهم علـى اسم الله, و«أنه» مفتوحة بشهد.
وكان بعض البصريـين يتأول قوله شهد الله: قضى الله, ويرفع «الـملائكة», بـمعنى: والـملائكة شهود وأولو العلـم. وهكذا قرأت قراء أهل الإسلام بفتـح الألف من أنه علـى ما ذكرت من إعمال «شهد» فـي «أنه» الأولـى وكسر الألف من «إنّ» الثانـية وابتدائها, سوى أن بعض الـمتأخرين من أهل العربـية كان يقرأ ذلك جميعا بفتـح ألفـيهما, بـمعنى: شهد الله أنه لا إلَه إلا هو, وأن الدين عند الله الإسلام, فعطف بأنّ الدين علـى «أنه» الأولـى, ثم حذف واو العطف وهي مرادة فـي الكلام. واحتـج فـي ذلك بأن ابن عبـاس قرأ ذلك: «شَهِدَ اللّهُ إنّهُ لا إلَهَ إلاّ هُوَ»... الاَية, ثم قال: {أنّ الدّينَ} بكسر «إن» الأولـى وفتـح «أنّ» الثانـية بإعمال «شهد» فـيها, وجعل «أن» الأولـى اعتراضا فـي الكلام غير عامل فـيها «شهد»¹ وأن ابن مسعود قرأ: {شَهِدَ اللّهُ أنّهُ لا إلَهَ إلاّ هُوَ} بفتـح «أنّ», وكسر «إنّ» من: {إنّ الدّينَ عِنْدَ اللّهِ الإسْلامُ} علـى معنى إعمال الشهادة فـي «أن» الأولـى و«أنّ» الثانـية مبتدأة, فزعم أنه أراد بقراءته إياهما بـالفتـح جمع قراءة ابن عبـاس وابن مسعود. فخالف بقراءته ما قرأ من ذلك علـى ما وصفت جميع قراء أهل الإسلام الـمتقدمين منهم والـمتأخرين, بدعوى تأويـل علـى ابن عبـاس وابن مسعود زعم أنهما قالاه وقرآ به, وغير معلوم ما ادعى علـيهما برواية صحيحة, ولا سقـيـمة. وكفـى شاهدا علـى خطإ قراءته خروجها من قراءة أهل الإسلام. فـالصواب إذ كان الأمر علـى ما وصفنا من قراءة ذلك فتـح الألف من «أنه» الأولـى, وكسر الألف من «إنّ» الثانـية, أعنـي من قوله: {إنّ الدّينَ عِنْدَ اللّهِ الإسْلام} ابتداء.
وقد رُوي عن السدي فـي تأويـل ذلك قول كالدّال علـى تصحيح ما قرأ به فـي ذلك من ذكرنا قوله من أهل العربـية فـي فتـح «أن» من قوله: {أنّ الدّينَ} وهو ما:
5441ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط عن السدي: {شَهِدَ اللّهُ أنّهُ لاَ إلَهَ إلاّ هُوَ وَالـمَلاَئِكَةُ} إلـى: {لا إلَهَ إلاّ هُوَ العَزِيزُ الـحَكِيـمُ} فإن الله يشهد هو والـملائكة والعلـماء من الناس أن الدين عند الله الإسلام.
فهذا التأويـل يدل علـى أن الشهادة إنـما هي عامة فـي «أن» الثانـية التـي فـي قوله: {أنّ الدّينَ عِندَ اللّهِ الإسْلام} فعلـى هذا التأويـل جائز فـي «أن» الأولـى وجهان من التأويـل: أحدهما أن تكون الأولـى منصوبة علـى وجه الشرط, بـمعنى: شهد الله بأنه واحد, فتكون مفتوحة بـمعنى الـخفض فـي مذهب بعض أهل العربـية, وبـمعنى النصب فـي مذهب بعضهم, والشهادة عاملة فـي «أنّ» الثانـية, كأنك قلت: شهد الله أن الدين عند الله الإسلام, لأنه واحد, ثم تقدم «لأنه واحد» فتفتـحها علـى ذلك التأويـل.
والوجه الثانـي: أن تكون «إن» الأولـى مكسورة بـمعنى الابتداء لأنها معترض بها, والشهادة واقعة علـى «أن» الثانـية, فـيكون معنى الكلام: شهد الله فإنه لا إلَه إلا هو والـملائكة, أن الدين عند الله الإسلام, كقول القائل: أشهد ـ فإنـي مـحق ـ أنك مـما تعاب به بريء, فـ«إنّ» الأولـى مكسورة لأنها معترضة, والشهادة واقعة علـى «أن» الثانـية.
وأما قوله: {قائما بـالقِسطِ} فإنه بـمعنى أنه الذي يـلـي العدل بـين خـلقه. والقسط: هو العدل, من قولهم: هو مقسط, وقد أقسط, إذا عدل, ونصب «قائما» علـى القطع.
وكان بعض نـحويـي أهل البصرة يزعم أنه حال من «هو» التـي فـي «لا إلَه إلا هو».
وكان بعض نـحويـي الكوفة يزعم أنه حال من اسم الله الذي مع قوله: {شَهِدَ اللّهُ} فكان معناه: شهد الله القائم بـالقسط أنه لا إلَه إلا هو. وقد ذكر أنها فـي قراءة ابن مسعود كذلك: «وأولُو العِلْـمِ القَائِمُ بـالقِسْطِ», ثم حذفت الألف واللام من القائم فصار نكرة وهو نعت لـمعرفة, فنصب.
وأولـى القولـين بـالصواب فـي ذلك عندي قول من جعله قطعا علـى أنه من نعت الله جل ثناؤه, لأن الـملائكة وأولـي العلـم معطوفون علـيه, فكذلك الصحيح أن يكون قوله «قائما» حالاً منه.
وأما تأويـل قوله: {لا إلَهَ إلاّ هُوَ العَزِيزُ الـحَكِيـمُ} فإنه نفـى أن يكون شيء يستـحق العبودة غير الواحد الذي لا شريك له فـي ملكه. ويعنـي بـالعزيز: الذي لا يـمتنع علـيه شيء أراده, ولا ينتصر منه أحد عاقبة أو انتقم منه, الـحكيـم فـي تدبـيره, فلا يدخـله خـلل.
وإنـما عنى جل ثناؤه بهذه الاَية نفـي ما أضافت النصارى الذين حاجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فـي عيسى من البنوة, وما نسب إلـيه سائر أهل الشرك من أن له شريكا, واتـخاذهم دونه أربـابـا. فأخبرهم الله عن نفسه أنه الـخالق كل ما سواه, وأنه رب كل ما اتـخذه كل كافر وكل مشرك ربـا دونه, وأن ذلك مـما يشهد به هو وملائكته وأهل العلـم به من خـلقه. فبدأ جل ثناؤه بنفسه تعظيـما لنفسه, وتنزيها لها عما نسب الذين ذكرنا أمرهم من أهل الشرك به ما نسبوا إلـيها, كما سن لعبـاده أن يبدءوا فـي أمورهم بذكره قبل ذكر غيره, مؤدبـا خـلقه بذلك.
والـمراد من الكلام: الـخبر عن شهادة من ارتضاهم من خـلقه فقدموه من ملائكته وعلـماء عبـاده, فأعلـمهم أن ملائكته ـ التـي يعظمها العابدون غيره من أهل الشرك ويعبدها الكثـير منهم ـ وأهلَ العلـم منهم منكرون ما هم علـيه مقـيـمون من كفرهم, وقولهم فـي عيسى وقول من اتـخذ ربـا غيره من سائر الـخـلق, فقال شهدت الـملائكة وأولو العلـم أنه لا إلَه إلا هو, وأن كل من اتـخذ ربـا دون الله فهو كاذب¹ احتـجاجا منه لنبـيه علـيه الصلاة والسلام علـى الذين حاجوه من وفد نـجران فـي عيسى, واعترض بذكر الله وصفته علـى ما نبـينه, كما قال جل ثناؤه: {وَاعْلَـمُوا أنّـمَا غَنِـمْتُـمْ مِنْ شَيْءٍ فَـأَنّ لِلّهِ خُمُسَهُ} افتتاحا بـاسمه الكلام, فكذلك افتتـح بـاسمه والثناء علـى نفسه الشهادة بـما وصفنا من نفـي الألوهة من غيره وتكذيب أهل الشرك به. فأما ما قال الذي وصفنا قوله من أنه عَنَى بقوله شهد: قضى, فمـما لا يعرف فـي لغة العرب ولا العجم, لأن الشهادة معنى, والقضاء غيرها.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك رُوي عن بعض الـمتقدمين القول فـي ذلك.
5442ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {شَهِدَ اللّهُ أنّهُ لاَ إلَهَ إلاّ هُوَ وَالـمَلائِكَةُ وأُولُو العِلْـمِ} بخلاف ما قالوا, يعنـي: بخلاف ما قال وفد نـجران من النصارى, {قائما بـالْقِسْطِ} أي بـالعدل.
5443ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: {بـالقِسْطِ} بـالعدل.
الآية : 19
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{إِنّ الدّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ إِلاّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ }
ومعنى الدين فـي هذا الـموضع: الطاعة والذلة, من قول الشاعر:
ويوْمُ الـحَزْنِ إذْ حَشَدَتْ مَعَدّوكانَ النّاسُ إلاّ نَـحنُ دِينَا
يعنـي بذلك: مطيعين علـى وجه الذل¹ ومنه قول القطامي:
كانَتْ نَـوَارُ تَدِينُكَ الأدْيانَا
يعنـي تذلّك. وقول الأعشى ميـمون بن قـيس:
هُوَ دَان الرّبـابِ إذْ كَرِهُوا الدّيـنَ دِرَاكا بغَزْوَةٍ وَصيالِ
يعنـي بقوله «دان»: ذلل, وبقوله «كرهوا الدين»: الطاعة. وكذلك الإسلام, وهو الانقـياد بـالتذلل والـخشوع والفعل منه أسلـم, بـمعنى: دخـل فـي السلـم, كما يقال أقحط القوم: إذا دخـلوا فـي القحط, وأربعوا: إذا دخـلوا فـي الربـيع, فكذلك أسلـموا: إذا دخـلوا فـي السلـم, وهو الانقـياد بـالـخضوع وترك الـمـمانعة. فإذا كان ذلك كذلك, فتأويـل قوله: {إنّ الدّينَ عِنْدَ اللّهِ الإسْلامُ} إن الطاعة التـي هي الطاعة عنده الطاعة له, وإقرار الألسن والقلوب له بـالعبودية والذلة, وانقـيادها له بـالطاعة فـيـما أمر ونهى, وتذللها له بذلك من غير استكبـار علـيه ولا انـحراف عنه دون إشراك غيره من خـلقه معه فـي العبودية والألوهية.
وبنـحو ما قلنا فـي ذلك قال جماعة من أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
5444ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: {إنّ الدّينَ عِنْدَ اللّهِ الإسْلام} والإسلام: شهادة أن لا إلَه إلا الله, والإقرار بـما جاء به من عند الله, وهو دين الله الذي شرع لنفسه, وبعث به رسله, ودل علـيه أولـياءه, لا يقبل غيره ولا يجزى إلا به.
5445ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, قال: حدثنا أبو العالـية فـي قوله: {إنّ الدّينَ عِنْدَ اللّهِ الإسْلام} قال: الإسلام: الإخلاص لله وحده وعبـادته لا شريك له, وإقام الصلاة, وإيتاء الزكاة, وسائر الفرائض لهذا تبع.
5446ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: {أسْلَـمْنَ} قال: دخـلنا فـي السلـم وتركنا الـحرب.
5447ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {إنّ الدينَ عندَ اللّهِ الإسلامَ}: أي ما أنت علـيه يا مـحمد من التوحيد للربّ والتصديق للرسل.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَما اخْتَلَفَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ إلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ العِلْـمُ بَغْيا بَـيْنَهُمْ}.
يعنـي بذلك جل ثناؤه: وما اختلف الذين أوتوا الإنـجيـل, وهو الكتاب الذي ذكره الله فـي هذه الاَية فـي أمر عيسى, وافترائهم علـى الله فـيـما قالوه فـيه من الأقوال التـي كثر بها اختلافهم بـينهم وتشتت بها كلـمتهم, وبـاين بها بعضهم بعضا, حتـى استـحلّ بها بعضهم دماء بعض, {إلاّ مِنْ بَعْدِ ما جَاءَهُمُ العِلْـمُ بَغْيا بَـينهم} يعنـي: إلا من بعد ما علـموا الـحقّ فـيـما اختلفوا فـيه من أمره وأيقنوا أنهم فـيـما يقولون فـيه من عظيـم الفرية مبطلون. فأخبر الله عبـاده أنهم أتوا ما أتوا من البـاطل وقالوا ما قالوا من القول الذي هو كفر بـالله علـى علـم منهم بخطإ ما قالوه, وأنهم لـم يقولوا ذلك جهلاً منهم بخطئه, ولكنهم قالوه واختلفوا فـيه الاختلاف الذي هم علـيه, تعدّيا من بعضهم علـى بعض, وطلب الرياسات والـملك والسلطان. كما:
5448ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع فـي قوله: {وَما اخْتَلَفَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ إلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ العِلْـمُ بَغْيا بَـيْنَهُمْ} قال: قال أبو العالـية: إلا من بعدما جاءهم الكتاب والعلـم بغيا بـينهم, يقول: بغيا علـى الدنـيا وطلب ملكها وسلطانها, فقتل بعضهم بعضا علـى الدنـيا, من بعد ما كانوا علـماء الناس.
5449ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, عن ابن عمر: أنه كان يكثر تلاوة هذه الاَية: {إنّ الدّينَ عِنْدَ اللّهِ الإسلام وَما اخْتَلَفَ الّذِينَ أُوتُوا الكتابَ إلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ العِلْـمُ بَغْيا بَـيْنَهُمْ} يقول: بغيا علـى الدنـيا, وطلب ملكها وسلطانها, من قِبَلها واللّه أُتـينا! ما كان علـينا من يكون, بعد أن يأخذ فـينا كتاب الله وسنة نبـيه, ولكنا أُتـينا من قبلها.
5450ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, قال: إن موسى لـما حضره الـموت دعا سبعين حبرا من أحبـار بنـي إسرائيـل, فـاستودعهم التوراة, وجعلهم أمناء علـيه, كل حبر جزءا منه, واستـخـلف موسى يوشع بن نون. فلـما مضى القرن الأوّل, ومضى الثانـي, ومضى الثالث, وقعت الفرقة بـينهم, وهم الذين أوتوا العلـم من أبناء أولئك السبعين, حتـى أهراقوا بـينهم الدماء, ووقع الشّر والاختلاف, وكان ذلك كله من قبل الذين أوتوا العلـم بغيا بـينهم علـى الدنـيا, طلبـا لسلطانها وملكها وخزائنَها وزخرفها, فسلط الله علـيهم جبـابرتهم, فقال الله: {إنّ الدّينَ عِنْدَ اللّهِ الإسْلامِ} إلـى قوله: {وَاللّهِ بَصِيرٌ بِـالْعِبَـادِ}.
فقول الربـيع بن أنس هذا يدلّ علـى أنه كان عنده أنه معنـيّ بقوله: {وَما اختلَفَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ} الـيهود من بنـي إسرائيـل دون النصارى منهم ومن غيرهم. وكان غيره يوجه ذلك إلـى أن الـمعنـيّ به النصارى الذين أوتوا الإنـجيـل. ذكر من قال ذلك:
5451ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {وَما اختَلَفَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ إلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ العِلْـمُ} الذي جاءك, أي أن الله الواحد الذي لـيس له شريك, {بَغْيا بَـيْنَهُمْ} يعنـي بذلك: النصارى.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بآياتِ اللّهِ فإنّ اللّهَ سَرِيعُ الـحِسابِ}. يعنـي بذلك: ومن يجحد حجج الله وأعلامه التـي نصبها ذكرى لـمن عقل, وأدلة لـمن اعتبر وتذكر, فإن الله مـحص علـيه أعماله التـي كان يعملها فـي الدنـيا, فمـجازيه بها فـي الاَخرة, فإنه جلّ ثناؤه سريع الـحساب, يعنـي: سريع الإحصاء. وإنـما معنى ذلك: أنه حافظٌ علـى كل عامل عمله, لا حاجة به إلـى عقد, كما يعقده خـلقه بأكفهم, أو يعونه بقلوبهم, ولكنه يحفظ ذلك علـيهم بغير كلفة ولا مؤونة, ولا معاناة لـما يعانـيه غيره من الـحساب.
وبنـحو الذي قلنا فـي معنى {سَرِيعُ الـحِسابِ} كان مـجاهد يقول.
5452ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح عن مـجاهد فـي قول الله عزّ وجلّ: {وَمَنْ يَكْفُرْ بآياتِ اللّهِ فإنّ اللّهَ سَرِيعُ الـحِسابِ} قال: إحصاؤه علـيهم.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح عن مـجاهد: {وَمَنْ يَكْفُرْ بآياتِ اللّهِ فَإنّ اللّهَ سَرِيعُ الـحِسابِ} إحصاؤه.
الآية : 20
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{فَإنْ حَآجّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للّهِ وَمَنِ اتّبَعَنِ وَقُلْ لّلّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَالاُمّيّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وّإِن تَوَلّوْاْ فَإِنّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ }
يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: فإن حاجّك يا مـحمد النفر من نصارى أهل نـجران فـي أمر عيسى صلوات الله علـيه, فخاصموك فـيه بـالبـاطل, فقل: انقدت لله وحده بلسانـي وقلبـي وجميع جوارحي, وإنـما خصّ جلّ ذكره بأمره بأن يقول: أسلـمت وجهي لله, لأن الوجه أكرم جوارح ابن آدم علـيه, وفـيه بهاؤه وتعظيـمه فإذا خضع وجهه لشيء, فقد خضع له الذي هو دونه فـي الكرامة علـيه من جوارح بدنه. وأما قوله: {وَمَنِ اتّبَعَنِـي} فإنه يعنـي: وأسلـم من اتبعنـي أيضا وجهه لله معي, ومن معطوف بها علـى التاء فـي «أسلـمت». كما:
5453ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {فإنْ حاجّوكَ} أي بـما يأتونك به من البـاطل من قولهم: خـلقنا, وفعلنا, وجعلنا, وأمرنا, فإنـما هي شبه بـاطلة قد عرفوا ما فـيها من الـحقّ, فقل: أسلـمت وجهي لله ومن اتبعنـي.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَقُلْ لِلّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ وَالأُمّيّـينَ أأسْلَـمْتُـمْ فإنْ أسْلَـمُوا فَقَدِ اهْتَدُو}.
يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: وقل يا مـحمد للذين أوتوا الكتاب من الـيهود والنصارى, والأميـين الذين لا كتاب لهم من مشركي العرب أأسلـمتـم؟ يقول: قل لهم: هل أفردتـم التوحيد, وأخـلصتـم العبـادة والألوهة لربّ العالـمين دون سائر الأنداد والأشراك التـي تشركونها معه فـي عبـادتكم إياهم, وإقراركم بربوبـيتهم, وأنتـم تعلـمون أنه لا ربّ غيره, ولا إله سواه, فإن أسلـموا يقول: فإن انقادوا لإفراد الوحدانـية لله, وإخلاص العبـادة والألوهة له, فقد اهتدوا, يعنـي: فقد أصابوا سبـيـل الـحقّ, وسلكوا مـحجة الرشد.
فإن قال قائل: وكيف قـيـل: فإن أسلـموا فقد اهتدوا عقـيب الاستفهام, وهل يجوز علـى هذا فـي الكلام أن يقال لرجل: هل تقوم؟ فإن تقم أكرمك؟. قـيـل: ذلك جائز إذا كان الكلام مرادا به الأمر, وإن خرج مخرج الاستفهام, كما قال جلّ ثناؤه: {وَيَصُدّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصّلاةِ فَهَلْ أنْتُـمْ مُنْتَهُونَ} يعنـي انتهوا, وكما قال جل ثناؤه مخبرا عن الـحواريـين أنهم قالوا لعيسى: {يا عيسَى ابنَ مَريـمَ هلْ يَستطيعُ رَبّكَ أنْ يُنَزّلَ عَلـينَا مائدةً مِنَ السماءِ}. وإنـما هو مسألة, كما يقول الرجل: هل أنت كافّ عنا؟ بـمعنى: اكفف عنا, وكما يقول الرجل للرجل: أين أين؟ بـمعنى؟ أقم فلا تبرح, ولذلك جُوزي فـي الاستفهام كما جوزي فـي الأمر فـي قراءة عبد الله: «هَلْ أدُلّكُمْ علـى تِـجارَةٍ تُنْـجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ ألِـيـمٍ؟ آمِنُوا» ففسرها بـالأمر, وهي فـي قراءتنا علـى الـخبر¹ فـالـمـجازاة فـي قراءتنا علـى قوله: {هَلْ أدُلكُمْ} وفـي قراءة عبد الله علـى قوله: «آمِنُوا» علـى الأمر, لأنه هو التفسير.
وبنـحو معنى ما قلنا فـي ذلك قال بعض أهل التأويـل.
5454ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن مـحمد بن إسحاق, عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {وَقُلْ لِلّذِينَ أُوتُوا الكتابَ والأُميّـينَ} الذين لا كتاب لهم: {أأسْلَـمْتُـمْ فإنْ أسْلَـمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْ}... الاَية.
5455ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: قال ابن عبـاس: {وَقُلْ لِلّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ وَالأُمّيّـينَ} قال: الأميون: الذين لا يكتبون.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وإن تَوَلّوْا فَإنّـما عَلَـيْكَ البَلاغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِـالعِبـادِ}.
يعنـي جلّ ثناؤه بقوله: {وَإنْ تَوَلّوْ} وإن أدبروا معرضين عما تدعوهم إلـيه من الإسلام, وإخلاص التوحيد لله ربّ العالـمين, فإنـما أنت رسول مبلغ, ولـيس علـيك غير إبلاغ الرسالة إلـى من أرسلتك إلـيه من خـلقـي, وأداء ما كلفتك من طاعتـي. {وَاللّهُ بَصِيرٌ بِـالعِبـادِ} يعنـي بذلك, والله ذو علـم بـمن يقبل من عبـاده ما أرسلتك به إلـيه, فـيطيعك بـالإسلام, وبـمن يتولـى منهم عنه معرضا, فـيردّ علـيك ما أرسلتك به إلـيه فـيعصيك بإبـائه الإسلام.
الآية : 21-22
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{إِنّ الّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النّبِيّينَ بِغَيْرِ حَقّ وَيَقْتُلُونَ الّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النّاسِ فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * أُولَـَئِكَ الّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدّنْيَا وَالاَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مّن نّاصِرِينَ }
يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: {إنّ الّذِينَ يَكْفُرُونَ بآياتِ اللّهِ} أي يجحدون حجج الله وأعلامه فـيكذّبون بها من أهل الكتابـين التوراة والإنـجيـل. كما:
5456ـ حدثنـي ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير, قال: ثم جمع أهل الكتابـين جميعا, وذكر ما أحدثوا وابتدعوا من الـيهود والنصارى, فقال: {إنّ الّذِينَ يَكْفُرُونَ بآياتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النّبِـيّـينَ بِغَيْرِ حَقّ} إلـى قوله: {قُلِ اللّهُمّ مالِكَ الـمُلْكِ تُؤْتِـي الـمُلْكَ مَنْ تَشاءُ}.
وأما قوله: {وَيَقْتُلُوُنَ النّبِـيّـينَ بِغَيْرِ حَقّ} فإنه يعنـي بذلك أنهم كانوا يقتلون رسل الله الذين كانوا يرسلون إلـيهم بـالنهي عما يأتون من معاصي الله, وركوب ما كانوا يركبونه من الأمور التـي قد تقدم الله إلـيهم فـي كتبهم بـالزجر عنها, نـحو زكريا وابنه يحيـى وما أشبههما من أنبـياء الله.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَيَقْتُلُونَ الّذِينَ يَأْمُرُونَ بِـالْقِسْطِ مِنَ النّاسِ}.
اختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك, فقرأه عامة أهل الـمدينة والـحجاز والبصرة والكوفة وسائر قرّاء الأمصار: {وَيَقْتُلُونَ الّذِينَ يَأْمُرُونَ بِـالْقِسْطِ} بـمعنى القتل. وقرأه بعض الـمتأخرين من قرّاء الكوفة: «ويقاتلون», بـمعنى القتال تأوّلاً منه قراءة عبد الله بن مسعود, وادّعى أن ذلك فـي مصحف عبد الله: «وقاتلوا», فقرأ الذي وصفنا أمره من القراء بذلك التأويـل «ويقاتلون».
والصواب من القراءة فـي ذلك عندنا, قراءة من قرأه: {وَيَقْتُلُونَ} لإجماع الـحجة من القراء علـيه به, مع مـجيء التأويـل من أهل التأويـل بأن ذلك تأويـله. ذكر من قال ذلك:
5457ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن معقل بن أبـي مسكين فـي قوله الله صلى الله عليه وسلم: {وَيَقْتُلُونَ الّذِينَ يَأْمُرُونَ بِـالْقِسْطِ مِنَ النّاسِ} قال: كان الوحي يأتـي إلـى بنـي إسرائيـل فـيذكّرون, ولـم يكن يأتـيهم كتاب, فـيُقتَلون, فـيقوم رجال مـمن اتبعهم وصدّقهم, فـيذكّرون قومهم فـيقتلون, فهم الذين يأمرون بـالقسط من الناس.
5458ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن قتادة فـي قوله: {وَيَقْتُلُونَ النّبِـيّـينَ بِغَيْرِ حَقّ وَيَقْتُلُونَ الّذِينَ يَأْمُرُونَ بِـالْقِسْطِ مِنَ النّاسِ} قال: هؤلاء أهل الكتاب, كان أتبـاع الأنبـياء ينهونهم ويذكرونهم فـيقتلونهم.
5459ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, قال: قال ابن جريج فـي قوله: {إنّ الّذِينَ يَكْفُرُونَ بآياتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النّبِـيّـينَ بِغَيْرِ حَقّ وَيَقْتُلُونَ الّذِينَ يَأْمُرُونَ بِـالْقِسْطِ مِنَ النّاسِ} قال: كان ناس من بنـي إسرائيـل مـمن لـم يقرأ الكتاب كان الوحي يأتـي إلـيهم, فـيذكّرون قومهم فـيقتلون علـى ذلك, فهم الذين يأمرون بـالقسط من الناس.
5460ـ حدثنـي أبو عبـيد الرصافـي مـحمد بن جعفر, قال: حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا أبو الـحسن مولـى بنـي أسد, عن مكحول, عن قبـيصة بن ذؤيب الـخزاعي, عن أبـي عبـيدة بن الـجرّاح, قال: قلت يا رسول الله, أيّ الناس أشدّ عذابـا يوم القـيامة؟ قال: «رَجُلٌ قَتَلَ نَبِـيّا, أوْ رَجُلٌ أمَرَ بـالـمُنْكَرِ وَنَهَى عَنِ الـمَعْرُوفِ». ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الّذِينَ يَقْتُلُونَ النّبِـيّـينَ بِغَيْرِ حَقّ وَيَقْتُلُونَ الّذِينَ يَأْمُرُونَ بِـالْقِسْطِ مِنَ النّاسِ» إلـى أن انتهى إلـى: {وَما لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبـا عُبَـيْدَةَ قَتَلَتْ بَنُو إسْرَائِيـلَ ثَلاَثَةً وَأرْبَعِينَ نَبِـيّا مِنْ أَوّلِ النّهارِ فِـي سَاعَةٍ وَاحِدَةً, فَقَامَ مِائَةُ رَجُلٍ وَاثْنَا عَشَرَ رَجُلاً مِنْ عُبّـادِ بَنِـي إسْرَائِيـلَ, فأمَرُوا مَنْ قَتَلَهُمْ بِـالـمَعْرُوفِ وَنَهَوْهُمْ عَنِ الـمُنْكَرِ فَقُتِلُوا جَمِيعا مِنْ آخِرِ النّهَارِ فِـي ذَلِكَ الـيَوْمِ, وَهُمُ الّذِينَ ذَكَرَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ».
فتأويـل الاَية إذا: إن الذين يكفرون بآيات الله, ويقتلون النبـيـين بغير حقّ, ويقتلون آمريهم بـالعدل فـي أمر الله ونهيه, الذين ينهونهم عن قتل أنبـياء الله وركوب معاصيه.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ ألِـيـمٍ أُولَئِكَ الّذِينَ حَبِطَتْ أعْمَالُهُمْ فِـي الدّنْـيا وَالاَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}.
يعنـي بقوله جلّ ثناؤه: {فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ ألِـيـمٍ} فأخبرهم يا مـحمد, وأعلـمهم أن لهم عند الله عذابـا مؤلـما لهم, وهو الـموجع.
وأما قوله: {أُولَئِكَ الّذِينَ حَبِطَتْ أعْمَالُهُمْ فِـي الدّنْـيَا وَالاَخِرَةِ} فإنه يعنـي بقوله: {أُولَئِكَ} الذين يكفرون بآيات الله. ومعنى ذلك: أن الذين ذكرناهم, هم الذين حبطت أعمالهم, يعنـي بطلت أعمالهم فـي الدنـيا والاَخرة. فأما قوله: {فِـي الدّنْـيَ} فلـم ينالوا بها مـحمدة ولا ثناء من الناس, لأنهم كانوا علـى ضلال وبـاطل, ولـم يرفع الله لهم بها ذكرا, بل لعنهم وهتك أستارهم, وأبدى ما كانوا يخفون من قبـائح أعمالهم علـى ألسن أنبـيائه ورسله فـي كتبه التـي أنزلها علـيهم, فأبقـى لهم ما بقـيت الدنـيا مذمة, فذلك حبوطها فـي الدنـيا. وأما فـي الاَخرة, فإنه أعدّ لهم فـيها من العقاب ما وصف فـي كتابه, وأعلـم عبـاده أن أعمالهم تصير بورا لا ثواب لها, لأنها كانت كفرا بـالله, فجزاء أهلها الـخـلود فـي الـجحيـم.
وأما قوله: {وَمَا لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ} فإنه يعنـي: وما لهؤلاء القوم من ناصر ينصرهم من الله إذا هو انتقم منهم بـما سلف من إجرامهم واجترائهم علـيه, فـيستنقذهم منه