تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 530 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 530

529

28- "ونبئهم أن الماء قسمة بينهم" أي بين ثمود وبين الناقة، لها يوم ولهم يوم، كما في قوله: " لها شرب ولكم شرب يوم معلوم" وقال: نبئهم بضمير العقلاء تغليباً "كل شرب محتضر" الشرب بكسر الشين الخظ من الماء. ومعنى محتضر: أنه يحضره من هو له، فالناقة تحضره يوماً وهم يحضرونه يوماً. قال مجاهد: إن ثمود يحضرون الماء يوم نوبتهم، فيشربون ويحضرون يوم نوبتها فيحتلبون. قرأ الجمهور " قسمة " بكسر القاف بمعنى مقسوم، وقرأ أبو عمرو في رواية عنه بفتحها.
29- "فنادوا صاحبهم" أي نادى ثمود صاحبهم وهو قدار بن سالف عاقر الناقة يحضونه على عقرهم "فتعاطى فعقر" أي تناول الناقة بالعقر فعقرها، أو اجترأ على تعاطي أسباب العقر فعقر. قال محمد بن إسحاق: كمن لها في أصل شجرة على طريقها، فرماها بسهم فانتظم به عضلة ساقها، ثم شد عليها بالسيف فكسر عرقوبها ثم نحرها والتعاطي: تناول الشيء بتكلف.
30- "فكيف كان عذابي ونذر" قد تقدم تفسير في هذه السورة.
ثم بين ما أجمله من العذاب فقال: 31- "إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة" قال عطاء: يريد صيحة جبريل، وقد مضى بيان هذا في سورة هود وفي الأعراف "فكانوا كهشيم المحتظر" قرأ الجمهور بكسر الظاء، والهشيم: حطام الشجر ويابسه، والمتحظر: صاحب الحظيرة، وهو الذي يتخذ لغنمه حظيرة تمنعها عن برد الريح، يقال احتظر على غنمه: إذا جمع الشجر ووضع بعضه فوق بعض. قال في الصحاح: والمحتظر: الذي يعمل الحظيرة. وقرأ الحسن وقتادة وأبو العالية بفتح الظاء: أي كهشيم الحظيرة، فمن الذي يعمل الحظيرة. وقرأ الحسن وقتادة وأبو العالية بفتح الظاء: أي كهشيم الحظيرة، فمن قرأ بالكسر أراد الفاعل للاحتظار، ومن قرأ بالفتح أراد الحظيرة، وهي فعيلة بمعنى مفعولة، ومعنى الآية أنهم صاروا كالشجر إذا يبس في الحظيرة وداسته الغنم بعد سقوطه، ومنه قول الشاعر: أثرن عجاجه كدخان نار تشب بغرقد بال هشيم وقال قتادة: هو العظام النخرة المحترقة. وقال سعيد بن جبير: هو التراب المتناثر من الحيطان في يوم ريح. وقال سفيان الثوري: هو ما يتناثر من الحظيرة إذا ضربتها بالعصي. قال ابن زيد: العرب تسمي كل شيء كان رطباً فيبس هشيماً، ومنه قول الشاعر: ترى جيف المطي بجانبيه كأن عظامها خشب الهشيم
32- "ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر" قد تقدم تفسير هذا في هذه السورة.
ثم أخبر سبحانه عن قوم لوط بأنهم كذبوا رسل الله كما كذبهم غيرهم فقال: 33- "كذبت قوم لوط بالنذر" وقد تقدم تفسير النذر قريباً.
ثم بين سبحانه ما عذبهم به فقال: 34- "إنا أرسلنا عليهم حاصباً" أي ريحاً ترميهم بالحصباء، وهي الحصى. قال أبو عبيدة وانضر بن شميل: الحاصب: الحجارة في الريح. قال في الصحاح: الحاصب الريح الشديدة التي تثير الحصباء، ومنه قول الرزدق: مستقبلين شمال الشام يضربها بحاصب كنديف القطن منتور "إلا آل لوط نجيناهم بسحر" يعني لوطاً ومن تبعه، والسحر آخر الليل، وقيل هو في كلام العرب اختلاط سواد الليل ببياض أول النهار، وانصرف سحر لأنه نكرة لم يقصد به سحر ليلة معينة، ولو قصد معيناً لامتنع. كذا قال الزجاج والأخفش وغيرهما.
وانتصاب 35- "نعمة من عندنا" على العلة، أو على المصدرية: أي إنعاماً منا على لوط ومن تبعه "كذلك نجزي من شكر" أي مثل ذلك الجزاء نجزي من شكر نعمتنا ولم يكفرها.
36- "ولقد أنذرهم بطشتنا" أي أنذر لوط قومه بطشة الله بهم وهي عذابه الشديد وعقوبته البالغة "فتماروا بالنذر" أي شكوا في الإنذار ولم يصدقوه، وهو تفاعلوا من المرية، وهي الشك.
37- "ولقد راودوه عن ضيفه" أي أرادوا منه تمكينهم ممن أتاه من الملائكة ليفجروا بهم كما هو دأبهم، يقال راودته عن كذا مراودة ورواداً: أي أردته، وراد الكلام يردوه روداً: أي طلبه، وقد تقدم تفسير المراودة مستوفى في سورة هود "فطمسنا أعينهم" أي صيرنا أعينهم ممسوحة لا يرى لها شق كما تطمس الريح الأعلام بما تسفي عليها من التراب. وقيل أذهب الله نور أبصارهم مع بقاء الأعين على صورتها. قال الضحاك طمس الله على أبصارهم فلم يروا الرسل فرجعوا "فذوقوا عذابي ونذر" قد تقدم تفسيره في هذه السورة.
38- "ولقد صبحهم بكرة عذاب مستقر" أي أتاهم صباحاً عذاب مستقر بهم نازل عليهم لا يفارقهم ولا ينفك عنهم. قال مقاتل: استقر بهم العذاب بكرة، وانصراف بكرة لكونه لم يرد بها وقتاً بعينه كما سبق في بسحر.
39- "فذوقوا عذابي ونذر".
40- " فذوقوا عذابي ونذر * ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر " قد تقدم تفسير هذا في هذه السورة، ولعل وجه تكرير تيسير القرآن للذكر في هذه السورة الاشعار بأنه منة عظيمة لا ينبغي لأحد أن يغفل عن شكرها. وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: "إنا أرسلنا عليهم ريحاً صرصراً" قال: باردة "في يوم نحس" قال أيام شداد. وأخرج ابن المنذر وابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يوم الأربعاء يوم نحس مستمر" وأخرجه عنه ابن مردويه من وجه آخر مرفوعاً. وأخرجه ابن مردويه عن علي مرفوعاً. وأخرجه ابن مردويه أيضاً عن أنس مرفوعاً، وفيه "قيل: وكيف ذاك يا رسول الله؟ قال: أغرق الله فيه فرعون وقومه، وأهلك فيه عاداً وثموداً". وأخرج ابن مردويه والخطيب بسند. قال السيوطي: ضعيف عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "آخر أربعاء في الشهر يوم نحس مستمر". وأخرج ابن المنذر عنهم "كأنهم أعجاز نخل" قال: أصول النخل "منقعر" قال: منقلع. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً في الآية قال: أعجاز سواد النخل. وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً "وسعر" قال شقاء. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه أيضاً قال "كهشيم المحتظر" قال: كحظائر من الشجر محترقة. وأخرج ابن جرير عنه أيضاً في الآية قال: كالعظام المحترقة. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عنه قال: كالحشيش تأكله الغنم.
41- "النذر" يجوز أن يكون جمع نذير، ويجوز أن يكون مصدر بمعنى الإنذار كما تقدم، وهي الآيات التي أنذرهم بها موسى.
وهذا أولى لقوله: 42- "كذبوا بآياتنا كلها" فإنه بيان لذلك، والمراد بها الآيات التسع التي تقدم ذكرها "فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر" أي أخناهم بالعذاب أخذ غالب في انتقامه قادر على إهلاكهم لا يعجزه شيء.
ثم خوف سبحانه كفار مكة فقال: 43- "أكفاركم خير من أولئكم" والاستفهام للإنكار، والمعنى النفي: أي ليس كفاركم يا أهل مكة، أو يا معشر العرب خير من كفار مكة من تقدمكم من الأمم الذين أهلكوا بسبب كفرهم، فكيف تطمعون في السلامة من العذاب وأنتم شر منهم. ثم أضرب سبحانه عن ذلك وانتقل إلى تبكيتهم بوجه آخر هو أشد من التبكيت بالوجه الأول فقال: "أم لكم براءة في الزبر" والزبر هي الكتب المنزلة على الأنبياء، والمعنى: إنكار أن تكون لهم براءة من عذاب الله في شيء من كتب الأنبياء.
ثم أضرب عن هذا التبكيت وانتقل إلى التبكيت لهم بوجه آخر فقال: 44- "أم يقولون نحن جميع منتصر" أي جماعة لا تطاق لكثرة عددنا وقوتنا أو أمرنا مجتمع لا نغلب، وأفرد نتصراً اعتباراً بلفظ جميع. قال الكلبي: المعنى نحن جميع أمرنا ننتصر من أعدائنا.
فرد الله سبحانه عليهم بقوله: 45- "سيهزم الجمع" أي جمع كفار مكة، أو كفار العرب على العموم. قرأ الجمهور "سيهزم" بالتحتية مبنياً للمفعول. وقرأ ورش عن يعقوب " سيهزم " بالنون وكسر الزاي ونصب الجمع. وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة بالتحتية مبنياً للفاعل، وقرئ بالفوقية مبنياً للفاعل "ويولون الدبر" قرأ الجمهور "يولون" بالتحتية، وقرأ عيسى وابن أبي إسحاق وورش عن يعقوب بالفوقية على الخطاب، والمراد بالدبر الجنس، وهو في معنى الإدبار، وقد هزمهم الله يوم بدر وولوا الأدبار، وقتل رؤساء الشرك وأساطير الكفر، فلله الحمد.
46- "بل الساعة موعدهم" أي موعد عذابهم الأخروي، وليس هذا العذاب الكائن في الدنيا بالقتل والأسر والقهر هو تمام ما وعدوا به من العذاب، وإنما هو مقدمة من مقدماته وطليعة من طلائعه، ولهذا قال: "والساعة أدهى وأمر" أي وعذاب الساعة أعظم في الضر وأفظع، مأخوذ من الدهاء، وهو النكر والفظاعة، ومعنى أمر: أشد مرارة من عذاب الدنيا، يقال دهاه أمر كذا: أي أصابه دهواً ودهياً.
47- "إن المجرمين في ضلال وسعر" أي في ذهاب عن الحق وبعد عنه، وقد تقدم في هذه السورة تفسير وسعر فلا نعيده.
48- "يوم يسحبون في النار على وجوههم" والظرف منتصب بما قبله: أي كائنون في ضلال وسعر يوم يسحبون، أو بقول مقدر بعده: أي يوم يسحبون يقال لهم: "ذوقوا مس سقر" أي قاسوا حرها وشدة عذابها، وسقر علم لجهنم. وقرأ أبو عمرو في رواية عنه بإدغام سين مس في سين سقر.
49- " إنا كل شيء خلقناه بقدر " قرأ الجمهور بنصب كل على الاشتغال . وقرأ أبو السماك بالرفع ، والمعنى : أن كل شيء من الأشياء خلقه الله سبحانه ملتبسا بقدر قدره وقضاء قضاه سبق في علنه مكتوب في اللوح المحفوظ قبل وقوعه ، والقدر التقدير ، وقد قدمنا الكلام على تفسير هذه الآية مستوفى .