تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 539 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 539

538

قوله: 12- "يوم ترى المؤمنين والمؤمنات" العامل في الظرف مضمر وهو أذكر، أو كريم، أو فيضاعفه، أو العامل في لهم وهو الاستقرار، والخطاب لكل من يصلح له، وقوله: "يسعى نورهم" في محل نصب على الحال من مفعول ترى، والنور هو الضياء الذي يرى "بين أيديهم وبأيمانهم" وذلك على الصراط يوم القيامة، وهو دليلهم إلى الجنة. قال قتادة: إن المؤمن يضيء له نور كما بين عدن إلى صنعاء، حتى إن من المؤمنين من لا يضيء له نورة إلا موضع قدميه. وقال الضحاك ومقاتل: وبأيمانهم كتبهم التي أعطوها، فكتبهم بأيمانهم، ونورهم بين أيديهم. قال الفراء: الباء بمعنى في: أي في أيمانهم، أو بمعنى عن. قال الضحاك أيضاً: نورهم هداهم وبأيمانهم كتبهم، واختار هذا ابن جرير الطبري: أي يسعى أيمانهم وعملهم الصالح بين أيديهم، وفي أيمانهم كتب أعمالهم، قرأ الجمهور "بأيمانهم" جمع يمين. وقرأ سهل بن سعد الساعدي وأبو حيوة بأيمانهم بكسر الهمزة على أن المراد بالإيمان ضد الكفر، وقيل هو القرآن، والجار والمجرور في الموضعين في محل نصب على الحال من نورهم: أي كائناً بين أيديهم وبأيمانهم "بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها" بشراكم مبتدأ، وخبره جنات على تقدير مضاف: أي دخول جنات، والجملة مقول قول مقدر: أي يقال لهم هذا، والقائل لهم هم الملائكة. قال مكي: وأجاز الفراء نصب جنات على الحال، ويكون اليوم خبر بشراكم، وهذا بعيد جداً خالدين فيها حال مقدرة، والإشارة بقوله: "ذلك" إلى النور والبشرى، وهو مبتدأ وخبره "هو الفوز العظيم" أي لا يقادر قدره حتى كأنه لا فوز غيره، ولا اعتداد بما سواه.
13- "يوم يقول المنافقون والمنافقات" يوم بدل من يوم الأول، ويجوز أن يكون العامل فيه الفوز العظيم، ويجوز أن يكون منصوباً بفعل مقدر: أي اذكر "للذين آمنوا" اللام للتبليغ كنظائرها. قرأ الجمهور " انظرونا " أمراً بوصل الهمزة وضم الفاء من النظر بمعنى الانتظار: أي انتظرونا، يقولون ذلك لما رأوا المؤمنين يسرع بهم إلى الجنة. وقرأ الأعمش وحمزة ويحيى بن وثاب بقطع الهمزة وكسر الظاء من الإنظار: أي أمهلونا وأخبرونا، يقال أنظرته واستنظرته: أي أمهلته واستمهلته. قال الفراء: تقول العرب أنظرني: أي انتظرني، وأنشد قول عمرو بن كلثوم: أبا هند فلا تعجل علينا وأنظرنا نخبرك اليقينا وقيل معنى انظرونا: انظروا إلينا، لأنهم إذا نظروا إليهم استقبلوهم بوجوههم فيستضيئون بنورهم "نقتبس من نوركم" أي نستضيء منه، والقبس: الشعلة من النار والسراج، فلما قالوا ذلك "قيل ارجعوا وراءكم" أي قال لهم المؤمنون أو الملائكة زجراً لهم وتهكماً بهم: أي ارجعوا وراءكم إلى الموضع الذي أخذنا منه النور "فالتمسوا نوراً" أي اطلبوا هنالك نوراً لأنفسكم، فإنه من هنالك يقتبس، وقيل المعنى: ارجعوا إلى الدنيا فالتمسوا النور بما التمسناه به من الإيمان والأعمال الصالحة، وقيل أرادوا بالنور ما وراءهم من الظلمة تهكما بهم "فضرب بينهم بسور" السور: هو الحاجز بين الشيئين، والمراد به هنا الحاجز بين الجنة والنار، أو بين أهل الجنة وأهل انار. قال الكسائي: والباء في بسور زائدة. ثم وصف سبحانه السور المذكور فقال: "له باب باطنه فيه الرحمة" أي باطن ذلك السور. وهو الجانب الذي يلي أهل الجنة فيه الرحمة وهي الجنة "وظاهره" وهو الجانب الذي يلي أهل النار "من قبله العذاب" أي من جهته عذاب جهنم، وقيل إن المؤمنين يسبقونهم فيدخلون الجنة. والمنافقون يحصلون في العذاب وبينهم السور، وقيل إن الرحمة التي في باطنه نور المؤمنين، والعذاب الذي في ظاهره ظلمة المنافقين.
ولما ضرب بالسور بين المؤمنين والمنافقين أخبر الله سبحانه عما قاله المنافقون إذ ذاك فقال: 14- "ينادونهم ألم نكن معكم" أي موافقين لكم في الظاهر نصلي بصلاتكم في مساجدكم ونعمل بأعمال الإسلام مثلكم، والجملة مستأنفة كأنه قيل: فماذا قال المنافقون بعد ضرب السور بينهم وبين المنؤمنين؟ فقال: "ينادونهم"، ثم أخبر سبحانه عما أجابهم به المؤمنون فقال: "قالوا بلى" أي كنتم معنا في الظاهر "ولكنكم فتنتم أنفسكم" بالنفاق وإبطان الكفر. قال مجاهد أهلكتموها بالنفاق، وقيل بالشهوات واللذات "وتربصتم" بمحمد صلى الله عليه وسلم وبمن معه من المؤمنين حوادث الدهر، وقيل تربصتم بالتوبة، والأول أولى "وارتبتم" أي شككتم في أمر الدين ولم تصدقوا ما نزل من القرآن ولا بالمعجزات الظاهرة "وغرتكم الأماني" الباطلة التي من [جملتها] ما كنتم فيه من التربض، وقيل هو طول الأمل، وقيل ما كانوا يتمنونه من ضعف المؤمنين. وقال قتادة: الأماني هنا غرور الشيطان، وقيل الدنيا، وقيل هو طمعهم في المغفرة، وكل هذه الأشياء تدخل في مسمى الأماني "حتى جاء أمر الله" وهو الموت، وقيل نصره سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم. وقال قتادة: هو إلقاؤهم في النار "وغركم بالله الغرور" قرأ الجمهور "الغرور" بفتح الغين، وهو صفة على فعول، والمراد به الشيطان: أي خدعكم بحلم الله وإمهاله الشيطان. وقرأ أبو حيوة ومحمد بن السميفع وسماك بن حرب بضمها وهو مصدر.
15- "فاليوم لا يؤخذ منكم فدية" تفدون بها أنفسكم من النار أيها المنافقون "ولا من الذين كفروا" بالله ظاهراً وباطناً "مأواكم النار" أي منزلكم الذي تأوون إليه النار "هي مولاكم" أي هي أولى بكم، والمولى في الأصل من يتولى مصالح الإنسان ثم استعمل فيمن يلازمه، وقيل معنى مولاكم: مكانكم عن قرب، من الولي وهو القرب. وقيل إن الله [يركب] في النار الحياة والعقل، فهي تتميز غيظاً على الكفار، وقيل المعنى: هي ناصركم على طريقة قول الشاعر: تحية بينهم ضرب وجيع "وبئس المصير" الذي تصيرون إليه وهو النار. وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن مسعود "يسعى نورهم بين أيديهم" قال: يؤتون نورهم على قدر أعمالهم يمرون على الصراط، منهم من نوره مثل الجبل ومنهم من نوره مثل النخلة، وأدناهم نوراً من نوره على إبهامه يطفأ مرة ويوقد أخرى. وأخرج ابن جرير وابن مردويه والبيهقي في البعث عن ابن عباس قال: بينما الناس في ظلمة إذ بعث الله نوراً، فلما رأى المؤمنون النور توجهوا نحوه، وكان النور دليلهم من الله إلى الجنة، فلما رأى المنافقون المؤمنين قد انطلقوا إلى النور تبعوهم، فأظلم الله على المنافقين، فقالوا حينئذ " انظرونا نقتبس من نوركم " فإنا كنا معكم في الدنيا، قال المؤمنون: "ارجعوا وراءكم" من حيث جئتم من الظلمة "فالتمسوا" هنالك النور. وأخرج الطبراني وابن مردويه عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يدعو الناس يوم القيامة بأمهاتهم ستراً منه على عباده، وأما عند الصراط فإن الله يعطي كل مؤمن نوراً وكل منافق نوراً، فإذا استووا على الصراط سلب الله نور المنافقين والمنافقات، فقال المنافقون "انظرونا نقتبس من نوركم" وقال المؤمنون "ربنا أتمم لنا نورنا" فلا يذكر عند ذلك أحد أحداً" وفي الباب أحاديث وآثار. وأخرج عبد بن حميد عن عبادة بن الصامت: أنه كان على سور بيت المقدس فبكى، فقيل له ما يبكيك؟ فقال: هاهنا أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى جهنم. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن عساكر عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: إن السور الذي ذكره الله في القرآن "فضرب بينهم بسور" هو السور الذي ببيت المقدس الشرقي "باطنه فيه الرحمة" المسجد "وظاهره من قبله العذاب" يعني وادي جهنم وما يليه. ولا يخفاك أن تفسير السور المذكور في القرآن في هذه الآية بهذا السور الكائن ببيت المقدس فيه من الإشكال ما لا يدفعه مقال، ولا سيما بعد زيادة قوله: باطنه في الرحمة المسجد، فإن هذا غير ما سيقت له الآية وغير ما دلت عليه، وأين يقع بيت المقدس أو سوره بالنسبة إلى السور الحاجز بين فريقي المؤمنين والمنافقين، وأي معنى لذكر مسجد بيت المقدس هاهنا، فإن كان المراد أن الله سبحانه ينزع سور بيت المقدس، ويجعله في الدار الآخرة سوراً مضروباً بين المؤمنين والمنافقين، فما معنى تفسير باطن السور وما فيه من الرحمة بالمسجد، وإن كان المراد أن الله يسوق فريقي المؤمنين والمنافقين إلى بيت المقدس فيجعل المؤمنين داخل السور في المسجد. ويجعل المنافقين خارجه، فهم إذ ذاك على الصراط وفي طريق الجنة وليسوا ببيت المقدس، فإن كان مثل هذا التفسير ثابتاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلناه وآمنا به، وإلا فلا كرامة ولا قبول. وأخرج البيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله: "ولكنكم فتنتم أنفسكم" قال: بالشهوات واللذات "وتربصتم" قال: بالتوبة "وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله" قال: الموت "وغركم بالله الغرور" قال: الشيطان.
قوله: 16- "ألم يأن للذين آمنوا" يقال أنى لك يأنى أنى: إذا حان. قرأ الجمهور "ألم يأن" وقرأ الحسن وأبو السماك ألما يأن وأنشد ابن السكيت: ألما يأن لي أن تجلى عمايتي وأقصر عن ليلى بلى قد أنى ليا و"أن تخشع قلوبهم" فاعل يأن: أي ألم يحضر خشوع قلوبهم ويجيء وقته، ومنه قول الشاعر: ألم يأن لي قلب أن أترك الجهلا وأن يحدث الشيب المنير لنا عقلاً هذه الآية نزلت في المؤنين. قال الحسن: يستبطئهم وهم أحب خلقه إليه. وقيل إن الخطاب لمن آمن بموسى وعيسى دون محمد. قال الزجاج: نزلت في طائفة من المؤمنين، حثوا على الرقة والخشوع، فأما من وصفهم الله بالرقة والخشوع فطبقة فوق هؤلاء. وقال السدي وغيره: المعنى ألم يأن للذين آمنوا في الظاهر وأسروا الكفر أن تخشع قلوبهم "لذكر الله" وسيأتي في آخر البحث ما يقوي قول من قال إنها نزلت في المسلمين، والخشوع لين القلب ورقته. والمعنى: أنه ينبغي أن يورثهم الذكر خشوعاً ورقة، ولا يكونوا كمن لا يلين قلبه للذكر ولا يخشع له "وما نزل من الحق" معطوف على ذكر الله، والمراد بما نزل من الحق القرآن، فيحمل الذكر المعطوف عليه على ما عداه مما فيه ذكر الله سبحانه باللسان، أو خطور بالقلب، وقيل المراد بالذكر هو القرآن، فيكون هذا العطف من باب عطف التفسير، أو باعتبار تغير المفهومين. قرأ الجمهور "نزل" مشدداً مبنياً للفاعل. وقرأ نافع وحفص بالتخفيف مبنياً للفاعل. وقرأ ابن مسعود أنزل مبنياً للفاعل "ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل" قرأ الجمهور بالتحتية على الغيبة جرياً على ما تقدم. وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة بالفوقية على [الخطاب] التفاتاً، وبها قرأ عيسى وابن إسحاق، والجملة معطوفة على تخشع: أي ألم يأن لهم أن تخشع قلوبهم ولا يكونوا، والمعنى: النهي لهم عن أن يسلكوا سبيل اليهود والنصارى الذين أوتوا التوراة والإنجيل من قبل نزول القرآن "فطال عليهم الأمد" أي طال عليهم الزمان بينهم وبين أنبيائهم. قرأ الجمهور الأمد بتخفيف الدال، وقرأ ابن كثير في رواية عنه بتشديدها: أي الزمن الطويل، وقيل المراد بالأمد على القراءة الأولى الأجل والغاية، يقال أمد فلان كذا: أي غايته "فقست قلوبهم" بذلك السبب، فلذلك حرفوا وبدلوا، فهنى الله سبحانه أمة محمد صلى الله عليه وسلم أن يكونوا مثلهم "وكثير منهم فاسقون" أي خارجون عن طاعة الله لأنهم تركوا العمل بما أنزل إليهم، وحرفوا وبدلوا ولم يؤمنوا بما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل هم الذين تركوا الإيمان بعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم، وقيل هم الذين ابتعدوا الرهبانية، وهم أصحاب الصوامع.
17- "اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها" فهو قادر على أن يبعث الأجسام بعد موتها، ويلين القلوب بعد قسوتها "قد بينا لكم الآيات" التي من جملتها هذه الآيات "لعلكم تعقلون" أي كي تعقلوا ما تضمنته من المواعظ وتعلموا بموجب ذلك.
18- "إن المصدقين والمصدقات" قرأ الجمهور بتشديد الصاد في الوضعين من الصدقة، وأصله المتصدقين والمتصدقات، فأدغمت التاء في الصاد. وقرأ أبي المتصدقين والمتصدقات بإثبات التاء على الأصل. وقرأ ابن كثير بتخفيف الصاد فيهما من التصديق: أي صدقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جاء به "وأقرضوا الله قرضاً حسناً" معطوف على اسم الفاعل في المصدقين لأنه لما وقع صلة للألف واللام الموصولة حل محل الفعل، فكأنه قال: إن الذين تصدقوا وأقرضوا كذا قال أبو علي الفارسي وغيره. وقيل جملة وأقرضوا معترضة بين اسم إن وخبرها، وهو "يضاعف" وقيل هي صلة لموصول محذوف: أي والذين أقرضوا، والقرض الحسن عبارة عن التصدق والإنفاق في سبيل الله مع خلوص نية وصحة قصد واحتساب أجر. قرأ الجمهور "يضاعف لهم" بفتح العين على البناء للمفعول، والقائم مقام الفاعل إما الجار والمجرور أو ضمير يرجع إلى المصدقين على حذف مضاف: أي ثوابهم، وقرأ الأعمش يضاعفه بكسر العين وزيادة الهاء. وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب " يضاعف " بتشديد العين وفتحها "ولهم أجر كريم" وهو الجنة، والمضاعفة هنا أن الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف.