تفسير الطبري تفسير الصفحة 539 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 539
540
538
 الآية : 12
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَىَ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }.
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: يَوْمَ تَرَى المُؤْمِنِينٌ وَالمُؤْمِناتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَينَ أيْدِيهِمْ وبأيمانِهِمْ فقال بعضهم: معنى ذلك: يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يضيء نورهم بين أيديهم وبأيمانهم. ذكر من قال ذلك:
26005ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: يَوْمَ تَرَى المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِناتِ... الآية, ذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «مِنَ المُؤْمِنِينَ مَنْ يُضِيءُ نُورُهُ مِنع المَدِينَةِ إلى عَدَنَ أبَيْنَ فَصَنْعاءَ, فَدُونَ ذلكَ, حتى إنّ مِنَ المُؤْمِنِينَ مَنْ لا يُضِيء نُورُهُ إلاّ مَوْضِعَ قَدَمَيْهِ».
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, بنحوه.
26006ـ حدثنا ابن المثنى, قال: حدثنا ابن إدريس, قال: سمعت أبي يذكر عن المنهال, عن عمرو, عن قيس بن سكن, عن عبد الله, قال: يؤتون نورهم على قدر أعمالهم, فمنهم من يؤتى نوره كالنخلة, ومنهم من يؤتى نوره كالرجل القائم, وأدناهم نورا على إبهامه يطفأ مرة ويقدُ مرّة.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى إيمانهم وهداهم بين أيديهم, وبأيمانهم: كتبهم. ذكر من قال ذلك:
26007ـ حُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: حدثنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: يَسْعَى نُورُهُمْ بَينَ أيْدِيهِمْ وَبأيمانِهِمْ: كتبهم, يقول الله: فأما من أوتي كتابه بيمينه, وأما نورهم فهداهم.
وأولى القولين في ذلك بالصواب القول الذي ذكرناه عن الضحاك, وذلك أنه لو عنى بذلك النور الضوء المعروف, لم يخصّ عنه الخبر بالسعي بين الأيدي والأيمان دون الشمائل, لأن ضياء المؤمنين الذي يؤتونه في الاَخرة يضيء لهم جميع ما حولهم, وفي خصوص الله جلّ ثناؤه الخبر عن سعيه بين أيديهم وبأيمانهم دون الشمائل, ما يدلّ على أنه معنيّ به غير الضياء, وإن كانوا لا يخلون من الضياء.
فتأويل الكلام إذ كان الأمر على ما وصفنا: وكلاّ وعد الله الحسنى يوم ترون المؤمنين والمؤمنات يسعى ثواب إيمانهم وعملهم الصالح بين أيديهم, وفي أيمانهم كتب أعمالهم تتطاير.
ويعني بقوله: يَسْعَى يمضي, والباء في قوله: وبأيمانِهِمْ بمعنى في. وكان بعض نحويي البصرة يقول: الباء في قوله: وبأيمانِهِمْ بمعنى على أيمانهم.
وقوله: يَومَ تَرَى من صلة وعد.
وقوله: بُشْرَاكُمُ اليَوْمَ جَنّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأنهارُ يقول تعالى ذكره يقال لهم: بشارتكم اليوم أيها المؤمنون التي تبشرون بها جنات تجري من تحتها الأنهار, فأبشروا بها.
وقوله: خالِدِينَ فِيها يقول: ماكثين في الجنات, لا ينتقلون عنها ولا يتحولون.
وقوله: ذلكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمِ يقول: خلودهم في الجنات التي وصفها هو النجح العظيم الذي كانوا يطلبونه بعد النجاة من عقاب الله, ودخول الجنة خالدين فيها.
الآية : 13-14
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلّذِينَ آمَنُواْ انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُواْ وَرَآءَكُمْ فَالْتَمِسُواْ نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مّعَكُمْ قَالُواْ بَلَىَ وَلَـَكِنّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغرّتْكُمُ الأمَانِيّ حَتّىَ جَآءَ أَمْرُ اللّهِ وَغَرّكُم بِاللّهِ الْغَرُورُ }.
يقول تعالى ذكره: هو الفوز العظيم في يوم يقول المنافقون والمنافقات, واليوم من صلة الفوز للذين آمنوا بالله ورسله: انظرونا.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: انْظُرُونا فقرأت ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة انْظُرُونا موصولة بمعنى: انتظرونا, وقرأته عامة قرّاء الكوفة «أنْظُرُونا» مقطوعة الألف من أنظرت بمعنى: أخرونا, وذكر الفرّاء أن العرب تقول: أنظرني وهم يريدون: انتظرني قليلاً وأنشد في ذلك بيت عمرو بن كلثوم:
أبا هِنْدٍ فَلا تَعْجَلْ عَلَيْناوأنْظِرْنا نُخَبّرْكَ اليعقِينَا
قال: فمعنى هذا: انتظرنا قليلاً نخبرك, لأنه ليس ها هنا تأخير, إنما هو استماع كقولك للرجل: اسمع مني حتى أخبرك.
والصواب من القراءة في ذلك عندي الوصل, لأن ذلك هو المعروف من كلام العرب إذا أريد به انتظرنا, وليس للتأخير في هذا الموضع معنى, فيقال: أنظرونا, بفتح الألف وهمزها.
وقوله: نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ يقول: نستصبح من نوركم, والقبس: الشعلة.
وقوله: قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فالْتَمِسُوا نُورا يقول جلّ ثناؤه: فيجابون بأن يقال لهم: ارجعوا من حيث جئتم, واطلبوا لأنفسكم هنالك نورا, فإنه لا سبيل لكم إلى الاقتباس من نورنا. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
26008ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: يَوْمَ يَقُولُ المُنافِقُونَ وَالمُنافِقاتُ... إلى قوله: وَبِئْسَ المَصِيرُ قال ابن عباس: بينما الناس في ظلمة, إذ بعث الله نورا فلما رأى المؤمنون النور توجهوا نحوه, وكان النور دليلاً من الله إلى الجنة فلما رأى المنافقون المؤمنين قد انطلقوا, تبعوهم, فأظلم الله على المنافقين, فقالوا حينئذٍ: انظرونا نقتبس من نوركم, فإنا كنا معكم في الدنيا قال المؤمنون: ارجعوا من حيث جئتم من الظلمة, فالتمسوا هنالك النور.
حُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول, في قوله: يَوْمَ يَقُولُ المُنافِقُونَ وَالمُنافِقاتُ لِلّذِينَ آمَنُوا... الآية, كان ابن عباس يقول: بينما الناس في ظلمة, ثم ذكر نحوه.
وقوله: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ العَذَابُ يقول تعالى ذكره: فضرب الله بين المؤمنين والمنافقين بسُور, وهو حاجز بين أهل الجنة وأهل النار. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
26009ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله: بِسُورٍ لَهُ بَابٌ قال: كالحجاب في الأعراف.
26010ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ السور: حائط بين الجنة والنار.
26011ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ قال: هذا السور الذي قال الله وَبَيْنَهُما حِجابٌ.
وقد قيل: إن ذلك السور ببيت المقدس عند وادي جهنم. ذكر من قال ذلك:
26012ـ حدثني عليّ, قال: حدثنا الحسن بن بلال, قال: حدثنا حماد, قال: أخبرنا أبو سنان, قال: كنت مع عليّ بن عبد الله بن عباس, عند وادي جهنم, فحدّث عن أبيه قال: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ العَذَابُ فقال: هذا موضع السور عند وادي جهنم.
26013ـ حدثني إبراهيم بن عطية بن رُدَيح بن عطية, قال: ثني عمي محمد بن رُدَيح بن عطية, عن سعيد بن عبد العزيز, عن أبي العوّام, عن عُبادة بن الصامت أنه كان يقول: بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ, قال: هذا باب الرحمة.
26014ـ حدثنا ابن البرقي, قال: حدثنا عمرو بن أبي سلمة, عن سعيد بن عطية بن قيس, عن أبي العوّام مؤذّنِ بيت المقدس, قال: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: إن السور الذي ذكره الله في القرآن: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ العَذَابُ هو السور الشرقيّ, باطنه المسجد, وظاهره وادي جهنم.
26015ـ حدثني محمد بن عوف, قال: حدثنا أبو المُغيرة, قال: حدثنا صفوان, قال: حدثنا شريج أن كعبا كان يقول في الباب الذي في بيت المقدس: إنه الباب الذي قال الله: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ العَذَابُ.
وقوله: لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرّحْمَةُ يقول تعالى ذكره: لذلك السور باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبل ذلك الظاهر العذاب: يعني النار. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
26016ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ العَذَابُ: أي النار.
26017ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: باطِنُهُ فِيهِ الرّحْمَةُ قال: الجنة وما فيها.
وقوله: يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى يقول تعالى ذكره: ينادي المنافقون المؤمنين حين حُجز بينهم بالسور, فبقوا في الظلمة والعذاب, وصار المؤمنون في الجنة, ألم نكن معكم في الدنيا نصلي ونصوم, ونناكحكم ونوارثكم؟ قالوا: بلى, يقول: قال المؤمنون: بلى, بل كنتم كذلك, ولكنكم فَتَنتم أنفسكم, فنافقتم, وفِتْنتهم أنفسَهم في هذا الموضع كانت النفاق. وكذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
26018ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: فَتَنْتُمْ أنْفُسَكُمْ قال: النفاق, وكان المنافقون مع المؤمنين أحياء يناكحونهم, ويغشَوْنهم, ويعاشرونهم, وكانوا معهم أمواتا, ويعطون النور جميعا يوم القيامة, فيطفأ النور من المنافقين إذا بلغوا السور, ويماز بينهم حينئذٍ.
وقوله: وَتَرَبّصْتُمْ يقول: وتلبثتم بالإيمان, ودافعتم بالإقرار بالله ورسوله. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال بعض أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
26019ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: وَتَرَبّصْتُمْ قال: بالإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم, وقرأ فَتَرَبّصُوا إنّا مَعَكُمْ مُتَرَبّصُونَ.
26020ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وَتَرَبّصْتُمْ يقول: تربصوا بالحق وأهله وقوله: وَارْتَبْتُمْ يقول: وشككتم في توحيد الله, وفي نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم. كما:
26021ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: وَارْتَبْتُمْ: شكوا.
26022ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وَارْتَبْتُمْ كانوا في شكّ من الله.
وقوله: وَغَرّتْكُمُ الأمانِيّ يقول: وخدعتكم أمانيّ نفوسكم, فصدتكم عن سبيل الله وأضلتكم حتى جاءَ أمْرُ اللّهِ يقول: حتى جاء قضاء الله بمناياكم, فاجتاحتكم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
26023ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَغَرّتْكُمُ الأمانِيّ حتى جاءَ أمْرُ اللّهِ كانوا على خُدعة من الشيطان, والله ما زالوا عليها حتى قذفهم الله في النار.
وقوله: وَغَرّكُمْ باللّهِ الغَرُورُ يقول: وخدعكم بالله الشيطان, فأطمعكم بالنجاة من عقوبته, والسلامة من عذابه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
26024ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قال: الغَرُورُ: أي الشيطان.
26025ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَغَرّكُمْ باللّهِ الغَرُورُ: أي الشيطان.
26026ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: وَغَرّكُمْ باللّهِ الغَرُورِ: الشيطان.
الآية : 15
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {فَالْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلاَ مِنَ الّذِينَ كَفَرُواْ مَأْوَاكُمُ النّارُ هِيَ مَوْلاَكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ }.
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل المؤمنين لأهل النفاق, بعد أن ميز بينهم في القيامة فالْيَوْمَ أيها المنافقون لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ يعني: عوضا وبدلاً يقول: لا يؤخذ ذلك منكم بدلاً من عقابكم وعذابكم, فيخلصكم من عذاب الله وَلا مِنَ الّذِينَ كَفَرُوا يقول: ولا تؤخذ الفدية أيضا من الذين كفروا. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
26027ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة فالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الّذِينَ كَفَرُوا يعني المنافقين, ولا من الذين كفروا.
26028ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: فالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ من المنافقين وَلا مِنَ الّذِينَ كَفَرُوا معكم مأوَاكُمُ النّارُ.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: فالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ فقرأت ذلك عامة القرّاء بالياء يُؤْخَذُ, وقرأه أبو جعفر القارىء بالتاء.
وأولى القراءتين بالصواب الياء وإن كانت الأخرى جائزة.
وقوله: مأْوَاكُمُ النّارُ يقول: مثواكم ومسكنكم الذي تسكنونه يوم القيامة النار.
وقوله: هِيَ مَوْلاكُمْ يقول: النار أولى بكم.
وقوله: وَبِئْسَ المَصِيرُ يقول: وبئس مصير من صار إلى النار.
الآية : 16
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلّذِينَ آمَنُوَاْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقّ وَلاَ يَكُونُواْ كَالّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ فَاسِقُونَ }.
يقول تعالى ذكره: أَلمْ يَأَنِ للّذِينَ آمَنُوا: ألم يحن للذين صدّقوا الله ورسوله أن تلين قلوبهم لذكر الله, فتخضع قلوبهم له, ولما نزل من الحقّ, وهو هذا القرآن الذي نزّله على رسوله صلى الله عليه وسلم. ذكر من قال ذلك:
26029ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: أَلَمْ يَأَنِ لِلّذِينَ آمَنُوا أنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللّهِ قال: تطيع قلوبهم.
26030ـ حدثنا ابن حُمَيد, قال: حدثنا يحيى بن واضح, قال: حدثنا الحسين, عن يزيد, عن عكرِمة ألَمْ يأَنِ لِلّذِينَ آمَنُوا أنْ تَخْشعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللّهِ....
26031ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: أَلَمْ يأنِ لِلّذِينَ آمَنُوا أنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللّهِ... الآية. ذُكر لنا أن شدّاد بن أوس كان يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: «إن أوّلَ ما يُرْفَعُ مِنَ النّاس الخُشُوعُ».
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, قال: كان شدّاد بن أوس يقول أوّل ما يرفع من الناس الخشوع.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: وَما نَزَلَ مِنَ الحَقّ فقرأته عامة القرّاء غير شيبة ونافع بالتشديد «نَزّل», وقرأه شيبة ونافع, وما نزل بالتخفيف, وبأيّ القراءتين قرأ القارىء فمصيب, لتقارب معنييهما.
وقوله: وَلا يَكُونُوا كالّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ مِن قَبْل فَطالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ يقول تعالى ذكره: ألم يأن لهم أن ولا يكونوا, يعني الذين آمنوا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم كالّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ يعني من بني إسرائيل, ويعني بالكتاب الذي أوتوه من قبلهم التوراة والإنجيل. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
26032ـ حدثنا ابن حُمَيد, قال: حدثنا جرير, عن مُغيرة, عن أبي معشر, عن إبراهيم, قال: جاء عتريس ابن عرقوب إلى ابن مسعود, فقال: يا عبد الله هلك من لم يأمر بالمعروف وينه عن المنكر, فقال عبد الله: هلك من لم يعرف قلبه معروفا, ولم ينكر قلبه منكرا, إن بني إسرائيل لما طال عليهم الأمد, وقست قلوبهم اخترعوا كتابا من بين أيديهم وأرجلهم, استهوته قلوبهم, واستحلته ألسنتهم, وقالوا: نعرض بني إسرائيل على هذا الكتاب, فمن آمن به تركناه, ومن كفر به قتلناه قال: فجعل رجل منهم كتاب الله في قرن, ثم جعل القَرَن بين ثندُوَتَيْهِ فلما قيل له: أتؤمن بهذا؟ قال: آمنت به, ويومىء إلى القرن الذي بين ثندُوَتَيْهِ, ومالي لا أومن بهذا الكتاب, فمن خير مللهم اليوم ملة صاحب القرن.
ويعني بقوله: فَطالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ ما بينهم وبين موسى صلى الله عليه وسلم, وذلك الأمد الزمان. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
26033ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قوله: الأَمَدُ قال: الدهر.
وقوله: فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ عن الخيرات, واشتدّت على السكون إلى معاصي الله وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ يقول جلّ ثناؤه: وكثير من هؤلاء الذين أوتوا الكتاب من قبل أمة محمد صلى الله عليه وسلم فاسقون.
الآية : 17-18
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {اعْلَمُوَاْ أَنّ اللّهَ يُحْيِـي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيّنّا لَكُمُ الاَيَاتِ لَعَلّكُمْ تَعْقِلُونَ * إِنّ الْمُصّدّقِينَ وَالْمُصّدّقَاتِ وَأَقْرَضُواْ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ }.
يقول تعالى ذكره: اعْلَمُوا أيها الناس أنّ اللّهَ يُحْيِي الأرْضَ الميتة التي لا تنبت شيئا بَعْدَ مَوْتِها يعني: بعد دثورها ودروسها, يقول: وكما نحيي هذه الأرض الميتة بعد دروسها, كذلك نهدي الإنسان الضّالّ عن الحقّ إلى الحقّ, فنوفّقه ونسدّده للإيمان حتى يصير مؤمنا من بعد كفره, ومهتديا من بعد ضلاله.
وقوله: قَدْ بَيّنا لَكُمُ الاَياتِ لَعَلّكُمْ تَعْقِلُونَ يقول: قد بيّنا لكم الأدلة والحجج لتعقلوا.
وقوله: إنّ المُصّدّقِينَ وَالمُصّدّقاتِ اختلفت القرّاء في قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء الأمصار, خلا ابن كثير وعاصم بتشديد الصاد والدال, بمعنى أن المتصدّقين والمتصدّقات, ثم تُدغم التاء في الصاد, فتجعلها صادا مشدّدة, كما قيل: يا أيها المُزّمّلُ يعني المتزمل. وقرأ ابن كثير وعاصم «إنّ المُصَدّقِينَ والمُصَدقاتِ» بتخفيف الصاد وتشديد الدال, بمعنى: إن الذين صدقوا الله ورسوله.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندي أن يقال: إنهما قراءتان معروفتان صحيح معنى كلّ واحدة منهما فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب.
فتأويل الكلام إذن على قراءة من قرأ ذلك بالتشديد في الحرفين: أعني في الصاد والدال, أن المتصدّقين من أموالهم والمتصدّقات وأقْرَضُوا للّهِ قَرْضا حَسَنا يعني بالنفقة في سبيله, وفيما أمر بالنفقة فيه, أو فيما ندب إليه يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أجْرٌ كَرِيمٌ يقول: يضاعف الله لهم قروضهم التي أقرضوها إياه, فيوفيهم ثوابها يوم القيامة, وَلَهُمْ أجْرٌ كَرِيمٌ يقول: ولهم ثواب من الله على صدقهم, وقروضهم إياه كريم, وذلك الجنة