تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 563 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 563

562

ثم عاد سبحانه إلى خطاب الكفار فقال: 13- "وأسروا قولكم أو اجهروا به" هذه الجملة مستأنفة مسوقة لبيان تساوي الإسرار والجهر بالنسبة إلى علم الله سبحانه، والمعنى: إن أخفيتم كلامكم أو جهرتم به في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكل ذلك يعلمه الله لا تخفى عليه منه خافية، وجملة "إنه عليم بذات الصدور" تعليل للاستواء المذكور، وذات الصدور هي مضمرات القلوب.
والاستفهام في قوله: 14- "ألا يعلم من خلق" للإنكار، والمعنى: ألا يعلم السر ومضمرات القلوب من خلق ذلك وأوجده، فالموصول عبارة عن الخالق، ويجوز أن يكون عبارة عن المخلوق، وفي يعلم ضمير يعود إلى الله: أي ألا يعلم الله المخلوق الذي هو من جملة خلقه، فإن الإسرار والجهر ومضمرات القلوب من جملة خلقه، وجملة "وهو اللطيف الخبير" في محل نصب على الحال من فاعل يعلم: أي الذي لطف علمه بما في القلوب، الخبير بما تسره وتضمره من الأمور، لا تخفى عليه من ذلك خافية.
ثم امتن سبحانه على عباده فقال: 15- "هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً" أي سهلة لينة تستقرون عليها، ولم يجعلها خشنة بحيث يمتنع عليكم السكون فيها والمشي عليها، والذلول في الأصل: هو المنقاد الذي يذل لك ولا يستصعب عليك والمصدر الذل، والفاء في قوله: "فامشوا في مناكبها" لترتيب الأمر بالمشي على الجعل المذكور، والأمر للإباحة. قال مجاهد والكلبي ومقاتل: مناكبها طرقها وأطرافها وجوانبها. وقال قتادة وشهر بن حوشب: مناكبها جبالها، وأصل المنكب الجانب، ومنه منكب الرجل، ومنه الريح النكباء، لأنها تأتي من جانب دون جانب "وكلوا من رزقه" أي مما رزقكم وخلقه لكم في الأرض "وإليه النشور" أي وغليه البعث من قبوركم، لا إلى غيره، وفي هذا وعيد شديد.
ثم خوف سبحانه الكفار. فقال: 16- " أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض " قال الواحدي قال المفسرون: يعني عقوبة من في السماء، وقيل من في السماء: قدرته وسلطانه وعرشه وملائكته، وقيل من في السماء من الملائكة، وقيل المراد جبريل، ومعنى "أن يخسف بكم الأرض" يقلعها ملتبسة بكم كما فعل بقارون بعد ما جعلها لكم ذلولاً تمشون في مناكبها، وقوله: "أن يخسف" بدل اشتمال من الموصول: أي أأمنتم خسفه، أو على حذف من: أي من أن يخسف "فإذا هي تمور" أي تضطرب وتتحرك على خلاف ما كانت عليه من السكون. قرأ الجمهور ءأمنتم بهمزتين، وقرأ البصريون والكوفيون بالتخفيف، وقرأ ابن كثير بقلب الأولى واواً.
ثم كرر سبحانه التهديد لهم بوجه آخر فقال: 17- "أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصباً" أي حجارة من السماء كما أرسلها على قوم لوط وأصحاب الفيل، وقيل سحاب فيها حجارة، وقيل ريح فيها حجارة "فستعلمون كيف نذير" أي إنذاري إذا عانيتم العذاب ولا ينفعكم هذا العلم، وقيل النذير هنا محمد صلى الله عليه وسلم، قاله عطاء والضحاك. والمعنى: ستعلمون رسولي وصدقه، والأول أولى. والكلام " أن يرسل عليكم حاصباً" كالكلام في "أن يخسف بكم الأرض" فهو إما بدل اشتمال، أو بتقدير من.
18- "ولقد كذب الذين من قبلهم" أي الذين قبل كفار مكة من كفار الأمم الماضية. كقوم نوح وعاد وثمود وقم لوط وأصحاب الأيكة وأصحاب الرسل وقوم فرعون "فكيف كان نكير" أي فكيف كان إنكاري عليهم بما أصبتهم به من العذاب الفظيع.
19- " أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات " الهمزة للاستفهام والواو للعطف على مقدر: أي أغفلوا ولم ينظروا، ومعنى "صافات" أنها صافة لأجنحتها في الهواء و[تسطها] عند طيرانها "ويقبضن" أي يضممن أجنحتهن. قال النحاس: يقال للطائر إذا بسط جناحه صاف، وإذا ضمها قابض كأنه يقبضها، وهذا معنى الطيران، وهو بسط الجناح وقبضه بعد البسط ومنه قول أبي خراش: يبادر جنح الليل فهو مزايل تحت الجناح بالتبسط والقبض وإنما قال: "ويقبضن" ولم يقل قابضات كما قال صافات، لأن القبض يتجدد تارة فتارة، وأما البسط فهو الأصل، كذا قيل. وقيل إن معنى "ويقبضن" قبضهن لأجنحتهن عند الوقوف من الطيران، لا قبضها في حال الطيران، وجملة "ما يمسكهن إلا الرحمن" في محل نصب على الحال من فاعل يقبضن، أو مستأنفة لبيان كمال قدرة الله سبحانه، والمعنى: أنه ما يمسكهن في الهواء عند الطيران إلا الرحمن القادر على كل شيء "إنه بكل شيء بصير" لا يخفى عليه شيء كائناً ما كان.
20- "أمن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن" الاستفهام للتقريع والتوبيخ، والمعنى أنه لا جند لكم يمنعكم من عذاب الله، والجند الحزب والمنعة. قرأ الجمهور أمن هذا بتشديد الميم على إدغام ميم أم في ميم من، وأم بمعنى بل، ولا سبيل إلى تقدير الهمزة بعدها كما هو الغالب في تقدير أم المنقطعة ببل والهمزة، لأن بعدها هنا من الاستفهامية فأغنت عن ذلك التقدير، ومن الاستفهامية مبتدأ واسم الإشارة خبره، والموصول مع صلته صفة اسم الإشارة، وينصركم صفة لجند، ومن دون الرحمن في محل نصب على الحال من فاعل ينصركم، والمعنى: بل من هذا الحقير الذي هو في زعمكم جند لكم متجاوزاً نصر الرحمن: وقرأ طلحة بن مصرف بتخفيف الأولى وتثقيل الثانية، وجملة "إن الكافرون إلا في غرور" معترضة مقررة لما قبلها ناعية عليهم ما هم فيه من الضلال، والمعنى: ما الكافرون إلا في غرور عظيم من جهة الشطان يغرهم به.
21- "أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه" الكلام في هذا كالكلام في الذي قبله قراءة وإعراباً: أي من الذي يدر عليكم الأرزاق من المطر وغير إن أمسك الله ذلك عنكم ومنعه عليكم "بل لجوا في عتو ونفور" أي لم يتأثروا لذلك، بل تمادوا في عناد واستكبار عن الحق ونفور عنه ولم يعتبروا ولا تفكروا، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه: أي إن أمسك رزقه فمن يرزقكم غيره، والعتو العناد والطغيان، والنفور الشرود. وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس "إن الذين يخشون ربهم بالغيب" قال: أبو بكر وعمر وعلي وأبو عبيدة بن الجراح. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه في قوله: "في مناكبها" قال: جبالها. وأخرج ابن جرير عنه أيضاً قال: أطرافها. وأخرج الطبراني وابن عدي والبيهقي في الشعب والحكيم الترمذي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحب العبد المؤمن المحترف". وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "بل لجوا في عتو ونفور" قال: في ضلال.
ضرب سبحانه مثلاً للمشرك والموحد لإيضاح حالهما وبيان مآلهما، فقال: 22- "أفمن يمشي مكباً على وجهه أهدى" والمكب والمنكب: الساقط على وجهه، يقال كببته فأكب وانكب، وقيل هو الذي يكب رأسه فلا ينظر يميناً ولا شمالاً ولا أماماً فهو لا يأمن العثور والانكباب على وجهه. وقيل أراد به الأعمى الذي لا يهتدي إلى الطريق فلا يزال مشيه ينكسه على وجهه. قال قتادة: هو الكافر يكب على معاصي الله في الدنيا فيحشره الله يوم القيامة على وجهه. والهمزة للاستفهام الإنكاري: أي هل هذا الذي يمشي على وجهه أهدى إلى المقصد الذي يريده "أمن يمشي سوياً" معتدلاً ناظراً إلى ما بين يديه "على صراط مستقيم" أي على طريق مستوي لا اعوجاج به ولا انحراف فيه، وخبر من محذوف لدلالة خبر من الأولى وهو أهدي عليه، وقيل لا حاجة إلى ذلك، لأن من الثانية معطوفة على من الأول عطف المفرد على المفرد، كقولك أزيد قائم قائم أم عمرو؟ وقيل أراد بمن يمشي مكباً على وجهه من يحشر على وجهه إلى النار، ومن يمشي سوياً من يحشر على قدميه إلى الجنة، وهو كقول قتادة الذي ذكرناه، ومثله قوله: "ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم".
23- "قل هو الذي أنشأكم" أمر سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يخبرهم بأن الله هو الذي أنشأهم النشأة الأولى "وجعل" لهم "السمع" ليسمعوا به "والأبصار" ليبصروا بها، ووجه إفراد السمع مع جمع الأبصار أنه مصدر يطلق على القليل والكثير، وقد قدمنا بيان هذا في مواضع مع زيادة في البيان "والأفئدة" القلوب التي يتفكرون بها في مخلوقات الله، فذكر سبحانه هاهنا أنه قد جعل لهم ما يدركون به المسموعات والمبصرات والمعقولات إيضاحاً للحجة وقطعاً للمعذرة وذماً لهم على عدم شكر نعم الله، ولهذا قال: "قليلاً ما تشكرون" وانتصاب قليلاً على أنه نعت مصدر محذوف، وما مزيدة للتأكيد: أي شكرأ قليلاً أو زماناً قليلاً، وقيل أراد بقلة الشكر عدم وجوده منهم. قال مقاتل: يعني أنكم لا تشكرون رب هذه النعم فتوحدونه.
24- "قل هو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون" أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يخبرهم أن الله هو الذي خلقهم في الأرض ونشرهم فيها وفرقهم على ظهرها وأن حشرهم للجزاء إليه لا إلى غيره.
ثم ذكر سبحانه أنهم يستعجلون العذاب فقال: 25- "ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين" أي متى هذا الوعد الذي تذكرونه لنا من الحشر والقيامة والنار والعذاب إن كنتم صادقين في ذلك. والخطاب منهم للنبي صلى الله عليه وسلم ولمن معه من المؤمنين، وجواب الشرط محذوف، والتقدير إن كنتم صادقين فأخبرونا به أو فبينوه لنا. وهدا منهم استهزاء وسخرية.
ثم لما قالوا هذا القول أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجيب عليهم فقال: 26- "قل إنما العلم عند الله" أي إن وقت قيام الساعة علمه عند الله لا يعلمه غيره. ومثله قوله: "قل إنما علمها عند ربي" ثم أخبرهم أنه مبعوث للإنذار لا للإخبار بالغيب فقال: "وإنما أنا نذير مبين" أنذركم وأخوفكم عاقبة كفركم وأبين لكم ما أمرني الله بيانه.