سورة الملك - تبارك | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 563 من المصحف
** إِنّ الّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ * وَأَسِرّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُواْ بِهِ إِنّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ * أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللّطِيفُ الْخَبِيرُ * هُوَ الّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ ذَلُولاً فَامْشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النّشُورُ
يقول تعالى مخبراً عمن يخاف مقام ربه فيما بينه وبينه إذا كان غائباً عن الناس, فينكف عن المعاصي ويقوم بالطاعات حيث لا يراه أحد إلا الله تعالى بأنه له مغفرة وأجر كبير أي تكفر عنه ذنوبه ويجازى بالثواب الجزيل, كما ثبت في الصحيحين «سبعة يظلهم الله تعالى في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله» فذكر منهم رجلاً دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله, ورجلاً تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه. وقال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده: حدثنا طالوت بن عباد, حدثنا الحارث بن عبيد عن ثابت عن أنس قال: قالوا يا رسول الله, إنا نكون عندك على حال فإذا فارقناك كنا على غيره قال: «كيف أنتم وربكم ؟» قالوا: الله ربنا في السر والعلانية, قال: «ليس ذلكم النفاق» لم يروه عن ثابت إلا الحارث بن عبيد فيما نعلمه ثم قال منبهاً على أنه مطلع على الضمائر والسرائر {وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور} أي بما يخطر في القلوب.
{ألا يعلم من خلق ؟} أي ألا يعلم الخالق, وقيل معناه ألا يعلم الله مخلوقه ؟ والأول أولى لقوله: {وهو اللطيف الخبير}, ثم ذكر نعمته على خلقه في تسخيره لهم الأرض وتذليله إياها لهم بأن جعلها قارة ساكنة لا تميد ولا تضطرب بما جعل فيها من الجبال وأنبع فيها من العيون, وسلك فيها من السبل, وهيأ فيها من المنافع ومواضع الزروع والثمار فقال تعالى: {هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبه} أي فسافروا حيث شئتم من أقطارها وترددوا في أقاليمها وأرجائها في أنواع المكاسب والتجارات, واعلمواأن سعيكم لا يجدي عليكم شيئاً إلا أن ييسره الله لكم, ولهذا قال تعالى: {وكلوا من رزقه} فالسعي في السبب لا ينافي التوكل كما قال الإمام أحمد,: حدثنا أبو عبد الرحمن, حدثنا حيوة, أخبرني بكر بن عمرو أنه سمع عبد الله بن هبيرة يقول: إنه سمع أبا سهم الحبشاني يقول: إنه سمع عمر بن الخطاب يقول: إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لوأنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير, تغدو خماصاً وتروح بطاناً» رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث ابن هبيرة, وقال الترمذي: حسن صحيح, فأثبت لها رواحاً وغدواً لطلب الرزق مع توكلها على الله عز وجل وهو المسخر المسير المسبب {وإليه النشور} أي المرجع يوم القيامة. قال ابن عباس ومجاهد والسدي وقتادة: مناكبها أطرافها وفجاجها ونواحيها, وقال ابن عباس وقتادة أيضاً: مناكبها الجبال, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا عمرو بن حكام الأزدي, حدثنا شعبة عن قتادة عن يونس بن جبير عن بشير بن كعب أنه قرأ هذه الاَية {فامشوا في مناكبه} فقال لأم ولد له: إن علمت ما مناكبها فأنت عتيقة فقالت: هي الجبال, فسأل أبا الدرداء فقال: هي الجبال. )
** أَأَمِنتُمْ مّن فِي السّمَآءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنتُمْ مّن فِي السّمَآءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ * وَلَقَدْ كَذّبَ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نكِيرِ * أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنّ إِلاّ الرّحْمَـَنُ إِنّهُ بِكُلّ شَيْءٍ بَصِيرٌ
وهذه أيضاً من لطفه ورحمته بخلقه أنه قادر على تعذيبهم بسبب كفر بعضهم به وعبادتهم معه غيره, وهو مع هذا يحلم ويصفح ويؤجل ولا يعجل كما قال تعالى: {ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصير} وقال ههنا {أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور} أي تذهب وتجيء وتضطرب {أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصب} أي ريحاً فيها حصباء تدمغكم كما قال تعالى: {أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصباً ثم لا تجدوا لكم وكيل} وهكذا توعدهم ههنا بقوله {فستعلمون كيف نذير} أي كيف يكون إنذاري وعاقبة من تخلف عنه وكذب به.
ثم قال تعالى: {ولقد كذب الذين من قبلهم} أي من الأمم السالفة والقرون الخالية {فكيف كان نكير} أي فكيف كان إنكاري عليهم ومعاقبتي لهم, أي عظيماً شديداً أليماً. ثم قال تعالى: {أو لم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن} أي تارة يصففن أجنحتهن في الهواء وتارة تجمع وتنشر جناحاً {ما يمسكهن} أي في الجو {إلا الرحمن} أي بما سخر لهن من الهواء من رحمته ولطفه {إنه بكل شيء بصير} أي بما يصلح كل شيء من مخلوقاته, وهذه كقوله تعالى {ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله إن في ذلك لاَيات لقوم يؤمنون}.
** أَمّنْ هَـَذَا الّذِي هُوَ جُندٌ لّكُمْ يَنصُرُكُمْ مّن دُونِ الرّحْمَـَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلاّ فِي غُرُورٍ * أَمّنْ هَـَذَا الّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لّجّواْ فِي عُتُوّ وَنُفُورٍ * أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَىَ وَجْهِهِ أَهْدَىَ أَمّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ * قُلْ هُوَ الّذِيَ أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ قَلِيلاً مّا تَشْكُرُونَ * قُلْ هُوَ الّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَيَقُولُونَ مَتَىَ هَـَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ إِنّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللّهِ وَإِنّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مّبِينٌ * فَلَمّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الّذِينَ كَفَرُواْ وَقِيلَ هَـَذَا الّذِي كُنتُم بِهِ تَدّعُونَ
يقول تعالى للمشركين الذين عبدوا معه غيره يبتغون عندهم نصراً ورزقاً, منكراً عليهم فيما اعتقدوه ومخبراً لهم أنه لا يحصل لهم ما أملوه, فقال تعالى: {أمن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن} أي ليس لكم من دونه من ولي ولا واق ولا ناصر لكم غيره, ولهذا قال تعالى: {إن الكافرون إلا في غرور} ثم قال تعالى: {أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه} أي من هذا الذي إذا قطع الله عنكم رزقه يرزقكم بعده, أي لا أحد يعطي ويمنع ويخلق ويرزق وينصر إلا الله عز وجل وحده لا شريك له, أي وهم يعلمون ذلك ومع هذا يعبدون غيره, ولهذا قال تعالى: {بل لجو} أي استمروا في طغيانهم وإفكهم وضلالهم {في عتو ونفور} أي في معاندة واستكبار ونفور على إدبارهم عن الحق لا يسمعون له ولا يتبعونه.
ثم قال تعالى: {أفمن يمشي مكباً على وجهه أهدى! أمن يمشي سوياً على صراط مستقيم} وهذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر, فالكافر مثله فيما هو فيه كمثل من يمشي مكباً على وجهه, أي يمشي منحنياً لا مستوياً على وجهه أي لا يدري أين يسلك ولا كيف يذهب بل تائه حائر ضال, أهذا أهدى {أمن يمشي سوي} أي منتصب القامة {على صراط مستقيم} أي على طريق واضح بين وهو في نفسه مستقيم وطريقه مستقيمة, هذا مثلهم في الدنيا وكذلك يكونون في الاَخرة, فالمؤمن يحشر يمشي سوياً على صراط مستقيم مفض به إلى الجنة الفيحاء, وأما الكافر فإنه يحشر يمشي على وجهه إلى نار جهنم.
{احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم} الاَيات. أزواجهم: أشباههم. قال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا ابن نمير, حدثنا إسماعيل عن نفيع, قال: سمعت أنس بن مالك يقول: قيل يا رسول الله كيف يحشر الناس على وجوههم ؟ فقال: «أليس الذي أمشاهم على أرجلهم قادراً على أن يمشيهم على وجوههم» وهذا الحديث مخرج في الصحيحين من طريق وقوله تعالى: {قل هو الذي أنشأكم} أي ابتدأ خلقكم بعدأن لم تكونوا شيئاً مذكوراً {وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة} أي العقول والإدراك {قليلاً ما تشكرون} أي قلما تستعملون هذه القوى التي أنعم الله بها عليكم في طاعته وامتثال أوامره وترك زواجره {قل هو الذي ذرأكم في الأرض} أي بثكم ونشركم في أقطار الأرض وأرجائها مع اختلاف ألسنتكم في لغاتكم وألوانكم, وحلالكم وأشكالكم وصوركم {وإليه تحشرون} أي تجمعون بعد هذا التفرق والشتات, يجمعكم كما فرقكم ويعيدكم كما بدأكم. ثم قال تعالى مخبراً عن الكفار المنكرين للمعاد المستبعدين وقوعه {ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين} أي متى يقع هذا الذي تخبرنا بكونه من الاجتماع بعد هذا التفرق {قل إنما العلم عندالله} أي لا يعلم وقت ذلك على التعيين إلا الله عز وجل لكنه أمرني أن أخبركم أن هذا كائن وواقع لا محالة فاحذروه {وإنما أنا نذير مبين} أي وإنما علي البلاغ وقد أديته إليكم.
قال تعالى: {فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفرو} أي لما قامت القيامة وشاهدها الكفار ورأوا أن الأمر كان قريباً لأن كل ما هو آت آت وإن طال زمنه, فلما وقع ما كذبوا به ساءهم ذلك لما يعلمون ما لهم هناك من الشر أي فأحاط بهم ذلك وجاءهم من أمر الله ما لم يكن لهم في بال ولا حساب {وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون * وبدا لهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون} ولهذا يقال لهم على وجه التقريع والتوبيخ {هذا الذي كنتم به تدعون} أي تستعجلون.
تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 563
563 : تفسير الصفحة رقم 563 من القرآن الكريم** إِنّ الّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ * وَأَسِرّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُواْ بِهِ إِنّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ * أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللّطِيفُ الْخَبِيرُ * هُوَ الّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ ذَلُولاً فَامْشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النّشُورُ
يقول تعالى مخبراً عمن يخاف مقام ربه فيما بينه وبينه إذا كان غائباً عن الناس, فينكف عن المعاصي ويقوم بالطاعات حيث لا يراه أحد إلا الله تعالى بأنه له مغفرة وأجر كبير أي تكفر عنه ذنوبه ويجازى بالثواب الجزيل, كما ثبت في الصحيحين «سبعة يظلهم الله تعالى في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله» فذكر منهم رجلاً دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله, ورجلاً تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه. وقال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده: حدثنا طالوت بن عباد, حدثنا الحارث بن عبيد عن ثابت عن أنس قال: قالوا يا رسول الله, إنا نكون عندك على حال فإذا فارقناك كنا على غيره قال: «كيف أنتم وربكم ؟» قالوا: الله ربنا في السر والعلانية, قال: «ليس ذلكم النفاق» لم يروه عن ثابت إلا الحارث بن عبيد فيما نعلمه ثم قال منبهاً على أنه مطلع على الضمائر والسرائر {وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور} أي بما يخطر في القلوب.
{ألا يعلم من خلق ؟} أي ألا يعلم الخالق, وقيل معناه ألا يعلم الله مخلوقه ؟ والأول أولى لقوله: {وهو اللطيف الخبير}, ثم ذكر نعمته على خلقه في تسخيره لهم الأرض وتذليله إياها لهم بأن جعلها قارة ساكنة لا تميد ولا تضطرب بما جعل فيها من الجبال وأنبع فيها من العيون, وسلك فيها من السبل, وهيأ فيها من المنافع ومواضع الزروع والثمار فقال تعالى: {هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبه} أي فسافروا حيث شئتم من أقطارها وترددوا في أقاليمها وأرجائها في أنواع المكاسب والتجارات, واعلمواأن سعيكم لا يجدي عليكم شيئاً إلا أن ييسره الله لكم, ولهذا قال تعالى: {وكلوا من رزقه} فالسعي في السبب لا ينافي التوكل كما قال الإمام أحمد,: حدثنا أبو عبد الرحمن, حدثنا حيوة, أخبرني بكر بن عمرو أنه سمع عبد الله بن هبيرة يقول: إنه سمع أبا سهم الحبشاني يقول: إنه سمع عمر بن الخطاب يقول: إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لوأنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير, تغدو خماصاً وتروح بطاناً» رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث ابن هبيرة, وقال الترمذي: حسن صحيح, فأثبت لها رواحاً وغدواً لطلب الرزق مع توكلها على الله عز وجل وهو المسخر المسير المسبب {وإليه النشور} أي المرجع يوم القيامة. قال ابن عباس ومجاهد والسدي وقتادة: مناكبها أطرافها وفجاجها ونواحيها, وقال ابن عباس وقتادة أيضاً: مناكبها الجبال, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا عمرو بن حكام الأزدي, حدثنا شعبة عن قتادة عن يونس بن جبير عن بشير بن كعب أنه قرأ هذه الاَية {فامشوا في مناكبه} فقال لأم ولد له: إن علمت ما مناكبها فأنت عتيقة فقالت: هي الجبال, فسأل أبا الدرداء فقال: هي الجبال. )
** أَأَمِنتُمْ مّن فِي السّمَآءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنتُمْ مّن فِي السّمَآءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ * وَلَقَدْ كَذّبَ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نكِيرِ * أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنّ إِلاّ الرّحْمَـَنُ إِنّهُ بِكُلّ شَيْءٍ بَصِيرٌ
وهذه أيضاً من لطفه ورحمته بخلقه أنه قادر على تعذيبهم بسبب كفر بعضهم به وعبادتهم معه غيره, وهو مع هذا يحلم ويصفح ويؤجل ولا يعجل كما قال تعالى: {ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصير} وقال ههنا {أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور} أي تذهب وتجيء وتضطرب {أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصب} أي ريحاً فيها حصباء تدمغكم كما قال تعالى: {أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصباً ثم لا تجدوا لكم وكيل} وهكذا توعدهم ههنا بقوله {فستعلمون كيف نذير} أي كيف يكون إنذاري وعاقبة من تخلف عنه وكذب به.
ثم قال تعالى: {ولقد كذب الذين من قبلهم} أي من الأمم السالفة والقرون الخالية {فكيف كان نكير} أي فكيف كان إنكاري عليهم ومعاقبتي لهم, أي عظيماً شديداً أليماً. ثم قال تعالى: {أو لم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن} أي تارة يصففن أجنحتهن في الهواء وتارة تجمع وتنشر جناحاً {ما يمسكهن} أي في الجو {إلا الرحمن} أي بما سخر لهن من الهواء من رحمته ولطفه {إنه بكل شيء بصير} أي بما يصلح كل شيء من مخلوقاته, وهذه كقوله تعالى {ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله إن في ذلك لاَيات لقوم يؤمنون}.
** أَمّنْ هَـَذَا الّذِي هُوَ جُندٌ لّكُمْ يَنصُرُكُمْ مّن دُونِ الرّحْمَـَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلاّ فِي غُرُورٍ * أَمّنْ هَـَذَا الّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لّجّواْ فِي عُتُوّ وَنُفُورٍ * أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَىَ وَجْهِهِ أَهْدَىَ أَمّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ * قُلْ هُوَ الّذِيَ أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ قَلِيلاً مّا تَشْكُرُونَ * قُلْ هُوَ الّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَيَقُولُونَ مَتَىَ هَـَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ إِنّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللّهِ وَإِنّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مّبِينٌ * فَلَمّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الّذِينَ كَفَرُواْ وَقِيلَ هَـَذَا الّذِي كُنتُم بِهِ تَدّعُونَ
يقول تعالى للمشركين الذين عبدوا معه غيره يبتغون عندهم نصراً ورزقاً, منكراً عليهم فيما اعتقدوه ومخبراً لهم أنه لا يحصل لهم ما أملوه, فقال تعالى: {أمن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن} أي ليس لكم من دونه من ولي ولا واق ولا ناصر لكم غيره, ولهذا قال تعالى: {إن الكافرون إلا في غرور} ثم قال تعالى: {أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه} أي من هذا الذي إذا قطع الله عنكم رزقه يرزقكم بعده, أي لا أحد يعطي ويمنع ويخلق ويرزق وينصر إلا الله عز وجل وحده لا شريك له, أي وهم يعلمون ذلك ومع هذا يعبدون غيره, ولهذا قال تعالى: {بل لجو} أي استمروا في طغيانهم وإفكهم وضلالهم {في عتو ونفور} أي في معاندة واستكبار ونفور على إدبارهم عن الحق لا يسمعون له ولا يتبعونه.
ثم قال تعالى: {أفمن يمشي مكباً على وجهه أهدى! أمن يمشي سوياً على صراط مستقيم} وهذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر, فالكافر مثله فيما هو فيه كمثل من يمشي مكباً على وجهه, أي يمشي منحنياً لا مستوياً على وجهه أي لا يدري أين يسلك ولا كيف يذهب بل تائه حائر ضال, أهذا أهدى {أمن يمشي سوي} أي منتصب القامة {على صراط مستقيم} أي على طريق واضح بين وهو في نفسه مستقيم وطريقه مستقيمة, هذا مثلهم في الدنيا وكذلك يكونون في الاَخرة, فالمؤمن يحشر يمشي سوياً على صراط مستقيم مفض به إلى الجنة الفيحاء, وأما الكافر فإنه يحشر يمشي على وجهه إلى نار جهنم.
{احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم} الاَيات. أزواجهم: أشباههم. قال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا ابن نمير, حدثنا إسماعيل عن نفيع, قال: سمعت أنس بن مالك يقول: قيل يا رسول الله كيف يحشر الناس على وجوههم ؟ فقال: «أليس الذي أمشاهم على أرجلهم قادراً على أن يمشيهم على وجوههم» وهذا الحديث مخرج في الصحيحين من طريق وقوله تعالى: {قل هو الذي أنشأكم} أي ابتدأ خلقكم بعدأن لم تكونوا شيئاً مذكوراً {وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة} أي العقول والإدراك {قليلاً ما تشكرون} أي قلما تستعملون هذه القوى التي أنعم الله بها عليكم في طاعته وامتثال أوامره وترك زواجره {قل هو الذي ذرأكم في الأرض} أي بثكم ونشركم في أقطار الأرض وأرجائها مع اختلاف ألسنتكم في لغاتكم وألوانكم, وحلالكم وأشكالكم وصوركم {وإليه تحشرون} أي تجمعون بعد هذا التفرق والشتات, يجمعكم كما فرقكم ويعيدكم كما بدأكم. ثم قال تعالى مخبراً عن الكفار المنكرين للمعاد المستبعدين وقوعه {ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين} أي متى يقع هذا الذي تخبرنا بكونه من الاجتماع بعد هذا التفرق {قل إنما العلم عندالله} أي لا يعلم وقت ذلك على التعيين إلا الله عز وجل لكنه أمرني أن أخبركم أن هذا كائن وواقع لا محالة فاحذروه {وإنما أنا نذير مبين} أي وإنما علي البلاغ وقد أديته إليكم.
قال تعالى: {فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفرو} أي لما قامت القيامة وشاهدها الكفار ورأوا أن الأمر كان قريباً لأن كل ما هو آت آت وإن طال زمنه, فلما وقع ما كذبوا به ساءهم ذلك لما يعلمون ما لهم هناك من الشر أي فأحاط بهم ذلك وجاءهم من أمر الله ما لم يكن لهم في بال ولا حساب {وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون * وبدا لهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون} ولهذا يقال لهم على وجه التقريع والتوبيخ {هذا الذي كنتم به تدعون} أي تستعجلون.
الصفحة رقم 563 من المصحف تحميل و استماع mp3