تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 563 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 563

563- تفسير الصفحة رقم563 من المصحف
الآية: 13 - 14 {وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور، ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير}
قوله تعالى: "وأسروا قولكم أو اجهروا به" اللفظ لفظ الأمر والمراد به الخبر؛ يعني إن أخفيتم كلامكم في أمر محمد صلى الله عليه وسلم أو جهرتم به "فإنه عليم بذات الصدور" يعني بما في القلوب من الخير والشر. ابن عباس: نزلت في المشركين كانوا ينالون من النبي صلى الله عليه وسلم فيخبره جبريل عليه السلام؛ فقال بعضهم لبعض: أسروا قولكم كي لا يسمع رب محمد؛ فنزلت: "وأسروا قولكم أو أجهروا به". يعني: أسروا قولكم في أمر محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل في سائر الأقوال. أو أجهروا به؛ أعلنوه. "إنه عليم بذات الصدور" ذات الصدور ما فيها؛ كما يسمى ولد المرأة وهو جنين "ذا بطنها". ثم قال: "ألا يعلم من خلق" يعني ألا يعلم السر من خلق السر. يقول أنا خلقت السر في القلب أفلا أكون عالما بما في قلوب العباد. وقال أهل المعاني: إن شئت جعلت "من" اسما للخالق جل وعز؛ ويكون المعنى: ألا يعلم الخالق خلقه. وإن شئت جعلته اسما للمخلوق، والمعنى: ألا يعلم الله من خلق. ولا بد أن يكون الخالق عالما بما خلقه وما يخلقه. قال ابن المسيب: بينما رجل واقف بالليل في شجر كثير وقد عصفت الريح فوقع في نفس الرجل: أترى الله يعلم ما يسقط من هذا الورق؟ فنودي من جانب الغيضة بصوت عظيم: ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير. وقال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني: من أسماء صفات الذات ما هو للعلم؛ منها "العليم" ومعناه تعميم جميع المعلومات. ومنها "الخبير" ويختص بأن يعلم ما يكون قبل أن يكون. ومنها "الحكيم" ويختص بأن يعلم دقائق الأوصاف. ومنها "الشهيد" ويختص بأن يعلم الغائب والحاضر ومعناه أن لا يغيب عنه شيء، ومنها الحافظ ويختص بأنه لا ينسى. ومنها "المحصي" ويختص بأنه لا تشغله الكثرة عن العلم؛ مثل ضوء النور واشتداد الريح وتساقط الأوراق؛ فيعلم عند ذلك أجزاء الحركات في كل ورقة. وكيف لا يعلم وهو الذي يخلق! وقد قال: "ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير".
الآية: 15 {هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور}
قوله تعالى: "هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا" أي سهلة تستقرون عليها. والذلول المنقاد الذي يذل لك والمصدر الذل وهو اللين والانقياد. أي لم يجعل الأرض بحيث يمتنع المشي فيها بالحزونة والغلظة. وقيل: أي ثبتها بالجبال لئلا تزول بأهلها؛ ولو كانت تتكفأ متماثلة لما كانت منقادة لنا. وقيل: أشار إلى التمكن من الزرع والغرس وشق العيون والأنهار وحفر الآبار. "فامشوا في مناكبها" هو أمر إباحة، وفيه إظهار الأمتنان. وقيل: هو خبر بلفظ الأمر؛ أي لكي تمشوا في أطرافها ونواحيها وآكامها وجبالها. وقال ابن عباس وقتادة وبشير بن كعب: "في مناكبها" في جبالها. وروي أن بشير بن كعب كانت له سرية فقال لها: إن أخبرتني ما مناكب الأرض فأنت حرة؟ فقالت: مناكبها جبالها. فصارت حرة، فأراد أن يتزوجها فسأل أبا الدرداء فقال: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك. مجاهد: في أطرافها. وعنه أيضا: في طرقها وفجاجها. وقاله السدي والحسن. وقال الكلبي: في جوانبها. ومنكبا الرجل: جانباه. وأصل المنكب الجانب؛ ومنه منكب الرجل. والريح النكباء. وتنكب فلان عن فلان. يقول: أمشوا حيث أردتم فقد جعلتها لكم ذلولا لا تمتنع. وحكى قتادة عن أبي الجلد: أن الأرض أربعة وعشرون ألف فرسخ؛ فللسودان أثنا عشر ألف، وللروم ثمانية آلاف، وللفرس ثلاثة آلاف، وللعرب ألف. "وكلوا من رزقه" أي مما أحله لكم؛ قاله الحسن. وقيل: مما أتيته لكم. "وإليه النشور" المرجع. وقيل: معناه أن الذي خلق السماء لا تفاوت فيها، والأرض ذلولا قادر على أن ينشركم.
الآية: 16 {أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور}
قوله تعالى: "أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض" قال ابن عباس: أأمنتم عذاب من في السماء إن عصيتموه. وقيل: تقديره أأمنتم من في السماء قدرته وسلطانه وعرشه ومملكته. وخص السماء وإن عم ملكه تنبيها على أن الإله الذي تنفذ قدرته في السماء لا من يعظمونه في الأرض. وقيل: هو إشارة إلى الملائكة. وقيل: إلى جبريل وهو الملك الموكل بالعذاب.
قلت: ويحتمل أن يكون المعنى: أأمنتم خالق من في السماء أن يخسف بكم الأرض كما خسفها بقارون. "فإذا هي تمور" أي تذهب وتجيء. والمور: الاضطراب بالذهاب والمجيء. قال الشاعر:
رمين فأقصدن القلوب ولن ترى دما مائرا إلا جرى في الحيازم
جمع حيزوم وهو وسط الصدر. وإذا خسف بإنسان دارت به الأرض فهو المور. وقال المحققون: أمنتم من فوق السماء؛ كقول: "فسيحوا في الأرض" [التوبة: 2] أي فوقها لا بالمماسة والتحيز لكن بالقهر والتدبير. وقيل: معناه أمنتم من على السماء؛ كقوله تعالى: "ولأصلبنكم في جذوع النخل" [طه: 71] أي عليها. ومعناه أنه مديرها ومالكها؛ كما يقال: فلان على العراق والحجاز؛ أي وإليها وأميرها. والأخبار في هذا الباب كثيرة صحيحة منتشرة، مشيرة إلى العلو؛ لا يدفعها إلا ملحد أو جاهل معاند. والمراد بها توقيره وتنزيهه عن السفل والتحت. ووصفه بالعلو والعظمة لا بالأماكن والجهات والحدود لأنها صفات الأجسام. وإنما ترفع الأيدي بالدعاء إلى السماء لأن السماء مهبط الوحي، ومنزل القطر، ومحل القدس، ومعدن المطهرين من الملائكة، وإليها ترفع أعمال العباد، وفوقها عرشه وجنته؛ كما جعل الله الكعبة قبلة للدعاء والصلاة، ولأنه خلق الأمكنة وهو غير محتاج إليها، وكان في أزله قبل خلق المكان والزمان. ولا مكان له ولا زمان. وهو الآن على ما عليه كان. وقرأ قنبل عن ابن كثير "النشور وامنتم" بقلب الهمزة الأولى واوا وتخفيف الثانية. وقرأ الكوفيون والبصريون وأهل الشام سوى أبي عمرو وهشام بالتخفيف في الهمزتين، وخفف الباقون. وقد تقدم جميعه.
الآية: 17 {أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا فستعلمون كيف نذير}
قوله تعالى: "أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا" أي حجارة من السماء كما أرسلها على قوم لوط وأصحاب الفيل. وقيل: ريح فيها حجارة وحصباء. وقيل: سحاب فيه حجارة. "فستعلمون كيف نذير" أي إنذاري. وقيل: النذير بمعنى المنذر. يعني محمدا صلي الله عليه وسلم فستعلمون صدقه وعاقبة تكذيبكم.
الآية: 18 {ولقد كذب الذين من قبلهم فكيف كان نكير}
قوله تعالى: "ولقد كذب الذين من قبلهم" يعني كفار الأمم؛ كقوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وأصحاب مدين وأصحاب الرس وقوم فرعون "فكيف كان نكير" أي إنكاري وقد تقدم. وأثبت ورش الياء في "نذيري، ونكيري" في الوصل. وأثبتها يعقوب في الحالين. وحذف الباقون اتباعا للمصحف.
الآية: 19 {أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن إنه بكل شيء بصير}
قوله تعالى: "أو لم يروا إلى الطير فوقهم صافات" أي كما ذلل الأرض للآدمي ذلل الهواء للطيور. و"صافات" أي باسطات أجنحتهن في الجو عند طيرانها؛ لأنهن إذا بسطنها صففن قوائمها صفا. "ويقبضن" أي يضربن بها جنوبهن. قال أبو جعفر النحاس: يقال للطائر إذا بسط جناحيه: صاف، وإذا ضمهما فأصابا جنبه: قابض؛ لأنه يقبضهما. قال أبو خراش: يبادر جنح الليل فهو موائل يحث الجناح بالتبسط والقبض وقيل: ويقبض أجنحتهن بعد بسطها إذا وقفن من الطيران. وهو معطوف على "صافات" عطف المضارع على اسم الفاعل؛ كما عطف اسم الفاعل على المضارع في قول الشاعر: بات يعشيها بعضب باتر يقصد في أسوقها وجائر "ما يمسكهن" أي ما يمسك الطير في الجو وهي تطير إلا الله عز وجل. "إنه بكل شيء بصير".
الآية: 20 {أم من هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن إن الكافرون إلا في غرور}
قوله تعالى: "أمن هذا الذي هو جند لكم" قال ابن عباس: حزب ومنعة لكم. "ينصركم من دون الرحمن" فيدفع عنكم ما أراد بكم إن عصيتموه. ولفظ الجند يوحد؛ ولهذا قال: "هذا الذي هو جند لكم" وهو استفهام إنكار؛ أي لا جند لكم يدفع عنكم عذاب الله "من دون الرحمن" أي من سوى الرحمن. "إن الكافرون إلا في غرور" من الشياطين؛ تغرهم بأن لا عذاب ولا حساب.
الآية: 21 {أم من هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه بل لجوا في عتو ونفور}
قوله تعالى: "أمن هذا الذي يرزقكم" أي يعطيكم منافع الدنيا. وقيل المطر من آلهتكم. "إن أمسك رزقه" يعني الله تعالى رزقه. "بل لجوا" أي تمادوا وأصروا. "في عتو" طغيان "ونفور" عن الحق.
الآية: 22 {أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أم من يمشي سويا على صراط مستقيم}
قوله تعالى: "أفمن يمشي مكبا على وجهه" ضرب الله مثلا للمؤمن والكافر "مكبا" أي منكسا رأسه لا ينظر أمامه ولا يمينه ولا شماله؛ فهو لا يأمن من العثور والانكباب على وجهه. كمن يمشي سويا معتدلا ناظرا ما بين يديه وعن يمينه وعن شماله. قال ابن عباس: هذا في الدنيا؛ ويجوز أن يريد به الأعمى الذي لا يهتدي إلى الطريق فيعتسف؛ فلا يزال ينكب على وجهه. وأنه ليس كالرجل السوي الصحيح البصير الماشي في الطريق المهتدى له. وقال قتادة: هو الكافر أكب على معاصي الله في الدنيا فحشره الله يوم القيامة على وجهه. وقال ابن عباس والكلبي: عنى بالذي يمشى مكبا على وجهه أبا جهل، وبالذي يمشي سويا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل أبو بكر. وقيل حمزة. وقيل عمار ابن ياسر؛ قاله عكرمة. وقيل: هو عام في الكافر والمؤمن؛ أي أن الكافر لا يدري أعلى حق هو أم على باطل. أي أهذا الكافر أهدى أو المسلم الذي يمشي سويا معتدلا يبصر للطريق وهو "على صراط مستقيم" وهو الإسلام. ويقال: أكب الرجل على وجهه؛ فيما لا يتعدى بالألف. فإذا تعدى قيل: كبه الله لوجهه؛ بغير ألف.
الآية: 23 {قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون}
قوله تعالى: "قل هو الذي أنشأكم" أمر نبيه أن يعرفهم قبح شركهم مع اعترافهم بأن الله خلقهم. "وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة" يعني القلوب "قليلا ما تشكرون" أي لا تشكرون هذه النعم، ولا توحدون الله تعالى. تقول: قلما أفعل كذا؛ أي لا أفعله.
الآية: 24 - 25 {قل هو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون، ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين}
قوله تعالى: "قل هو الذي ذرأكم في الأرض" أي خلقكم في الأرض؛ قال ابن عباس. وقيل: نشركم فيها وفرقكم على ظهرها؛ قاله ابن شجرة. "وإليه تحشرون" حتى يجازي كلا بعمله. "ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين" أي متى يوم القيامة ومتى هذا العذاب الذي تعدوننا به وهذا استهزاء منهم. وقد تقدم.
الآية: 26 {قل إنما العلم عند الله وإنما أنا نذير مبين}
قوله تعالى: "قل إنما العلم عند الله" أي قل لهم يا محمد علم وقت قيام الساعة عند الله فلا يعلمه غيره. نظيره: "قل إنما علمها عند ربي" [الأعراف: 187] الآية. "وإنما أنا نذير مبين" أي مخوف ومعلم لكم.