تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 579 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 579

578

6- "عينا يشرب بها عباد الله" انتصاب عينا على أنها بدل من كافوراً، لأن ماءها في بياض الكافور. وقال مكي: إنها بدل من محل من كأس على حذف مضاف كأنه قيل: يشربون خمراً خمر عين، وقيل إنها منتصبة على أنها مفعول يشربون: أي عينا من كأس، وقيل هي منتصبة على الاختصاص، قاله الأخفش وقيل منتصبة بإضمار فعل يفسره ما بعده: أي يشربون عينا يشرب بها عباد الله، والأول أولى، وتكون جملة "يشرب بها عباد الله" صفة لعينا. وقيل إن الباء في يشرب بها زائدة، وقيل بمعنى من قاله الزجاج، ويعضده قراءة ابن أبي عبلة يشربها عباد الله. وقيل إن يشرب مضمن معنى يلتذ، وقيل هي متعلقة بيشرب، والضمير يعود إلى الكأس. وقال الفراء: يشربها ويشرب بها سواء في المعنى، وكأن يشرب بها يروى بها وينتفع بها، وأنشد قول الهذلي: شربن بماء البحر ثم ترفعت قال: ومثله تكلم بكلام حسن، وتكلم كلاماً حسناً "يفجرونها تفجيرا" أي يجرونها إلى حيث يريدون وينتفعون بها كما يشاءون ويتبعهم ماؤها إلى كل مكان يريدون وصوله إليه، فهم يشقونها شقاً كما يشق النهر ويفجر إلى هنا وهنا. قال مجاهد: يقودونها حيث شاءوا وتتبعهم حيث مالوا مالت معهم، والجملة صفة أخرى لعينا.
وجملة 7- "يوفون بالنذر" مستأنفة مسوقة لبيان ما لأجله رزقوا ما ذكر، وكذا ما عطف عليها، ومعنى النذر في اللغة الإيجاب، والمعنى: يوفون بما أوجبه الله عليهم من الطاعات. قال قتادة ومجاهد: يوفون بطاعة الله من الصلاة والحج ونحوهما. وقال عكرمة: يوفون إذا نذروا في حق الله سبحانه، والنذر في الشرع ما أوجبه المكلف على نفسه، فالمعنى: يوفون بما أوجبوه على أنفسهم. قال الفراء: في الكلام إضمار: أي كانوا يوفون بالنذر في الدنيا. وقال الكلبي: يوفون بالعهد: أي يتممون العهد. والأولى حمل النذر هنا على ما أوجبه العبد على نفسه من غير تخصيص "ويخافون يوماً كان شره مستطيراً" المراد يوم القيامة، ومعنى استطارة شره فشوه وانتشاره، يقال استطار يستطير استطارة فهو مستطير، وهو استفعل من الطيران، ومنه قول الأعشى: فباتت وقد أثارت في الفؤا د صدعاً على نأيها مستطيرا والعرب تقول: استطار الصدع في القارورة والزجاجة: إذا امتد، ويقال استطار الحريق: إذا انتشر. قال الفراء: المستطير المستطيل. قال قتادة: استطار شر ذلك اليوم حتى ملأ السموات والأرض. قال مقاتل: كان شره فاشياً في السموات فانشقت وتناثرت الكواكب وفزعت الملائكة، وفي الأرض نسفت الجبال وغارت المياه.
8- "ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيرا" أي يطعمون هؤلاء الثلاثة الأصناف الطعام على حبه لديهم وقلته عندهم. قال مجاهد: على قلته وحبهم إياه وشهوتهم له، فقوله على حبه في محل نصب على الحال: أي كائنين على حبه، ومثله قوله: "لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون" وقيل على حب الإطعام لرغبتهم في الخير. قال الفضيل بن عياض: على حب إطعام الطعام. وقيل الضمير في حبه يرجع إلى الله: أي يطعمون الطعام على حب الله: أي يطعمون إطعاماً كائناً على حب الله.
ويؤيد هذا قوله: 9- " إنما نطعمكم لوجه الله" والمسكين ذو المسكنة، وهو الفقير، أو من هو أفقر من الفقير، والمراد باليتيم يتامى المسلمين، والأسير الذي يؤسر فيحبس. قال قتادة ومجاهد: الأسير المحبوس. وقال عكرمة: الأسير العبد. وقال أبو حمزة الثمالي: الأسير المرأة. قال سعيد بن جبير: نسخ هذا الإطعام آية الصدقات وآية السيف في حق الأسير الكافر, وقال غيره: بل هي محكمة، وإطعام المسكين واليتيم على التوع، وإطعام الأسير لحفظ نفسه إلى أن يتخير فيه الإمام، وجملة "إنما نطعمكم لوجه الله" في محل نصب على الحال بتقدير القول: أي يقولون إنما نطعمكم، أو قائلين إنما نطعمكم: يعني أنهم يستكملوا بهذا ولكن عمله الله من قلوبهم فأثنى عليهم بذلك. قال الواحدي: قال المفسرون: لم يستكملوا بهذا ولكن علمه الله من قلوبهم فأثنى عليهم وعلم من ثنائه أنهم فعلوا ذلك خوفاً من الله ورداء ثوابه "لا نريد منكم جزاءً ولا شكورا" أي لا نطلب منكم المجازاة على هذا الإطعام ولا نريد منكم الشكر لنا، بل هو خالص لوجه الله، وهذه الجملة مقررة لما قبلها، لأن من أطعم لوجه الله لا يريد المكافأة ولا يطلب الشكر له ممن أطعمه.
10- "إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريرا" أي نخاف عذاب يوم متصف بهاتين الصفتين، ومعنى عبوساً: أنه يوم تعبس فيه الوجوه من هو له وشدته، فالمعنى: أنه ذو عبوس. قال الفراء وأبو عبيدة والمبرد: يوم قمطرير وقماطر: إذا كان صعباً شديداً، وأنشد الفراء: بني عمنا هل تــذكرون بلاءنــا عليكم إذا ما كان يوم قماطر قال الأخفش: القمطرير أشد ما يكون من الأيام وأطوله في البلاء، ومنه قول الشاعر: ففروا إذا ما الحرب ثار غبارها ولج بها اليوم العبوس القماطر قال الكسائي: اقمطر اليوم وازمهر: إذا كان صعباً شديداً، ومنه قول الشاعر: بنو الحرب أوصينا لهم بقمطرة ومن يلق منا ذلك اليوم يهرب وقال مجاهد: إن العبوس بالشفتين، والقطمير بالجبهة والحاجبين، فجعلهما من صفات المتغير في ذلك اليوم لما يراه من الشدائد، وأنشد ابن الأعرابي: يقدر على الصيد بعود منكسر ويقمطر ســاعــة ويكــفــهــر قال أبو عبيدة: يقا قطمرير: أي منقبض ما بين العينين والحاجبين. قال الزجاج: يقال اقمطرت الناقة: إذا رفعت ذنبها وجمعت قطريها ورمت بأنفها ما يسبقها من القطر، وجعل الميم مزيدة.
11- "فوقاهم الله شر ذلك اليوم" أي أعطاهم بدل العبوس في الكفار نضرة في الوجوه وسروراً في القلوب. قال الضحاك: والنضرة البياض والنقاء في وجوههم. وقال سعيد بن جبير الحسن والبهاء، وقيل النضرة أثر النعمة.
12- "وجزاهم بما صبروا" أي بسبب صبرهم على التكاليف، وقيل على الفقر، وقيل على الجوع، وقيل على الصوم. والأولى حمل الآية على الصبر على كل شيء يكون الصبر عليه طاعة لله سبحانه، وما مصدرية، والتقدير: بصبرهم "جنة وحريرا" أي أدخلهم الجنة وألبسهم الحرير، وهو لباس أهل الجنة عوضاً عن تركه في الدنيا امتثالاً لما ورد في الشرع من تحريمه، وظاهر هذه الآيات العموم في كل من خاف من يوم القيامة وأطعم لوجه الله وخاف من عذابه، والسبب وإن كان خاصً كما سيأتي فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ويدخل السبب التنزيل تحت عمومها دهولاً أولياً. وقد أخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "هل أتى على الإنسان" قال: كل إنسان. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن ابن مسعود في قوله: "أمشاج" قال أمشاجها عروقها. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي حاتم "أمشاج" قال: العروق. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن عباس "من نطفة أمشاج" قال: ماء الرجل وماء المراة حين يختلطان. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال: "أمشاج" ألوان: نطفة الرجل بيضاء وحمراء، ونطفة المراة خضراء وحمراء. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً قال: الأمشاج الذي يخرج على أثر البول كقطع الأوتار ومنه يكون الولد. وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عنه أيضاً في قوله: "وأسيراً" قال: هو المشرك. وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم عن أبي سعيد الخدري "عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: "مسكيناً" قال: فقيراً "ويتيماً" قال لا أب له "وأسيراً" قال: المملوك والمسجون". وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "ويطعمون الطعام" الآية قال: نزلت هذه الآية في علي بن أبي طالب وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله: "يوماً عبوساً" قال: ضيقاً "قمطريراً" قال:طويلا وأخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك "عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله:"يوما عبوسا قمطريرا" قال:يقبض ما بين الأبصار." وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر من طرق عن ابن عباس قال: القمطرير الرجل المنقبض ما بين عينيه ووجهه. وأخرج ابن المنذر عنه "ولقاهم نضرة وسرورا" قال: نضرة في وجوههم وسروراً في صدورهم.
قوله: 13- "متكئين فيها على الأرائك" منصوب على الحال من مفعول جزاهم، والعامل فيها جزى، ولا يعمل فيها صبروا، لأن الصبر إنما كان في الدنيا، وجوز أبو البقاء أن يكونه صفة لجنة. قال الفراء: وإن شئت جعلت متكئين تابعاً، كأنه قال: جزاهم جنة متكئين فيها. وقال الأخفش: يجوز أن يكون منصوبا على المدح، والضمير من فيها يعود إلى الجنة، والأرائك: السرر في الحجال، وقد تقدم تفسيرها في سورة الكهف "لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً" الجملة في محل نصب على الحال من مفعول جزاهم، فتكون من الحال المترادفة، أو من الضمير في متكئين، فتكون من الحال المتداخلة، أو صفة أخرى لجنة، والزمهرير أشد البرد، والمعنى: أنهم لا يرون في الجنة حر الشمس ولا برد الزمهرير، ومنه قول الأعشى: مــنــعــمــة طــفــلة كالمــهــا لم تــر شــمــســـاً ولا زمــهــريــراً وقال ثعلب: الزمهرير القمر بلغة طي، وأنشد لشاعرهم: وليلــة ظلامهــا قــد اعـتــكر قطــعتهــا والزمــهــريــر مــا زهــر ويروى ما ظهر: أي لم يطلع القمر، وقد تقدم تفسير هذا في سورة مريم.
14- "ودانية عليهم ظلالها" قرأ الجمهور "دانية" بالنصب عطفاً على محل لا يرون، أو على متكئين، أو صفة لمحذوف: أي وجنة دانية، كأنه قال: وجزاهم جنة دانية. وقال الزجاج: هو صفة لجنة المتقدم ذكرها. وقال الفراء: هو منصوب على المدح. وقرأ أبو حيوة ودانية بالرفع على أنه خبر مقدم وظلالها مبتدأ مؤخر، والجملة في موضع النصب على الحال. والمعنى: أن ظلال الأشجار قريبة منهم مظلة عليهم زيادة في نعيمهم وإن كان لا شمس هنالك. قال مقاتل: يعني شجرها قريب منهم. وقرأ ابن مسعود ودانيا عليهم "ذللت قطوفها تذليلاً" معطوف على دانية كأنه قال: ومذللة. ويجوز أن تكون الجملة في محل نصب على الحال من الضمير في عليهم، ويجوز أن تكون مستأنفة، والقطوف الثمار، والمعنى: أنها سخرت ثمارها لمتناوليها تسخيراً كثيراً بحيث يتناولها القائم والقاعد والمضطجع لا يرد أيديهم عنها بعد ولا شوك. قال النحاس: المذلل القريب المتناول،. ومنه قولهم حائط ذليل: أي قصير. قال ابن قتيبة: ذللت أدنيت، من قولهم حائط ذليل: أي كان قصير السمك، وقيل ذللت: أي جعلت منقادة لا تمتنع على قطافها كيف شاءوا.
15- "ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب" أي تدور عليهم الخدم إذا أرادوا الشراب بآنية الفضة، والأكواب جمع كوب، وهو الكوز العظيم الذي لا أذن له ولا عروة، ومنه قول عدي: متكئ تقرع أبوابه يسعى عليه العبد بالكوب وقد مضى تفسيره في سورة الزخرف " كانت قواريرا * قوارير من فضة " أي في وصف القوارير في الصفاء وفي بياض الفضة، فصفاؤها صفاء الزجاج، ولونها لون الفضة.
قرأ نافع والكسائي وأبو بكر 16- " قواريرا * قوارير " بالتنوين فيهما مع الوصل، وبالوقف عليهما بالألف، وقد تقدم وجه هذه القراءة في تفسير قوله: " سلاسل " من هذه السورة، وبينا هنالك وجه صرف ما فيه صيغة منتهى الجموع فارجع إليه. وقرأ حمزة بعدم التنوين فيهما وعدم الوقف بالألف، ووجه هذه القراءة ظاره لأنهما ممتنعان لصيغة منتهى الجموع. وقرأ هشام بعدم التنوين فيهما مع الوقف عليهما بالألف، وقرأ ابن كثير بتنوين الأول دون الثاني والوقف على الأول بالألف جون الثاني. وقرأ أبو عمرو وحفص وابن ذكوان بعدم التنوين فيهما، والوقف على الأول بالألف دون الثاني، والجملة في محل جر صفة لأكواب. قال أبو البقاء: وحسن التكرير لما اتصل به من بيان أصلها. قال الواحدي: قال المفسرون: جعل الله قوارير أهل الجنة من فضة، فاجتمع لها بياض الفضة وصفاء القوارير. قال الزجاج: القوارير التي في الدنيا من الرمل، فأعلم الله فضل تلك القوارير أن أصلها من فضة يرى من خارجها ما في داخلها، وجملة "قدروها تقديراً" صفة لقوارير. قرأ الجمهور "قدروها" بفتح القاف على البناء للفاعل: أي قدرها السقاة من الخدم الذين يطوفون عليهم على قدر ما يحتاج إليه الشاربون من أهل الجنة من دون زيادة ولا نقصان. قال مجاهد وغيره: أتوابها على قدر ريهم بغير زيادة ولا نقصان. قال الكلبي: وذلك ألذ وأشهى، وقيل: قدرها الملائكة، وقيل قدرها أهل الجنة الشاربون على مقدار شهواتهم وحاجاتهم فجاءت كما يريدون في الشكل لا تزيد ولا تنقص. وقرأ علي وابن عباس والسلمي والشعبي وزيد بن علي وعبيد بن عمير وأبو عمرو في رواية عنه قدروها بضم القاف وكسر الدال مبنياً للمفعول: أي جعلت لهم على قدر إرادتهم. قال أبو علي الفارسي: هو من باب القلب، قال: لأن حقيقة المعنى أن يقال: قدرت عليهم لا قدروها، لأنه في معنى قدروا عليها. وقال أبو حاتم: التقدير قدرت الأواني على قدر ريهم، فمفعول ما لم يسم فاعله محذوف. قال أبو حيان: والأقرب في تخريج هذه القراءة الشاذة أن يقال: قدر ريهم منها تقديراً، فحذف المضاففصار قدروها. وقال المهدوي: إن القراءة الأخيرة يرجع معناها إلى معنى القراءة الأولى، وكأن الأصل قدروا عليها فحذف حرف الجر كما أنشد سيبويه: آليت حب العراق الدهر آكله والحب يأكله في القرية السوس أي آليت على حب العراق.
17- "ويسقون فيها كأساً كان مزاجها زنجبيلاً" قد تقدم أن الكأس هو الإناء فيه الخمر، وإذا كان خالياً عن الخمر فلا يقال له كأس، والمعنى: أن أهل الجنة يسقون في الجنة كأساً من الخمر ممزوجة بالزنجبيل وقد كانت العرب تستلذ مزج الشراب بالزنجبيل لطيب رائحته. وقال مجاهد وقتادة: الزنجبيل اسم للعين التي يشرب بها المقربون. وقال مقاتل: هو زنجبيل لا يشبه زنجبيل الدنيا.
18- "عينا فيها تسمى سلسبيلاً" انتصاب عينا على أنها بدل من كأساً. ويجوز أن تكون منصوبة بفعل مقدر: أي يسقون عينا، ويجوز أن تكون منصوبة بنزع الخافض: أي من عين، والسلسبيل: الشراب اللذيذ، مأخوذ من السلاسة، تقول العرب: هذا شراب سلس، وسلسال وسلسبيل: أي طيب لذيذ. قال الزجاج: السلسبيل في اللغة اسم لماء في غاية السلاسة حديد الجرية يسوغ في حلوقهم، ومنه قول حسان بن ثابت: يسقون من ورد البريص عليهم كأساً يصفق بالرحيق السلسل
19- "ويطوف عليهم ولدان مخلدون" لما فرغ سبحانه من وصف شرابهم، ووصف آنيتهم، ووصف السقاة الذين يسقونهم ذلك الشراب. ومعنى "مخلدون" باقون على ما هم عليه من الشباب والطراوة والنضارة، لا يهرمون ولا يتغيرون، وقيل معنى "مخلدون" لا يموتون، وقيل التخليد التحلية: أي محلون "إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤاً منثوراً" إذا نظرت إليهم ظننتهم لمزيد حسنهم وصفاء ألوانهم ونضارة وجوههم لؤلؤاً مفرقاً.قال عطاء: يريد في بياض اللون وحسنه، واللؤلؤ إذا نثر من الخيط على البساط كان أحسن منه منظوماً. قال أهل المعاني: إنما شبهوا بالمنثور لانتثارهم في الخدمة، ولو كانوا صفا لشبهوا بالمنظوم، وقيل إنما شبههم بالمنثور لأنهم سراع في الخدمة، بخلاف الحور العين فإنهم شبههن باللؤلؤ المكنون لأنهن لا يمتهن بالخدمة.
20- "وإذا رأيت ثم رأيت نعيماً وملكاً كبيرا" أي وإذا رميت ببصرك هناك، يعني في الجنة رأيت نعيماً لا يوصف، وملكاً كبيراً لا يقادر قدره، وثم ظرف مكان، والعامل فيها رأيت. قال الفراء في الكلام ما مضمرة: أي وإذا رأيت ما ثم، كقوله: "لقد تقطع بينكم" أي ما بينكم. قال الزجاج معترضاً على الفراء: إنه لا يجوز إسقاط الموصول وترك الصلة، ولكن رأيت يتعدى في المعنى إلى ثم. والمعنى: إذا رأيت ببصرك ثم، ويعني بثم الجنة. قال السدي: النعيم ما يتنعم به، والملك الكبير: استئذان الملائكة عليهم، وكذا قال مقاتل والكلبي. وقيل إن رأيت ليس له مفعول ملفوظ ولا مقدر ولا منوي، بل معناه: أن بصرك أينما وقع في الجنة رأيت نعيماً وملكاً كبيراً.
21- "عاليهم ثياب سندس" قرأ نافع وحمزة وابن محيصن "عاليهم" بسكون الياء وكسر الهاء على أنه خبر مقدم، وثياب مبتدأ مؤخر، أو على أن عاليهم مبتدأ، وثياب مرتفع بالفاعلية وإن لم يعتمد الوصف كما هو مذهب الأخفش. وقال الفراء: هو مرفوع بالابتداء، وخبره: ثياب سندس، واسم الفاعل مراد به الجمع. وقرأ الباقون بفتح الياء وضم الهاء على أنه ظرف في محل رفع على أنه خبر مقدم، وثياب مبتدأ مؤخر، كأنه قيل فوقهم ثياب. قال الفراء: إن عاليهم بمعنى فوقهم، وكذا قال ابن عطية. قال أبو حيان: عال وعالية اسم فاعل، فيحتاج في كونهما ظرفين إلى أن يكون منقولاً من كلام العرب، وقد تقدمه إلى هذا الزجاج وقال: هذا مما لا نعرفه في الظروف ولو كان ظرفاً لم لم يجز إسكان الياء، ولكنه نصب على الحال من شيئين: أحدهما الهاء والميم في قوله: "يطوف عليهم" أي على الأبرار "ولدان" عاية الأبرار "ثياب سندس" أي يطوف عليهم في هذه الحال. والثاني أن يكون حالاً من الولدان: أي إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤاً منثوراً في حال علو الثياب أبدانهم. وقال أبو علي الفارسي: العامل في الحال إما لقاهم نضرة وسروراً، وإما جزاهم بما صبروا. قال: ويجوز أن يكون ظرفاً. وقرأ ابن سيرين ومجاهد وأبو حيوة وابن أبي عبلة: عليهم، وهي قراءة واضحة المعنى ظاهرة الدلالة. واختار أبو عبيد القراءة الأولى لقراءة ابن مسعود: عليتهم. وقرأ الجمهور بإضافة ثياب إلى سندس. وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة بتنوين ثياب وقطعها عن الإضافة ورفع سندس، و" خضر وإستبرق " على أن السندس نعت للثياب، لأن السندس نوع من الثياب، وعلى أن خضر نعت لسندس، لأنه يكون أخضر وغير أخضر، وعلى أن استبرق معطوف على سندس: أي وثياب استبرق، والجمهور من القراء اختلفوا في "خضر وإستبرق" مع اتفاقهم على جر سندس بإضافة ثياب إليه، فقرأ ابن كثير وأبو بكر عن عاصم وابن محيصن بجر "خضر" نعتاً لسندس ورفع " إستبرق " عطفاً على ثياب: أي عليهم ثياب سندس وعليهم إستبرق. وقرأ أبو عمرو وابن عامر برفع " خضر " نعتاً لثياب، وجر "إستبرق" نعت لسندس. واختار هذه القراءة أبو حاتم وأبو عبيد، لأن الخضر أحسن ما كانت نعتاً للثياب فهي مرفوعة، والاستبرق من جنس السندس. وقرأ نافع وحفص برفع " خضر وإستبرق " لأن خضر نعت للثياب، وإستبرق عطف على الثياب. وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي بجر "خضر وإستبرق" على أن خضر نعت للسنسد، واستبرق معطوف على سندس. وقرءوا كلهم بصرف استبرق إلا ابن محيصن فإنه لم يصرفه، قال: لأنه أعجمي، ولا وجه لهذا لأنه نكرة إلا أن يقول إنه علم لهذا الجنس من الثياب. والسندس: مارق من الديباج. والاستبرق: ما غلظ منه، وقد تقدم تفسيرهما في سورة الكهف "وحلوا أساور من فضة" عطف على يطوف عليهم. ذكر سبحانه هنا أنهم يحلون بأساور الفضة وفي سورة فاطر "يحلون فيها من أساور من ذهب" وفي سورة الحج "يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤاً" ولا تعارض بين هذه الآيات لإمكان الجمع بأن يجعل لهم سوارات من ذهب وفضة ولؤلؤ، أو بأن المراد أنهم يلبسون سوارات الذهب تارة، وسوارات الفضة تارة، وسوارات اللؤلؤ تارة، أو أنه يلبس كل أحد منه ما تميل إليه نفسه من ذلك، ويجوز أن تكون هذه الجملة في محل نصب على الحال من ضمير عاليهم بتقدير قد "وسقاهم ربهم شراباً طهوراً" هذا نوع آخر من الشراب الذي يمن الله عليهم به. قال الفراء: يقول هو طهور ليس بنجس كما كان في الدنيا موصوفاً بالنجاسة. والمعنى: أن ذلك الشراب طاهر ليس كخمر الدنيا. قال مقاتل: هو عين ماء على باب الجنة من شرب منها نزع الله ما كان في قلبه من غش وغل وحسد. قال أبو قلابة وإبراهيم النخعي: يؤتون بالطعام، فإذا كان آخره أتوا بالشراب الطهور، فيشربون فتضمر بطونهم من ذلك ويفيض عرق من أبدانهم مثل ريح المسك.
22-"إن هذا كان لكم جزاء" أي يقال لهم: إن هذا الذي ذكر من أنواع النعم كان لكم جزاء بأعمالكم: أي ثواباً لها "وكان سعيكم مشكوراً" أي كان عملكم في الدنيا بطاعة الله مرضياً مقبولاً، وشكر الله سبحانه لعمل عبده هو قبوله لطاعته. وقد أخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال: الزمهرير هو البرد الشديد. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اشتكت النار إلى ربها فقالت: رب أكل بعضي بعضاً، فجعل لها نفسين: نفساً في الصيف، ونفساً في الشتاء، فشدة ما تجدون من البرد من زمهريرها، وشدة ما تجدون في الصيف من الحر من سمومها". وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وهناد بن السري وعبد بن حميد وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في البعث عن البراء بن عازب في قوله: "ودانية عليهم ظلالها" قال: قريبة "وذللت قطوفها تذليلا" قال: إن أهل الجنة يأكلون من ثمار الجنة قياماً وقعوداً ومضطجعين وعلى أي حال شاءوا. وفي لفظ قال: ذللت فيتناولون منها كيف شاءوا. وأخرج ابن جرير وابن المنذر والبيهقي في البعث عن ابن عباس قال: "آنية من فضة" وصفاؤها كصفاء القوارير "قدروها تقديرا" قال: قدرت للكف. وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور والبيهقي عنه قال: لو أخذت فضة من فضة الدنيا فضربتها حتى جعلتها مثل جناح الذباب لم ير الماء من ورائها، ولكن قوارير الجنة ببياض الفضة في صفاء القوارير. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً قال: ليس في الجنة شيء إلا وقد أعطيتم في الدنيا شبهه إلا قوارير من فضة. وأخرج الفريابي عنه أيضاً في قوله: "قدروها تقديرا" قال: أتوا بها على قدر الفم لا يفضلون شيئاً ولا يشتهون بعدها شيئاً. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عنه أيضاً "قدروها تقديرا" قال: قدرتها السقاة. وأخرج ابن المبارك وهناد وعبد بن حميد والبيهقي في البعث عن ابن عمرو قال: إن أدنى أهل الجنة منزلاً من يسعى عليه ألف خادم كل خادم على عمل ليس عليه صاحبه، وتلا هذه الآية "إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤاً منثوراً".
قوله: 23- "إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلاً" أي فرقناه في الغنزلا ولم ننزله جملة واحدة. وقيل المعنى: نزلناه عليك ولم تأت به من عندك كما يدعيه المشركون.
24- "فاصبر لحكم ربك" أي لقضائه، ومن حكمه وقضائه تأخير نصرك إلى أجل اقتضته حكمته. قيل وهذا منسوخ بآية السيف " ولا تطع منهم آثما أو كفورا " أي لا تطع كل واحد من مرتكب لإثم وغال في كفر، فنهاه الله سبحانه عن ذلك. قال الزجاج: إن الألف هنا آكد من الواو وحدها لأنك إذا قلت: لا تطع زيداً وعمراً، فأطاع أحدهما كان غير عاص، لأنه أمره أن لا يطيع الاثنين، فإذا قال: لا تطع منهم آثماً أو كفوراً دل ذلك على أن كل واحد منهما أهل أن يعصى، كما أنك إذا قلت: لا تخالف الحسن أو ابن سيرين، فقد قلت إنهما أهل أن يتبعا، وكل واحد منهما أهل أن يتبع. وقال الفراء أو هنا بمنزلة لا، كأنه قال: ولا كفوراً. وقيل المراد بقوله: " آثما " عتبة بن ربيعة، وبقوله: "أو كفوراً" الوليد بن المغيرة، لأنهما قالا للنبي صلى الله عليه وسلم: ارجع عن هذا الأمر ونحن نرضيك بالمال والتزويج.
25- "واذكر اسم ربك بكرة وأصيلاً" أي دم على ذكره في جميع الأوقات. وقيل المعنى: صل لربك أول النهار وآخره، فأول النهار صلاة الصبح، وآخره صلاة العصر.